كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

مصطفى العقاد ...

المخرج الذي بنى سينماه على التاريخ

هوليوود - محمد رضا

عن رحيل أمير الأحلام

مصطفى العقاد

   
 
 
 
 

«أنا الآن في التاسعة والستين من عمري. إذا لم أحقق «صلاح الدين» الآن، لن أستطيع تحقيقه حين أصبح في الخامسة والسبعين. إنه سن التقاعد وكتابة المذكرات».

قال مصطفى العقاد هذا أكثر من مرة، وقبل يومين من مغادرته لوس أنجيليس الى عواصم عربية أضاف: «مدعو على فرح في الكويت. بعد ذلك سأبقى في بيروت بعض الوقت ثم أقصد حفلة عرس في عمّان». صمت قليلاً ثم تابع: «سأراك إذاً في القاهرة». كنت أريد أن أقول له: لم كل هذه الدعوات؟ أين أصبح «صلاح الدين»؟ هل هناك من دعوة عمل لبحثه؟ لكنني كنت أعلم، من لقاءاتنا المتكررة الدائمة، أن كل الدعوات السابقة التي تلقّاها لم تثمر عن نتيجة.

مع «صلاح الدين» لم تكن المرة الأولى التي حلم فيها المخرج الذي وصل هوليوود في أواخر الستينات قادماً من حلب وفي جيبه بضع عشرات من الدولارات ومصحفاً كريماً وحقيبة ملابسه. كان حلم بهوليوود. حلم بدخول صناعة السينما. حلم بلقاء المشاهير والعمل معهم. حلم بتحقيق الأفلام وبتكوين شركة إنتاج أو أكثر وفي سنوات قليلة حقق كل تلك الأحلام. «صلاح الدين» هو الحلم الوحيد الذي لم يستطع تحقيقه. أستعصى عليه. كبّده الكثير من البحث والعمل والسفر واللقاءات... ولم يتحقق.

عثرة ونجاح

في مطلع السبعينات، وبعد دراسة السينما في «جامعة لوس أنجيليس» في كاليفورنيا الشهيرة UCLA (حيث التقى هناك مع الإعلامي الكويتي محمد السنعوسي الذي شاركه لاحقاً إنتاج فيلم العقاد الأول «الرسالة») استلم العقاد رسالة من محطة تلفزيونية ردّاً على طلب عمل كان بعث به. المحطة خيّرته بين أن يتقاضى مبلغاً كبيراً من المال او بين أن يتقاضى أجراً محدوداً وأسم على الشاشة كمنتج منفّذ وذلك لإحدى الحلقات التلفزيونية التي كان يعمل عليها.

«كنت شاباً صغيراً وأحترت في أمري: هل أقبل المال او اللقب؟. توجهت الى سام بكنباه وسألته ما العمل. نظر إلي وقال: يا لقيط. ماذا ستصنع بالمال؟».

ليس أن العقاد في ذلك الحين لم يكن بحاجة الى المال، لكنه كان بحاجة الى تكوين نفسه وبكنباه دلّه كيف يضع الأسس. «أولاً تبني الإسم ثم يأتي المال إليك». وفي نظرة سريعة على تاريخ مصطفى العقـاد السينمائي نجده فعل ذلك بنجاح باستثـناء عثـرة «صلاح الدين».

في العام 1974 وصل مصطفى العقاد الى لبنان وجلس في الهورس شو وأخذ يتكلم عن فيلم اسلامي كبير أسمه «الرسالة» يتحدّث فيه عن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، ورسالته الى البشر. بدا مؤمناً بما يقوله. في أول لقاء بيننا جلست استمع إليه وأفكر كيف سيستطيع سينمائي له خلفية تلفزيونية في حلقات «ألفرد هيتشكوك يقدّم» وفي بعض أعمال سام بكنباه وداني توماس التلفزيونية، إنجاز فيلم يقول أن موازنته ستتجاوز الثلاثين مليون دولار؟

هذا السؤال وجد طريقه الى مقال حين اختاره رئيس تحرير القسم الثقافي (المرحوم بلند الحيدري) عنواناً بعد أسابيع قليلة. حين بوشر بتصوير الفيلم في ليبيا بعث العقاد الى مكتبه في لندن رسالة ورد فيها: «ابعثوا وراء هذا المحرر الذي تساءل كيف أستطيع إنجاز فيلم بثلاثين مليون دولار»... بعد أيام، كنت في ليبيا أحضر تصوير أحد أكبر إنتاجات السينما العربية وأكثرها أهمية الى اليوم.

العقاد لم يكتف في فيلم «الرسالة» بمشاهد التجسيد الإيحائي طوال الفيلم بل عمد إليها في مطارح محددة فقط. باقي الفيلم أريد له أن يكون بحجم إي إنتاج ملحمي هوليوودي تاريخي وديني، وللغاية تم حشد عشرات المئات من الممثلين الثانويين والفرسان وتصوير مشاهد المعارك بإدارة متخصصة وجهود سينمائية صرفة لم تكن السينما العربية خاضتها على هذا النحو (وبهذا البذل) من قبل.

تجربة مصطفى العقاد، غير السهلة تنفيذياً وتبعاً للمعوقات الرقابية حيث مُنع الفيلم في أكثر من موقع عربياً وعالمياً، كانت - على رغم ذلك - ناجحة. أرسى العقاد مستوى من العمل لم تكن السينما العربية وصلت إليه. حملها، كما اتفق معظم النقاد العرب، الى العالمية. وفي خلال ذلك أيضاً، حمل الإسلام أيضاً الى الغرب والشرق البعيد.

... الى العالمية

بينما توزع مشاهدو الفيلم بين مؤيد لا يرى ضيراً مما أقدم عليه المخرج الكبير ومعارض على أساس أن الفيلم لا يزال في حكم «البدع المخالفة للشريعة»، كان العقاد يحضّر لفيلمه التاريخي الثاني: «عمر المختار» او «أسد الصحراء».

العقيد محمد القذّافي هو الذي طلب هذا الفيلم. وكان هو الذي سمح للمخرج - المنتج العقاد بالتصوير في ليبيا بعدما كانت المغرب قررت إيقاف التصوير بعد أسابيع قليلة من بدئه على أراضيها. مصطفى العقاد أختار قصة المناضل عمر المختار لسببين كما قال لي: «الأول هو أنني لم أكن أرغب في شخصية عربية معاصرة في زمننا هذا، بل كنت أبحث عن شخصية تستطيع أن تفرض أهمّيتها على المشاهد العالمي تماما كما هي الحال في فيلمي الأول. السبب الثاني، هو أنني كنت أريد مواجهة كل هذه الإدعاءات بأننا شعب مهزوم لا يُقاتل ولا ينتصر وكنت أريد أن أوضّح كيف أننا عانينا من الإحتلال الفاشي والإستعمار ومعسكرات التعذيب تماماً كما اليهود. إنها صفحة مجهولة في التاريخ إن لم نقدّمها ضاعت».

«عمر المختار» كان أفضل من «الرسالة» سينمائياً ودرامياً. هنا أبرز المخرج قدراته بشكل كامل. لم يكن عليه إعتماد وجهة نظر والتلاعب على قوانين الممنوع والمسموح بالنسبة لظهور شخصية النبي وباقي الخلفاء الراشدين على الشاشة، بل وضع في المواجهة أنطوني كوين مؤدياً شخصية المناضل الليبي، وبتحرر من القيود نفّذ الفيلم الملحمي- التاريخي الكبير بحسب القواعد الهوليوودية كاملة: «عليك كمشاهد أن تلتقي عاطفياً والشخصية التي تختارها كبطولة. عمر المختار كان أستاذاً في القرية. كان إنساناً حكيماً ومدركاً ومسالماً. مال الى السلاح دفاعاً عن الوطن والعقيدة. أي مشاهد في أي مكان من العالم سيتلاقى وهذا البطل وسيؤيده».

فيلما العقاد «الرسالة» و «عمر المختار» يختلفان عن الأفلام التاريخية العربية سواء كنا ننظر الى «صلاح الدين الأيوبي» كما أخرجه يوسف شاهين او «المسألة الكبرى» لمحمد شكري جميل او «القادسية» للمرحوم صلاح أبو سيف. ليس إنتقاصاً من جهود هؤلاء، لكن ما خصّه وحشده العقاد من تقنيات وعناصر إنتاجية لم يكن سبب التميّز الوحيد. السبب الآخر والموازي في أهميّته هو أنه كان يعرف لغة التواصل مع الجمهور ويعمد إليها من دون وضع الذات وسط العلاقة المرصودة بين الجمهور والمخرج. بذلك كان ينفّذ ما قاله ألفرد هيتشكوك ذات مرة حين قال لفرنسوا تروفو: «لا شيء يجب أن يدخل بين المشاهد والفيلم. ولا حتى المخرج».

لكن شيئاً إنتهى عندما أنجز الراحل «عمر المختار» سنة 1981. الفيلم دفع بالمؤسسة العامة للسينما في العراق للتحوّل صوب أعمال مشابهة أخفقت في الوصول الى الجمهور العريض كما فعل فيلما العقاد.

العقاد نفسه اختلف بعد هذين الفيلمين. عاد الى قواعده في هوليوود وأنجز، منتجاً ومنتجاً منفّذاً، ثمانية أفلام من سلسلة رعب أسمها «هالووين». السلسلة التي بدأت بفيلم أخرجه جون كاربنتر سنة 1978 بموازنة قدرها 325 ألف دولار وجلب عائدات وصلت الى 47 مليون دولار ضمنت للعقاد حرّيته: «بعد «عمر المختار» انهالت عليّ العروض المختلفة لكنني رفضتها جميعاً».

سألته: «لماذا؟». أجاب: «أولاً كانت عن رؤساء وملوك إما هم أحياء اليوم او أنهم رحلوا لكنهم لم يتركوا آثاراً حضارية وإنسانية تثير إهتمام المشاهدين. وأنا ملتزم بأن أحمل الإسلام والعروبة كقضية وليس كمواقف او سير شخصية او سياسية. ثانياً، لأن إذا ما حققت فيلماً عن هذا الرئيس او ذاك تم تصنيفي لحسابه. وأنا إنسان مستقل ولا أريد وصاية أحد».

سلسلة «هالووين» لم تؤمن له العيش رغيداً طوال حياته فقط، بل منحته تلك الإستقلالية التي كان يصبو إليها. لم يكن عليه القبول بأي عمل لا يتم بحسب رؤيته هو. ومع أنه جال كثيراً بحثاً عن التمويل لتحقيق «صلاح الدين» مؤمناً بأنه الفيلم المناسب للمرحلة الحالية وذلك قبل أن ينجز ريدلي سكوت فيلمه الأخير «مملكة السماء»، الا أنه تراجع في كل مرة أرتبطت فيها الموافقة بشروط.

لا عجب أنه كان محط أهتمام العرب الحالمين بأفلام ضخمة من منوال فيلميه السابقين، ولا لوم على أن العرب حلموا بـ «صلاح الدين» مثله. اللوم على كل تلك الظروف التي لم تخلق سينما عربية مماثلة، او - بالنظر الى موقعها اليوم - حيّة.

