انتظار حكاية
"ريّا وسكينة" قبل النوم:
فتنة القاتلات
القاهرة ـ وائل عبدالفتاح
أخاف من الوقوع في فتنة ريّا وسكينة.
اضبط نفسي حريصاً على مواعيد العرض.
السيرة التليفزيونية تكسر صورة راسخة.. تعري تفاصيل وملامح اختفت وراء
ميلودراما اجتماعية عن ظلم زوجة الاب القاسية التي قتلت امها.
الانتقام من زوجة الاب كان اول الطريق. ثم تعددت الشهوات.. الى سرقة
مشغولات الذهب.. ومتعة التخلص من انفاس الضحية في طقس مسرحي تتعالى فيه
ايقاعات اغنية تحتفل بالعضو الجديد في مقبرة ريّا.. وشقيقتها سكينة. اشهر
اسطوات القتل.
مبررات قتل مريحة. وقاتلات بلا تاريخ شخصي.. وخارج الزمان والمكان. فقط هما
رمز للشر. الشر المطلق.
بدا الحرص على الموعد التليفزيوني وكأنه شغف بصورة مختلفة.
هل هي سمية الخشاب بفتنتها.. وأنوثتها التي تلون كل دور..؟
هل هي كضحية..؟.. كرهينة ظروفها.. وكمكتشفة للقسوة طريق في التعامل مع
الحياة.. قسوة لم تستسلم لها مثل ريّا ابنة الياس الكامل.. سكينة لها
تفاصيل حية.. تحب.. وتختار.. ويمسها جنون وتدمن الكأس هربا الى دماغ
الخيالات السعيدة.. البعيدة ام الجو العام...لشخصيات في الزوايا السرية..؟
أم هي تلك العبارة المثيرة جداً: "الرجل الذي لم يعرف امرأة مختلة، لم يعرف
نساء ابداً في حياته"... عبارة فريدة جاءت في مقدمة كتاب صدر حديثا في
نيويورك. اسمه بالانجليزية (.the most evil women in
history.) واقرب ترجمة له هي: "اشهر نساء شيطانات في التاريخ". يحكى عن 15
امرأة شغلت حكاية كل منهن التاريخ طويلاً.. سفاحات.. وقاتلات بالصدفة..
وحتى ايلينا تشاوشيسكو زوجة ديكتاتور رومانيا الشهيرة جداً كبطلة لكواليس
حكم رئيس دموي انتهى هو وزوجته نهاية فظيعة حيث قتلته الجموع الغاضبة ليلة
الكريسماس سنة 1989.
ايلينا كانت.. امرأة نارية.. قاتلة في السلطة... سفاحة بتعبير ادق.. لكنها
لم تختلف كثيراً عن أي ربة بيت عادية.. في نظر مؤلفة كتاب "الشيطانات.."..
التي ترى انه: ".. على العكس مما يتصوره كثيرون لا يوجد فارق كبير بين
امرأة مثل "كاترين العظيمة" الرهيبة في روسيا، وبين ربة بيت هادئة قررت
فجأة ان تقتل زوجها من طول اساءة معاملته لها، ولا فارق شديداً بين "ايلينا
شاوشيسكو"، المرأة النارية في رومانيا، وبين امرأة اخرى ارتكبت جرائمها
بدافع من الانتقام..".
المؤلفة شيللي كلين تقول في المقدمة:
.. "يتمتع النساء او يعانين (..على حسب الزاوية التي تنظر بها الى الامور)
منذ اللحظة التي اخرجت فيها حواء آدم من الجنة بلقب: الجنس الناعم، او
الجنس الاضعف، لذلك ففي كل مرة تخرج فيها المرأة عن طبيعتها، او تتحول الى
قاتلة، سفاحة، تجد الناس يصرخون دائماً "كيف استطاعت أن تفعل شيئاً رهيباً
كهذا؟"، لكن السؤال الحقيقى الذي يتردد في اذهانهم هو "كيف تستطيع امرأة أن
تفعل شيئا كهذا؟ إن هذه وظيفة الرجال!".
طقوس القتل
سمعت عن "ريّا" و"سكينة".. قبل ان أرى فيلم صلاح أبو سيف الشهير مع نجمة
ابراهيم وزوزو حمدي الحكيم وأنور وجدي.
قبل حتى ان اشاهد شادية وسهير البابلي على المسرح في كوميديا موسيقية من
اخراج حسين كمال... حيث القتل لطيف.. والعصابة ترقص وتغني.. والصور المحببة
لـ"ريّا" و"سكينة" و"حسب الله" و"عبدالعال" تفكك الاسطورة المثيرة للرعب.
الفيلم بحبكته البوليسية التي كتبها نجيب محفوظ كان صاحب الصورة المنطبعة
في خيال اجيال رأت "الاسطورة" اول مرة سنة 1953.
