كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

الفيلم الروائي الأول لصاحب (الجنة الآن)

(عرس رنا) البحث عن الأعراس في غابة الحواجز العسكرية

رؤى - إبراهيم نصرالله:

عن فيلم

الجنة الآن

   
 
 
 
 

استطاعت السينما الفلسطينية الحديثة، رغم عمرها القصير نسبيا، أن تحقق عددا من المنجزات الفنية الكبيرة، لعل أولها تمثل في ذلك النجاح اللافت الذي حققه ذات يوم فيلم (عرس الجليل) واستطاع عبره ميشيل حليفي أن يدق بوابات المهرجانات الدولية الكبرى وينال عددا من الجوائز المهمة في مهرجان (كان) وسواه، وجاء بعد ذلك فيلمه (حكاية الجواهر الثلاث) ليحقق انتصارات أخرى دون أن يتفوق على (عرس الجليل).

بعد خليفي تحركت رياح السينما الفلسطينية بشكل ملفت، من خلال ما قدمه المخرج رشيد مشهراوي من أفلام ولا سيما فيلمه الأبرز (حيفا) والمخرج إيليا سليمان الذي قدم فيلما ذاع صيته وهو (يد إلهية) محققا انتصارات عالمية لافتة بعد فيلمه (سجل اختفاء).

عَمِلَ المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد في البداية مع مشهراوي وحقق عددا من الأفلام القصيرة قبل الوصول إلى فيلمه الروائي الأول الطويل (عرس رنا ـ القدس في يوم آخر) عبر سينما صافية وقادرة على التأثير بشكل لافت، قبل أن يحقق فيلمه الأهم (الجنة الآن) الذي استطاع من خلاله أن يحرز أهم انتصارات السينما العربية في تاريخها بفوزه بعدد كبير من الجوائز ووصوله إلى القائمة النهائية للأفلام الخمسة الأجنبية المرشحة لأوسكار٦٠٠٢.

كنا تناولنا فيلم (الجنة الآن) في (رؤى) وقد رأينا من الضروري إلقاء الضوء على فيلمه الروائي الطويل الأول، الذي صوره قبل ثلاثة أعوام تقريبا، لكنه لم يحظ بتوزيع كاف في العالم العربي على المستوى العام، وأظنه سيأخذ فرصته هذا العام بصورة أفضل وأوسع بعد أن وصل (الجنة الآن) إلى ما وصل إليه.

من المسائل التي لا بد أن نشير إليها، أن السينما الفلسطينية في التسعينات ومطالع الألفية الجديدة، اعتمدت بشكل كبير على الإنتاج الأوروبي، وقد تركت الجهات المنتجة آثارها التي لا تَخفى على الأفلام الفلسطينية التي صُورتْ حتى الآن، ما أوقع معظم هذه الأفلام في دوائر ملتبسة قابلة لأكثر من تأويل، لا بالمعنى الإيجابي للتأويل بل بالمعنى السلبي، إذ ثمة تأتأة بادية في معالجة القضايا الحساسة فلسطينياً، بحيث لا يعرف المتفرج ما يريده المخرج تماما. بل لا يعرف ما سبب المشكلة أصلا لأن هذه الأفلام لا تميز بدقة بين وجود الاحتلال كمعضلة كبرى وتلك (التقليدية) في طبيعة تفكير الناس. ولعل الأفلام الوثائقية قد خوّضتْ في بحر طين الإنتاج الأوروبي كثيرا، بعد أن أدرك المخرجون أن السبيل للحصول على هذا التمويل قائم في سيناريوهات مراوغة، تتحلى بنظرة (موضوعية)!! غير (منحازة)!! بوضوح مسبقٍ إلى طرف بعينه في هذا (الصراع)!! وبطبيعة الحال فإن السينما العربية التي تسلك الطريق نفسها غارقة إلى أذنيها في هذا الأمر. وقد أسر لي أحد المخرجين أنه يذهب إلى الجهات الممولة وفي يده مجموعة من السيناريوهات التي قد يُعْجِبُ أحدها هذه الجهات فتحتضنه.

فيلم (عرس رنا) واحد من الأفلام التي أفلتت من هذا الشرك، ولعل تحرره الإنتاجي، نسبيا، ساهم في إطلاق أجنحة حريته.

يقول الشاعر أحمد دحبور حول هذا الفيلم: (أخيراً، وبعد ثمان وثلاثين سنة من نشوء منظمة التحرير الفلسطينية، أنتجت المؤسسة الفلسطينية الرسمية فيلمها السينمائي الروائي الطويل الأول. ومن حق غير المتابع أن يؤخذ بالدهشة. فللفلسطينيين جلبة سينمائية لا توحي بهذه المعلومة. ولكن دعونا نميز بين ما قدّمه منتجون ومخرجون وفنيون فلسطينيون من أفلام سينمائية، وبين ما قدمته المؤسسة الرسمية. وقد كنت أظن شخصياً أن فيلمنا الروائي الأول، هو (الفلسطيني الثائر) الذي كتب قصته ومثل دوره الأول غسان مطر عام ٩٦٩١، إلا أن كتاب (دليل الأفلام في القرن العشرين في مصر والعالم العربي) للكاتب الصديق محمود قاسم، قد صحح لي وأوضح أن الفيلم المذكور لبناني الإنتاج. وقد يبرز عنوان فيلم (عائد على حيفا) ٤٧٩١ المأخوذ عن رواية الشهيد غسان كنفاني ـ وهو فيلم فلسطيني خالص مئة بالمائة ـ لكن الحديث يدور حول إنتاج القطاع العام الفلسطيني، وهذا الفيلم من إنتاج الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. أما فيلم (الناطور) وهو روائي ومن إنتاج القطاع العام الذي كانت تمثله دائرة الثقافة في (م.ت.ف) فهو قصير (٧٢دقيقة) وبذلك يخرج من دائرة الامتياز التي ينفرد بها حتى الآن فيلم (القدس في يوم آخر)، من إنتاج العام ٢٠٠٢ لوزارة الثقافة الفلسطينية ـ بدعم من دولة الإمارات وبعض المؤسسات الدولية الصديقة ـ ومدته تسعون دقيقة).