الحياة اللبنانية في

18.11.2005

 
 

هرب من سيف الرقابةوحارب الإرهاب بالفن

‏رحيل مصطفي العقاد..‏ صاحب الرسالة

علا الشافعي

ما بين مشهدي البداية والنهاية دراما حياتية غنية بالتفاصيل وثرية بتحولاتها‏,‏ مليئة بالصعاب‏,‏ والإخفاقات‏,‏ والنجاحات‏,‏ لكن الإصرار كان واحدا ولم يتغير‏,‏ اختار منذ البداية شريط السينما ليكون هدفه‏,‏ ومات كأحد أبطال فيلم سينمائي موجع في تفاصيله‏,‏ يبكي أكثر من أن يبعث علي البهجة والمتعة‏.‏

مصطفي العقاد‏,‏ اسم حقق شعبية وجماهيرية علي مستوي الشارع العربي من المحيط إلي الخليج وليس فقط علي المستوي النقدي أو العالمي‏,‏ والراصد لحياته يجدها مليئة بمشاهد تقترب من أدبيات كويلهو‏.‏ فهو بطل دائم البحث عن حلمه ويتبع العلامات والإشارات‏.‏

مشهد‏1‏

طفل صغير يجري في شوارع حلب المتميزة بمعمارها وفنونها‏,‏ فتربي وجدانه علي ذوقها الأصيل‏,‏ لم يلتفت يوما لألعاب الصبية جيرانه‏,‏ ولم يحلم بأن يصبح لاعب كرة‏,‏ أو طبيبا أو ضابطا يختال في بدلته العسكرية‏,‏ لكن طفلنا الصغير اختار قاعة سينما أوبرا بمدينة حلب‏,‏ وجعل من كابينة العرض مقرا له‏,‏ بعد أن صادق العامل طفلنا اعتاد علي التركيز في التفاصيل الصغيرة من حوله‏,‏ لذلك لم ينس مشهد عامل آلة العرض‏,‏ وهو يضع الشريط السينمائي في الماكينة لتبدأ تلك الصور في التداعي وليدخل طفلنا عوالم ساحرة جديدة ومختلفة‏,‏ يراه وهو يقص المشاهد الإباحية التي يجب ألا تعرض علي الجمهور‏,‏ فعرف أن الحياة ليست هناك بل في مكان أكثر رحابة بعيدا عن القص واللزق‏,‏ وسيف الرقابة في كل مرة كان يخرج فيها من كابينة العرض يصرخ فرحا ويردد علي مسامع أصدقائه‏,‏ سأصبح مخرجا شهيرا‏,‏ مخرجا أمريكيا‏,‏ أدرس السينما في هوليوود‏,‏ وكان رد الفعل علي رغبته وطموحه‏,‏ ضحكة تندر‏,‏ وأصوات أخري تقول‏:‏ ابن العقاد مجنون‏,‏ لم ينس هو تلك التفاصيل التي كان يسردها دوما كشريط سينمائي محفور في ذهنه‏,‏ بل يتندر هو كلما استعاده‏,‏ عندما كان يخلو بنفسه‏,‏ كان يردد علي مسامعه‏:‏ أنا فعلا مجنون‏,‏ فكيف سأقنع والدي‏,‏ موظف الجمارك بضرورة سفري إلي هوليوود‏,‏ فهو بالكاد تمكن من إدخالي إحدي المدارس الأجنبية المميزة‏,‏ لكن الصبي لم ييأس خاصة أن هناك شيئا بداخله يحركه‏,‏ ويؤكد له أنه علي الطريق الصحيح‏,‏ قال لي يوما إنها كانت أشبه بالعلامات التي تؤكد أنه علي الطريق الصحيح علي حد تعبير باولو كويلهو‏,‏ ومن وراء عائلته لم يتوقف عن مراسلة الجامعات الأمريكية‏,‏ ونبرات السخرية تتعالي من المقربين حول ما يفعل بسبب طموحه الجامح‏,‏ ويشاء القدر أن تقبله جامعة‏U.C.L.U‏ وذهب فتانا مصطفي إلي والده الذي لم يملك سوي الموافقة أمام تصميم ابنه وإرادته الحديدية‏,‏ ويومها ردد عليه بحنو بالغ‏:‏ افعل ما شئت‏,‏ لكن لا تنسي بلدك‏,‏ ثم أودعه‏200‏ دولار في جيبه ووضع المصحف الشريف في جيبه الآخر‏.‏

مشهد‏2‏

تقلع الطائرة بفتانا من مطار بيروت‏,‏ وتتلمس قدماه الأرض التي طالما حلم بالذهاب إليها‏,‏ ذهب إليها لا يحمل سوي دولاراته القليلة التي أشعرته بالفقر‏,‏ لكنه كان غنيا بأفكاره وطموحاته وتطلعاته‏,‏ ولم يجعل شيئا يقف عائقا بينه وبين حلمه حتي اسمه مصطفي‏,‏ ذلك الاسم العربي‏-‏ الإسلامي الذي كان بسهولة يمكن أن يقوم بتغييره ليشق طريقه أسرع وأسهل في هوليوود التي لا ترحم خاصة أن هناك أغلبية يهودية تسيطر علي اقتصادياتها‏,‏ لكن ابن حلب بذكائه الفطري تعلم اللعبة وفهم أصولها‏,‏ فشعار اليهودي الربح‏.‏

طالما المسألة بعيدة عن القضية الفلسطينية‏,‏ وأنجز العقاد دراسته للسينما‏,‏ وعمل لمدة‏15‏ عاما كان لا يفيق فيها من الأعمال التجارية وأخرج ما يقارب الـ‏25‏ فيلما‏,‏ عندما تسأله عن بعضها كان يضحك ويقول لا أحب أن أتذكرها‏,‏ لأنها كانت بدائية وتحمل أخطاء البدايات والتجارب الأولي‏.‏

مشهد‏3‏

ذلك المشهد يتضمن التحول الدرامي المفصلي في حياة العقاد‏,‏ بعد أن أنجب أبناءه الأربعة زياد‏,‏ مالك‏,‏ طارق‏,‏ ريما‏,‏ التي اغتالها الإرهاب الأسود هي الأخري‏,‏ كانوا يكبرون أمام عينيه وهو يحقق أفلاما تجارية لا يهمه من ورائها سوي الربح سلسلة هالاوين أولاده يكبرون في مجتمع غربي‏,‏ داخل منزله حرص علي أن تكون ديكوراته نموذجا مصغرا للبيت الحلبي‏,‏ لكن الشارع والمدرسة والحياة كلها غريبة‏,‏ لذلك بدأ يفكر جديا في تقديم مشروعات تاريخية وأفلام مهمة تخبر أولاده وكل أبناء الجاليات العربية عن حضارتهم‏.‏

مشهد النهاية‏4‏

كان مخرجنا دائم المشاركة في المهرجانات العربية‏,‏ وكثيرا ما كان يعلق علي أن التطرف الديني والاجتماعي هو عين الجهل‏,‏ وهو من أهم عوامل إضعاف البشر‏,‏ وجاء المتطرفون ليغتالوا حلمه وحلم ابنته‏,‏ بتحويلهم عرس زفاف إلي موات ودمار‏*‏

شاهين‏:‏ جمعتني بالعقاد أحلام مشتركة

علي الرغم من الخلاف في وجهات النظر بين المخرج يوسف شاهين والراحل مصطفي العقاد والذي وصل إلي حد السجالات بينهما علي صفحات الجرائد والمجلات وفي الفضائيات‏,‏ إلا أن شاهين أكد علي حزنه العميق علي ما وقع للمخرج الراحل الذي اغتاله الإرهاب وأكد أنه يكن له كل التقدير والاحترام علي المستوي المهني والإنساني وأن خلافاتهما كانت خلافات عادية علي الأشكال الفنية والقوالب التي يستخدمها كل منهما‏.‏ وفي النهاية جمعتهما الكثير من الأشياء المشتركة‏,‏ أولها حب السينما‏,‏ الحلم بالسفر إلي أمريكا لدراسة الإخراج‏,‏ وهذا ما تحقق لكليهما‏,‏ ومحاربة الإرهاب والعنف في المجتمع العربي‏,‏ كما أن لهما نفس المواقف القومية‏.‏

مشروعات سينمائية لن تشهد النور

‏*‏ بالإضافة إلي فيلم صلاح الدين كان هناك فيلم يحضر له العقاد عن صبيحة الأندلسية المرأة التي حكمت الأندلس‏,‏ وقصة فيلم آخر عن أحد ملوك إنجلترا الذي أرسل إلي الخليفة في الأندلس يطلب منه أن تكون إنجلترا في حماية الخليفة‏,‏ وأن تصبح بلدا مسلما‏,‏ وتدفع الجزية‏,‏ ويومها رفض الخليفة بدعوي أن الشعوب التي يسلمها قائدها لا تستحق الحماية‏,‏ كان اختيار العقاد للتاريخ ينبع من إيمانه بسماحة الإسلام وضرورة تقديم الوجه المشرق للغرب‏,‏ وللعرب أنفسهم الذين أصبحوا يجهلون دينهم وتاريخهم‏.‏

‏*‏ كان يحضر لإنجاز فيلم صلاح الدين بالأردن‏,‏ وحصل علي العديد من الموافقات‏.‏

‏*‏ المطران كابوتشي

مصطفي العقاد

*‏ مواليد حلب‏1933

*‏ غادر مدينته عام‏1954‏ وذهب إلي أمريكا لدراسة الفنون المسرحية في جامعة كاليفورنيا وتخرج فيها عام‏.1958

*‏ عام‏1976‏ أخرج فيلم الرسالة‏,‏ وهو أول فيلم عن الإسلام يتوجه إلي الجمهور الغربي‏,‏ وأنجز الفيلم في نسختين عربية وإنجليزية‏.

*‏ عام‏1980‏ أخرج عمر المختار عن نضال الشعب الليبي ضد الاحتلال الإيطالي‏.

*‏ له العديد من الأفلام أبرزها سلسلة أفلام الرعب هالوين‏.1978‏

‏*‏ زوجته سورية هي باتريسيا العقاد‏.

