كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

يوسف شاهين في فيلم "ذاتي" رابع "اسكندرية نيويورك"

نظرة المخرج الأكثر رومانسية إلى ماضيه والأقل تركيباً وخضوعاً لأسئلة الذات

 ريما المسمار

إسكندرية نيويورك

   
 
 
 
 

من المحيّر بمكان كيف ان الماضي او ما تبقى من مشاهده وذكرياته يمكن ان يتحول ما يشبه ألبوم صور مقيماً في حنايا الذاكرة ـ كما لو ان الاخيرة خزانة قديمة ـ تسهل العودة اليه وفلفشة صفحاته ليرجع الماضي صورة متحركة حية. هكذا يبدوالسينمائي يوسف شاهين في فيلمه الاخير "اسكندرية نيويورك"(*) كأنه يقيم صرحاً واضح الملامح لذكرياته، مطواعاً وبعيداً من "أحجية" تفنّن في صوغها في افلامه السابقة. إنها المرة الرابعة التي يسبر فيها شاهين نهر الذكريات لكأنه هذه المرة مستنقع راكد غير متبدل، يستخرج منه صوراً لم تبهت برغم مرور السنين. ولكنه هذه المرة يقلب صفحات من البوم "المناسبات" الملائم للعرض امام الضيوف والغرباء، حيث لا وجود لصورة فاضحة او اخرى مبتورة تعيد إلى الذهن ذكرى اليمة. انه، اي الفيلم، نظرة شاهين الاكثر رومانسية إلى ماضيه والاقل تركيباً وخضوعاً لأسئلة الذات المحيرة. بهذا المعنى، ربما يكون "اسكندرية نيويورك" الاقرب إلى المفهوم الكلاسيكي للسيرة الذاتية من حيث استعادة حقبة زمنية بتفاصيلها. هنا لا يتدخل وعي المخرج الحالي في صوغها بخلاف "اسكندرية ليه" مثلاً او "حدوتة مصرية" بلعبته الخيالية. يختلط الامر قليلاً في "اسكندرية نيويورك" من حيث تماهي الحدود الواضحة بين رومنسية النظرة إلى الحقبة وبين رومنسية الحقبة الاربعينية الفعلية. بينما هي حدود نجدها خشنة ملموسة بين الاربعينات والزمن الحاضر بدون جهد كبير لفهم ذلك او قبوله. هكذا يبدو شاهين بين الزمنين حاضراً بشخصيتين مختلفتين إلى حد بعيد. بخلاف "يحيى" في الثلاثية الذاتية الاولى الراكب عجلة الزمن بين ماضيه وحاضره ممشطاً المسافة بسيل متواصل من الاسئلة والصور والمشاهدات، فإن رحلة "يحيى" في "اسكندرية نيويورك" ليست رحلة "مكوكية" بين زمنين متقاربين بقدر ما هي شطحات خيال تحمله مرة واحدة نصف قرن إلى الوراء. كأن الماضي يأتيه في شكل ومضات مشهدية في ساعات استرسال الذاكرة. ولكن مرة اخرى يختلط الامر على المشاهد: هل "البراءة" التي تسبغ مرحلة الاربعينات هي براءة "يحيى" المراهق وقتذاك؟ أم انها "براءة" متعمدة تعزز النظرة الرومنسية إلى ذلك الزمن وتجلي تالياً بشاعة الحاضر من منطلق ان الاسود يفضحه الابيض؟ وتالياً هل يمكن اياً كان ان يكون متجرداً في استحضار مرحلة من حياته؟

البراءة

من الواضح ان اسئلة شاهين في "اسكندرية نيويورك" تجاوزت ذاته وتلك مفارقة لأنه يركز في تعليقاته على الفيلم على "التناقض" في مشاعره تجاه اميركا. ولكن ترجمة ذلك التناقض لم تأتِ في شكل محاورة ذاتية او في شكل تحول إلى الداخل لاستنباط معادلة ما. في نهاية المطاف، لا تقوم تناقضات "المثقف" على انتظار اشارات خارجية لحسم موقفه بقدر ما تتسلح بمخزون ذاتي من تفاعل افكاره مع العالم المتغير. يجوز هنا ان نسأل: هل برز التناقض في مشاعر شاهين ـ يحيى تجاه اميركا فقط بعد 11 ايلول والانتفاضة الثانية؟ حسناً، ماذا عن المشهد الختامي في "اسكندرية ليه" (1978): تمثال الحرية يبتسم بخبث كاشفاً عن اسنان متعفنة كأنها مومس مسنة تستقبل اصوات غناء الحاخامات اليهود تعلو فوق كل صوت القادمين اليها على متن سفينة؟ لم يكن المشهد "بريئاً" على الاطلاق على الرغم من ان "يحيى" (محسن محيي الدين) هو نفسه "يحيى" (أحمد يحيى) في "اسكندرية نيويورك" وعلى الرغم من ان الاخير هو الشريط الثاني في السيرة الذاتية بحسب ما قال شاهين. اي ان "يحيى" (محيي الدين) قفز من ذلك المركب بعد تصوره ذاك لتمثال الحرية إلى حقبة الاربعينات التي يصورها "اسكندرية نيويورك". كان محرك المشهد في "اسكندرية ليه" شاهين المخرج بنضجه الخمسيني وافكاره المتضاربة حقاً بشأن "الآخر". هناك كان يمكن المخرج ان يتحدث عن التناقض الفعلي ولكنه انتظر الاشارات الخارجية لكأنه يحتاج إلى ما يدعم زعمه بل ويؤكده. من هنا شكلت الاحداث السياسية الاخيرة ـ إلى اعتراف اميركا به من خلال عرض افلامه في بعض جامعاتها ـ مدخلاً إلى قول ذلك التناقض، إلى بثه على مسرح الشاشة كأنما في "مونودراما" (الافكار التي يعبر عنها يحيى/شاهين في الوقت الحاضر) تدعمها صور على خشبة خلفية (مشاهد الفلاش ـ باك). بهذا المعنى، تبدو احداث الفيلم مقسومة بين خشبتين، امامية وخلفية. على الاولى، يحضر "يحيى" المسن بأفكاره شبه المطلقة مسجلاً موقفه ضد ما يجري كأي مثقف قديم لا يجد بديلاً من الشعارات وحمل اليافطات بعد الارتداد عن الفردية. وعلى الخشبة الخلفية، تدور حياة "يحيى" المراهق كأنها دور في مسرحية غنائية او في فيلم كلاسيكي بالاسود والابيض عندما كان طالباً في معهد "باسادينا" السينمائي بكاليفورنيا. في واحد من مشاهد الفيلم يقولها "يحيى" السبعيني (محمود حميدة) لابنه من حبيبته الاميركية "جينجر": "الفرق بينك وبين جينجر انها تشبه افلام الاربعينات الموسيقية بينما انت تشبه افلام الاكشن المعاصرة البشعة." لا يبدو شاهين انه فكر كثيراً قبل اطلاق تلك الجملة ـ على رومانسيتها ـ لأنها من ضمن ما تحول آراء مطلقة او جاهزة لديه، يلقيها على مسرح فيلمه وتنفي التناقض الداخلي. ومن ذلك ان شاهين يوزع السرد على غير شخصية. ليس هو وحده حامل الفيلم من وجهة نظره، بل هناك "جينجر" ايضاً وصديقتها وآخرون يتبادلون دور الراوي بما يبرر ويخدم في آنٍ معاً غياب تلك الحوارية الذاتية او المراجعة.