يقدم هاني أبو أسعد في (عرس رنا) المأخوذ عن قصة للكاتبة الفلسطينية ليانة بدر، وقد شاركتْ في كتابة السيناريو أيضا، حكاية بسيطة وحميمة في آن، لا أحداث كثيرة فيه ولا شخصيات كثيرة أيضا، فيلم متقشف إلى حد ما، لا يعطيه لمسة الغنى سوى مسرحه الذي هو مدينة القدس بشكل خاص، حيث الكاميرا تتجول طليقة متتبعة جماليات المدينة في ساعات الفجر وقد التقت ذهبية الضوء مع حجارة المدينة فجعلتها تشع كما لو أن المدينة كلها (قبة الصخرة) و(كنيسة القيامة). وبهذا فالفيلم، فيلم مخرج، بالدرجة الأولى لأن أحداثه، وحواراته القليلة (لحسن الحظ)!! لا تملأ أكثر من خمس صفحات على الأكثر.

يبدأ الفيلم بذلك القرار النهائي الذي يتخذه الأب قبل يوم من سفره لمصر للإقامة هناك: على (رنا) أن تختار عريسا من قائمة طويلة يسلمها إياها تضم أسماء محامين وأطباء ومهندسين وما إلى ذلك، تقدموا لخطبتها، وإلا فإن عليها السفر معه لإكمال دراستها في مصر.

والحقيقة التي يمكن تناسيها أو إغفالها هنا هي تلك السمة التي طبع بها السيناريو شخصيات هذه النخبة المتعلمة وجعلها تلتقي مع تقليدية الأب، إذ كلهم تقدموا لفتاة لا يعرفونها حقا، مجرد فتاة جميلة إلى حد معقول، في حين أن رنا (التي لم تكمل تعليمها) شخصية شجاعة تقتنع بخيارها الشخصي، عكس العرسان المرشحين الذين قرروا فرض خيارهم عليها بتقدمهم لخطبتها رغما عنها مستعينين بسلطة الأب التي منحتها حرية اختيار واحد من بينهم؛ وفي واحد من مشاهد الفيلم الجميلة يتضح لنا مدى تفتّح رنا الذي يؤكد اختلافها عنهم! حيث توقظ حبيبها وهي تهمس له (قوم بدنا نتجوز).

هذه المسألة التي قبلت بطرافة الموضوع المتمثل في (اللائحة) التي تشبه لائحة الطعام، واحدة من هنات الفيلم عبر توليفته التي تحدد موقفها الإيجابي من الفتاة مقابل جيش تقليدي من الرجال، ولعل ذلك يبدو واضحا حين يدفعها الفضول للذهاب لرؤية أحد المحامين المتقدمين إليها فنكتشف أنه محام ناجح، شاب ووسيم، بعد أن يضعنا الفيلم في تصور أن لائحة كهذه لن تضم إلا مجموعة من الأرامل وكبار السن وغير الجميلين!!

صبيحة يوم السفر تقرر رنا (كلارا خوري) الذهاب للبحث عن حبيبها خليل (خليفة الناطور) المسرحي الذي تتقطع به السبل نتيجة أوامر منع التجول ما يضطره للنوم فوق خشبة المسرح التي يعمل عليها.

رحلة رنا، هي الفيلم، الأسئلة التي تلقيها على هذا وذاك بحثا عن حبيبها الذي لا يرد على مكالماتها أو رسائلها المرسلة إليه عبر الهاتف النقال، رحلتها التي تتحول إلى رحلة للمشاهد في شوارع القدس ورام الله وعلى الحواجز والطرق الفرعية، التي من خلالها نكتشف ذلك الحضور المرعب الدامي للاحتلال، من هدم البيوت إلى منع الناس من العبور إلى إطلاق النار على المتظاهرين إلى كاميرات المراقبة.

لكن ذلك كله يتم عبر لغة سينمائية غير مباشرة باستثناءات قليلة تظهر حينا في صورة عابرة هنا أو هناك، أو في الحوار الذي بدا أضعف ما في الفيلم على الإطلاق، خلافا لتلك الحوارات الشاعرية الجارحة التي تظهر في (الجنة الآن). ولعل ما يزيد ثقل هذه الحوارات هو ضعف الأداء للممثل الرئيس الذي يمثل دور الحبيب، في حين يبدو الفيلم مرفوعا على كاهل بطلته ذات الحضور الجميل والمشرق وذلك الأداء المتميز للفنان وليد عبدالسلام الذي أدى دور المأذون باقتدار وهو يضيف إلى هذه الشخصية حسا شعبيا عميقا لمأذون بات عليه أن يرتيى البدلة وربطة العنق ويتجاوز قواعد المهنة في ظل واقع يفرضه الاحتلال لم تعد تحكمه القواعد.

في غير مناسبة يحاول الفيلم أن يربط بين تلك الساعية لتحقيق فرحها في اللحظة الأخيرة وبين فلسطين الآن وهنا في القدس ورام الله وعلى الحواجز، وتبدو معضلة رنا مفهومة: ففي الوقت الذي يتوقع منها مشيعو أحد الشهداء وهم يمطرونها بنظراتهم الالتحاق بالجنازة كبقية النساء والفتيات والشباب تسير رنا عكس الجنازة باتجاه فرحها، ولأنها تدرك ذلك فإنها تدخل سيارة صديق حبيبها، وقد ذهبا للبحث عن المأذون، وتبدأ فصلا من الصراخ المر. وفي موقع آخر تقول بعد أن تجد نفسها وجها لوجه مع الجنود الإسرائيليين ما معناه (إلى أين أذهب.. إلى أين نذهب) وفي موقع آخر تُعلق وهي تشاهد الجرافات من شباك بيت صديقتها تهدم بيتا فلسطينيا مجاورا (هم يهدمون بيتا في اليوم نفسه الذي أحاول أن أبني فيه بيتا).

ويتجاوز الأمر رنا إلى خليل نفسه أيضا، فحين يذهب للمكتب الإسرائيلي الذي يستطيع من خلاله الحصول على ورقة تثبت أنه أعزب، يطلب من أحد الشباب أن يسمح له بأن يأخذ مكانه في الصف الطويل (لأنه مضطر للزواج قبل الرابعة) فيلتفت الشاب إليه ويقول بحزن (يجب أن أستخرج شهادة وفاة لأخي الذي علينا أن ندفنه قبل الثالثة ظهرا).