*‏ أبناؤه‏:‏ طارق‏,‏ مالك‏,‏ زيد‏,‏ الذي سماه زيد بعد لقائه بالأمير زيد بن شاكر‏,‏ وابنته ريما‏-33‏ سنة‏-‏ التي اغتيلت‏

*‏ أحفاده طارق ومصطفي‏.‏

الأهرام العربي في

19.11.2005

 
 

رفـض أن يبيـع حريتـه مقـابل المـال

من حلب إلي هوليوود‏..‏ ومن الرعب إلي الملاحم

هوليوود ــ محمد رضا

ما بين محطة القطارات في مدينة لوس أنجيليس الكبري وقرية وستوود مسافة ثلاثة أرباع الساعة بالسيارة ترتفع طوالها البنايات والناطحات وكل مظاهر أي مدينة حديثة في العالم‏,‏ شوارع كثيرة‏,‏ سيارات لا حصر لها‏,‏ مشاة‏,‏ محلات‏,‏ طرق تصعد وطرق تهبط وطرق سريعة تبدو من فوق كما لو أنها تقليد لأسراب النمل وهي تعمل علي نقل بقايا حياة إلي أوكارها‏.‏

لكن الصورة لم تكن كذلك في أواخر الستينيات لما حط العقاد رحاله في محطة القطارات حاملا حقيبة وبضع عشرات من الدولارات‏,‏ في جلسة ذكريات لم تستكمل قال لي‏:‏

العنوان الوحيد الذي لدي هو جامعة كاليفورنيا التي تقع في منطقة وستوود‏,‏ وقفت في المحطة غير مدرك كيف أتوجه‏,‏ رحلتي إلي أمريكا كانت أول خروج لي من سوريا‏,‏ بعد قليل سمعت ثلاثة شبان يتكلمون العربية ولابد أنهم لاحظوا أنني غريب‏,‏ سألوني أين أريد أن أذهب‏,‏ قلت لهم جامعة كاليفورنيا‏,‏ قالوا لي إنهم سيوصلونني‏,‏ ركبت معهم السيارة لكني بعد قليل انتابني الخوف‏......‏

مصطفي في ذلك الحين كان لا يزال في مطلع شبابه وككل قادم كان يضع في اعتباره كل حساب ممكن‏,‏ يمضي قائلا‏:‏

الطريق بين المحطة وقرية وستوود لم تكن كما هي اليوم عمران متواصل‏,‏ بعد قليل لاحظت أن العمران اختفي والمزارع‏,‏ كلها ليمون وبرتقال وأشجار مثمرة أخري‏,‏ تمتد إلي ما لا نهاية‏,‏ سألتهم أين يمضون بي‏,‏ ضحكوا وقالوا لي لا تخف‏.‏

عاش العقاد في منطقة برنتوود التي تقع خلف وستوود الحالية‏,‏ بيت كبير مع حديقة ومسبح وعدة غرف نوم وقريب من منزل أو جي سمبسون‏,‏ لاعب الكرة الذي تحول ممثلا ثم أصبح متهما بقتل زوجته‏,‏ اعتاد المخرج والمنتج أن يصحو باكرا كل يوم ويأتي إلي المكتب في التاسعة والنصف صباحا ويغادره في الواحدة أو قبلها‏,‏ مكتبه عبارة عن ثلاث غرف في مبني تجاري عملاق‏,‏ مقارنة بمكاتب إنتاجية أخري‏,‏ ليس كبيرا لكنه بالتأكيد كان كافيا طوال مدة وفترة حياة المخرج والمنتج الكبير‏,‏ كان المكتب مملكته الصغيرة وكان يكرر لي‏:‏

هناك كلمة سمعتها من العقيد‏(‏ يقصد السيد معمر القذافي‏)‏ أؤمن بها جدا‏:‏ في عدم الحاجة تكمن الحرية‏.‏

وكان عادة ما يكمل موضحا‏:‏

أنت بحاجة إلي شيء تصبح مضطرا إليه وتفقد حريتك بالكامل‏,‏ إذا لم تكن بحاجة إليه كنت مستقلا ومتحررا‏,‏ وهذا هو الوضع مع التمويل‏.‏

‏*‏ كيف؟

يسألني كثيرون لماذا أنتج أفلام رعب صغيرة وردي الدائم هو إنه لو لم أنتج هذه الأفلام لصرت عبدا لحاجتي للمال ولأستجبت لرغبة الحكام العرب إخراج الأفلام التي يريدون مني إخراجها‏,‏ بذلك أصبح عبدا لهم وأفقد استقلاليتي التي أتمتع بها‏.‏

الحرية كانت مهمة عند المنتج والمخرج الكبير‏,‏ من بعد أسد الصحراء أو كما تمت تسميته عربيا بـ عمر المختار‏,‏ وذلك في العام‏1981‏ وضع العقاد عدة مشاريع سينمائية من ذات النوعية التاريخية‏-‏ الملحمية‏,‏ كانت لديه فكرة فيلم تاريخي عن الأندلس‏,‏ وكانت لديه فكرة فيلم روائي كبير عن القائد الراحل جمال عبد الناصر‏(‏ صنع فيلما وثائقيا طويلا هو من أفضل ما تم تحقيقه عن الزعيم العربي إلي اليوم‏)‏ وحلم طويلا بتحقيق فيلم عن صلاح الدين‏.‏

‏*‏ لكن لماذا نستعجل الكلام‏,‏ لنعد إلي الوراء في مداولة زمنية قصيرة؟

في العام‏1974‏ فوجئنا في بيروت بشاب يجلس في المقاهي ويتحدث عن فيلم كبير سيخرجه في المغرب‏,‏ كنا‏,‏ ونحن مازلنا شبابا قليل الخبرة‏,‏ سمعنا بمشاريع كثيرة من هذا النوع‏,‏ شبان عرب يذهبون إلي أمريكا ويعودون بأحلام‏,‏ ثم غاب العقاد ثم عاد وأدرك بعضنا أن الرجل يتحدث عن ثقة‏,‏ في العام‏1975‏ باشر فعلا تصوير فيلمه الروائي الأول الرسالة في ليبيا‏(‏ اختارها بعدما أوقفت المغرب التصوير تحاشيا للحرج حينما وقف الأزهر المصري والمملكة العربية السعودية ضد الفيلم‏).‏

كنت من الذين حضروا التصوير‏,‏ شاهدوا رجلا يتحرك بحيوية وبفهم عميق‏,‏ صحيح إنه كان يعتمد علي خبرات في شتي المجالات الفنية‏,‏ كذلك ديفيد لين وأكيرا كوروساوا وكل المخرجين الكبار فهذا جزء من عملية إتقان العمل‏,‏ لكن القرار النهائي كان له مشرفا علي سير العمل خلال التصوير وبعده‏.‏

ذات مرة راعه قيام بعض الأجانب بالسباحة في البركة الإصطناعية التي أنشئت خصيصا للفيلم علي نحو صاخب كما لو كانت حفلة بيتية‏,‏ صرخ فيهم بالتوقف حالا عن الصخب مذكرا إياهم أنهم في بلد عربي لا يطيق هذه التصرفات‏,‏ لم تكن الكلمات ماتت علي شفتيه‏,‏ رحمه الله‏,‏ حتي توقف الجميع في آن واحد‏.‏

بعد عامين‏,‏ وبينما كان يحضر لفيلمه التاريخي الثاني‏,‏ عمر المختار‏,‏ أنجز فيلم رعب أول‏,‏ وهو كان الأول علي عدة مستويات‏:‏

الأول أمريكيا للعقاد إذ لم يكن أنتج فيلما أمريكيا طويلا من قبل‏.‏

الأول بالنسبة للممثلة جامي لي كيرتس التي لم تكن ظهرت في أي فيلم من قبل‏.‏

الأول بالنسبة للمخرج الجديد جون كاربنتر الذي حقق به نجاحا‏,‏ قبله أخرج أفلاما قصيرة وفيلما روائيا صغيرا واحدا‏(‏ عنوانه‏DarkStar)‏ لم يلق أي نجاح‏.‏

الأول بالنسبة لمنوال أفلام رعب تعتمد علي مقنع يجسد الشر ويقتل من دون تمييز ولا دوافع واضحة‏,‏ بعده تكاثر القتلة المقنعون من مذبحة منشار تكساس إلي كابوس شارع إلم وسواها‏.‏

‏*‏ هل كان العقاد فخورا بهذه الأفلام؟

نعم‏,‏ فخور بها لأنها منحتني الإستقلالية التي أنشدها‏,‏ ومنحتني المكانة التجارية والمادية التي لا أحتاج معها إلي البحث عن تمويل راضيا بشروط تفرض علي فرضا‏,‏ وفخور لأنني أنجزت فيلما يطلبه الجمهور‏.‏

العقاد كان لا يخفي إنه مخرج يبغي التجارة أولا‏:‏

تعمل الفيلم علي أفضل مستوي تستطيع الوصول إليه‏,‏ لكن عليه أن يكون فيلما متوجها للجمهور وليس للنخبة‏,‏ الجمهور هو الذي يشتري التذاكر‏-‏ الفيلم لهؤلاء‏.‏

هالووين الأول كلف مصطفي العقاد‏325‏ ألف دولار‏,‏ الإيرادات كانت جبلا من المال‏43‏ مليون دولار‏,‏ إذ حقق الفيلم في عروضه الأول نحو‏20‏ مليون دولار أدرك العقاد إنه فتح صندوق العجائب وأن هالووين سيلد سلسلة من الأفلام‏,‏ هذه السلسلة بلغ عددها حتي العام‏2002‏ ثمانية أفلام‏,‏ وإذا جمعنا إليها فيلمين أمريكيين آخرين ‏(هما ‏FreeRide‏ و‏DeadlyPresence)‏ فإن مجموع الأفلام التي أنتجها في هوليوود من مكتبه المتواضع ذاك هو عشرة‏,‏ وكان في وارد إنتاج هالووين تاسع‏,‏ قال لي ابنه مالك قبل أيام قليلة من الفاجعة‏:‏ لدينا سيناريوهان نقرأهما قبل أن نقرر أي منهما سنعمد إليه‏.‏

عثرات صلاح الدين

عربيا‏,‏ الأمر لم يكن بهذا النشاط للأسف‏.‏

بعد عمر المختار سنة‏1981‏ ووجه العقاد بالكثير من الطلبات‏,‏ عمليا تلقي العقاد عروضا من العديد من الحكام العرب‏(‏ بعضهم رحلوا الآن‏)‏ كل عرض يطلب فيلما عن ذلك الحاكم كشرط لإنتاج صلاح الدين‏.‏

لو باع العقاد نفسه خلال السنوات الخمس والعشرين الأخيرة‏,‏ ولو أن المال كان كل شيء بالنسبة إليه‏,‏ لأصبح بليونيرا‏,‏ لكنه كان أوعي من أن يستجيب‏,‏ قال لي في إحدي لقاءاتنا المتكررة‏:‏

المسألة هي أنني أريد فيلما عربيا علي مستوي عالمي وأحد الشروط الأساسية هو أن يكون الموضوع‏,‏ كما كان في الرسالة وعمر المختار عالميا ليس لحساب شخص وليس لحساب أيديولوجيا أو بلد أو نظام‏.‏

في سبيل هذا الموقف خاض مصطفي العقاد جهودا عملاقة ليجد تمويل فيلمه صلاح الدين وخلال هذا الخوض تعرض للكثير من الانتقادات والشائعات‏,‏ أبرزها إنه كان يدور علي الأنظمة متوسلا العون‏,‏ لكن ذلك ليس صحيحا‏.‏

طوال نحو عشرين سنة‏,‏ أي منذ أن أصبح صلاح الدين جاهزا وإلي اليوم‏,‏ دخل العقاد مئات الاجتماعات غير المثمرة‏,‏ ربما كان يطمح إلي أكثر مما يراه الآخرون مناسبا‏,‏ كان مثلا يحلم ببناء ستديو عربي يصور فيه الفيلم‏.‏

في النهاية رحل العقاد عن عالمنا وهو يتمني إخراج صلاح الدين‏,‏ كان يقول‏:‏ إنه مثال لوضعنا الحالي‏,‏ نحن بحاجة إلي بطل والي قائد‏,‏ لكن الفيلم هو أيضا تجسيد لمرحلة تاريخية نضرة من حياتنا كعرب‏.‏ ولفترة كان يحاول بث العزيمة في أوصال المترددين من الذين كانوا يستطيعون‏,‏ لو أرادوا‏,‏ تمويل الفيلم‏,‏ كان يردد‏:‏