لطيفة الزيات الاديبة والسياسية البارزة.. ولدت بعد اعدام ريّا وسكينة
بعامين.. ووصلتها الرؤية الاسطورية لملكات الشر: .. "تعرفت على الشر اول ما
تعرفت بصورة غير مباشرة احالها خيال امي وخيال ابي الى صورة مباشرة وانا في
الثامنة من عمري.
حكت لي امي.. وكانت بارعة الخيال وبارعة القدرة على الحكي.. قصة اعتى
قاتلتين في مصر ريّا وسكينة وكأنها تمثلهما: اختيار الضحية. اصطحابها الى
البيت، خنقها، تمزيق جثتها الى اجزاء، وحرقها في الفرن الكبير.. كل ذلك على
خلفية طرق الدفوف للتغطية على صوت الاستغاثة.. في نهاية الحكاية اكدت امي
ان الجريمة لا تفيد، وان الامر انتهى باعدام ريّا وسكينة..".
لطيفة الزيات اكتشفت شيئاً ابعد قليلاً من حكايات الام الخيالية.. تقول:
"..لكن ما أكدته امي في نهاية الحكاية شيء وما استقر في كياني شيء اخر،
استقرت كل من ريّا وسكينة حيتين تمليان وجودهما عليّ.. كالوجود الذي لا
وجود عداه ولا افلات منه.. وفي ظلمة الليل وانا انام واختي صفية داهمتني
الاختان ووجدت نفسي اجري مرعوبة الى سرير امي واحتضنها وانا أرتجف اجد في
حضنها الملاذ من شرور الدنيا..".
وفي بقية حكاية لطيفة الزيات.. شيء خاص بتجربتها في السياسة والثقافة..
لانها تخلصت من اسطورة ريّا وسكينة باكتشافات اخرى: "..ايقنت ان قهر السلطة
وقهر اللصوص القتلة هو ذات القهر وان شر عصابة ريّا وسكينة لا يقل عن شر
رجال الشرطة الذين رأتهم في عام 1934 وكانت في الحادية عشرة من عمرها من
شرفة منزلها في المنصورة (مدينة في الدلتا على بعد 120 كيلومتراً تقريباً
من القاهرة) يردون برصاصاتهم 14 قتيلاً من بين طلاب المدارس الثانوية الذين
كانوا يتظاهرون ضد ديكتاتورية اسماعيل صدقي.." ثم فيما بعد رأت ملامح
السجانة التي طاردت اشياءها الخاصة في المعتقل. ولم تستطع ان تحدد ما إذا
كانت ملامحها اقرب الى ملامح ريّا أم الى ملامح سكينة كما جسدتها الممثلتان
"نجمة ابراهيم" وزوزو حمدي الحكيم في فيلم صلاح ابو سيف.. كانت السجانة هي
ريّا او سكينة.. او ربما كلاهما معاً.. وما كانت تفعله معها هو طقس من طقوس
القتل..".
شركة ريّا وسكينة
السيرة التليفزيونية مأخوذة عن كتاب صلاح عيسى "رجال ريّا وسكينة" الذي
يعيد فيه بناء الحكاية اعتماداً على ملفات قضائية لم يهتم احد بها.. على
الرغم من ان الامهات تستخدم اسميهما لتخويف الاطفال.. "... وتكررالصحف
نشرهما في عناوينها الرئيسية كلما كشفت الصدفة عن عصابة للقتل المقترن
بالسرقة باعتبارهما صاحبتي مدرسة اجرامية متميزة..".
صلاح عيسى اهتم بحكاية ريّا وسكينة بالصدفة.. حين اكتشف ان المحامي في
القضية كان هو: "احمد افندي المدني" الذي "ورد اسمه بوفرة في وقائع قضية
الحزب الشيوعي المصري (عام 1920,. أي قبل قضية ريّا وسكينة بعام واحد). اذ
كان اميناً لصندوقه ثم سكرتيراً عاماً له.. وكان كل ما لدي من معلومات عنه
انه كان محامياً متخصصاً في الدفاع عن العمال ويتسم بنزعة اشتراكية
معتدلة..".
لم يكن هذا هو الاكتشاف الوحيد.. كان هناك ايضاً ملاحظة ان كل الرجال
المحيطين بريّا وسكينة كانوا ممن تطوعوا لخدمة جيش الحلفاء في الحرب
العالمية الاولى.. "سعياً للحصول على عمل افضل في ظل شبح المجاعة التي
عاشتها مصر خلال سنوات الحرب"..
نشاط ريّا وسكينة لم يكن القتل للقتل او للسرقة في الاساس بل كان "الدعارة
السرية".. تديران هما والرجال.. اربع بيوت "مجموعات من الداعرات اللواتي
يبعن اجسادهن لكي يجدن القوت الذي يبعد عنهن.. وعن اسرهن شبح الموت
جوعاً..".