يغيب الحوار بين مستويي الفيلم، او بين خشبتيه، اي بين "يحيى" المراهق و"يحيى" الكهل. الفارق الزمني ساشع والمرحلة الفاصلة ضبابية كأنها تحمل ضبابية المرحلة التي انجز فيها ثلاثيته الذاتية. لا يظهر "يحيى" الخمسيني الا في مشهدين عابرين: مع "جينجر" في لقاء سيثمر ولداً، ومع صديق مصري يناقش عرض فيلم "الناس والنيل" في اميركا. في كلا المشهدين، تبدو شخصية "يحيى" ضبابية بدون ملامح خاصة. هل هي نظرة شاهين إلى نفسه في تلك المرحلة؟ ام انه السرد الذي يركز اكثر على مرحلتي الاربعينات ومطلع القرن الحادي والعشرين؟

أقنعة وخشبة

من الصعب القول اية شخصية (يحيى المراهق او الخمسيني او الكهل) هي الاكثر تعبيراً عن شاهين او اية "خشبة" هي مسرحه الذاتي. ولكن من السهل بمكان ان نلمس "سلاسة" كبرى في تخففه من الافكار والخطاب السياسيين، اي في المرحلة الاربعينية. هناك يظهر شاهين الكلاسيكي الذي قدم النوع الغنائي في "انت حبيبي" و"بابا امين" وقصة الحب في "صراع في الوادي" وسواها... ولا عجب من ان تكون مشاهد الحب بين "يحيى" و"جينجر" في مرحلتي المراهقة والنضج هي الاجمل في الفيلم إحساساً وتشكيلاً. ولكن مشاهد الفلاش ـ باك او لنقل مرحلة الاربعينات تغلب عليها نزعة مسرحية، تصور حياة "يحيى" مشاهد متلاحقة من افلام ومسرحيات. فمن مشهد راقص إلى مونولوغ هاملت إلى مقطع من اوبرا كارمن، يبدو يحيى/شاهين المراهق صورة متخيلة او مشتهاة. بينما هو في الحاضر صورة "نهائية" مبسطة لرجل خاض تجربة ثرية. واقول نهائية لأن ما يحاول شاهين قوله عن ذاته على لسان آخرين يريد من خلاله تأكيد عظمته واهميته واعتراف "الآخر" به في الوقت الذي يبدو الفن فيه اليوم متجاوزاً تلك المعايير المطلقة إلى تثبيت صفات من نوع "الاختلاف" و"الجدلية". ومن ذلك انه يجعل الابن "اسكندر" يتعرف إلى والده (شاهين) من خلال افلامه. انها رغبته في ان يكون مفهوماً في افلامه وفي ان تكون الاخيرة خير تعبير عن افكاره وشخصيته المنفتحة على "الآخر". ولكن في ظل الحديث على الذات ـ وليس الحديث الذاتي ـ، يضيع "الآخر" في الفيلم الا من حيث ما يمثله من موقف حدي: مع او ضد. يفتقر فيلم شاهين الذي يطرح علاقته بأميركا إلى الاميركي. فالأخير حاضر في نموذج من اثنين: إما المدافع عن العرب اكثر منهم مثل "جينجر" واستاذ الموسيقى وإما المتعصب الرافض كالصحافي والابن "اسكندر". ما الذي يريده شاهين من اميركا اكثر من حفنة من الاصدقاء الحقيقيين الذين يعترف بوجودهم وبمساندتهم له؟ هل يُعقل ان يقدم نظرة الاميركي إلى العربي بالجملة عينها في حقبتين يفصل بينهما نصف قرن؟ "انتم تسكنون في خيم وتركبون الجمال" جملة تتكرر نفسها على لسان شخصيتين الاولى زميلته في معهد "باسادينا" حيث درس السينما في الاربعينات والثانية ابنه "اسكندر" في القرن الحادي والعشرين. لعل الصورة الاكثر تعبيراً والتي كان يمكن ان تثبّت مناخ الفيلم هي اللقطة الاخيرة لـ"يحيى" سائراً تحت المطر في شوارع نيويورك. العلاقة بالمكان هي التي تعيد رسم علاقته بأميركا ولكن الامكنة غير حاضرة في الفيلم الا كديكور خلفي لمشهد او لحوار. بل يجوز القول ان لعبة شاهين المسرحية تصل ذروتها في هذا الفيلم من حيث لعبة معقدة بين الواقع والخشبة والشخصيات والاقنعة. معظم اماكن الفيلم هي في الواقع مسرح لاستعراض ما من قاعة العرض النيويوركية (مسرح الاوبرا في الواقع) التي تقدم افلام "يحيى" إلى مسرح الجامعة إلى استديو هوليوود إلى الخشبة التي يقدم "اسكندر" عليها عرض "زوربا"... كلها احالات إلى فانتازيا الشهرة والسينما التي يطمح شاهين منذ مراهقته إلى ان يصبح جزءاً منها حتى يغدو الفيلم بشكله ومضمونه محاكاة للفن وكولاج من سينما ومسرح ورقص وموسيقى، ينهل من "الكيتش" اكثر مما يفعل من رؤية ابداعية مركبة ولكنه بذلك يقترب من الثقافة الشعبية التي لم تقربها افلام شاهين من قبل على الاقل ليس بهذه الفاعلية. كذلك شخصيات شاهين في الفيلم تحمل أقنعة متعددة: "جينجر" المراهقة والمسنة وبينهما صورتها كمومس؛ "يحيى" المراهق المحب للتمثيل والرقص والمسن حامل الافكار والقضايا وبينهما الاستعراضي القادر على السخرية من صحافي واسكاته؛ "اسكندر" الشاب الاميركي المتغطرس ومن ثم المشوش والآخر الراقص...

كذلك هي الحياة بالنسبة إلى شاهين، او الاحرى هكذا يتمناها: خشبة كبرى تحتضنه بينما العالم يشاهد مصفقاً في الوقت الذي يعيد مرة بعد اخرى صوغ مونولوغاته كما يفعل "يحيى" بدور هاملت، يعيد تجسيده مرة بعد اخرى من دون ان يسأل كيف سيغيره او يضيف اليه. انها نظرته النهائية إلى الشخصية وتفجير احاسيسه من خلال دمعة او صرخة او همسة هو ما يكفيه...

الصورة

يبدو غريباً بعض الشيء ذلك الحضور المهيمن للأداء واللعبة المسرحيين في ظل حضور من نوع آخر للصورة. من صورة فلسطين على شاشة التلفزة، ينتقل شاهين إلى صورة فيديو "محبَّبة" لتمثال الحرية تبدو مأخوذة من مصدر مجهول وهي تشبه إلى حد بعيد تلك الصور التي تتحول "كليشيه" لكثرة استهلاكها وتحولها رمزاً احادياً: لقطة من الجو متحركة تدور نصف دائرة حول التمثال وفوق نيويورك. كذلك لا يمانع المخرج استخدام صورة كأنما من الارشيف (فيديو او سينما) لعرض "زوربا" الذي يقدمه "اسكندر" على المسرح وهو عرض لعب في الواقع بطولته احمد يحيى على مسرح دار الاوبرا بالقاهرة. وهناك الصورة المأخوذة من افلام المخرج "باب الحديد" وسواه معروضة على شاشة في صالة عرض. على الرغم من تنوع مستويات الصورة، الا ان الربط في ما بينها يبدو غائباً كما هي الرؤية من خلف استخدامها. لماذا مشهد فيديو لتقديم نيويورك؟ لماذا لم يصور عرض "زوربا" حياً كما فعل بحفلة لطيفة التي افتتحت فيلم "سكوت حنصور"؟ في المقابل، تبدو صورة الفيلم اكثر امتلاكاً لمواصفات وهوية. مشاهد الـ travelling على وجوه الممثلين (اي الكاميرا المتحركة) واللقطات الكبيرة (close-up) على الوجوه والعيون هي من توقيع شاهين وحتماً مشاهد الحب. في المقابل، يمكن مناقشة حضور المخرج، او عدمه، في اداء الممثلين. لابد من القول ان تلك النظرة الرومنسية إلى "يحيى" المراهق منحت الممثل الشاب احمد يحيى حرية اداء ربما لم تتوفر لمحسن محيي الدين. في "اسكندرية نيويورك" يقترب "يحيى" من ان يكون شخصية مصنوعة بثقة تفوق الثقة التي كُتِبت بها شخصية "يحيى" في "اسكندرية ليه" مثلاً. ربما هو الفاصل الزمني او اهتمام شاهين في هذا العمل بالعلاقة مع الخارج وليس مع صراعاته الداخلية. لذلك يبدو "يحيى" المراهق هنا مزيجاً متجانساً من الخجل والموهبة وقوة الشخصية. اما "يحيى" المسن فيعود الفضل الاكبر إلى اداء محمود حميدة في اخراجها من السلوك الظاهري الذي عُرف المخرج به. بل ان هناك جزءاً كبيراً من الأداء يضيف بشكل او بآخر إلى شخصية شاهين الواقعية من حيث إظهار عواطفها لاسيما في علاقته بابنه. ولعل ابتعد حميدة من تقليد السلوك الخارجي الخاص بشاهين منح الشخصية بعداً أعمق من التقوقع داخل لائحة من الحركات المدروسة مهما بدت واقعية. يسرا في دور "جنجر" قدمت هي الاخرى اداءً يتسم بالهدوء بعيداً من الاستعراضية على الرغم من انها غير مقنعة كإمرأة سبعينية.