الفيلم ليس فقط ردا علي حملات التشويه بل أيضا إظهار لموقع القدس بالنسبة لنا نحن المسلمين‏.‏

قبل يومين من مغادرته لوس أنجيليس‏,‏ التي لن يراها مرة أخري‏,‏ قال لي في مكتبه‏:‏ سأزور الكويت ولبنان وأحضر حفلة عرس في عمان وأحضر بعد ذلك مهرجان دمشق وبعده مهرجان القاهرة‏,‏ هل ستحضر القاهرة؟‏,‏ حسنا‏,‏ أراك هناك‏....‏ رحل ومازلت أنتظر لقاءه‏!!*‏

البطل القومي

خلال هذه الفترة‏25‏ عاما تعالت مشادات بين العقاد ومخرجين عرب معروفين أبرزها تلك التي قامت بينه وبين المخرج المصري يوسف شاهين وبينه وبين المخرج السوري محمد ملص‏,‏ وهي مواجهات مؤسفة للجانبين لكنها تكشف عن شرخ في العلاقات ناتجة عن اختلاف مناهج‏.‏ لم يكن رفض مصطفي العقاد لإخراج فيلم عربي ‏(‏وقد عرضت عليه أعمال كثيرة‏)‏ ناتجا عن رغبته في فيلم مكلف وكبير بل عن إدراكه أن هذا النوع من الأفلام له مخرجوه في العالم العربي‏,‏ كان يقول‏:‏

أنا لا أعرف كيف أحقق فيلما من هذا النوع‏,‏ هناك من هم أفضل مني في هذا النوع‏.‏ وكانت الأفلام التي يراها مسيئة للعالم العربي‏,‏ سواء أكانت مصرية أم سورية أم تونسية‏,‏ تضايقه‏,‏ انتقاداته كانت في الغالب من منطلق كلاسيكي نسمعه بين المحافظين من السينمائيين الذين كانوا يرون في أي فيلم يظهر شروخا وعيوبا اجتماعية في أنه يضر بالسمعة العربية ولا يصلح للعرض في أنحاء العالم‏.‏

‏*‏ ربطت المخرج الراحل علاقات وطيدة بالرئيس العراقي السابق صدام حسين‏,‏ وذكر العقاد في أكثر من حوار أن صدام عرض أن يتولي تمويل فيلم صلاح الدين‏,‏ لكن ظروف حرب الخليج حالت دون تحقيق المشروع‏.‏

‏*‏ ربطته علاقات وطيدة بالرئيس الليبي معمر القذافي والذي قال له‏:‏ إن السينما سلاح أقوي من الدبابات وهو من قام بتمويل فيلمي الرسالة‏,‏ وعمر المختار‏.‏

####

كان مخرجاً عالمياً بالمفهوم وليس بالرغبة

مصطفى العقاد.. عربي في هوليوود

هوليوود - محمّد رضا:  

تفرض وفاة المخرج والمنتج الكبير مصطفى العقاد علينا مراجعة مسائل كثيرة تتعلّق بالمكانة التي احتلّها في هذا الزمن الصعب وفي الشرق كما في الغرب. فصاحب “الرسالة” و”عمر المختار” عرف خطّين من الأفلام. الأول هو اخراجه لفيلمين عربيين في الموضوع والخطاب السياسي وعالميين في التوجه والتسويق، والثاني هو خط أفلام أمريكية خالصة سوقها الأول محلّي لكنها، ككل الانتاجات الأمريكية التجارية، تسللت بسهولة الى الأسواق الأوروبية والشرق آسيوية.

الاختلاف يكمن أيضاً في الحجم. الخط الأول من الانتاج تنعّم بصفة الانتاج الكبير. ميزانية الأول وصلت الى نحو 18 مليون دولار (ما يوازي 40 مليون دولار بكلفة هذه الأيام) والثاني تعدّت ال 25 مليون دولار (او 70-60 مليوناً بأسعار اليوم). بينما الفيلم الواحد من سلسلة “هالووين” (ثمانية أفلام. التاسع على الطريق) انطلق من 365 ألف دولار (“هالووين” الأول) ثم ارتفعت كلفته حلقة وراء حلقة تبعاً لارتفاع الأسعار، من نصف مليون الى مليون الى مليونين وميزانية  كل من الجزء السابع والجزء الثامن على حدة خمسة ملايين دولار تقريباً.

ماذا يقول لنا كل ذلك؟

مصطفى العقاد، رحمه الله، كان مخرجاً عالمياً بالمفهوم وليس بالرغبة. بالواقع وليس بالتمنيات. لكي نصل الى هذه النتيجة لابد من تحليل ماهية العالمية.

ما العالمية؟

المنتشر عندنا هو الرأي الكلاسيكي: أنت عالمي بقدر ما تكون محلياً. والأمثلة كثيرة يعلوها نجيب محفوظ، حسب آراء عدد لا بأس بهم من النقاد والمتابعين المؤهلين. فبقدر ما كانت حكاياته مصرية، بقدر ما انتشرت شاقة طريقها الى لغات عدّة، بل الى اقتباسات سينمائية في بعض الأحيان. الأمر نفسه يمكن قوله، اذاً، عن كثيرين في هذا المجال من دستويفسكي الى سارتر ومن غراهام غرين الى غبريال غارسيا مركيز. وبالتأكيد يقف محفوظ بين كل هؤلاء لكن هل تفعل السينما العربية؟

العالمية تأتي من كلمة لا مجال للالتباس فيها وتعني استحواذ الشيء على مساحة دولية يحققها بالوصول اليها. اذا كان هذا الشيء كتابا أو فيلما أو أغنية أو مخرجاً أو ممثلاً... الأمر سيان. لكن الخطأ الذي يقع فيه كثيرون هو عقد قران بين العالمية والمستوى الفني. فيلم “الأرض” ليوسف شاهين أو “صمت القصور” للتونسية مفيدة التلاتلي،  يقولون لك، عالمي لأنه عرض في مهرجانات دولية ولأن مستواه عالمي.

لكن الحقيقة أن “الأرض” فيلم رائع بذاته وفيلم “صمت القصور” تحفة صغيرة كذلك “السقا مات” لصلاح أبو سيف  و”التائهون” للناصر خمير و”حرب البترول لن تقع” لسهيل بن بركة  و”حروب صغيرة” لمارون بغدادي  و”عتبات ممنوعة” لرضا الباهي وكثير جداً غيرها كونها عرفت طريق المهرجانات وكتبت عنها الصحافة العالمية، كما وجد البعض منها طريقه للعروض التجارية في باريس أو لندن.

هذا كله ممتاز ورائع لكنه لا يجعلها عالمية لسببين. الأول، وهو أسهلها تعريفاً، لم تخرج من نطاق كونها انتاجات محلية لمخرجين -بصرف النظر عن فنهم وابداعهم- معروفين في بلاد قليلة حول العالم ومن قبل نسبة ضئيلة من المشاهدين. لم تدخل الصرح الكبير والدولي من التاريخ بل بقيت علامات في السينمات المحلية كما في تواريخ أصحابها.

السبب الثاني أكثر تعقيداً.

الفيلم العالمي هو الذي يسعى لاقتحام الأسواق العالمية كسلعة تجارية واسعة الانتشار (سواء نجحت محاولته تلك أو أخفقت). وفي حين أن ليس كل فيلم محلي جيداً، فإنه ليس كل فيلم عالمي، على هذه الصورة، سيئاً أيضاً.

فيلما مصطفى العقاد “الرسالة” و”عمر المختار” كانا عالميين فعلاً، بل كانا الفيلمين العالميين الوحيدين في تاريخ السينما العربية كلها، انطلاقاً من هذا التحديد الواقعي والدقيق لماهية الفيلم العالمي الذي يمضي طبيعياً ليشير ايضاً الى أنه ليس كل فيلم بميزانية كبيرة ويتكلم الانكليزية يمكن أن يصبح عالمياً. نظرة الى محاولات السينما العراقية مباشرة بعد النجاح الكبير لفيلمي مصطفى العقاد، تبرهن على ذلك. “القادسية” لصلاح أبو سيف و”المسألة الكبرى” لمحمد شكري جميل تمتعا بالميزانية كما تم استقدام ممثلين أجانب للفيلم الثاني، لكنهما لم يشهدا توزيعاً عالمياً. فلكي يتم ذلك هناك شيء في المعرفة  والكيفية ينطلق من الكتابة ويمتد كخيط لايزر الى التسويق نفسه. هذا الشيء كان مفقوداً.

المنهج الذي خطّه مصطفى العقاد لم يبدأ بقراره أن يصنع فيلماً يشاهده الجميع، بل بدأ به وقد هضم كيف يصنع فيلما يشاهده الجميع. في العام 1974 حين باشر العمل على انجاز “الرسالة” حط في لبنان وأنشأ مكتباً، ثم انتقل بالسيناريو الى مصر والسعودية وعيّن كتاباً عرباً وأجانب واشتغل من وجهة نظر مدرك على العناصر المختلفة التي سيؤول اليها أمر امساك زمام الأمور في شتى المجالات الفنية والاعلامية. المصوّر الفوتوغرافي، وهو نسبياً من أصغر المهن، بموازاة مدير التصوير السينمائي في الأهمية. الذين أمسكوا بخيوط الاعلام والترويج لم يكن شخصاً واحداً وبجانبه هاتف يتصل عبره بمحرري الصحف ويدعوهم الى كتابة هذا الخبر أو ذلك التقرير. والشغل على المجاميع لم يكن منفصلاً عن شغل المخرج نفسه على الدراما ولو أنه أسند لسينمائيين معروفين في المجال.  كل شيء كان مدروساً وكل شيء، حينما بوشر بالتصوير في المغرب ثم في ليبيا (بعدما خشيت المغرب السماح بتصويره على أراضيها)، كان في محله مثل مسمار يُدق في مكانه تماماً ويثبت.

الى ذلك، كان الموضوع آسراً: فيلم عن قصة الاسلام معمول لكل مشاهد على وجه الدنيا، كما كان “آلام المسيح” (عليه السلام) مصنوعاً لكل مشاهد على وجه الدنيا، وكما كان “بن هور” مصنوعاً لكل مشاهد على وجه الدنيا. اختلافاتنا السرمدية نحن العرب لم تمنع الفيلم من الانتشار شرقاً وغرباً، جنوبا وشمالاً تاركاً تأثيراً كبيراً في صعيد العقيدة ودافعاً بالبعض اما لمعرفة دينهم أو للتعرف الى الدين لأول مرّة.

السخرية هي أن ما كان ناصعاً في الفيلم يبدو الآن مكفهراً في الحياة السياسية بفعل هذا القدر الكبير من التطرّف والتقوقع الفكري.

من هذا الفيلم أصبح العقاد الوجه السينمائي العربي الوحيد المعروف عالمياً في مجال الاخراج وذلك على صعيد المشاهدين عامّة وليس على صعيد المهرجانات السينمائية. في هوليوود، كان الاسم الذي لجأت اليه الصحافة الأمريكية تستطلع هذا الدين وتلك الرسالة وصاحبها محمد صلى الله عليه وسلم. والاسم الذي، حين أخرج لاحقاً “عمر المختار”، أصبح الاسم العربي الوحيد اللامع  في مجال الأفلام التاريخية والملحمية. وبطبيعة الحال، هو الاسم العربي الوحيد الذي تم تداوله عالمياً بين السينمائيين العرب. بل في حينها لم يكن هناك في المجال العالمي نفسه سوى الممثل عمر الشريف.