لكن إحدى ذرى الفيلم العالية التي ربطت الخاص بالعام ماثلة في كاميرا المراقبة الإسرائيلية التي يجد العاشقان نفسيهما تحتها بلا حول ولا قوة وقد اصطدما بكل تلك الحواجز:

يتحدى خليل الكاميرا ويتعامل معها في حركات إيمائية كما لو أنها جندي يوجّه لخليل اللكمات دون رحمة، وفي النهاية يسخر منها بحركات كثيرة. حين يبتعدان تتحرك الكاميرا صوبهما، وتتبعهما، وكما لو أنها أصبحت كاميرا المخرج يستعرض لنا مدينة كاملة تحت سطوة هذه العدسة التي تراقب الناس، الأسواق، والأسوار، والأزقة، والبيوت، والأماكن الدينية وبخاصة قبة الصخرة لترينا وطنا بأكمله يرزح تحت ثقل هذه العين القاتلة التي تتبع كل حركاته.

في فيلم (عرس رنا) شيء من الفيلم الألماني (اركضي لولا اركضي)، حيث بطلته (لولا) لا تتوقف عن الركض في معظم مشاهد الفيلم، بهدف الوصول إلى حبيبها، في ظل عدد من الاحتمالات الذكية التي تشير إلى خطورة كل لحظة وما يمكن أن يحدث فيها من أشياء بسيطة قد تقلب الأمور كلها رأسا على عقب. لكن ركض رنا هنا مختلف لأنه في جزء منه فرصة استثنائية لنا كمشاهدين لكي نرى أكبر قدر ممكن من مدينة القدس التي لم تصور بهذه الطريقة في أي فيلم سينمائي فلسطيني من قبل.

في واقع محتشد بالموت كان لا بد من ضوء، لم يبخل علينا المخرج به، في نهاية الفيلم وهو يدفع بالعروس والعريس وأهلهما للذهاب إلى الحاجز حيث تم احتجاز هوية المأذون من قبل القوات الإسرائيلية، وعلى هذا الحاجز يوقد المخرج شمعة العرس أمام ورغم أنوف جنود الاحتلال.

(في القدس تواجه الحب كثير من الحواجز) تلك هي الجملة التي تتصدر ملصق الفيلم، وهكذا تمضي أحداث الفيلم بتوتر كبير، سواء بسبب حواجز الاحتلال أو حواجز التقاليد، لكننا في النهاية نكتشف أن كل هذا الشقاء الذي كابدته رنا الجريئة كان يمكن أن يُختزل كله في لحظات لو أن الاحتلال غير موجود.

ثمة أخطاء صغيرة كثيرة، كان يمكن تجاوزها ببساطة من قبل المخرج، وقد أشار إليها كثيرون ممن كتبوا عن الفيلم، ولذا يبدو وجودها في هذا المقال نوعا من التكرار، إلا أن الشيء الأكيد، أنه ورغم كل هذه الهنات فقد استطاع هاني أبو أسعد أن يقدم فيلما فلسطينيا عذبا وجميلا ومؤثرا وغير خاضع لأي شروط من خارجه تحتّم عليه أن يكون فيلما زائرا لفلسطين قادما من أوروبا، لا فيلما متجذرا فيها بأحداثه وشخصياته، وقبل كل شيء بالأحلام الإنسانية البسيطة لهذه الشخصيات في وطن لا يكف أبدا عن إصراره على أن (يربي الأمل).<BR< td>

الأيام البحرينية في

26.03.2006

 
 

لايقدم الإستشهادي كشخص مهووس دينياً ولا ملاكاً يمشي على الأرض

 »الجنــــة الان« فلـــم يحـــاكي العقــــل

رؤية فنية يكتبها طارق العامر: 

يتجاسر المخرج هانى أسعد في الفيلم الفلسطيني »الجنة الأن« والذي يلقي الضوء على جانب من الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين، على إحدى أعقد القضايا والتى تطفو على سطح الكرة الارضية وتشغل سكانها في كل محيطاتها ، الا وهي »العمليات الاستشهادية« كما نسميها نحن المسلمون »والانتحارية« كما تسميها اسرائيل ودول الغرب.

ويسلط الفيلم  على هذه العمليات أضواء جديدة » تصدِم « أصحاب القضية قبل أعدائِها لأنها تكشف، بجرأة وبلطف وحرفية، العُمق الإنساني المأساوي »للاستشهاديين«.

انه يلمس الوتر الحساس للقضية بدقة وموضوعية وهو يخاطب العقل ويعرض قضيته بوضوح يضمن انصات الجمهور الغربى الذى لايتحمس للصوت العالى والطنطنة السياسية.

إن قدرة هذا الفيلم على التعبير عن  المناخات وتصوير الشخصيات ومواكبة التحولات والغوص في الأعماق وشد المتفرج، تغنيه عن أي تشويش أو ثرثرة لأن الشريط اختار الإصغاء إلى براكين الألم الصامت.

وبعيدًا عن الاعلام والذي يبرز العمليات »الاستشهادية« ، يكشف الفيلم أن »الاستشهاديين« ليسوا أبطالا أسطوريين او ولاملاكا يمشى على الارض   كما يروج عنهم عربيا ولا مُتدينين مُتعصبين مهووسين دينيا  أو مُتطرفين مُتعطشين للدماء كما يصورهم الاعلام الاسرائيلي او الغرب،  فمن خلال عدة مشاهد مُؤثرة »مثل مشهدي تصوير الوصية وقدوم الحافلة...وغيرهما « يُدافع الشريط على فرضية وحيدة وبسيطة مفادها انه وراء كل استشهادي إنسان عادي ولكن لكل فعل رد فعل.

وبقدر ما تبدو هذه الفرضية بديهية بقدر ما يُدافع عنها الفيلم بحماس ليُحولها إلى »سلاح« مُربِك للوعي وللإحساس ومُهدم للمسلمات من خلال مواقف رهيبة وشخصيات مُزلزلة على غرار شخصية سعيد التي يتعاطف معها الجمهور رغم أنها أبعد ما تكون عن البُطولة فهي لا تُثير لا الإعجاب ولا الكره.

فالجمهور الغربي والذي شاهد الفيلم ،والذي أحب سعيد »بطل الفيلم« وتضامن معه لا يتعاطف  بالضرورة  مع القضية أو مع شكل النضال أو مع المُناضل بقدر ما يتعاطف مع الإنسان الذي بتفجير جسمه يُفجّر أسئلة خطيرة ومشاعر مُتناقضة وقضايا مُحيّرة وينتقم لجيل مسلُوب الأحلام.

فالفيلم لا يكتفي بتوجيه رسالة سياسية ضد الاحتلال ولا يقف عند حد تفهم  تحول الجسم إلى وسيلة دفاعية ضد الآلة العسكرية المُتعجرفة، وإنما يذهب إلى محاولة فهم بعض مفارقات الاحتلال والتي تدفع بعض الشبان ليسْلبوا أنفسَهم مَا يُبقيه الاحتلال فيهم من حياة.

