ما من شك في أن لجان تحكيم الإوسكار التي اختارت أن ترشح هذا الفيلم المدهش الذي اخرجه دافيد فنشر عن قصة قصيرة لسكوت فيتزجيرالد الي ثلاثة عشر جائزة في شتي القطاعات الفنية.. لم تخطيء في اختيارها.. فالفيلم يستحق كل هذا.. بل وأكثر من هذا أن سيمفونية سينمائية ذات نبرة عالية.. تجمع منها سيناريو عبقري ومجموعة مدهشة من الممثلين تحت ادارة مخرج.. لاشك أن واحد من أكبر صناع السينما في هوليوود المعاصرة.

عندما كتب فيتزجيرالد قصته القصيرة الغرابئية هذه.. عن رجل يعيش زمنه باتجاه معاكس ولد شيخا في الثمانين.. واستمر ينمو الي الخلف عاما بعد عام.. حتي مات رضيعا بعد أن امضي حياته كلها.. يعيش عواطف انسان يري الزمن يجري معه الي الوراء عوضا عن أن يجري به الي الأمام.

فكرة يمكن أن تمر في خاطر مؤلف كغرائز كافكا.. ولكنها كانت تبدو في البداية بعيدة تماما عن أفق واهتمامات صاحب جاتسي العظيم وصنون هو الليل وآخر عمالقة هوليوود والذي امضي حياة حافلة.. مليئة بالصعود والهبوط والازمات العاطفية والمواقف المليودرامية غير القابلة للتصديق »اذ ماتت زوجته محترقة في حريق شب في مستشفي للأمراض العصبية كانت تعالج فيه وترك موتها في نفسه أثرا لا يمحي«.. عاش قصة حب مع المرأة التي تزوجها.. مرت بكثير من الأزمات وتحولت فيما بعد الي فيلم روائي باسم »معبودي الخائف« لعب فيه جريجوري بيك دور المؤلف الامريكي الشهير.

فيتزجيرالد.. عاش محزنا بين أصوله الامريكية.. وخياله الاوروبي الجامح.. »كانت باريس الثلاثينيات محط أحلامه وترحاله« وتأثر بكثير من الكتاب الاوروبيين.. ولعل هذا ما تحسه في قصة بنجامين بوتين التي تنشيء لها كاتب سيناريو شديد الموهبة احالها من مجرد قصة قصيرة تحتوي علي عدد مؤثر ومحدود من الشخصيات.. الي ملحمة انسانية تتصارع فيها جميع العواطف الانسانية.. وتتواجه فيها مجموعة رائعة من النماذج كل منها يصلح لأن يكون محور فيلم كامل. تبدأ الاحداث في مستشفي بعيد.. يواجه عاصفة خارجية حادة.. وامرأة عجوز تموت محتضرة علي سريرها.. وأمامها ابنتها الشابة.. تحاول أن تروي لها جزء من حياتها الحافلة بالاحداث وإلي جانب حديث الأم.. هناك دفتر اليوميات الذي خبأته في صندوق خشبي ثمين والذي يحتوي علي مذكرات رجل يدعي بنجامين بوتون.

هو في الحقيقة والدها.. الذي لم تره.. إلا مرة واحدة في حياتها دون أن تعرف انه والدها. وبين ما تقوله الأم وترويه بصوتها المتهدج المتهالك.. وبين ما تقرأه الابنة من سطور نارية تطفح بالصراحة والألم والشجن وتروي اعترافات داخلية مؤلمة عاشها »رجل« اطلق عليه الزمن لعنته.. فجعله يسير الي الوراء عوضا من أن يمضي الي الأمام.

ولد عجوزا.. ومات بعد ثمانين عاما.. طفلا وليدا.. يكاد أن يكون قد خرج من رحم أمه. الفيلم يعود بنا في وفقات متتالية الي الاحداث. كما عاشها بنجامين.. ورواها وكما عاشتها ديزي حبيبته وعشيقته وأمه فيما بعد..تري ولادته وذعر أبيه ومحاولته التخلص منه.. والقاءه أمام دار خصصت للعجزة تديرها امرأة زنجية مدهشة »كوني« وزوجها.

كوني هي واحدة من هذه الشخصيات التي يرسمها الفيلم ببراعة خارقة انها مخزن للحنان الدفء.. عطفت علي هذا الوليد المشوه واحتضنته ورعته وكأنها هي التي ولدته.. الي جانب زوجها الشاعر الذي يعشق شكسبير.. زنجيان مليئان باشعاع انساني في زمن كانت فيه أمريكا تركل الزنوج والملونين بقدميها الاثنين.

ويشب الطفل العجوز.. ويرمق بعين عجيبة سكان هذا المأوي.. الرجل الذي اخترقه البرق ثماني مرات.. ونماذج أخري حلوة.. تمر علينا مرور النسيم.

ويخرج الشاب الذي يبدو عجوزا في الخمسين.. ليدخل معترك الحياة ويقرر العمل في مركب يديره قبطان فنان اراد أن يكون رساما.. ولكنه لم ينجح في استبدال قدره.. فجعل من جسده لوحات يرسمها يوله دافتتان. عن طريق هذا البحار.. يعرف العجوز الشاب تجارب الحياة كلها.. يعيش تجربته الجنسية الأولي في ماخور.. ويشرب قدحه الاول ويذوق طعم القبلة الأولي.