المستقبل اللبنانية في

27.08.2004

 
 

"اسكندرية/ نيويورك"

ابن ضال لشاهين في أميركا حيث تهيمن "غلاظة" ستالوني

ابراهيم العريس

في واحد من كتبه الاخيرة, "حكاية القط البري" يروي لنا عالم الاناسة الفرنسي كلود ليفي ستراوس حكاية فرصة التلاقح والتوأمة التي اضاعها الغرب على نفسه, حين رفض كريستوف كولومبس, يد "الهنود" الحمر التي امتدت نحوه ما إن وطأت قدماه وأقدام رفاقه الارض الاميركية, فكان ان ذبح اولئك الذين كانوا ينتظرون وصوله بشغف, بدلاً من ان يعانقهم. وهذا الامر تشرحه ليفي ستراوس على الشكل الآتي: إن سكان اميركا الاصليين كانوا, تبعاً لأساطيرهم ومعتقداتهم, يعيشون منذ اقدم الازمان في انتظار "توأمهم" الابيض يأتي من البحار الشرقية, ليكتملوا به. وهكذا حين وصلت سفن كولومبس, مكتشفة او غازية, اسرع السكان الاصليون وهم على أتم الاستعداد للتآخي. فما كان من البيض, خوفاً او طمعاً او بحسب العادة, الا ان مارسوا العنف القاتل.  

شيء من هذا القبيل, ولكن مع فارق اساس في التحليل وعمق القضية المعبّر عنها, هو ما يحدث في فيلم "اسكندرية/ نيويورك", عمل يوسف شاهين الاخير - حتى الآن, وفي انتظار بدء اتضاح مشروعه المقبل "هاملت الاسكندراني" - مع انقلاب "جغرافي" فقط في الادوار: فعندما يكتشف يحيى, شخصية الفيلم الرئيسة, ان له في نيويورك ابناً غير شرعي كان انجبه من دون ان يدري, من حبيبته الاميركية جنجر, يشعر ان حياته اكتملت اخيراً, خصوصاً ان الأم اطلقت على ابنها اسم اسكندر, وان اسكندر هذا اذ اصبح نجم باليه معروفاً وناجحاً, حقق في هذا الفن ما كان يصبو اليه يحيى الشاب نفسه. وهكذا اذ يمد يحيى يده الى اسكندر, ساعياً وراء ما يشبه توأمة الروح - التي تتجاوز الاشخاص هنا في دلالاتها - يرفض اسكندر اليد الممدودة, مما يجعل اللقاء مستحيلاً, حتى وان ترك شاهين نهايته مفتوحة بعض الشيء, وألقى اللوم كله على نيويورك, من خلال اغنية الفيلم النهائية.

الترميز والتبسيط

يقينا ان الترميز هنا واضح كل الوضوح, وأن البعد الايديولوجي الذي هو وليد مباشر لما حدث بعد 11 ايلول (سبتمبر) 2001 يصل الى حد التبسيط... ولكن من دون ان يدنو الامر كله من "تصفية الحسابات" التي اشار كثر - بمن فيهم شاهين نفسه - بصدد الحديث عن هذا الفيلم: تصفية الحسابات بين شاهين وبين "أميركا". الافضل ان نقول ان التناحر هنا هو بين ماضي اميركا وحاضرها, صورتها التي تكونت على مدى عقود طويلة من القرن العشرين, في اذهاننا - ويوسف شاهين واحد منا في هذا المجال -, وبين ما آلت اليه هذه الصورة اليوم. وفي هذا الاطار ليس ثمة اي غموض او تحايل في الفيلم. وحسبنا ان نتذكر ان الشخصيات الاميركية الايجابية تملأ الفيلم من اوله الى آخره, حيث يصبح اسكندر هو الشخصية السلبية الوحيدة تقريباً. وحسبنا ان نصغي جيداً الى ما يقوله يحيى لاسكندر في المقهى حين يجتمعان قرب نهاية الفيلم لـ"تصفية الحساب" بينهما... بل حسبنا ان نرصد حتى دموع يحيى ودموع... اسكندر بعدما يصبح اللقاء مستحيلاً.

وإزاء هذه العلامات كلها, لا تعود مهمة, في اعتقادنا, كل تلك التصريحات والمقالات التي تضع "اسكندرية/ نيويورك" في خانة الصراع الحضاري والايديولوجي بيننا وبين اميركا... وربما بيننا والغرب كله.

من المؤكد ان شاهين اكثر رهافة من ان يجعل نفسه رأس حربة في صراع من هذا النوع, حتى لو ابدى بطله يحيى, بين الحين والآخر غضباً على اميركا وانتقد سياسييها وممارساتها "الاستعمارية" الجديدة, ثم رفض ان نكرمه قبل ان يعود ليقبل ذلك من جديد. ثم ان الفيلم نفسه اكثر غوصاً في لعبته الفنية وأكثر جمالاً من ان يكون مجرد منشور سياسي "على الموضة" كما رآه كثر... حتى خلال عرضه في الدورة الاخيرة لمهرجان "كان". بل في يقيننا اننا اذا نحينا بعض "الخطابات" السياسية العرضية, وغضضنا الطرف بعض الشيء عن دلالة استحالة اللقاء بين يحيى واسكندر - بسبب عناد هذا الاخير وربما وقوعه تحت عنصر المفاجأة -, نصبح امام عمل فني جميل, فيه اكثر من تحية لهوليوود, وأكثر من حنين الى ايامها الطيبة" فيه عتب على أميركا التي تخون اميركا قبل ان تخون اي امر آخر...

في هذا الاطار يمكننا ايضاً ان نقول ان قلة من افلام السينما, عرفت كيف توجه مثل هذه التحية الطيبة الى السينما الاميركية, بل الى الانسان الاميركي, وتفتح الباب واسعاً امام التفاهم والتسامح (ولنستعرض هنا الشخصيات الاميركية من خطيبة اسكندر, الى استاذه الى بولي, الى الموزعين الاميركيين لأفلام شاهين... من دون التوقف عند جنجر باعتبارها حالاً خاصة).

جواب لسؤال قديم

في هذا الاطار يبدو واضحاً ان "اسكندرية/ نيويورك" اكثر من كونه فيلماً يتعاطى مع ما آلت اليه العلاقة مع اميركا, بعد "11 ايلول" وبسببه, هو فيلم يجيب عن سؤال قديم, خامر دائماً اذهان محبي سينما يوسف شاهين ومتابعي سيرته: ما الذي حدث لذلك الفتى (يحيى شكري) بعد المشهد الاجد في فيلم "اسكندرية ليه؟" (1978). ففي ذلك الفيلم الذي كان الاول في سلسلة افلام كرسها شاهين بكل وضوح لسيرته الذاتية, فكان فتح جديد في السينما العربية, تنتهي الاحداث بالفتى يحيى وقد تمكن اخيراً من تحقيق حلمه بالوصول الى اميركا ليتعلم السينما في مكانها الطبيعي: كاليفورنيا. وهو في اللقطة الاخيرة يجد نفسه, على ظهر السفينة, في مواجهة تمثال الحرية, فيبتسم في وجه التمثال, لكن هذا يغمز له بعين قبيحة وشريرة.

لماذا كل تلك الغمزة الاستقبالية؟

كان من الصعب على المرء أن يخمن في ذلك الحين, إلا إذا كان من الذين تسرهم تلك الإشارات, بسبب عداء جذري كامن تجاه كل ما هو أميركي. اليوم, على أية حال, في "اسكندرية ليه" تجد تلك الغمزة تفسيرها, ولكن في موقف اسكندر وحده (حتى وان كان شاهين زرع في فيلمه علامات متفرقة حول ممانعة البعض من الأميركيين تجاه الآخر: حارسة الاستوديوات, مساعد المصور الذي يرفض اطلاع يحيى على كيفية عمل الكاميرا, بل يطلب طرده... ولكن ألا يحدث مثل هذه الأمور في أي مكان من العالم؟).