ودون إدانة أو رفض يتفهم الشريط هذه العمليات ويُوضح أنها ليست »فعلا« ــ ركضًا نحو جنة ــ بقدر ما هي »رد فعل« وفرار من عبثية الحياة المفرُوضة على صديقين عاديين »سعيد وخالد« يقتلان الوقت بين إصلاح سيارات قديمة وتدخين النرجيلة على مشارف مدينة ميتة وحزينة.

لقد عرف خالد وسعيد ظروف عيش صعبة في المخيمات وطفولة قاتمة لم تكن آلامها تقتصر على الجوع والفقر والحرمان وإهانات الاحتلال بل تتعداه إلى إهانة من نوع خاص يبدو أنها لا تمحى بمرور الأيام بل تتضخم، فلقد دخل الجيش الإسرائيلي منزل والد خالد وخيره أي الرجلين يُريد أن يحتفظ بها فقبل الإهانة عوض الموت إما والد سعيد فقد كان عميلا وتمت تصفيته عندما كان هو في سن العاشرة.

فلا وسيلة إذن للصديقين لمحو العار الأبوي بغير العملية »الاستشهادية« التي قبل أن تكون عملية سياسية تبدو دينا عائليا بل علاجا نفسانيا وهو ما حرص هاني أسعد على اظهاره بالتعمق الى داخل نفس سعيد ليظهر ماهو ابشع من الاحتلال.

فرغم نيلِه لأقصى عِقاب ، فان هذا الأب يبدو بالنسبة إلى سعيد، أكثر حضورًا وأبشع من الاحتلال، فهو يُعطلُ إدراكه للزمن ويُطاردُ أحلامه ويمنعُ عنه حتى ابتسامة الوداع.

فخالد وسعيد مثلا لا يعيشان  الاحتلال إلا من خلال قراءة انفعالية ومُتطرفة للأب ولعل أفضل مثال على هذه القراءة أن والد خالد مُعاق لأنه تصدى بطريقته الخاصة للاحتلال ولكن ابنه ينظر إليه كما لو كان عميلا  لأنه لم يُدافع حتى الموت  ويعتبره مصدر عار ولا يرى في واقعيته ضحى برجله ولم يفر ما يجعله جدير بأي احترام، فالمفارقة أن هذا الأب هو الحي الوحيد في الشريط ولكنه الميت الوحيد بالنسبة إلى الأبناء.

لذا فضل خالد سطحي ان يعيش الاحتلال وعقدة الأب بنفس الشكل فيُزايد ويتحمس وينفعل ويخطب ويُسجل وصيّة طويلة ويحكم على والده بشكل قاسي  تمنى لو اختار الدفاع الانتحاري بدل الإهانة  ولكنه يفر ويُنهي الشريط وهو يبكي خجلا من نفسه، إما سعيد فنظرته إلى الأمور أكثر نسبية فهو يعيش مُمزقا بأبوين متناقضين  الأول أب طيب ولكنه غائب والثاني مواطن عميل ولكنه حاضر  وهو لا يجد أي حل لهذه المعادلة الصعبة والتي يزيدها جهل الشارع ومزايداته مأساوية فسعيد لن يخرج من صمته المُعتاد ليواجه  رجل الشارع  إلا ليعلن أنه إذا كان العميل يستحق ابشع عقاب، فانه لا شيء يمكن أن يُبرر مُعاقبة أفراد أسرته.

فحسب سعيد فان المسؤول الأول عما حدث من خيانة وتصفية للخائن  هو الاحتلال وهو من يجب أن يدفع الثمن وهذا الموقف لا يُدافع عنه سعيد نظريا بل لاشعوريا لأن هذا الموقف يُعبر عن مُعاناته الشخصية فهو يُشعر في قرارة نفسه انه عُوقِبَ مرتين وبذنْب لم يرتكبُه لذلك سيرفُض سعيد قتل من لا ذنب لهم سواء عند رفضه الصُعود في الحافلة الإسرائيلية المدنية أو من خلال تجنبه الشواطئ المزدحمة بالمدنيين فلقد اختار سعيد البدلات العسكرية ليمسحَ بها عار والده وينتقم ممن قتلوه وليتحرر نهائيا من تُهمة الخيانة ومن صورة الأب التي ظلت تلاحقُه وتنهش أحشائه لا عقله.

الأيام البحرينية في

28.03.2006

 
 

حوار الشمال والجنوب

'الجنة الان' في اول قافلة سينمائية عربية اوروبية

مهرجان القافلة السينمائية يضم 72 فيلما ويعرض فعالياته في القاهرة والاسكندرية وعمان وبيروت 

القاهرة - يبدا مهرجان القافلة السينمائية العربية الاوروبية "كارافان" فعاليته الاربعاء في القاهرة لينتقل منها الى الاسكندرية ثم الى عمان وبيروت حيث سيعرض 72 فيلما بينها "الجنة الان" للمخرج الفلسطيني هاني ابو اسعد، كما اكدت مديرة مشروع "كارافان" هالة جلال.

وكان "الجنة الان" الذي شاركت في انتاجه ثلاث دول اوروبية هي هولندا وفرنسا والمانيا قد حاز عددا من الجوائز اهمها جائزة الملاك الازرق في مهرجان برلين السينمائي العام الماضي وجائزة "غولدن غلوب" لافضل فيلم اجنبي في اتحاد الصحافة الاجنبية في هوليوود العام الحالي كما رشح لاوسكار افضل فيلم اجنبي.

وانطلقت فكرة القافلة السينمائية العربية الاوروبية كما تقول هالة جلال "بمبادرة من شركة 'سمات' التي قامت بتاسيسها مجموعة من السينمائين الشباب المستقلين من مصر وتهدف الى اطلاق الحوار الثقافي بين دول شمال وجنوب حوض المتوسط من خلال الابداع الفني".

واشارت الى تعاون عدة مؤسسات عربية مع "سيمات" اهمها معهد العالم العربي في باريس ومهرجان روتردام للسينما العربية في هولندا ومهرجان بيروت الدولي للسينما التسجيلية ومهرجان الاسماعيلية للسينما التسجيلية الى جانب شركة بيونير للانتاج الفني بالاردن وشركة جود نيوز المصرية.

ويشارك في المهرجان المتنقل 72 فيلما من الافلام الروائية الطويلة والقصيرة والصور المتحركة والتسجيلية.