ولكنه لا يستطيع أن ينسي زميلته الصغيرة في مأوي العجزة.. ديزي التي يفكر فيها رغم علاقة حب رائعة يعيشها مع سيدة متزوجة هي اليزابيث وتلعب دورها بمقدرة مدهشة »ليكة اسوانتون«.. علاقة يرسمها فنشر في لوحات متتالية.. ويروي فيها قصة حب رائعة.. بين »رجل - عجوز« يكتشف الحب وبين امرأة تعيش مغامرة خاصة.. اللقاءات الليلية.. الاحاديث المهمة..اكتشاف الانثي.. المختلفة.. المدهشة ذات الاقنعة السبعة.. والتي تبدأ بعد علاقة محمومة تقطعها فجأة دون سابق انذار.. وتختفي عن انظاره.. حتي يراها فيما بعد عد مرور سنوات. وقد تجاوزت الستين تقطع بحر المانش سباحة.

قصة ذات رنين ووهج.. تعيش في ثنايا فيلم مليء بأحداث متنوالية تقطر انسانية وفلسفة وشجن..ويعود بوتون الي بلده.. ليلقي ديزي الصغيرة وقد أصبحت راقصة باليه تعيش حياتها كما يحلو لها.. وهنا يقدم لنا فينشر صورة عن حياة وكواليس مسارح الباليه في مهارة وجماليات تذكرنا بلوحات »دوفي«.

ولا تفهم ديزي.. رومانسية صديقها القديم.. فهي قد انغمست في حياتها البوهيمية حتي اذنيها.. وتتركه ليواجه نفسه.. ويكتشف سر ولادته من أبيه الذي طفحت به الأحزان.. في مواقف مرهفة سينمائيا.. يزيدها عمق الاداء عمقا علي عمق ولكن حادثة مروعة.. تصيب ديزي في ساقها.. وتبعدها عن مجال الرقص الذي اختارته وبرعت فيه.. وتعود اليزابيث محطمة الي دارها الأصلي.. لتعيش علاقة أخري مع بنجامين علاقة يرفضها هو هذه المرة.. قبل أن يستجيب لها في مشهد مدهش.. يذوب حبا ولهفة واشتياقا. في هذه المقاطع من الفيلم.. التي ابدع السيناريو كتابتها.. يحلق المخرج عاليا في تعبيره السينمائي.. وما علينا إلا أن نذكر المعركة البحرية التي يشهدها بنجامين والتي يموت فيها معلمه القبطان.. أو مشهد طريفة تصور للحادثة التي حطمت مستقبل ديزي حتي تدرك أن فينشر أصبح بحق سيد سادة السينما الذين لا يمكن الشك في قوة عطائهم وقوة نظرتهم السينمائية وحساسيتهم الجمالية..وتتطور علاقة ديزي ببوتون.. وينفصلان لكي يعيش كل منهما حياته وتموت كوني ويزداد بنجامين صغرا وشبابا وفتوة وجمالا.. ويلتقي بوتون أخيرا بابنه الذي يموت بعد أن يورثه أمواله كلها.ويعود بوتون الشاب المراهق الآن ليواجه ديزي التي كبرت وتقدمت بالسن وأصبحت تدير معهدا للباليه ولها ابنة شابة.. انجبتها من بوتون.. وتلقاه.. وقد أصبح مراهقا فاتنا يكاد بفتنته يفوق جمال يوسف النبي وتحس المرأة العجوز بالرغبة في الرجل الذي كان زوجها وحبيبها فيما مضي.. وأصبح الآن بمثابة ابن لها.. وتعيش معه للمرة الأخيرة.. ليلة حب لا تعرف من خلالها اذا كانت هي الأم التي تضم اليها هذا الجسد الشاب أم العاشقة التي تلتقي محبوبها بعد غياب وتذكر رقصتها له في ضوء القمر.. والدنيا كلها ملكهما.

وتبدأ مرحلة أخري من حياة ديزي.. مرحلة الأم التي تري ابنها يتراجع به الزمن.. حتي يعود طفلا شقيا مشاغبا.. ثم رضيعا.. قبل أن تقذفه ذراعيها. مودعة ابا وقد اشتعل رأسها شيبا.

هل تودع الابن أم الحبيب أم الاب الغائب أم العاشق الذي لا ينسي »حياة بنجامين بوتون الغريبة« فيلم جمع كل شيء.. القصة ذات العمق الميتافيزيقي والنفسي الذي يفتح باب الاسئلة.. أكثر مما يعطي الاجابات »وهذا هو عنوان الفن الصحيح برأيي« والسيناريو المتكامل الذكي المرهف الذي عرف كيف يعطي للقصة الاصلية أجنحة الفراشة ورشاقة الغزال مضيفا إليها نظرة سينمائية مدهشة ومترفة.

واداء وصل الي درجة الكمال من خلال ممثل شاب اشتهر بوسامته »براد بيت« وهو يقدم هنا دليلا اضافيا علي عمق موهبته التمثيلية.. وقدرته الفذة.. في تجسيد شخصية تمر في مراحل زمنية مختلفة اعطي لكل مرحلة منها اداء خاصا وتميزا يناسبها.

ان كيت بلانشيت التي تقدم في دور »ديزي« دورا معقدا تجمع فيه بين عواطف عدة بسلاسة تستحق الاعجاب انها كما قلنا الأم والعشيقة والعاشقة والفنانة المتمردة.. انها قليلة واحدة الانثي.. تماما كتسيلدا سوانثون في دور »اليزابيث« التي قدمت وجها للمرأة الحرة المتمردة الطموح.. التي تعرف كيف تعطي لجسدها حقه الكامل في الحياة والرغبة.

الي جانب هذا الثلاثي الرائع.. هناك هذه الادوار الثانوية التي برع السيناريو في رسمها وبرع المخرج في تقديمها.. ليجعل من فيلمه سيمفونية سينمائية حقيقية وفيلما من الافلام التي ترك أثرها في القلب كوشم النار الذي لا يزول.

أخبار النجوم المصرية في

26/02/2009