غير ان اسكندر, في حقيقة الأمر, ليس شريراً, بل هو - فكرياً - نتاج وضع يتفاقم وتكمن جذوره في النظرة الى العرب التي لربما كان العرب أنفسهم هم المسؤولون عنها على أية حال. كما علينا أن نلحظ أنها نظرة غير معممة, وربما كان من شأنها ألا تصل الى اسكندر, الفنان الراقص المرهف, لولا اكتشافه ان أباه... عربي, هو الذي من دون هذه القرابة "الصادمة" ما كان لديه, أصلاً, شيء ضد العرب.

إذاً, عدا عن هذا البعد, وعلى رغم موقعه الأساس في الفيلم, لدينا هنا في هذا العمل الذي يمكن اعتباره من أجمل وأبسط ما حقق شاهين خلال السنوات الأخيرة, حكاية حب جميلة, ومجموعة من العلاقات وتاريخ طويل يصل الى نحو نصف قرن, يرويه لنا شاهين بلغته السينمائية المحكمة, وفي نوع من الرحلة المكوكية بين الحاضر والماضي, تتوزع على ما ترويه الشخصيات وعلى ما يريد شاهين اخبارنا به.

"سقوط" غير مبرر

فنحن في البداية لدينا يحيى شكري (ي. من يوسف, وش. من شاهين بالطبع), (ويلعب دوره في اجادة تامة محمود حميدة الذي خيل الينا في معظم لحظاته, شكلاً ومضموناً وتصرفات انه شاهين حقاً), وهو الآن, في أواسط الخمسينات من القرن الماضي مخرج مبدع ذو سمعة عالمية لكنه لا يزال راغباً في غزو أميركا... غير ان هذه تبدو عصية عليه, وحين تلين, يعاند هو ضدها انطلاقاً من مواقف سياسية. وهكذا نجدنا في قلب لعبة نبذ وجذب بين يحيى وحلمه الأميركي. وهذه اللعبة تصل الى خاتمتها في التسعينات, حين يقيم "لنكولن سنتر" تكريماً ليحيى, وقد أضحى نجماً من نجوم الاخراج في السينما العالمية. وعند تلك النقطة, وقد أضحى يحيى في السبعين من عمره, يكتشف وجود ذلك الابن الذي أنجبه من دون أن يدري يوم عاد والتقى حبيبته جنجر في السبعينات, وكان هو في حينه أضحى ذلك المخرج المعروف, أما هي فصارت... فتاة هوى لا أكثر. طبعاً ليس ثمة, في سياق الفيلم, ما يبرر هذا "السقوط" الذي كان من نصيب جنجر (وتلعب دورها هنا يسرا), بعدما كانت وهي شابة (لعبت دورها ببراءة واتقان كبيرين يسرا أخرى في العشرينات من عمرها) تعد بالكثير... كما أن ليس ثمة ما يشرح كيف أن فتاة الهوى تلك تمكنت من تربية ابنها اسكندر وايصاله الى النجومية القصوى في عالم الرقص. المهم هنا هو أن هذا يحدث في الفيلم وعلينا تقبله, حتى وان كان من حقنا في الوقت نفسه أن نرفض تطويلات واسهابات في الفيلم أتت في كل مرة لتقطع ايقاعه (الرقصة المتخيلة أمام بائعة الهامبرغر, حوارات أستاذ اسكندر التي لا تنتهي حول التسامح بين أمور أخرى)... ذلك أن هذا البعد في الفيلم (سقوط جنجر) انما يمكن أخذه كتحية لنمط ميلودرامي من السينما مثله, خصوصاً فرانك بورزاغي ودوغلاس سيرك, كان سائداً ومحبباً أيام دراسة يحيى في كاليفورنيا. ولا يبدو لنا ان هذه التحية مفتعلة في شكل زائد عن الحد, ان نحن نظرنا الى "اسكندرية/ نيويورك" كله على اعتبار انه - أيضاً - فيلم/ تحية لفن السينما نفسه. اذ ان كل المرجعيات في الفيلم سينمائية, وكل الأحداث سينمائية: ماذا هل كان لنا أن نتوقع شيئاً آخر من فيلم لشاهين يريد أن يروي خمسين عاماً من حياة شاهين؟

تحية الى السينما

ولأن الفيلم هو, في نهاية الامر, تحية حارة الى ذلك الفن الذي يمكنه ايضاً ان يكون مبرر حياة بأكملها, يمكن طبعاً من يحب السينما ويحب السينما شاملة (التي تجمع الانواع كلها في بوتقة: الميلودرامي, النضالي, الكوميدي - الموسيقي, سينما المؤلف وسينما الوعظ الاخلاقي ايضاً, ناهيك بسينما السيرة الذاتية التي هي عماد الفيلم الاول والاخير) يمكنه ان يجد ما يرضيه, وكأن شاهين اراد من هذا الفيلم, الذي زرعه بمشاهد واحالات الى الكثير من افلامه - وكأنها هنا من اخراج يحيى شكري -, وكأنه اراد ان يرسم صورة لتاريخ السينما من خلال صورة تاريخه الشخصي, انطلاقاً من ان تاريخه الشخصي يبدو لنا قادراً على المزاوجة بين هاملت وكارمن, بين "اسكندرية ليه؟" و"باب الحديد", وبين الخطاب السياسي والوعظ الاخلاقي (حول التسامح الذي يعرفه جيداً ابن بار للاسكندرية لا يفوته ان يلتقي خلال زيارته النيويوركية, وهو المسيحي, بزميلين في الدراسة له, احدهما مسلم والآخر يهودي... وها هي نيويورك تجمعهم معاً الآن... لماذا؟ هل لأن اسكندرية اليوم باتت عاجزة عن هذا؟ خائنة هي الاخرى لتاريخها؟), بين الفن والسقوط, بين الغضب والعتب, هو الذي اشد ما يؤلمه انه هو "يحيى" المولع بفريد آستير والسلالم البيض والتسامح المتجذر فيه, وريتا هايوارث والفنون الكبيرة, يجد نفسه اليوم اباً لابن ينتمي الى افلام العنف و"غلاظة" سلفستر ستالوني... اي الى اميركا اليوم.

وهذا كله, في "خلطة" شاهينية مدهشة, يزينها الرقص والموسيقى, ويزحمها سيل من العبارات / الكليشيهات, في الوقت نفسه, تتراكم فيها ادارة رائعة للممثلين, ولا سيما ابناء الجيل الاصغر (يحيى الصغير ثم اسكندر وقام بالدورين احمد يحيى وكذلك يسرا اللوزي - حنجر الصغيرة -), من دون ان ننسى تفوق لبلبة على نفسها (كما هو دأبها خلال السنوات الاخيرة) على رغم صغر دورها, اذ تلعب دور جين زوجة يحيى في ايامنا هذه. ومن دون ان ننسى ايضاً ماجدة الخطيب (استاذة يحيى في معهد السينما, التي بدت طالعة حقاً من اوساط المثقفين النيويوركـيين ذوي القلوب الكبيرة والصرامة الابداعية).

"خلطة" شاهين هنا انستنا على اي حال ما كنا أخذناه على "الآخر", كما انها "حسّنت" في الوقت نفسه, لدينا صورة "سكوت حنصوّر" الذي ينتمي بدوره الى عالم السينما عن السينما, حتى وإن كان في وسع "اسكندرية / نيويورك" أن يقول لنا وربما لشاهين ايضاً, ما كان على الفيلمين السابقين ان يقولاه... ما يعني ان شاهين تجاوز في فيلمه الجديد, الدروب التي كان رآها مسدودة في وجهه في الفيلمين السابقين, ليربط سينماه من جديد, بالثلاثية الذاتية, التي كان بدأها مع "اسكندرية ليه؟" ليستكملها مع "حدوتة مصرية" ثم "اسكندرية كمان وكمان"... حيث اصبحت الثلاثية رباعية... واليوم بات علينا ان ننتظر عمل شاهين المقبل "هاملت الاسكندراني" لنرى اذا كان ثمة امور, حول تاريخه وذاته, لم يقلْها لنا في الأفلام الاربعة التي تبقى, على رغم تطويلاتها وهناتها, من اجمل ما قدمته السينما في مجال "السيرة الذاتية" الى جانب أعمال فيلليني... وغيره وصولاً الى بوب فوسّي.