وسيتم عرض الافلام ضمن عدة اقسام منها "ايام السينما الفرنسية" الذي يعرض فيه سبعة افلام روائية حصلت على جوائز، وقسم "نظرة على السينما التونسية" ويشمل عروض لافلام روائية طويلة وقصيرة وتسجيلية.

وهناك ايضا قسم "السينما الالمانية" الذي تعرض فيه افلام روائية قصيرة وتسجيلية الى جانب افلام مصرية روائية قصيرة وتسجيلية انتجتها شركة سيمات لمخرجين شباب.

ويستغرق عرض الافلام في القاهرة اسبوعا تنتقل بعدها فعاليات المهرجان الى الاسكندرية في 5 ابريل/نيسان على ان يبدأ عروضه في عمان في 20 من الشهر نفسه لتنتقل القافلة الى بيروت محطتها الاخيرة حيث تبدأ العروض في 25 منه وحتى اخر الشهر.

كما يتضمن البرنامج كذلك فعاليات متعددة الى جانب العروض السينمائية من بينها ندوات وحلقات نقاش تتطرق الى الافلام المعروضة "كوسيلة لمناقشة الظواهر الاجتماعية والسياسية والانسانية التي تعرض لها هذه الافلام" وفقا لهالة جلال.

كما سيشمل ورشا ومعسكرات عمل للسينمائيين الشباب من اوروبا والعالم العربي.

وسيتم اصدار كراسات خاصة بكل هذه الفعاليات تتضمن المقالات والدراسات التي تخرج عن مثل هذه اللقاءات الى جانب وضع فعاليات القافلة على موقع خاص على شبكة الانترنت.

ومن المقرر ان تنتقل القافلة في الصيف الى اوروبا حيث تعرض افلاما عربية في باريس من خلال معهد العالم العربي وكذلك الى روتردام في هولندا من خلال مهرجان السينما العربية في روتردام.

ميدل إيست أنلاين في

28.03.2006

 
 

الفلسطيني الذي وقّع 3 عقود مع استوديوهات هوليوودية

هاني أبو أسعد: لسنا في الهواء ولا على الأرض.. لا في المياه ولا على اليابسة.. لا في الدولة ولا تحت الاحتلال

نديم جرجوره

ينتمي المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد إلى مجموعة من السينمائيين الفلسطينيين المقيمين في دول الاغتراب الأوروبي، والعاملين على تقديم صورة إنسانية للفرد الفلسطيني في مواجهة تحدّيات عدّة، لا شكّ في أن الاحتلال الإسرائيلي أبرزها، من دون تناسي تحدّيات الهوية والمقاومة والعلاقات الإنسانية والتفاصيل الحياتية المختلفة.

في فيلمه الروائي الأخير <<الجنّة الآن>> (<<السفير>>، 5 كانون الثاني الفائت)، الفائز بجائزة <<غولدن غلوب>> في فئة أفضل فيلم أجنبي لعام 2005، تناول أبو أسعد مسألة العمليات الانتحارية، من خلال شخصيتي شابين فلسطينيين من نابلس يُكلَّفان بتنفيذ عملية فدائية في تل أبيب. يتابع الفيلم تفاصيل اليومين الأخيرين من حياتهما (!) قبل تنفيذ العملية، وذلك عبر البحث في النفسيّ والاجتماعيّ والانفعاليّ، من دون الابتعاد الكلّي عن الجانب السياسي، وإن ظلّ هذا الجانب باهتاً. يُركّز الفيلم على التحوّل الذي يعيشه هذان الشابان: إذ إن احدهما يبدي حماسة فائقة لتنفيذ العملية، قبل أن يقع ضحية التردّد والارتباك، في حين أن صديقه المرتبك والخائف والمتردّد، وهو ابن عميل، يُصاب بتحوّل خطر يدفعه إلى الإقدام على تنفيذ العملية.

أثار الفيلم ردود فعل سلبية وصاخبة، من قبل فلسطينيين وإسرائيليين على حدّ سواء. كما نال إعجاب منتجين ومسؤولين سينمائيين في هوليوود وخارجها، أبدوا رغبتهم في التعاون مع مخرجه على تحقيق أفلام متنوّعة. يُذكر أنه عُرض في عدد من المهرجانات السينمائية العربية والغربية، ويُتوقّع أن تبدأ عروضه التجارية في الصالات اللبنانية في مطلع أيار المقبل.

هنا نصّ الحوار الذي أجرته <<السفير>> مع هاني أبو أسعد، في زيارته الحالية إلى بيروت.

·     متى خطرت على بالك فكرة تحقيق فيلم يتناول اليومين الأخيرين في حياة شابين فدائيين يزمعان تنفيذ عملية انتحارية في تل أبيب؟

حدث هذا في العام 1999. يومها، لم تكن هناك عمليات انتحارية كالتي شاهدناها فيما بعد. تكوّنت الفكرة بالصدفة، إذ كنت أشتغل على ثريلر يتضمّن عملية تفجير يُنفّذها أحدهم، فإذا بي أنتبه إلى أننا جميعنا لا نعرف شيئاً عن هذا الأمر، باستثناء ما يُقدّمه لنا الإعلام، أي ما هو ظاهر. لم يكن لدينا أي خلفية عن منفّذي العمليات الانتحارية. هناك فقط صُوَر مجمّلة أو قبيحة عنهم، هي في الواقع ما يُقدّمه طرفا النزاع: إسرائيل والغرب يُقدّمان الصورة القبيحة، والفلسطينيون يروّجون للصورة الجميلة. لكن الصورتين هاتين ناقصتين، إذ يُمكن العثور في داخل كل إنسان على الجانبين الجميل والقبيح في الوقت نفسه.

لم يكن أحدٌ يعرف شيئاً عن هؤلاء الفدائيين. وحين لا يعرف المرء شيئاً عن مسألة ما أو عن شخص معيّن، فإنه يشعر بالخوف. هكذا بدأت حكايتي مع الفيلم: عدم المعرفة أثار لديّ الرغبة في الاطّلاع، فبدأت، بدافع ممّا يُمكن وصفه ب<<حبّ الاستطلاع>> أيضاً، البحث عن وفي هذا الموضوع. بدأتُ أسأل وأنقّب وأتحرّى وأحاول أن أميّز الجيّد عن السيىء في هذه العمليات، وهذا كلّه على المستوى النظري، قبل أن أدخل العالم الحسّي لهؤلاء الفدائيين، أي للّذين ينفذّون العمليات الانتحارية. اكتشفت أشياء كثيرة، لكن الأهمّ منها أني اكتشفت ما أستطيع وصفه ب<<سوبر إنسانية>> في المسألة كلّها. بمعنى آخر: هذه عمليات إنسانية بالدرجة الأولى، وهذا ما أثار غضبي في الوقت نفسه، إذ كان عليّ ألاّ أتأثّر بالصُوَر التي يضخّها الإعلام المرئي يومياً فقط. حين اكتشفتُ البُعد الإنساني في العمليات هذه، اكتشفتُ أيضاً كم أني غبيّ وكم أني لا أعرف. تضايقتُ كثيراً، لأنه ليس من المفترض بي أن أكتشف هذه الأمور في عملية البحث، بل وجب عليّ أن أعرف. نعم، هكذا: كان عليّ أن أعرف من دون اللجوء إلى البحث والتنقيب.