الآخرون

طبعاً بعد تأسيس العقاد نفسه في هوليوود والبدء بانتاج حلقات “هالووين” المربحة، شق الطريق ذاتها عدد آخر من المنتجين العرب (او ذوي الأصول العربية) من بينهم ماريو قصّار وايلي سماحة وجورج شامية وجوزف مدوّر ويوسف مرعي. بعضهم بنتائج جيّدة والبعض الآخر تنفيساً عن رغبة في العمل في السينما من دون دراية نهائية أو خطة للرقي بنفسه فيها أو بها.

ما ميّز العقاد عن أترابه ليس انه الأول (أول عربي وطئ أرض السينما الأمريكية كان محمد يقطين الذي سمّى نفسه فرانك لقطين ومثّل أدواراً صغيرة من عشرينات القرن العشرين وحتى الخمسينات) بل نظرته العربية- القومية التي التقت مع العرف الواسع لماهية القومية العربية. كان مؤمناً بها وعنيداً في توخي الحذر حتى لا يخونها. وكل تلك الشائعات التي أطلقها البعض عن مخرج يدق أبواب الحكام العرب مستعطفاً لأجل انجاز فيلمه المقبل، تضمحل أمام حقيقة أن العقاد لو أراد اخراج أي فيلم كبير الحجم ليبقى في أتون العمل والمكانة لفعل ذلك من دون انقطاع. تقريباً كل حاكم عربي أراد منه فيلماً عنه، لكن العقاد كان دائماً ما يرد: “أنا مخرج قومي ولست محلياً. لا أستطيع اخراج فيلم عن جزء من العالم العربي، بل عن العالم العربي ككل”.

وهو، تأكيداً، صاحب فيلم عن القائد الكبير جمال عبد الناصر مؤسس القومية العربية الحديثة والذي قضى، رحمه الله،  وهو يحارب من أجلها.

الخليج الإماراتية في

20.11.2005

 
 

مصطفى العقاد قبل “صلاح الدين” وبعده

معن البياري 

أمران اثنان اشتهر بهما أكثر من غيرهما المخرج العالمي مصطفى العقاد بيننا نحن بني جلدته العرب : إخراجه رائعتيه “الرسالة” و”عمر المختار”، وحديثه الذي طال لسنوات في الصحافة والتلفزات والمنتديات عن فيلمه عن صلاح الدين الأيوبي، ولم ينجزه بسبب عدم توفير حكومات وشخصيات عربية تمويلا يصل إلى 80 مليون دولار. وإلى هذين الأمرين، كان للراحل حضور واضح في التظاهرات السينمائية العربية، وعلى شاشات الفضائيات العربية، وكان كثير التردد إلى العواصم العربية، حتى صار يُظن أنه لم يعد يقيم في الولايات المتحدة التي كان الفقيد الكبير لا يملّ في دأبه في الحديث عن وجوب الحضور الإسلامي والعربي إعلاميا فيها، باعتبار الإعلام سلاحا في معركة شديدة الصعوبة. وقد تحدث كثيرا منتقدا الحكومات العربية على تخصيصها ميزانيات كبيرة للتسليح، ومن دون جدوى كما كان يرى، فيما طالبها بتخصيص 10% من ميزانيات الدفاع للإنتاج الإعلامي، لتغيير صورة العرب والمسلمين في أمريكا وأوروبا والعالم.

وإذ قضى الفنان الكبير في حادث إرهابي مفجع، ارتكبه مسلمون وعرب، بدعاوى مقيتة، فإنه يكون مع ابنته الراحلة وعموم الذين توفاهم الله في الجريمة الشنيعة في عمان أحد ضحايا واحدة من حقائق الحال العربي، وهو الذي كرّس حياته وفكره ناشطا في تحسين صورة العرب والمسلمين في أمريكا والغرب. ومن هذه الحقائق أن ثمة متطرفين بيننا ينتسبون إلى المسلمين، يرون في قتل البشر في عرس وفي ردهة في فندق عملا جهاديا ضد “حكومات عربية كافرة”، وأن هؤلاء من ذوي التفكير السقيم هذا يتزايدون في غير مطرح بين ظهرانينا، وكثيرون منهم في العراق والسعودية والجزائر (مثلا) يرتكبون فِعالهم هذه، وهم على ثقة أنها ستدخلهم الجنة، حيث الحور العين فيها. وأغلب الظن أن مصطفى العقاد لم يكن يعرف جيدا مدى وجود هؤلاء وأفكارهم بيننا، لم يكن معنيّا بهم، لم يشغلوا باله قليلا ولا كثيرا، وهو الذي كان يحتل ذهنه تسامح صلاح الدين وعدل الإسلام وازدهار العلم في الأندلس.

لا يعثر المرء في تصريحات ومقابلات مصطفى العقاد، وهي كثيرة في السنوات الأخيرة، على شيء عن هؤلاء، إنه يقول مثلا ان علينا عندما يعرض الأمريكيون صورا سلبية عنا أن نبلغهم أن ثمة ما هو سلبي فينا وبيننا لكن صورا إيجابية كثيرة لدينا. وإذ يعدّ الراحل عن حق قيمة فنية عالية، كما دلت على ذلك حرفيته الإخراجية العالية في “الرسالة” و”عمر المختار”، فإن من المفارقات انه كان قليل الحديث عن السينما كفن وإبداع، وبالكاد تعثر على إضاءات منه بشأن هذا الجنس التعبيري باعتباره اشتغالا على جماليات بصرية. كان يُطنب في الكلام عن تمويل الأفلام وتسويقها ووجوب تحقيق الربح منها، ليتسنى إنجاز أفلام أخرى، وعن قدرات المخرجين على كسب الجمهور، وعن الرسالة الفكرية والثقافية، بل والتربوية أيضا، ناهيك عن الوظيفة الإعلامية لها. يصرّح مثلا أنه أخرج فيلميه الشهيرين كنوع من المسؤولية تجاه أولاده وأولاد العرب المغتربين العرب، بهدف تعزيز الانتماء لجذورهم وعروبتهم وتاريخهم. ويقول أيضا ان “صلاح الدين” سيلعب دورا كبيرا في تقديم صورة حقيقية للنضال العربي والحق العربي. وفي هذا السياق عرف العقاد بصراحته في طرح آرائه اللاذعة، وبشكواه المديدة من تقاعس العرب، غير أن ذلك كله توازى مع حماسه لمشاريع كبيرة غير هينة الأكلاف، تخصه شخصيا وتخص صناعة السينما العربية، ومن ذلك طموحه إلى بناء مدينة إنتاج سينمائي عالمية وكبيرة، تتوفر على الآليات والمعدات والتقنيات واللوازم. حيث كان الراحل في الأثناء يقول ان مشكلة السينما العربية اقتصادية لا أكثر ولا أقل، بوجود الطاقات الإبداعية في كل مجالات الإبداع.

يُشار إلى هذا فيما مصطفى العقاد هو أحد المخرجين العرب القلائل الذين تفردوا بتميزهم الحاذق في استنفار قدرات الممثلين معه، وفي إدارة المجاميع الكبيرة في مشهدية عالية الإبهار والإيهام بتماهي الصورة مع حقيقة الواقعة موضوع التصوير. لا تنتسب معركتا أحد وبدر ومعارك عمر المختار والمجاهدين في ليبيا، كما شاهدها الملايين في الفيلمين، إلى أي “أكشن”، أمريكي أو غيره، أو إلى لوازم أفلام الملاحم والإثارة، إنها معارك تنتسب إلى أزمنتها وفضاءاتها الخاصة تماما. ووجوه عبد الله غيث وأحمد مرعي ومحمود سعيد وحسن الجندي وغيرهم، وكذا انطوني كوين وإيرين باباس وأوليفر ريد وغيرهم، كانت في الفيلمين ذات قسمات وتفاصيل لم يكن ممكنا أن ترتسم المشاعر الجوانية لأصحابها من دون اشتغال مخرج فنان عليم بما يقوم به. لذلك، يحسن الانتباه إلى مصطفى العقاد فنانا ومبدعا كبيرا، فلا يؤثر في صورته هذه حضوره الإعلامي الذي ظل مصحوبا بخفة ظله وسعة خبرته، بعد أن بات فيلماه من مشاغل التذكر الخاص لكل منا، وقد شاهدناها في سنوات لم تعد قريبة، وإذا ما تسنت إعادة المشاهدة، فإنما من باب الحنين ربما.

يقال هذا، والعقاد نفسه في مداركنا هو صاحب الفيلمين هذين فقط، وهو الذي صرنا نعرف أنه أنجز فيلما تسجيليا مدته 4 ساعات عن حياة الرئيس جمال عبد الناصر، وأخرج 25 فيلما في هوليوود، قال بنفسه إنه يخجل من بعضها في سنواته الأولى، لحداثة تجربته حينها. أما حكايته مع “صلاح الدين”، فقد أفرط الراحل في إشهار حلمه به، وفي “التشهير”، ربما، بالحكومات العربية الغنية والأثرياء العرب والهيئات والمؤسسات التي لم تستجب لطلبه توفير تلك الثمانين مليون دولار لإنجاز الفيلم (الشهير أيضا!)، وعلى ما أفاد مرة فإن الفيلم لا يخاطب العرب، بل الغرب، وقال “إذا لم أجعل المسلم والمسيحي واليهودي يصفق للبطل صلاح الدين الأيوبي لدى مشاهدة الفيلم فهذا يعني أني فشلت في تحقيق رسالته”.

تحدث العقاد كثيرا عن مشاريع كانت لديه، ومنها فيلم عن البوسنة وآخر عن القائد الشيشاني محمد شامل وثالث عن علاقة ملك انجلترا في العام 1213 بملك قرطبة، ورابع قيل ان المصري مدكور ثابت كتب له السيناريو وعنوانه “ثلج فوق صدور ساخنة”. أما “صلاح الدين” فكانت له الشهرة الأوفر، وكتب له السيناريو الأمريكي جون هيل، ورسالته عن التسامح، كما ظل العقاد يقول، وكان يريد منه أن يحمل صورة واضحة عن الإسلام في الغرب، غير أن رسالة الذين قتلوه وقتلوا ابنته، مع كثيرين شاءت الأقدار أن يتواجدوا قدّام القتلة، كانت معاكسة تماما، ومغايرة لما كان عليه مصطفى العقاد وصلاح الدين الأيوبي معا.

الخليج الإماراتية في

21.11.2005

 
 

مصطفى العقاد غائب حاضر

مهرجان دمشق يخطو بثقة إلى التميز  

دمشق - “الخليج”: تكتسب هذه الدورة من مهرجان دمشق السينمائي أهميتها من أمور عدة، فالبعض يعتبر إقامتها شكلاً من أشكال التحدي السوري للضغوط الدولية، وبالتالي فحضورها تضامن مع سوريا ويرى آخرون انها تتميز بمستواها التنظيمي والافلام المعروضة والممثلة لمعظم المدارس السينمائية في العالم. وما يضفي على هذه الدورة أهمية مضاعفة إقامتها بعد أسابيع من رحيل المخرج مصطفى العقاد الحاضر في أجواء المهرجان بحديث أصدقائه وتلامذته عنه خاصة منى واصف التي بكت وأبكت حضور حفل الافتتاح بكلمتها الحزينة عنه.