الحياة اللبنانية في

27.08.2004

 
 

أظهر حنيناً إلى أمريكا في "اسكندرية نيويورك"

يوسف شاهين: طيبة العرب لا تنفي تخلفهم

بيروت - "الخليج": بالرغم من تخطيه سن التقاعد وتناوله 17 نوعاً من الدواء وطبيب خاص يرافقه دائماً، يصر المخرج المبدع يوسف شاهين على العمل كما شاب في العشرين من عمره ليبدع أعمالاً جديدة.“الخليج” التقته في مقر اقامته في بيروت وقد جاءها لافتتاح فيلمه الأخير “اسكندرية  نيويورك” فبدا على عادته حزيناً وناقماً على كل الواقع السائد.

·         أظهرت حنيناً لأمريكا في فيلمك “اسكندرية  نيويورك” لماذا لم تسع للعمل في هوليوود مثلاً؟

لأنني لا أعمل بحرية فيها، الكل فوق رؤوسنا بدءاً من شركات الانتاج الى السياسات العدائية ضد العرب، وفي المحصلة لا أعمل إلا وفق مزاجي وبامتلاك كامل حريتي.

·         هذا يعني اعترافك بأجواء الحرية في الوطن العربي؟

وحدها الأجواء لا تكفي لا بد من انتزاع الحرية بالقوة حيناً بالحيلة او بأي وسيلة أخرى في أحيان أخرى.

·         ولكنها أفضل من حرية أمريكا؟

أفضل من حرية بعض الأنظمة او بعض المؤسسات مثل السينما حيث تضيع رؤية المخرج او الكاتب مثلاً.

·         بعد تجربة طويلة في الحياة، ما حصيلة تجربتك الانسانية والعملية؟

حياتي الشخصية، ارتبطت تماماً بحياتي العملية، لذلك لم تكن سيرتي الذاتية سهلة، خصوصاً في مواجهة أقرب الناس بصراحة، فهل يمكن ان أسيء الى والدتي مثلاً، وكذا الأمر على زوجتي وأختي وحتى على نفسي.

·         وكيف تجيب عن هذا السؤال؟

أنا “طاحونة بلاوي”.

·         أعلنت عنها صراحة؟

أنا حكيت كثير.

·         ولا يزال لديك الكثير من الأسرار؟

بدون شك.

·         ألا تواجه نفسك بها؟

صعبة قوي.

·         ذكرت بأن الفتاة الجميلة هي التي تلفت انتباهك بغض النظر عن انتمائها او طائفتها، فماذا عن باقي المعايير؟

ان تكون ذكية، غير متخلفة وقارئة بالحد الأدنى، وهنا لا أضع اللوم على الفتيات، بل على التربية الخاطئة ككل.

·         هل تعرف الخوف؟

لا أخاف إلا الله.

·         ولكنك اعترفت بأنك تخشى السجن؟

قلت بأنني لا أحب ان أدخل السجن، ولكن اذا حصل سأشتم من داخل جدرانه من سجنني وسأكتب أيضاً من هناك السيناريوهات التي أريدها.

·         لأنك لا تحب ان تدخل السجن تسعى لتغليف بعض الحقائق؟

أنا لا أغلق الحقائق، بل أسعى للكشف عنها بطرق دبلوماسية.

·         مع انك عدو الدبلوماسية؟

ممكن.

·         من داخل السجن لن تستطيع شيئاً؟

ومن قال اني سأكون وحدي؟ لا يمكن ان أعمل وحدي، وسيكون معي كثيرون.

·         تعتقد بأنك ستجد أوفياء لك؟

أكيد.. أولهم أبنائي خالد يوسف ويسري نصرالله وأحبابنا كثر والحمد لله.

·         كرمت في مصر أكثر من مرة؟

صحيح وأعطوني أكبر الجوائز، جائزة عبدالناصر التي عرضت علي مرة ثانية، بالإضافة الى حميمية الناس معي إذ لا يمكنني ان أمشي في الشارع ورأسي في الأرض.

·         ألم يجذبك العمل السياسي؟

عرضوا علي يوماً منصب وزير فقلت لهم لا.

·         لماذا؟

لأنني أفضل ان أبقى في موقعي لأني أعرف قدراتي وحجمي وموقعي تماماً، وأعرف أين يمكن ان أؤثر أكثر، فاللغة التي أعرفها بشكل جيد والتي يمكن محاسبتي عليها هي السينما، لماذا اذهب لمركز ينحصر فيه عملي بترقية هذا او ذاك، او لأفقع تصريحاً تلو الآخر وكفى.

·         وصلت في فيلم “اسكندرية  نيويورك” الى مرحلة من التشاؤم قد تنعكس على جمهورك؟

أنا متفائل دوماً رغم كل السلبيات والتشاؤم الذي يسود العالم وأشعر دائماً بأن المستقبل أفضل.

·         في فيلمك الأخير لم تترك فرصة لبارقة أمل؟

عندما أغضب يكون غضبي عميقاً.. أنا الذي أحب الحرية لنفسي، فلا بد وان أحبها للآخرين.

·         في فيلم “اسكندرية  نيويورك” تعلن غضبك ونقمتك على أمريكا وأنت أصلاً ناقم على العرب، فمع من أنت؟

لست مع أحد، انا مع الحرية والحقيقة، التي أظهرها الفيلم بنسبة 80%، لأني صورت أمريكا كما هي اليوم، او بالأحرى لما وصلت إليه اليوم وهي التي لم تكن بهذا السوء من قبل، ولكن لا يمكن ان ننكر عليهم التطور الفني الذي وصلوا إليه. لا أنكر بأني أحببت أمريكا في إحدى الفترات. وكذلك الأمر في إعلان مواقفي من العرب، وخصوصاً من السياسات العربية، لا أنكر على العرب طيبتهم وكرمهم، ولكن لا يمكن ان نخفي تخلفهم، وبالتالي لا يمكن لنا ان ننكر واقعاً نعيشه.

·         لماذا تعرض مقتطفات من حياتك في أفلام مبعثرة؟

لأن جمعها في فيلم واحد يمكنه ان يجعل مدة عرضه ست ساعات ومن ثم فإن الأمور جاءت بالصدفة، فأنا قدمت فيلم “اسكندرية ليه” في وقت كنا نتهم فيه بعدم التسامح مع الآخرين، وحاولت ان أظهر فيه العكس من خلال الاسكندرية الحلوة، بتاع زمان.. في ذلك الوقت وبعد أول عملية قلب كنت اتخذت قراراً بقول الحقيقة، وعندما انتهيت منه شعرت بأني لم أقل الحقيقة كاملة، فصورت بعدها فترة انتمائي للناصرية.

·         لذلك أنت في موقع المعارضة اليوم؟

أبداً.. بالعكس أنا جسدت الحقائق.

·         لماذا تمزج الواقع بالخيال في كل أعمالك؟

لأننا نعيش الخيال أصلاً في الواقع.

·         ولماذا اخترت محمود حميدة ويسرا لبطولة “اسكندرية  نيويورك”، علماً بأنك قادر على اكتشاف وجوه جديدة كل يوم؟

عندما أجد من يمكنه التعاطي معي بشكل اوتوماتيكي، وأتواصل معهم بشكل أسرع، لأنهم اعتادوا ان يقرأوا في عيني ما أريد، أفضل ان يعيشوا لحظات العمل معي.

·     تحب التعامل مع ممثلين يجسدون الشخصيات كما تراها أنت، فهل جسد أحمد يحيى الشخصية في فيلم “اسكندرية  نيويورك” كما تراها أنت؟

بل أفضل. الولد ده هايل.. وفضلاً عن شكله الجميل، يتمتع بلياقة ومتواضع جداً، وبصراحة ندمت على عدم اصطحابه الى بيروت لافتتاح الفيلم.

·         ذكرت بأنك تبنيته، فهل جاء هذا التبني على الصعيد العملي ام الانساني؟

الاثنان معاً.

·         رغم عصبيتك الحادة جداً، لكن الجميع يحب التعامل معك، ما سر ذلك؟

عندما أعمل أصر ان تسود أجواء الحب والانتماء بين كل أعضاء فريق العمل من كبيرهم الى صغيرهم، ومن ثم فإن عصبيتي لا تخرج إلا عندما تصطدم بحائط الغباء، ولكنها تختفي في حالات الإبداع.