حقل ألغام

·         حين بدأت التحضير لمشروع <<الجنّة الآن>>، هل كنت تعلم أنك ستدخل حقل ألغام؟

في البداية، كلا. فيما بعد، عندما بدأت التصوير، أو بالأحرى في المرحلة السابقة لإطلاق عملية التصوير بقليل، شعرتُ أني مقبلٌ على أمر لن يكون سهلاً أبداً. في خلال العمل على الجانب النظريّ في المشروع، تبقى محمّياً. لكن جهات عدّة بدأت تمارس ضغوطاً كثيرة عليّ، ما إن علمت بأني بدأت تنفيذ الفيلم. حينها، شعرتُ بأني أسير في داخل حقل من الألغام، وبأني اخترتُ موضوعاً شائكاً ومعقّداً للغاية. في البداية، أي في المراحل الأولى لتكوين الفكرة، كنت أعتبر أن لكل إنسان حقّاً في أن يختار هذا الموضوع، وفي أن يبحث عنه وفيه بالطريقة التي يراها مناسبة، كي يُقدّم وجهة نظره الخاصّة. لكن، حين تنتقد <<وجهةُ نظرك>> هذه الغالبية الساحقة من الناس المنتمين إلى طرفي الصراع (أي الإسرائيليين والفلسطينيين على حدّ سواء)، أي ما يُقارب تسعة وتسعين بالمئة منهم، فإن ضغوطاً كبيرة تمارس عليك.
لا تنسى أن أحداً لا يعرف شيئاً عن العمليات الانتحارية. لهذا السبب، يختلف تصوّرك الشخصي حولها عن تصوّري الشخصي أنا، وعن التصوّرات الشخصية الخاصّة بالآخرين. لا أتحدّث عن المسألة من وجهة نظر سياسية فقط، بل بشكل مجرّد. كل واحد لديه المتخيّل الخاصّ به عن الموضوع. والتخيّلات المتنوّعة تولّد تصوّرات مختلفة. حين يكون الجميع في العتمة، فإن كل واحد منهم يرى الأمور بشكل خاصّ جداً به. ينظر إلى المسألة كما يريد، ويمارس تخيّلاته كما يحلو له. لكن، بمجرّد أن يُسلّط الضوء على المسألة نفسها، فإن تصويرك لما تراه وتشعر به أنت سيناقض التصوّرات الأخرى، وسيؤدّي حتماً إلى ما يشبه الصدام مع أصحابها.

·         إلى أي مدى وصلت هذه الضغوط؟

أؤكّد لك أنها وصلت إلى حدّ كان يُمكن معه أن نفقد أرواحنا. إنها ضغوط غير مباشرة أصلاً، والاحتلال الإسرائيلي هو أساسها. لا تظنّ أن السلطة الفلسطينية قادرة على ممارسة سلطتها في مناطق الحكم الذاتي. إن إسرائيل هي التي تتحكّم بكل شيء، وتتسلّط على الناس جميعهم، في الضفّة والقطاع، كما في أراضي ال48. حتى الحليب الذي يشربه أولادنا يتحكّمون به.

على كل حال، لدى إسرائيل أساليب متنوّعة لممارسة الضغوط. لكن، للأسف الشديد، لم تكن إسرائيل وحيدة في هذا المجال، إذ بدت وكأنها توافقت مع بعض الفصائل الفلسطينية (بل مع فصيل واحد فقط)، كما لو أن هناك إجماعاً على ممارسة الضغوط عليّ وعلى فريق العمل الذي أتعاون معه. هذا الفصيل الفلسطيني غير معنيّ بوجهة نظري الخاصّة بهذا الموضوع. بالنسبة إليّ، ظننت أن لكل واحد الحقّ في قراءة المسألة من وجهة نظره. إذا لم يُبد الفصيل الفلسطيني إعجابه بوجهة نظري، يُمكنه تحقيق فيلم يتناول الموضوع نفسه، لكن من وجهة نظره هو. ما المانع؟ للأسف، تآخت ضغوط الاحتلال والفصيل الفلسطيني معاً، ووصل الأمر إلى حدّ التهديد بالقتل. كما أنه تمّ خطف مدير المواقع، لتهديدنا بإيقاف التصوير.

·         أودّ أن أسألك عن الاطراف الغربية التي شاركت في إنتاج الفيلم. هل وافقت عليه سريعاً، أم مارست بدورها ضغطاً ما؟

بصراحة، لم أهتمّ كثيراً بهذا الجانب، لأني لم أكن منتجاً لفيلمي. بيرو باير، منتج الفيلم والمُشارك في كتابة السيناريو، تولّى هذه المهمة. التمويل الغربي عبارة عن صناديق دعم لها حساباتها الخاصّة، كما أن منتجي لديه أسلوبه في التعامل معهم.

حدثت ضغوط قليلة، وطالبني بعضهم بتغيير مقاطع في السيناريو. لكني واجهت الضغوط بالقول: هذا هو السيناريو، خذوه أو تخلّوا عنه.