في البداية يعتب الفنان بشار اسماعيل على إدارة المهرجان لإهمالها دعوة عدد كبير من الفنانين السوريين الى حفل الافتتاح، ويقول: “لم تصلنا دعوات لحضور الافتتاح لذلك لم يظهر النجوم السوريون رغم وجود أماكن كثيرة للإداريين وغيرهم من البعيدين عن الوسط الفني، لكن المهرجان تميز بتقديمه أفلاماً سينمائية جيدة، وبخلقه مناخاً فكرياً واسعاً من خلال اللقاءات بين الفنانين العرب”.

ويرى المخرج المصري محمد خان الذي يشترك في مسابقة الأفلام الطويلة بفيلم “بنات وسط البلد” أن المهرجانات العربية تسهم في دمج الشعوب وتواصلها، ويضيف: “وهذا الجانب مهم، وأنا أرى أن المهرجان يتمتع بالتنظيم من ناحية، وبالتوسع الواضح سواء من حيث عدد الأفلام المعروضة أو الندوات مما يجعله مهرجاناً ضخماً يأخذ طابعاً عربياً ويقدم إنتاج السينما العربية والعالمية خلال أيام عدة مما يشجع المشاهدين لإجراء المقارنات واكتشاف التطور والتعرف إلى التجارب السينمائية الجديدة. وأرى أن شعار المهرجان “تحيا السينما” يكرس رغبة دمشق بتقديم المهرجان كهدية إلى السينما وهو في الحقيقة هدية قيّمة لجميع السينمائيين”.

وتقول بوسي أثناء استراحتها من مشاهدات لجنة تحكيم الأفلام الطويلة انها تعتبر هذه الدورة من المهرجان مهمة جداً، وتضيف: “ولكن يجب أن يحظى المهرجان باهتمام كبير دائماً لتكون الدورات المقبلة أكثر أهمية. وأعتبر أن تنظيم المهرجان في هذه الفترة المملوءة بالأحداث المتصاعدة، وأثناء الأزمة التي تتعرض لها سوريا، يشكل إضافة لقوة هذا البلد، وأعتقد أن حضور كل فنان عربي أو أجنبي لهذه التظاهرة في هذا الوقت هو موقف مؤيد لسوريا ومتضامن معها بشكل واضح”.

ويرى المخرج محمد عزيزية أن هذه الدورة حققت قيمة واضحة لأنها كانت نتيجة التجارب السابقة، ويقول: “تميز حفل الافتتاح بعرض معبر عن سوريا وهذا من أهم إنجازات المهرجان لأنه يشير إلى الفن السوري المحلي، أما الأفلام المعروضة في الصالات فنوعيتها جيدة واختيرت بدقة شديدة، ونحن بحاجة لمشاهدة أفلام آسيوية ولاتينية وأوروبية جيدة، كنا محرومين منها، بمواجهة غزو الأفلام الأمريكية”.

ويقول الفنان طارق مرعشلي: “يشكّل المهرجان ظاهرة فكرية وثقافية مهمة، ولكن السينما السورية تحتاج إلى إنتاج غزير لتظهر الفنانين المؤهلين للنجاح، ولا يكفي أن تنتج مؤسسة السينما فيلماً، أو فيلمين في السنة، وعليها توسيع عملية الإنتاج ما دامت تقيم مهرجاناً ناجحاً باستمرار”.

وتؤكد الفنانة نبيلة عبيد أن مستوى المهرجان في هذه الدورة متميز جداً عن الدورات السابقة بالتنظيم الدقيق لفعالياته، والأفلام المعروضة، وتقول: “أنا أحضر المهرجان، ووجدت ان حفل الافتتاح كان مبتكراً، ولم يكن ينقصه سوى وجود المخرج الراحل مصطفى العقاد”.

وتقول الفنانة لبلبة إنها لم تأت إلى دمشق منذ سنوات عدة، ووجدت الدعوة لحضور المهرجان مناسبة لها لتستعيد ذكريات قديمة، وتطمئن على أصدقاء كثيرين، وتضيف: “شاهدت بعض الأصدقاء في حفل الافتتاح، وأشاهد الكثيرين في الفندق، وأمضي وقتي بين مشاهدة الأفلام وجلسات النقاش. وأحب أن أشير إلى الوفاء الكبير الذي ظهر في حفل الافتتاح تجاه المخرج الراحل مصطفى العقاد، خاصة ما ظهر من كلمة منى واصف الحزينة والجادة أيضاً. كما أن فقرات الحفل نفذت بأسلوب متميز وراقٍ جداً”.

ويرى السيناريست المصري مصطفى محرم أن هذه التظاهرة تحقق السعادة للسينمائيين لأنها تجمعهم في أجواء فنية، ويضيف: “أحضر كل دورات مهرجان دمشق السينمائي، وهذه الدورة متميزة بأفلامها الممثلة لكل سينمات كل العالم تقريباً، مما يحقق الفائدة”.

وشكلت كلمة منى واصف عن الراحل مصطفى العقاد في حفل الافتتاح، محوراً للنقاش بين الفنانين والنقاد، وعن مضمون الكلمة يقول الناقد والسيناريست د. رفيق الصبان: “معنى الكلمة كان مؤثراً أكثر من كلماتها التي ارتفعت بحدة في أرجاء القاعة، الكلمة شديدة الإنسانية والعمق حين تأتي من ممثلة أخلصت لمخرج تعلمت منه أثناء تمثيلها في فيلم “الرسالة”، وستظل كلمتها في ذاكرة الناس، وسيبقى صدى الزغاريد التي أطلقتها على المسرح فترة طويلة”.

ويقول ماهر صليبي الذي أخرج عرض افتتاح المهرجان إنه تمهّل كثيراً لإيصال معاني نص الكاتبة ريم حنا بوساطة الكلمة والحركة التمثيلية والاستعراض الراقص، ويضيف: “بالنسبة لتخليد ذكرى الراحل مصطفى العقاد فوجئنا بالحدث وأسرعنا لإنجاز ما يمكن إنجازه في وقت قصير، وبذلت مع الجهاز المخصص للإشراف على عرض حفل الافتتاح جهداً صادقاً لتقديم شخصية الراحل بشكل متكامل، سواء من خلال إضاءة صورته فوق المسرح طيلة فترة الافتتاح، أو بتقديم مشاهد من إبداعاته السينمائية”.

وتقول منى واصف: “لم أجهّز لما سأقوله، وكنت عفوية وأنا أصرخ “الله معك”، وقبلها كتمت دموعي وأنا أتحدث عن فيلم “الرسالة” وأهميته الريادية، وحينما حييت الشهيد العقاد أطلقت الزغاريد، ولكن لم أتمكن من حجب الدموع، فأبكيت الكثيرين في الصالة، وهذا لم أكن أقصده بالطبع”.

الخليج الإماراتية في

25.11.2005

 
 

سينمائيون عرب يستذكرون فـي مهرجان دمشق السينمائي تجربة المخرج الراحل العقاد

دمشق- ناجح حسن

استنكر نقاد وكتاب وسينمائيون عرب حضروا للمشاركة في فعاليات الدورة الرابعة عشرة لمهرجان دمشق السينمائي الدولي، الاعتداءات الارهابية التي ضربت عمان واودت بحياة المخرج السينمائي العالمي السوري الاصل مصطفى العقاد الذي كرمه المهرجان في ندوة خاصة تحدث فيها ضيوف المهرجان من الباحثين والنقاد وادارها الناقد الدكتور عبدالله ابو هيف.

وفي هذا الصدد قال الناقد والباحث السينمائي المصري سمير فريد ان تيار الارهاب في الوطن العربي لم يستهدف قط العقاد وحده فقد ادى الى ارهاب وقتل الكثير من المبدعين العرب مثل الروائي المصري نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل وهي ممارسات تتسم بالعنف وتستهدف كل العاملين في مجال الثقافة والادب والسينما على وجه الخصوص وجراء ذلك فقدنا اسماء لامعة لرموز وقامات ابداعية.

واضاف فريد ان سينما العقاد برزت كحالة خاصة في السينما العربية ولئن كانت عالمية الطابع، حيث لم يسبق لفيلم عربي ان قدم مثل هذه المجاميع والانتاج الضخم المبهر على طريقة الفيلم الهوليوودي وهي سينما شكلت لكثير من النقاد الحيرة والتوقف عندها مليا نظرا لرغبتهم في وجود سينما عربية فقيرة الانتاج وتحاكي باسلوبية بعيدة عن النموذج الهوليوودي وهو النموذج الذي طالما تصدى له النقاد العرب، ووقفوا ضده، لكن رغبة العقاد وتصميمه كان بدافع الانتقال الى جمهور عالمي، واراد بفيلميه ان يسير على خطى السينما العالمية مما فتح آفاقا رحبة للقضايا العربية الى جمهور سينمائي طالما كان مغيبا عن القضايا العربية وتحولاتها.

وركز الناقد السينمائي كمال رمزي حديثه حول بعض الاشارات والعلامات التي برع الراحل العقاد في توظيفها بافلامه سواء بقدرته على اختيار ابطاله مثل الممثل انطوني كوين، واسلوبيته المدهشة في تقمص شخصية مثل عمر المختار بعد تردد، واوضح رمزي ان مشاهد الوضوء والكلام مع الاطفال ومشهد النهاية بالفيلم عدت من الاهمية والفرادة في اداء السينما العالمية وخصوصا عندما يتبادل كوين النظرات مع الطفل وشبح ابتسامة كانت اقوى من الكلام.

بدوره علق الاعلامي السوري غسان كلاس حول اشكاليات القضايا التي اثارتها سينما العقاد، وانه كفاءة في تاريخ السينما العربية وانه عمل لوحده مثابرا على طرح المحطات والمسائل التي تشكل الهوية لامته العربية والتزم بهذا المنهج منذ مغادرته بلدته الاصلية في حلب الى ان قضى شهيدا، واضاف كلاس «ان العقاد امضى نصف قرن من الزمان» مدافعا نشطا عن قضايا امته سواء بالافلام التي حققها بفيلميه الروائيين او فيلمه التسجيلي الطويل عن حياة الرئيس الراحل عبدالناصر وعمل بكل جهد ونفس طويل على ابلاغ رسالته الى العالم اجمع.

وتوقفت الناقدة ا لمصرية ايريس نظمي في محطات من حياة العقاد، وتلك الصداقة التي ارتبط بها مع الكثير من الاسماء الثقافية في انحاء الوطن العربي ودعت في ختام كلمتها الى ضرورة تكريمه باكثر من مستوى على الصعيدين العربي والاسلامي، واعادة قراءة افلامه في مثل هذه الاحوال التي تمر بها الامتان العربية والاسلامية.