الخليج الإماراتية في

31.08.2004

 
 

فيلم »إسكندرية -نيويورك« سذاجة سيـاسية لواقع تجاوزه الفكر العربي

 (د ب أ) من: خليل أبو خديجة

اختلف نقاد سينمائيون مصريون حول رؤيتهم لفيلم يوسف شاهين الاخير »إسكندرية - نيويورك« الذي يعرض حاليا بدور السينما المصرية فاتهمه البعض »بالسذاجة السياسية« في حين اعتبره آخرون معبرا عن تغير موقف يوسف شاهين من أمريكا.

جاء ذلك إثر حفل العرض الخاص للفيلم مساء أمس الاحد الماضي في احد مجمعات السينما في العاصمة المصرية بحضور أبطال الفيلم والفنانين والنقاد والصحافيين وبعض المسئولين في وزارة الاعلام التي دعمت إنتاج الفيلم وبينهم وزير الاعلام الجديد ممدوح البلتاجي.

ولعل ما أثار الانتقادات هو أن شاهين كان قد أعلن للصحافة أكثر من مرة قبل بدئه تصوير الفيلم انه غاضب جدا من الولايات المتحد اثر أحداث ١١ سبتمبر وانه يعمل على فيلم باسم »أيام الغضب« ينتقد فيه السياسة الامريكية والتعبير عن الغضب من ممارساتها العدوانية اتجاه الشعوب.

وضمن هذا السياق قال الناقد في مجلة »روزاليوسف« الاسبوعية طارق الشناوي إن »التوجه الحقيقي في الفيلم ينسجم مع تغيير يوسف شاهين لاسم الفيلم من (أيام الغضب) إلى الاسم الجديد الذي عبر خلاله شاهين عن هيامه بأمريكا«.

واتجه الناقد في مجلة »صباح الخير« الاسبوعية عصام زكريا إلى تحديد أكثر بقوله »الفيلم من الناحية السياسية ساذج إلى درجة الطفولية في التعامل مع الموضوع ..والفيلم يبدو وكأن صاحبه لا علاقة له بالسياسة حيث تعامل معها بمنطق الصراع العائلي بأسلوب نابع من المجتمعات القبلية التي لم تعرف من السياسة سوى حرب الاخوة وأبناء العم«.

وتابع »وكان مساعد شاهين خالد يوسف وشريكه في كتابة سيناريو الفيلم قد قدم فيلما مشابها لهذا من تأليفه وإخراجه وهو (العاصفة) عبر فيه حرب الخليج الاولى بنفس الطريقة وذلك من خلال الصراع بين الاخوين عندما يقف كل منهما في معسكر معاد«.

وأضاف »ويتبع يوسف شاهين نفس الطريقة باختزاله لموقفه أو لموقف العرب من الولايات المتحدة الامريكية في وجود ابن له نصفه مصري ونصفه أمريكي وإذا كانت هذه الفكرة تصلح لعمل فيلم درامي يعبر عن انقسامات وتعددات الهوية عند الانسان المعاصر لكان الامر مقبولا ولكن أن تتحول مشكلة العرب مع أمريكا إلى موقف شاهين الشخصي منها فهذا استخفاف في السياسة«.

وأشار زكريا إلى أن »الامركيين ليسوا جبهة واحدة فهناك الكثير من المعادين لسياسة إدارتها وهناك المؤيدون وهناك بعض العرب المخلصين للسياسة الامريكية أكثر من إدارتها في حين يراها عرب آخرون الشيطان الاكبر«.

ورأت الناقدة في مجلة »المصور« الاسبوعية أمينة الشريف أن »شاهين لخص موقفه في رفض أمريكا في مشهد مواجهته مع ابنه في مطعم اختصر الفرق بين أمريكا التي أحبها أمريكا فريد استر والافلام الرومانسية في الاربعينات وكرهه لامريكا ستالوني في التسعينيات وكشف عن عقلية السوبرمان الامريكي المنتصر دائما قدم بذلك أمريكا التي تدعي الديمقراطية في الوقت الذي ترفض فيها السماع للاخر رغم دعوة الاخر للحوار«.

وقدم شاهين فيلمه الذي وقف وراء هذا الاختلاف من خلال تصوير رحلته لدراسة الاخراج في الولايات المتحدة الامريكية وقام بدوره (راقص البالية احمد يحيى الذي يقوم أيضا بدور الابن اسكندر) وارتباطه بعلاقة مع زميلته في الدراسة الامريكية جنجر (يسرا اللوزي) والتحديات التي واجهها هناك.

وصور تطور العلاقة مع جنجر التي قامت بدورها بعد أن كبرت في السن الفنانة يسرا ويظهرها كامرأة فشلت في أن تتحقق كممثلة فتحولت إلى مومس ثم تزوجت رجلا مناظرا لها وعاشت حياة تعيسة تحت سقف مع زوج انفصلت عنه عاطفيا وجسديا.

تلتقي مجددا بيحيى الذي قام بدوره عندما كبر (محمود حميدة) فتحمل منه وتنجب اسكندر كرمز لهذا الحب والذي يصبح راقص البالية الاول في أمريكا ويحقق نجاحات متتالية ورغم انه فنان فانه لا يستطيع أن يتقبل فكرة انه ابن رجل عربي.

وقام بناء الفيلم دراميا على استرجاع الاحداث من قبل حميدة ويسرا حيث يصورا حياتهما فشلها ونجاحه والشراكة بينهما الحب وابنهما اسكندر الذي يقرر مصيره بأنه ينتمي إلى أمريكا ويرفض الحوار مع والده مما يدفع والده رغم حبه الشديد له ليحسم الموقف في النهاية بأنه لا يريده.

وينتهي الفيلم بأغنية للمطرب علي الحجار »نيويورك تقتل كل حنين« إشارة إلى انتهاء العامل الانساني في العلاقة بين البشر في الحضارة الامريكية.

وكذلك اختلف النقاد حول هذا الفيلم كرابع أفلام السيرة الذاتية لشاهين بعد »إسكندرية ليه« و »إسكندرية كمان وكمان« و »حدوتة مصرية« فاعتبره البعض الافضل مثل الناقدة أمينة شريف واعتبره آخرون الاسوء مثل عصام زكريا واعتبره الشناوي أنه كان من الممكن أن يكون أفضل الافلام العربية لو استطاع أن ينسق مشاهد الرقص مع البناء الدرامي لو استطاع شاهين أن يتجاوز ثغرات هذا البناء.

(د ب أ) في

31.08.2004

 
 

د. رفيق الصبان يكتب عن «إسكندرية ـ نيويورك» (1/2)

فاكهة الجنة التي يقدمها شاهين لمشاهدي فيلمه الجديد

الكلام عن فيلم لـ«يوسف شاهين» كلام يمتد إلي ما لا نهاية.. فأفلامه تحمل دائما عناقيد مثمرة ولآلئ خفية وبقع ضياء.. يحار المرء فيها.. وتغرقه دائما بمياهها الدافئة.. التي تشطح بالمتفرج أحيانا إلي شواطئ من الرمال اللامتناهية.. والتي تلمس السماء في امتدادها.

والكلام عن فيلمه الأخير «إسكندرية ـ نيويورك» يضع المرء.. أمام دروب متقاطعة خفية تشيد سراديب التيه.. فالفيلم يجمع بين الواقعية العاطفية المؤثرة.. وبين الخيال الجامح المتمرد.

يجمع بين الحلم والحقيقة.. بين ما هو كائن.. وما كان المؤلف يتمناه أن يكون.. وهو في الوقت نفسه يرسم خلفيات سياسية واجتماعية معاصرة أحيانا.. وتعود بنا إلي أيام الأربعينيات أحيانا أخري.. بكل ما تحمل هذه الفترة أو تلك من متناقضات وأحلام ورؤي.

الفيلم  يضع من يراه.. أمام مسالك متعددة.. ولكنها تعود كلما ابتعدت أو اقتربت إلي عالم شاهين الخاص.. المصنوع من ماء ونار من بحر وبركان.. والذي يتميز أول ما يتميز بقدرة شاهين الخاصة والمتفردة.. علي خلق نجوم جدد.. أو إعطاء هالات جديدة غير متوقعة لنجوم قدامي.