تحليل نفسي لا سياسة

·     هناك من رأى أن الفيلم ليس سياسياً بل نفسياً، وهو رأي أميل إليه إلى حدّ كبير. بمعنى أن هناك مساراً درامياً يُفترض به أن ينقل للمُشاهد التحوّل النفسي الذي يصيب الشخصيتين الرئيستين. هل كنتَ منتبهاً إلى هذه المسألة منذ بداية الكتابة، أم إن الأمور توضّحت لك فيما بعد، أي أثناء الكتابة؟

في البداية، كان هناك أمر واحد واضح تماماً بالنسبة إليّ: لستُ في صدد تحقيق فيلم سياسي. لا أتحدّث عن السياسة أو فيها. فأنا أعتبر أن الفنون والجماليات هي سلاحك في هذه المعركة الحضارية والتاريخية التي تخوضها. السياسة عمل آنيّ. ما يتمّ التوافق عليه في السياسة اليوم، يُمكن أن يُشكّل خلافاً يوم غد. السياسة مصالح آنية ومركّبة. الفنون مختلفة تماماً عن النظرة السياسية: السياسة تُقدّم الأمور على أساس الأبيض والأسود، وتبسّط المسائل أمام الناس كي يستمرّوا في السير خلف النخب. أما الفن، فيظهر لك الأمور بشكلها المركّب والمعقّد. يتشكّل الإنسان من مستويين اثنين: الجيّد والسيىء. ليس هناك <<جيّد>> بالمطلق أو <<سيىء>> بالمطلق.

حين تصنع فيلماً، تكون قد اخترتَ سلاحك. العمل الفني لا يُمكن أن يكون تابعاً للسياسة، أي إنه غير تابع ل<<الآنيّ>>. إذا رأى الناس الجماليات التي يتكوّن منها العمل الفني، فإن هذا الأخير، أي العمل الفني، يستطيع أن يحافظ على نفسه في التاريخ.

منذ البداية، كان الأمر واضحاً بالنسبة إليّ: أن تتحوّل الشخصيتان، فتعيشان الملحمية، تماماً كما هو حال هاملت. ذلك أن الصراع الداخلي أهمّ من الصراع مع العوائق. ملحمة ضد العوائق، وملحمة داخلية. والملحمة الداخلية تستمرّ إلى ما لا نهاية، ولا تُقدّم أجوبة، بل تطرح تساؤلات دائمة. منذ متى كُتبت <<هاملت>>؟ ألا تزال مثيرة للجدل والنقاش، لغاية اليوم؟ ألا تُنتج تفسيرات عدّة؟ هذا كلّه بفضل امتلاكها قراءة ما للصراع الإنساني الداخلي. إنه صراع إنساني من خلال أفق التحوّل من حالة خاصّة إلى حالة كونية. عندها، أستطيع أن أحافظ على نفسي في النهاية.

ما أردته هو محاولة دخول في قلب الصراع الداخلي للشخصيتين. حوّلت الواقع إلى مسرح، وطرحت نقاشاً في الأخلاقيات. قد يكون النقاش سياسياً أيضاً، لكنه أخلاقي في الأساس. ولكي يبقى النقاش حيّاً، عليه أن يتوغّل دائماً في الأخلاقيات، لأنها لا تُقدّم أجوبة حاسمة وقاطعة، بل تظلّ تطرح تساؤلات مختلفة. قد تنتمي الأخلاقيات إلى تيار سياسي أو فكر إيديولجي أو دين معين أو حزب سياسي إلخ. قد ترتبط هذه الأخلاقيات، أيضاً، بظروف معينة. لكن المسألة أن هذا كلّه هو صراع أبدي. هكذا أحافظ على نفسي وعلى قصتي في التاريخ.

من ناحية أخرى، لا يكفي أن أكون لوحدي في هذا الصراع. يجب أن يتحرّك المبدعون جميعهم، في الأدب والمسرح والفنون والسينما وغيرها من أشكال الكتابة والإبداع، كي تكتمل الصورة ونتوصّل إلى حماية القصّة، قصتنا، من الاندثار. أهتمّ كثيراً بأن تبقى الروح موجودة فينا، كي نخلق فناً مبدعاً ومتفوّقاً.

·     لكن المعالجة الدرامية للتحليل النفسي الخاصّ بالشخصيتين الرئيستين، بدت ناقصة في بعض الأحيان، وغير عميقة في أحيان أخرى. كأن هناك شيئاً ما لم يكتمل. أو كأن السياق الدرامي، الذي واكب التحوّل النفسي المتناقض لكل شخصية من الشخصيتين، بدا وكأنه مرتبك وغير قادر على تقديم صورة أعمق للمتغيرات الحاصلة.

بالنسبة إليّ، كانت المعالجة عميقة. هناك من قال لي إنه شعر بعمق التحليل الخاص بعملية التحوّل المذكور. هناك مشاهدون أحسّوا بوجود عمق في التحوّل. يصعب عليّ أن أدافع عن فكرتي الخاصّة بمسألة العمق. ثم إن لكل مُشاهد الحقّ في أن يحلّل الفيلم وموضوعه وسياقه الدرامي وجمالياته كما يشعر ويرى، وأن يتفاعل معه كما يريد، وبالعمق الذي يحسّ به. لا توجد نظريات في مسألة العمق هذه. أستطيع أن أشرح لك مطوّلاً، لكني أتوقّف عند القول إن التحوّل مصنوع بعوامل مركّبة ومتناقضة، كانت تأخذ الشخصية، في كل مرة، إلى مكان آخر. كل شخصية تتصرّف بعكس ما تتحدّث. هذا قصدي.

إذا اتفقت أكثرية المشاهدين على وجود هذا العمق، يكون العمق موجوداً في الفيلم. وإلاّ، فإنه يكون غائباً.

المتخيّل واللامتخيّل

·     سأنتقل إلى <<فورد ترانزيت>>، فيلمك السابق ل<<الجنّة الآن>>. ما أثارني فيه كامن في هذا الخط الذي يفصل الوثائقي عن الروائي، لكنه خط واه إلى درجة تنعدم فيها الحدود القائمة بين هذين النوعين السينمائيين.

باتت هذه اللعبة الفنية هاجسي منذ أن شاهدت أفلاماً عدّة لعباس كياروستامي تحديداً، ك<<أين منزل صديقي؟>> و<<والحياة تستمرّ>> و<<تحت أشجار الزيتون>> و<<لقطة مقرّبة>>. فيلم روائي، لكن الروائي فيه مختف. هذه لعبة أحببتها كثيراً، وشعرتُ أنها السحر كلّه في السينما، ومارستها في فيلمي القصير أيضاً، <<الناصرة ألفين>>.

حين تستعمل ديكوراً لفيلم، فإن الديكور بحدّ ذاته متخيّل، لكنه يفقد بُعده هذا حين يتمّ تصويره. اللاخيالي يصبح أسطورة أو استعارة أو لوحة أو أي شيء آخر. نقطة التحوّل هي السحر، هي اللحظة التي يصبح اللاخيالي فيها خيالياً. هذه هي النقطة الأساسية، السحر، نقطة التكوين. إذا استطعت أن تضيع فيها تكون قد خلقت عالماً جديداً.