.."ريّا كانت ترفض احتراف الدعارة.. وسكينة احترفتها لفترة قصيرة وحصلت على
رخصة رسمية بممارستها.. لكنها سرعان مااعتزلت لتحترف كل منهما "تجارة
الحرام".. ولكن بشكل غير رسمي وفي بيوت سرية... وفي حين كانت ريّا تحتفظ
بجسدها لزوجها وحده، وتأبى ان تنزل الى حضيض ممارسة الرذيلة.. بل وتستعلي
على اللواتي يمارسنها من النساء.. ولو كن يفعلن ذلك تحت ادارتها وباشرافها..
فان سكينة التي كانت تشاركها نفس الاراء.. كانت تمنح نفسها لمن تختاره من
الرجال.. بل وتنفق على عشاقها من نقودها دون ان تجد في ذلك شيئاً يكسر
عينها او يقلل من مكانتها بين جيرانها..".
الحكاية كما بناها صلاح عيسى تحتوي مفاجآت كبيرة.. وهي تختلف عن الاسطورة
التي احتفظت بها ذاكرة الناس منذ اكثر من 80 عاماً.. ربما لانها المرة
الاولى التي تقود فيها امرأتان عصابة قتل.. وسرقة.. وبيع المتع السرية.
بقي الاسم مع الاغنية التي ودعتهما بها نساء الاسكندرية مع الرقص والزغاريد
فجر يوم الاربعاء 21 كانون الأول 1921,. كانت النساء تغني وراء امراة تغني
مطلع اغنية راقصة:
"خمارة يا ام بابين...
روحت السكارى فين..؟!".
متع الحياة الخشنة
رفض التليفزيون المصري عرض السيرة التليفزيونية.
"تحرض على الجريمة والعنف". و.. "تحتوي المشاهد على انفلات اخلاقي..".
هكذا قالت اللجنة في التقارير والصحف (بين اللجنة نبيل زكي رئيس تحرير "الاهالي"
لسان حال حزب التجمع اليساري).
لكن هذا لم يمنع من ظهور ريّا وسكينة.
كل يوم تصحو الفتنة النائمة للقتل.
عبلة كامل بفتورها واكليشيهات الاداء... تجعل من ريّا مركز اليأس في
الشركة. بينما سمية الخشاب بأداء حر.. وانوثة وثابة قفزت بسكينة فوق ظروف
الحياة تحت الصفر.
لا مباراة.. انه توزيع ادوار بين الحياة واليأس.
سكينة وحيدة مع الكأس في انتظار حبيب غائب.. او في لوعة اللذة المؤجلة...
علامات للحياة ومتعها البعيدة.
بينما ريّا.. تقمع رغباتها وتموت الحياة في بطنها قبل الخروج (كل اطفالها
ماتوا قبل الولادة.. ما عدا واحدة فقط).
كل هذا في حياة متقشفة... خشنة.. على حدود الكفاف.
القتل كان بالصدفة.
اخفاء جريمة السرقة من اجل استمرار الحياة (لم يكن في امكانيات شركة ريّا
وسكينة.. القدرة على امتلاك فرن كبير لحرق الضحايا كما قالت الاسطورة في
نسختها الشفاهية او تلك التي كتبها نجيب محفوظ للسينما).
اين الفتنة في البحث عن متعة تحت رماد الفقر..؟
تسأل المراهقة ابنة الـ 13,. "متى يبدأ القتل؟!".
طال التمهيد عليها.
هي تريد القتل على الشاشة.. ربما تريد ان تنتصر عليه.. تشاهد الضحية وهي
تختفي في سرداب بيت ريّا وسكينة.. وتغلق جهاز التليفزيون وتنام.. تنام
وربما تحلم بهما.. بالقاتلتين الفاتنتين.
متى سيبدأ القتل ؟
فتنة خاصة بعد احتراف ليالي الرعب على فضائية تعرض افلام الرعب الاجنبية.
ريّا وسكينة.. منا.
من عالمنا.
فقرهما.. في خلفيته عساكر انجليز.. ومظاهرات.. وحظر تجول.. ومجاعة عمومية..
وسعد زغلول.. وثورة 1919 وشط الاسكندرية.
"اساطير محلية".
وقاتلات بأنوثة.. "بلدي"..
سمية الخشاب.. أحيت سكينة لتكون رمز فتنة القاتلات.
لأنها ضحية؟!
.. بالعكس ربما لأنها تحب الحياة.
سيرة (كتبها مصطفى محرم واخرجها جمال عبد الحميد).. بتفاصيل عالم مغلق.
قانونه وحده بلا مواعظ من خارجه.
غريزة البقاء سيدة الموقف.
نحن خلف الباب المغلق جزء من عالم ريّا وسكينة. من شركتهما.. من رجال
بذكورة تابعة للمعلمة ريّا.. تخفي شهوتها في انوثة المعلمة سكينة..
القتل.. بدأ.
هكذا سنرتاح الطريق المفروش الى الجريمة. الجريمة ستخلصنا من فتنة
القاتلات.
لن نعترف بمحبة ريّا وسكينة.
وسنقول اللعنة على السفاحات.
وسنقول ايضا كما قالت النساء في تظاهرة امام سجن الحضرة: "عاش من شنق
ريّا.. عاش من شنق سكينة..".
|