شاهين في «باب الحديد» قدم شاهين ممثلا فذا له أسلوبه الخاص بالأداء الداخلي المعقد، وفي «صراع في الوادي» قدم عمر الشريف.. عاشقا ورومانسيا وفارسا.. مما أصبح سمة تقليدية له.. فيما أتي بعد ذلك من أفلام، وفي «فجر جديد».. قدم لنا سناء جميل بهالة من الأنوثة والتمرد والحنين كانت جديدة عليها تماما ووضع أمامها شابا ينقط رجولة وحسية واندفاعا «سيف الدين عبدالرحمن» وفي «اليوم السادس» قدم لنا داليدا كما لم نعرفها وكما لن نعرفها بعد ذلك أبدا.. في إطار خاص وحساسية خاصة وأداء متميز مختلف عن كل ما أدته أو غنته أو مثلته هذه المغنية العاثرة الحظ.. ذات الوجود الساحر.

وفي «إسكندرية ليه»..أشرق علينا بنجم مدهش.. ينقط إحساسا وحساسية.. نجم من النادر أن عرفت السينما المصرية شابا يافعا مثله.. تتجمع فيه الحسية مع الحلم.. والرهافة مع التأمل، هو محسن محيي الدين الذي تابع طريقه مع أستاذه.. مستمدا منه الرحيق كما تستمد الفراشة رحيقها من زهرة الزنبق البيضاء الشامخة.

وفي «سكوت حنصور».. قدم لنا لطيفة بطريقة وأسلوب جديدين عليها كل الجدة.. كما قدم عمرو عبدالجليل بنظرته الحادة والغموض الخاص الذي أحاط بشخصيته خصوصا عندما جعله يلعب دور هاملت بحري يعيش في بحر إسكندرية.. وأخيرا هاني سلامة ببراءة وجهه والحسية الخاصة التي تنبع من عينيه وملامحه.

تماما كما استطاع أن يستخرج من أحمد محرز ما عجز جميع المخرجين الآخرين عن رؤيته واستغلاله.. واستطاع بنظرته الثاقبة أن يتنبأ بالمسيرة الحلوة التي سيخطوها هشام سليم.. وأن ينجح في فتح آفاق مدهشة لماجدة الرومي.. لم تحاول المطربة الكبيرة بعد ذلك استغلالها كما كان مفروضا بها.

وها هو شاهين الذي لا يعرف التردد أو الملل طريقا له في مساره الفني المتلألئ.. يقدم لنا بفيلمه الجديد.. وجها جديدا آخر.. ربما كان من أهم الوجوه الشابة التي يمكن أن تشق طريقها في السينما المصرية الجديدة.. والتي استطاع شاهين منذ ظهورها الأول بفيلمه الجديد.. أن يرسم لها أفقا عاليا أصبح من العسير عليها أن تتراجع عنه.

أحمد يحيي في «إسكندرية ـ نيويورك» طائر أبيض يملك أجنحة شفافة يحلق بها من خلال دورين يصلان إلي حد التناقض (.. وهنا أذكر ما فعله شاهين مع عزت العلايلي في «الاختيار») في الجزء الذي يمس الماضي.. يبدو أحمد يحيي شفافا.. رقيقا.. مدهشا في دهشته أمام عالم جديد يكتشفه وأمام دنيا أرسلت أوشحتها حوله فأخرجته من براءة اعتاد عليها.. إلي زخم مدينة.. تترنح فيها الستائر.. وتخترق النظرات الأعماق.. وتذوب الأيدي في باليه وحشي لا تمكن السيطرة عليه.

وفي الجزء الذي يمس الحاضر.. تنقلب البراءة إلي ثورة وتمرد.. ويحل محل الشاعرية الساذجة تعصب أعمي.. يعصف بالقلب والمشاعر.

الوجه لم يتغير.. مازالت تسيطر عليه معالم حلوة تدخل إلي القلب مباشرة، ولكن النظرة تغيرت.. الحركة تغيرت.. الانفعال ورد الفعل تغيرا.. وأكاد أقول من النقيض إلي النقيض.

لم يقدم يوسف شاهين في «إسكندرية ـ نيويورك» ممثلا واحدا جديدا.. مدهشا.. بل ممثلين اثنين ذوي ملامح واحدة.. ولكن من خلال تعبيرات مختلفة تصل إلي حد التناقض.. وحركة تتوازن في القسم الأول.. وتنطلق بحرية هائجة في القسم الثاني.

هذا الدوران الناري المستمر.. أصاب الفنانة الشابة يسرا اللوزي التي تقف أمامه بالدوار.

فبدت أحيانا.. وكأنها نسيت نفسها وأصبحت عينا ترقب بشغف ولهفة وكثير من الحب.. ما يفعله «يحيي» بها كما قلت في بداية حديثي.. «إسكندرية ـ نيويورك» صرح فيلمي يثير الكثير من التساؤلات، ويضع أكثر من شارة استفهام حول أكثر من موقف.. تاركا المتفرج يدخل إلي سراديبه وممراته دون أن يعرف أين يضع قدمه وكيف يضعها.

ولكن التوقف أمام أداء الممثلين في هذا الفيلم العجيب الذي يدور بك كما تدور عربات مدينة الملاهي.. بطيئة في البداية.. مجنونة سريعة في ختامها.. بحيث لا تجعلك تلتقط أنفاسك ولا تترك لك حيزا تفكر فيه.. وإنما ترتمي مرتعشا من الدهشة وكأنك عبرت دنيا سحرية بكل ما فيها من أطياف.. ثم استفقت لتجد نفسك راقدا علي العشب ناسيا نفسك تنظر إلي النجوم التي تحيط بك.. دون أن تترك لك فرصة لالتقاط أنفاسك.

إلي جانب أحمد يحيي هذه المفاجأة الحلوة المذهلة.. فاكهة الجنة التي يقدمها لنا شاهين تقف مجموعة أخري مخضرمة واعية من الممثلين.

محمود حميدة.. في دور دقيق وصعب «شاهين الكهل».. حميدة الذي يلعب هذا الدور بعد أن أداه بشكل رائع نور الشريف.. كان عليه أن يدخل تحديين كبيرين أن يكون «شاهين» وهذا بحد ذاته أمرا صعبا وأن يسلك طريقا وأسلوبا مختلفا تماما عن الطريق والأسلوب الذي اتبعه نور الشريف وهو أمر أكثر صعوبة أيضا.

والمدهش أن حميدة نجح في كلا التحديين وقدم صورة من الداخل لـ«يوسف شاهين» أمسك بروحه.. دون أن يتخلي عن مظاهر جسدية صغيرة.. أصبحت ملمحا تقليديا من ملامح مخرجنا الشهير. حميدة في هذا الدور كان فنانا يرسم شخصيته بأصابع من ذهب وبألوان خاصة به.. تجعلنا نحس بـ«شاهين».. من خلال وجود مدهش لـ«حميدة».. ولعمري هذا تحد.. لا يقدر عليه إلا كبار الفنانين.

يسرا.. في دور الحبيبة.. أعطت رقتها وعذوبتها.. لشخصية تعاني من عذابات نفسها، بينما نجحت لبلبة في دور جديد عليها تماما.. بأن تكون مقنعة، عاطفية، وترا حساسا متألما لوحده.. ويشكو عزلة نفسية وعاطفية.. يعرف دائما كيف يسيطر عليها ويمنعها بقوة من أن تغلبه.

دور جديد يخيل لمن يراه.. أن لبلبة قد غيرت جلدها كله لتظهر لنا.. امرأة أخري لم نعتد علي رؤيتها بهذه الطريقة.. حساسة.. مبتكرة، عاطفية إلي درجة التمزق، وتائهة في بحر عميق رمت بنفسها في أمواجه.. ولم تعد تعرف كيف تنجو من تياراته المتقلبة.

هالة صدقي في دور صغير جعلته كبيرا بموهبتها وحساسيتها.

هذا الثلاثي المدهش حميدة ويسرا ولبلبة.. يفتح أذرعته كلها.. ليدفع بالعنصر الرابع أحمد يحيي إلي الوسط لكي يكون المحور والمحرك.. وصمام الأمان في الفيلم كله.

وهنا تأتي عبقرية يوسف شاهين.. في خلق التوازن والانسجام بين هذه الأدوات الموسيقية الرفيعة.. بحيث لا يجعل إحداها تطغي علي الأخري وإنما يدفع كلا منها إلي تكملة هذا الآخر.