من ناحيته رأى الناقد عدنان مدانات ان سينما العقاد قد يكون من الصعب تكرارها في الوطن العربي لان السينما العربية فقيرة الامكانيات وليس المطلوب منها ان تكون نسخة اخرى من عملي العقاد وانما تستطيع بميزانيات بسيطة ان تعطي نتائج ايجابية وتصل الى العالمية كما هو لدى سينمات عالمية فقيرة امكن لها بفضل براعة مخرجيها من الوصول الى فضاءات السينما العالمية بكل يسر وسهولة ولم تنهج الانتاج الابهاري الضخم حسب المفاهيم الهوليوودية، واضاف مدانات «ان الراحل العقاد حاول ان يصنع سينما ضمن محيط معاد تماما وفي ذهنه قدرة الفيلم الهوليوودي على الانتشار السريع في ارجاء المعمورة لكن مثل هذه التجربة التي افرزت عملين طوال ما يزيد عن ثلاثة عقود بدرت وكأنها اشبه بغرس سمكة في بحر من الرمال ولن يقدر لها ان تعطي المزيد».

كما وأكد الناقد طارق الشناوي بان اسم مصطفى العقاد سيبقى خالدا في ذاكرة السينما شاهدا وشهيدا ولم يستطيع ان يعبر عن سائر احلامه المفتوحة في التواصل مع قضايا امته باكثر من مشروع فيلم مثلما تحدث في اكثر من مناسبة عن مشاريعه المؤجلة نظرا لعجز امته ان تمد له العون في تمويل افلام مثل حلمه بتحقيق فيلم عن الحضور العربي بالاندلس وعمل اخر عن صلاح الدين الايوبي.

واستذكر الناقد هشام لاشين من مصر احباطات العقاد عقب انجازه رائعته «الرسالة» كيف اصطدم مع مؤسسات بيروقراطية حالت من وصول هذه التحفة السينمائية المشعة الى جمهورها الحقيقي في اكثر من بلد عربي.

وقارن الاديب والاكاديمي السوري د.نذير العظمة بين سيمياء الصورة في فيلمي العقاد وكيمياء الاحداث المكونة لها، وانه كان لديه مفهوم خاص واع لقضايا الانتاج والاحتكار السائدة في السينما العالمية، واراد برؤيته الخاصة بفيلميه ان يكسر مثل هذا الطوق كمشروع حضاري يحاكي مثيله من افلام العالم وما تطرحه من ابعاد وعناصر انسانية وحضارية، وفي هذا الاطار كان العقاد يشدد على موضوع خطاب الصورة وان لا يطغى الموضوع على رؤيته الفنية والجمالية المدهشة لادراكه واحساسه بانه يعمل ضمن محيط مشبع بمثل هذه الاساليب وكان ان نجح في اختراقه عبر خصوصية خطابه بالارتكاز على الصورة المنسجمة مع جذوره وثقافته وحضارته.

وعلى هذا المنوال جاءت مداخلة المخرج العراقي قيس الزبيدي التي اوضح فيها رسالة العقاد الحضارية التي نجح بايصالها الى الاخر، وساهم من خلالها في عرض تاريخه الغريب بين الماضي والحاضر دون ان ينتظر ان تبلغ السينما العربية قدرتها على اختراق حاجز التوزيع المحدود، وضرب الزبيدي مثالا عندما رأى ان بلدا مثل المانيا لم يسبق ان عرض فيها اي فيلم عربي طوال تاريخها السينمائي باستثناء فيلمي العقاد «الرسالة» و«عمر المختار» مما يؤكد على نهجه السليم في الوصول الى الاخر حسب الاسلوب العالمي الذي اختاره كشكل لابداعاته.

وتناول د.مدكور ثابت الصعوبات التي رافقت عرض فيلم «الرسالة» في مصر كونه كان شاهدا على ابرز محطاتها من خلال موافقة الازهر الشريف على سيناريو العمل ورفضه بالتصريح بعرض الفيلم داخل السوق المصرية او من خلال شاشة التلفزيون المصري ولئن كان الازهر ظل محايدا بهذا الصدد حيث انه كمسؤول عن الرقابة السينمائية في مصر سابقا تابع مثل هذه الموافقة وكانت الاجابة تأتي دائما مبهمة بين الرفض والقبول حتى هذه اللحظة، وسرد ثابت مشاريع كان يعد لها العقاد في مصر من بينها عمل عن حياة المناضل المطران ايلاريون كبوتشي ولكنه توقف نظرا لضآلة الميزانية.

الرأي الأردنية في

28.11.2005

 
 

حوارات مع العقاد

د.كمال خلف الطويل *

جمعنا أول لقاء في نيسان (أبريل) 1993 عندما حضر إلي واشنطن مشاركاً في أعمال مؤتمر الـ ADC ولتسلم جائزته التقديرية لذلك العام منها. منذ الدقائق الأولي في بهو الفندق سرت الكيمياء في أوصال اللقاء وتمددت ثم تواصلت عبر دزينة من السنين لتزهر علاقة كان فيها من المكاشفة والتنوع والدفء والدعابة والجد... الكثير الكثير. التقينا في أماكن شتي. دمشق، لاس فيغاس وواشنطن وكليفلاند ولوس أنجلوس وبيروت.. وفي كل مرة كانت الأحاديث تبدأ ولا تنتهي ويدور الحوار حاراً وحميماً.

مـن أيـن أبــدأ؟ هل من رأيه في مخرجين عرب سينمائيين وتلفزيونيين من أول يوسف شاهين وصولاً إلي حاتم علي؟ أم من آرائه في مهرجان القاهرة السينمائي الذي حرص علي حضوره كل عام ووافاني بعد عودته بتعليقات حول ما دار وما حدث؟ أم عن دفاعه عن إنتاج أفلام الهلاوين ومن منطق اقتصادي يستطيع المرء تفهمه؟ أم من آرائه حول طيف واسع من الممثلين العرب السابقين منهم والتابعين بإحسان؟ أم من متابعته للدراما السورية عبر العقد الفائت وإعجابه بأعمال لها ملفتة أمثال خان الحرير وربيع قرطبة؟

كانت تلفته متابعتي للحركة الفنية العربية المعاصرة وتوفر بالتالي أرضية خصبة لسؤال وجواب ورأي وتعليق. حتي عندما كنت أنبهه لهجوم أحد عليه كان ـ فعلاً وبالمطلق ـ يبدي درجة من الترفع والتسامح ملفتة. والطريف أنني حرضته مرة علي أحدهم ممن تناوله لا بالنقد وإنما بالتطاول فقلت له افعلها بالله عليك لـكَ ولي.. فضحك وقال: بكرة بتكبر لعمري وبتصير تطنش أكثر.. شيلك منه .

ولعل ما يسر اندماج الكيمياء في عروق علاقتنا هو انتماؤنا معا فكراً ووجداناً إلي المناخ القومي العربي. فهو جاهر دائماً وأينما كان بعشقه اللامحدود لجمال عبد الناصر وآمن دائماً وبلا توقف بصيرورة عربية جامعة، لا بترف الطموح بل بضرورة المصير واستخف دائما ـ بل وخاصم ـ كل التنظيمات القطرية في المغترب الأمريكي متمسكاً براية عربية فوق قطرية تعلو ولا يعلي عليها.

أعجبتني صراحته القاطعة، إذ جمعتنا ذات مرة.. جلسة في دمشق ضمت أحد مسؤوليها، وإذا بالعقاد ينهال بالنقد علي التشكيلات القطرية في الاغتراب مما حداني إلي الانضمام إليه مؤيداً ومثنياً وسط دهشة المسؤول وإعجابه في آن معاً. كنت أختلف معه بمحبة في مسألة قناعته بسيطرة اليهود علي الولايات المتحدة فيشتعل النقاش علواً وانخفاضاً إلي أن يشعل غليونه قائلاً خيّو لكم دينكم ولي ديني .

أكبرت فيه إخراجه لبرنامج تلفزيوني لصالح القناة الثانية BBC عام 1986 حول عبد الناصر كان السائل فيه هو باتريك سيل والمجيب هو محمد حسنين هيكل. ولحظت أنه ليس مخرج Fiction فقط بل مخرج وثائقي بامتياز، ذلك أن المادة الأرشيفية التي استعملها مضافاً إلي لقطات تصوير الحوار تنبئ عن يد تتقن الحرفة.

كان كريما بأن أهداني نسخة من الفيلم الذي عسر عليّ اقتناؤه لقدم تاريخه النسبي. ولعل ارتياح العقاد للحوار مع العبد الفقير لله يسرّ تناوله لحكايا ومواقف وطرائف وحواديث تعلقت بكبار القوم من ساسة وحكام ورجال أعمال وضباط وإداريين في مشرق الوطن العربي ومغربه.. بعضها أعجز عن ذكره وبعضه لا يليق لكن بعضاً آخر منه كان شيقاً وكاشفاً.

والثابت أنه كان معجباً بشخصيات عربية وسمت بنزعة التحدي ذلك أن فيه من هذه الخصلة الكثير... ومن هنا التماهي. لكن الأكيد أن الصراحة لم تكن عقبة أمام كياسة التعامل ولياقته مع قوس قزح من المسؤولين العرب وفق قاعدة: لا إفراط ولا تفريط . دائما احترام النفس مع التواضع، مع الصلابة، مع المرح كانوا أكسير التعامل مع الكبير والصغير وسر تعلق من تعامل معه به.

لقد خص العقاد الجمعية الطبية العربية الأمريكية بحدب من نوع أثير. ولهذا سببان: الأول هو انجذابه لفئة الأطباء والثاني أنها جمعية عربية وليست اقليمية أو قطرية. بادلت الجمعية العقاد وداً بودٍ كان من تجلياته إهداؤه كأس رجل العام 98 في كليفلاند ثم العديد من الكلمات التي ألقاها في مؤتمرات الفروع هنا وهناك وآخرها وأبهاها وسام التقدير الذي تلقاه في آخر مؤتمر وطني للجمعية في مدينة لوس أنجلوس مطلع أيلول (سبتمبر) الفائت. كان ذلك لقاء الوداع دون أن يخطر ذلك علي بال أي منا. أصل الآن إلي مسألة أفلام العقاد: من الاسفاف الحديث بأكثر عن فيلمه الرسالة و عمر المختار ، فالمقالات التي دبِّجت حولهما لا تسعها غرفة. لكن الجدير باللحظ أن العقاد عاش معضلة إنتاج صلاح الدين لأكثر من دزينة من السنين. ذات مرة في كانون الاول (ديسمبر) 1998 وعلي ضفاف الاحتفاء به رجلا لذلك العام في مهرجان أنا العربي بواشنطن جلسنا علي العشاء نتحدث لساعات ثلاث حول السيناريو وشكل الحوادث التاريخية المقصود التركيز عليها وبعض المسكوت عنه من تاريخ الرجل مثل صلح الرملة.

ثم قدمت له بعد فترة وجيزة مرجعاً تاريخيا من تأليف المؤرخ السوري سهيل زكار حول الحروب الصليبية اعتبره من أهم ما كتب حولها عله يسلط أضواء كاشفة علي محطات الحديث.