من هذا المنطق.. يعتبر «إسكندرية ـ نيويورك» في نظري محطة مهمة لكل من يرغب في دخول دنيا التمثيل المعقدة يتعلم فن كيف يتحرك.. وكيف ينظر.. وكيف يتكلم.. وكيف ينقلب من شخصية حية لها اسمها وحياتها.. إلي دور خاص.. يرسم له ظلالا يمكنه بعد ذلك أن ينفصل عنه.

كما قلت في البداية في «إسكندرية ـ نيويورك».. أكثر من نقطة يمكن التوقف عندها.. الخيال والواقع في السيرة الذاتية.. الرموز السياسية من خلال قصة عاطفية تتجه في بعض أجزائها إلي الميلودراما.. النظرة الشفافة إلي مدينة وحش.. تقاومها ذكري مدينة عابقة بعطر الياسمين.. متلألئة بقطرات الندي.

وأشياء كثيرة كثيرة.. يدفعنا هذا الفيلم الكبير إلي تأملها.. ولكنني اخترت أن أتوقف.. أمام ظاهرة شاهين والممثل.

وهي ظاهرة لا أظن أن أحدا من مخرجي مصر تفرد بها بالطريقة والأسلوب الذي تفرد به يوسف شاهين.. وبأسلوبه في تقديمها.

لذلك آثرت أن أقف فقط علي هذا الجانب المضيء كالشعاع من فيلم «إسكندرية ـ نيويورك».. تاركا لظروف أخري ومواقع أخري وتلمس أحجار هذا الصرح الغالي الذي يقدمه لنا يوسف شاهين.

وللحديث بقية.

جريدة القاهرة في

31.08.2004

 
 

»اسكندرية/ نيويورك« فصل جديد من السيرة الذاتية

كتب:إيريس نظمي  

فيلم (اسكندرية نيويورك) هو الجزء الرابع من سيرته الذاتية.. وفي رأيي أنه الأهم لأن (جو) الذي عاش الحلم الأمريكي أيام صباه فقد تحول هذا الحلم بالنسبة له إلي كابوس، كان ذلك عندما ترك الاسكندرية في نهاية الحرب العالمية الثانية علي ظهر مركب إلي نيويورك ليلتحق بمعهد السينما بجامعة باسادينا.. وليصبح أول مخرج سينمائي عربي يدرس في الولايات المتحدة..

يبدأ الفيلم بمشهد المخرج يحيي مع صديقه الشيوعي علي مقهي بباب الحديد حيث يصور فيلم باب الحديد عام ٦٥٩١.. وحوار بينهما حول رفض أمريكا تمويل مشروع السد العالي.. فيقارن (يحيي) بين رفض أمريكا تمويل السد وبين رفضها تمويل فيلمه (الناس والنيل) الذي يمجد جمال عبدالناصر.. يقول يحيي لصديقه إن أمريكا هي التي أوقفت العدوان الثلاثي علي مصر.. لكن صديقه يصحح له هذا الخطأ بأن الإنذار الروسي هو الذي أوقف الحرب..

تتوالي أحداث الفيلم في فلاش باك مارا بأزمنة مختلفة نفس الوقت الذي قررت فيه أمريكا تكريمه بإقامة مهرجان لأفلامه في نيويورك.. كان يتابع أحداث انتفاضة الأقصي في نيويورك إثر أحداث ١١ سبتمبر فيغضب ويقرر عدم السفر لكنه يعود ويسافر ليبين حالة التردد والتمزق التي يعانيها. ويسافر تصحبه زوجته (جان) ليروي الفيلم في فلاش باك قصة حب عاشها شاهين أيام الصبا أثناء الدراسة في معهد باسادينا حينما التقي بالشابة الحسناء (جنجر) وأثمرت علاقتهما عن ابن اسكندر عمره الآن ٠٢ عاما راقص باليه مشهور في نيويورك. وكان (يحيي) قد قرر فجأة العودة إلي مصر لأن عائلته كانت محتاجة إليه بعد وفاة الأب.. ففضلت الأم (جنجر) أن تربي ابنها بعيدا عن أبيه الذي انقطعت أخباره.. واستقر في مصر وتزوج من (جان.) يلتقي (يحيي) بعد كل هذه السنين بجنجر التي أحبها وهو شاب والتي ظهرت تجاعيد السنين علي وجهها في مشهد حميمي مؤثر وفي فلاش باك يتذكر شاهين علاقته القديمة بأمريكا منذ كان ينوي الإقامة فيها والعمل في هوليود.. إن أمريكا الحلم تغيرت.. ويكفي المقارنة بين أفلام فريد استير الرومانسية أيام زمان وأفلام اليوم المليئة بالعنف.

ويعرف (يحيي) أن له ابنا عمره ٠٢ عاما.. ويجد نفسه في وضع لا يحسد عليه بين زوجته التي لم تستطع أن تنجب له ابنا وبين حبيبته القديمة أم ابنه التي أحبها وهو شاب يدرس في أمريكا.. لكن سرعان ما تنشأ صداقة بينهما لأنها علي حد قول الزوجة لا تستطيع منافستها وهي أم لابنه يحيي. لكن الحلم يتحول إلي كابوس حينما يرفض الابن أباه ويحتقره لأنه عربي متخلف في نظره كما أنه ليس ممهدا لتغيير حياته. ويجد (يحيي) نفسه أمام معركة لم يكن يتوقعها.. لقد تبدد حلم يوسف أمام وحشية أمريكا التي ترفضه اليوم بمنتهي الوحشية متمثلة في ابنه.. وبالتالي يعلن يحيي رفضه لهذا الابن المغرور حتي ولو كان حلم حياته.. وفي المشهد الأخير نري يحيي يسير وسط زحام نيويورك وقد بدت علي وجهه علامات الغضب ويتوه وسط الزحام حيث نستمع لأغنية علي الحجار بصوته المليء بالشجن (نيويورك بتقتل كل حنين).

إن فيلم (اسكندرية نيويورك) يعبر عن غضب يوسف شاهين وتمرده علي سياسة أمريكا في العالم العربي لكنه لا يصل إلي حد الكراهية.. وهو فيلم مليء بالحميمية ومشحون بالانفعالات والعواطف المتأججة.. أيضا بالذكريات والأحلام..

وقد استطاع شاهين أن يوجه شخصيات فيلمه.. فقد أدت لبلبة دور الزوجة التي فشلت في أن تمنح لزوجها ابنا وحينما حصل علي هذا الابن أرادت أن تقيم علاقة حميمة معه.. ويتجلي أداؤها في مشاهد المواجهة بينها وبين الحبيبة وبينها وبين الابن.. كانت مؤثرة.

أما يسرا الجميلة المتجددة دائما التي تمثل دور الحبيبة وقد تقدم بها الزمن فبدت شاحبة الوجه بدون ماكياج وامتلأ وجهها بالتجاعيد للظروف الصعبة التي مرت بها.. لكنها كانت جميلة. ماجدة الخطيب في دور المعلمة أو المخرجة تؤدي شخصية المرأة الأمريكية المثقفة القوية.. إن ماجدة تعيش مرحلة النضج الفني. أحمد يحيي اكتشاف يوسف شاهين الجديد موهبة عالية في الرقص والاستعراض وأيضا يسرا اللوزي (جنجر الصغيرة) كونا ثنائيا جميلا لقصة حب رائعة. ويبدو أن يوسف شاهين المحب للموسيقي والرقص والاستعراض قد نسي نفسه مع مشاهد الاستعراضات الجميلة التي يقوم بها أحمد يحيي ونيللي كريم ويسرا اللوزي وإن كانت قد أثرت علي الإيقاع الدرامي للفيلم أيضا صاحبة البيوت التي تؤجر غرفها للطلبة وتشاركهم الفراش. أما محمود حميدة فكان مفاجأة في دور المخرج العجوز.. ومشاعره المتأججة وهو يتابع ابنه علي المسرح واحباطاته أمام رفض ابنه له وكسر قلبه.. لدرجة أبكانا. رمسيس مرزوق هذا المصور القدير يقدم لنا دائما الجديد والجميل في كل فيلم.. وكان يمكن للمونتاج أن يكثف من أجل الحفاظ علي الإيقاع الدرامي.. لكن الاستعراضات الحية الرائعة التي قدمها بطل الفيلم أسعدتنا.. ونسينا معها في بعض الأحيان أننا نشاهد سينما.. بل نشاهد مسرحا حيا..

الأيام البحرينية في

31.08.2004

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2016)