بعد أن كاد ييأس من إيجاد تمويل عربي يفي بمتطلبات مشروع ضخم كصلاح الدين راح يفكر ببدائل منها الأندلس الضائع ومنها شامل الشيشاني ببساطة الهاوي سألته منذ عام: لِمَ لا تمضي بموضوع صلاح الدين مع توفير كبير في النفقات فيصبح إيجاد الممول أيسر؟ وضربت له مثل مسلسل صلاح الدين لحاتم علي (مع فارق القياس) فقال: السينما لها أحكام وخصوصاً السينما الهوليودية وأنا لا أستطيع أن أهبط من هوليود إلي مستوي أوروبي دعك عمل أقل منه .

ثم لما عرض فيلم مملكة السماء لريدلي سكوت سألته: ها قد تجاوزوك فماذا أنت فاعل ؟ فأجاب: علي العكس.. فيلم كهذا يمهد السبيل لفيلمي فقلت: آمين .

أكثر ما كان يثلج صدري ويبعث السرور في نفسي هو عندما تدهمني مكالمته التلفونية في المكتب في حدود الثانية بعد الظهر ليسأل بصوت عميق وبلا حاضر ولا دستور: ولك انو انت شو دكتور وللا أنا غلطان ؟ ويكون السبب ورقة كتبتها ووصلته أو تعليقاً حول أمور لا علاقة لها بالطب بل ربما بالسياسة أو الدين أو الفن أو التاريخ فعجب لها وطرب ورفع السماعة ليناقش علي طريقته المحببة والودودة.

والشاهد أن العقاد كان يعيش افتراقاً جازماً بين إيمانه بحضارة الإسلام ودفاعه المستميت عنها وبين نفوره من كثير من مشايخه. كان يتفنن في قصقصة العجائب من المنشور في صحائف الخليج وتوزيعها بالفاكس علي القريبين منه لافتا إلي التدهور الذي حاق بنا بسبب ضيق أفق هذا النفر من الدعاة والمريدين. وربما ما ضاعف من تألمه منهم هو حظرهم غير المبرر لفيلم الرسالة. والحاصل أن تحمسه لصلاح الدين هو بالأخص لإبراز سماحة الإسلام وحضارته وإنسانيته ذائداً عنه بالصورة والصوت وهما السلاح الذي يعدل أسلحة النار بل يفيض.

لقد زاد من دفء العلاقة مع مصطفي العقاد صداقتي مع أخيه المبجل زهير فكنت إن افتقدت أحدهم أجد عوضي في الآخر.

في عمر أية علاقة لحظات لا تُنسي. أكثرها حميمة كانت سهرة رمضانية نهاية عام 1998 في منزله الجميل في بيفرلي هيلز طالت لساعات ست حفلت بالطيب والدافئ من مواضيع طافت فوق أديم عريض من الفن السابع إلي الدنيا والدين وتألق فيها العقاد شارحاً ومحاوراً خصوصا عندما حضر الاستفزاز المحب ليوفر جرعة كافية من التحريض. فتح في تلك الأمسية ملفاته وجال في عرض طموحاته وصال وتجلي عربيا سوريا، حلبيا مسلم الحضارة وبامتياز.

في العقاد وجدت صديقا نادر المثال.. محباً في المحبة ولذاتها... ومحاورا لا يفسد للود قضية.

مـاذا أقـول أكثـر؟ لقد كانت لنا أيام في صحبة العقاد.. المتحرك دائماً والمتألق علي الدوام والأمين علي تراث أمته والحادب علي قضاياها فبادلته حباً بحب.

رحم الله العقاد وأسكنه فسيح جنانه. 

* طبيب وناشط من سورية يقيم في امريكا

القدس العربي في

29.11.2005

 
 

الندوة الرئيسية لمهرجان دمشق احتفت بتجربته

العقاد مشروع فكري إبداعي خسره العرب  

دمشق - “الخليج”: في الندوة الرئيسية لمهرجان دمشق السينمائي الدولي كانت شخصية المخرج الراحل مصطفى العقاد محوراً أساسياً للحوار حول تجربته الإبداعية بالتركيز على فيلمي “الرسالة” و”عمر المختار”. ودائماً تطرح ندوة المهرجان المركزية قضية سينمائية عامة وتناقشها وتصدر توصيات محددة حولها، لكن إدارة المهرجان غيّرت هذا التوجّه واعتبرت الندوة في هذا العام تكريماً لأهم الملامح الفنية والفكرية في تجربة العقاد السينمائية المتميزة، وحول هذه المحاور دارت مداخلات وآراء مجموعة كبيرة من المفكرين والنقاد والسينمائيين المتخصصين الذين طالبوا بعرض “الرسالة” في جميع البلاد العربية.

بعد أن قدّم السينمائي إحسان حريب تعريفاً بالندوة ومحورها والمشاركين بها، تسلّم الناقد د.عبد الله أبو هيف إدارة الندوة وافتتحها بالحديث عن إبداعات العقاد، وعلاقتها بالذات العربية الإسلامية، وبالتاريخ العربي الإسلامي، وإشكاليات التواصل الحضاري القائمة على المواقف من العرب والإسلام. وتطرق إلى معاناة العقاد في فيلم “الرسالة” الذي كان يحمل اسم “محمد رسول الله” وانتظاره ست سنوات للحصول على موافقات التصوير، وبعد معارضة عرضه في العديد من الدول العربية، وتكرار هذه المعاناة في مشاريعه الأخرى “صلاح الدين” و”الأندلس”. وأكد أبو هيف أن تغيير اسم الفيلم واعتماد “الرسالة” عنواناً له كان دليلاً على أن العقاد يملك مشروعاً فكرياً، كما أن مشروعه عن الأندلس كان يهدف إلى إبراز التعايش بين الأديان خلال الحقبة العربية وفي فترة ازدهار الحضارة الأندلسية.

أكد الناقد المصري سمير فريد إدانة العقاد للعنف وللتيار الذي يتبناه مهما كانت تسميته، وأينما كان موقعه، وان هذا التيار هو الذي حاول اغتيال رموز الأدب والفن في مصر، وهو الذي تسبب بمقتل العقاد لأنه أحد الرموز في الوطن العربي والعالم. وأكد أن على المبدعين العرب إدانة هذا التيار لأنه شوّه صورتنا وجعلنا بنظر الغرب أعداء الحضارة والثقافة والفن، ونحن عكس ذلك. وتطرق إلى تجربة العقاد في إنتاج “الرسالة” مستفيداً من تجربة السينما الأمريكية في إنتاج الأفلام التاريخية، لأنه كان يرى فيها وسيلة لإيصال الأفكار، وأشار إلى القيم الفكرية والسياسية التي سعى لإيصالها من خلال هذا الفيلم.

وتحدث الناقد المصري كمال رمزي، وكشف كيف استطاع العقاد أن يصنع من أنطوني كوين في فيلم “عمر المختار” شخصية مشابهة للشخصية الحقيقية للبطل الليبي، وكيف لمس النور الذي يشع منها، واستطاع أن يجعل أنطوني كوين يمتلك الشعور نفسه. ونوّه رمزي بالمشهد الأخير في “عمر المختار”، واعتبره من أهم وأقوى المشاهد في السينما العربية والأجنبية، إذ تجلت فيه القيم الفنية الرفيعة التي امتاز بها العقاد.

وحدد الباحث غسان كلاس معالم المشروع الإبداعي الذي حمله العقاد منذ خروجه من حلب، وكيف التزم به على مدى خمسين عاماً، وأظهرت إبداعاته سماته وملامحه، فقدمت أفلامه رسالة فكرية تعبّر عن صورة العرب والمسلمين، فاستطاع من خلال “الرسالة” و”عمر المختار”، إيصال صورتنا الحقيقية للعالم. وأشار الى اعتزاز العقاد بهويته العربية ووطنيته وقوميته، واعتماده على النوع وليس الكم، وأشار إلى أن أفلامه تشكّل مرجعية للنقاد والسينمائيين العرب لأنها تجسّد التاريخ العربي الإسلامي بوجهه الحضاري الإنساني.

وتطرقت الناقدة المصرية إيريس نظمي إلى ذكرياتها مع العقاد، وفجيعتها لحظة وصول نبأ رحيله، والطريقة التي أدت إلى هذه الفجيعة. واستعرضت مواقف تظهر كيف كان العقاد يعتز بهويته وثقافته العربية وهو في الولايات المتحدة الأمريكية. وقالت ان العقاد كان يحب الفرح، والبهجة، والزغاريد، وقارنت الزغاريد التي ودع بها “عمر المختار” لحظة شنقه، بزغاريد الفنانة منى واصف في حفل افتتاح المهرجان.

الناقد عدنان مدانات اتجه نحو وضع الندوة في رؤية نقدية علمية، مشيراً إلى أن العقاد حاول أن يصنع أفلاماً في محيط معاد، والفيلم التاريخي ليس الوسيلة الوحيدة لطرح قضايانا، واستشهد بالسينما الإيرانية التي حققت نجاحاً عالمياً، وطرحت قضايا إيران في العالم، ولم تكن ذات سمة تاريخية. وأكد أن طرح قضايانا يتطلب الوصول إلى صناعة سينمائية ذات هوية عربية.

وختم المداخلات الناقد المصري طارق الشناوي، مؤكداً أن العقاد كان شخصية تدخل البهجة على جميع المهرجانات من خلال مشاركته فيها، وأنه كان شاهداً على حياتنا الاجتماعية والثقافية، وعلى انهيار الحلم، وأنه علّمنا أن نحاول تحقيق الأحلام، فترك رسالة للمبدعين طالباً ألا يتوقفوا عن العمل ومحاولة الإبداع.

وحدد الدكتور نذير العظمة علاقة العقاد بالصورة السينمائية، ومفهومه المتميز لها، وبما تحمله من إشارات ودلالات، وعن علاقته بالوسط الإنتاجي في أمريكا وكسره للاحتكارات الصهيونية، وتمكنه من إيضاح الصورة الحقيقية للإسلام الحضاري وزيف النظرة الاستشراقية السلبية عنه. وأشار إلى أن أفلامه استطاعت أن تكوّن رأياً عاماً مؤيداً لقضايانا بعد عرضها في بعض الجامعات والقنوات التلفزيونية في أمريكا، لأنها لا تحمل قصصاً تاريخية فقط بل لها مضامين معاصرة.

ثم تحدث د. حميد صابر، والمخرج قيس الزبيدي، والناقد المصري الدكتور مدكور ثابت والإعلامي ماهر منصور، منوهين بموقف العقاد من الإرهاب، ورسالته في صناعة السينما، ورسالته إلى السينمائيين العرب.

ونوّه الدكتور مدكور ثابت بما أشار إليه المخرج الزبيدي والناقد مدانات بأن صورتنا يمكن أن تصل للعالم من خلال أفلام معاصرة ترصد واقعنا ومجتمعنا، وأننا جزء من العالم وحضارته وليس من خلال أفلام تاريخية. كما أشاد بالمصطلح الذي استخدمه الباحث غسان كلاس ووصف فيه مشروع العقاد بأنه مشروع فكري إبداعي، وطالب في نهاية كلامه بأن تخرج الندوة بإدانة للجريمة البشعة التي أدت إلى مقتل العقاد، وبمطالبة ملحّة بإلغاء منع عرض “الرسالة” والسماح بعرضه في جميع الدول العربية.

الخليج الإماراتية في

29.11.2005

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2016)