أضف إلى هذا كلّه أن الوضع في فلسطين يشبه كثيراً هذه اللعبة. إنه ملائم تماماً لها، مما دفعني إلى الاستعانة بها في تحقيق <<الناصرة ألفين>> و<<فورد ترانزيت>>. ليس ضرورياً أن أفسّر أي شيء عن الوضع الفلسطيني لتبيان ملاءمته واللعبة الفنية هذه، لأن الجميع يعرف أننا لسنا في الهواء ولا على الأرض، لسنا في المياه ولا على اليابسة، لسنا في دولة أو تحت احتلال. لا أعرف. هناك تفاصيل كثيرة يعيشها الفلسطينيون يومياً، تدفع إلى معاينة هذه الحالة السينمائية.

·         ماذا عن الشخصيات التي صوّرتها في هذا الفيلم: هل كان اختيارها مدروساً أم عفوياً؟

إن اختيارها مدروسٌ وعفوي في آن واحد. لا أحب ألاّ تأخذ الأشياء المدروسة عفويتها أيضاً. أعرف تماماً ما أريده، وأدرس جيّداً كل ما يتعلّق بفيلمي. لكني دائماً أترك هامشاً كبيراً للعفوية.

سأعطيك مثلاً: في أحد مشاهد <<الناصرة ألفين>>، وقفت ابنة أختي (كانت في الثامنة من عمرها حينها) أمام الكاميرا، وتحدّثت بكل ثقة عن رأيها في الوضع الحاصل، يومها، في الناصرة (نزاعات المسيحيين والمسلمين)، قائلة إن أفضل حلّ لما يجري هو أن تقع هزّة أرضية في الناصرة، كي يلتقي أهلها جميعهم ويلتفّون حول بعضهم البعض، ويحبّون بعضهم البعض. تماماً كما حدث في تركيا حين ضربها زلزال قوي، فالتفّ الناس حول بعضهم البعض لمواجهة المصيبة. إذا شاهدتَ ابنة أختي على الشاشة واستمعتَ إليها تتحدّث بهذه الثقة كلّها، لا بُدّ أن يخطر على بالك سؤالاً مهمّاً: من أين جاءت بهذا الكلام؟ من أخبرها أو قال لها أن تقول رأياً كهذا؟ في الواقع، هذا ما فعلته: أمام الكاميرا أيضاً، سألتها عمن طلب منها أن تقول هذا كلّه، فأصرّت مراراً على أنه رأيها الشخصي. لكن إلحاحي عليها، والكاميرا مستمرّة في التصوير، فضحها: خجلت خجلاً شديداً واحمرّت وجنتاها، وقالت، مبعدةً وجهها عن الكاميرا، إن هاني هو من طلب مني أن أقول هذا الكلام. حافظتُ على المشهد كلّه. لم أكن أتوقّع أن تجيب بهذه الطريقة، مع أني كنت أعلم أنها ستقول ما قالته سابقاً.

هذه هي اللعبة بالضبط: من ناحية أولى، طلبت منها أن تقول كلاماً كهذا. لكني، من ناحية ثانية، لم أتوقّع أن تجيب على سؤالي بما أجابت به. المشهد نفسه، الكاميرا مسلّطة على ابنة أختي، اللقطة واحدة: المدروس يتداخل مع العفوي.

طبعاً، أنا أدرس الشخصيات، لكني أتركها تعيش نفسها بعفوية. أحياناً، لا أدري ما الذي سيحدث. بالنسبة إليّ، هي لحظة تحوّل اللاخيالي إلى خيالي. هذا مهم جداً بالنسبة إليّ، وأحبّه كثيراً. لا أعرف ما إذا كان الآخرون يهتمّون بهذا أم لا.

·         أخيراً، ما هي مشاريعك الجديدة؟

وقّعت ثلاثة عقود عمل مع استوديوهات هوليوودية لتنفيذ ثلاثة مشاريع سينمائية جديدة، لي الحقّ في اختيار مواضيعها وكتابتها. إنها تجربة لا شكّ في أني سأستفيد منها كثيراً. أعترف أن ليس لديّ حلم العمل في هوليوود، لكن عليّ أن أغتنم الفرصة، وأن أعمل هناك، وأن أستفيد من التجربة قدر المستطاع.

أعترف أن التوقيع على العقود الثلاثة حصل قبل فوزي بجائزة <<الكرة الذهبية>> (غولدن غلوب) في فئة أفضل فيلم أجنبي لعام 2005 عن <<الجنّة الآن>>. لا أعرف إلى أي حدّ كان يُمكن لفوزي بجائزة <<أوسكار>> في الفئة نفسها أن يساعدني هناك. هذا الفوز لو حصل لشكّل دعماً معنوياً لنا نحن العرب. على كل حال، حصل ما حصل، وسأبدأ العمل في هوليوود.

إن المشروع الأول سيبدأ تنفيذه في خلال الصيف المقبل. لم يتمّ تحديد موعد نهائي وثابت. أفضّل ألاّ أتحدّث عن موضوعه الآن.

السفير اللبنانية في

14.04.2006

 
 

كلام "ثالث" حول فيلم الجنة الآن"

يوسف أبولوز 

هذا الكلام “الثالث” والمتأخر نسبياً، حول فيلم “الجنة الآن” ليس له علاقة بالقيمة الفنية والسياسية للفيلم، ولا أسعى هنا إلى قراءة فيه، فهذا اختصاص أهل السينما، فبعد ردود الأفعال المؤيدة لشريط “الجنة الآن” الذي يتناول حكاية شابين فلسطينيين قاما بعملية استشهادية داخل “إسرائيل” باختصار شديد، واعتبار ردود الأفعال هذه تصب في مصلحة “الفيلم”  وهذا هو “الكلام الأول”..

ثم بعد “الكلام الثاني” الذي يتلخص في رفض الفيلم برمته واعتباره لا يخدم القضية الفلسطينية.. بعد ذلك كله، وبعد هذا الانقسام في الرأي، يأتي دور الكلام “الثالث” حول هذا الشريط السينمائي الاجتهادي الذي نال ثلاث جوائز دولية، وأثار حفيظة “عرّابي” هوليوود من اللوبي السينمائي اليهودي، ومن هذا الخيط الأخير تحديداً يجيء الكلام.

ما الفيلم سوى شريط حاول أن يترك أثراً صغيراً في عالم الفن السابع الكبير، وبعض الكتابات النقدية السينمائية صنّفت فيلم “الجنة الآن” تحت اسم “سينما المخرج” أو “سينما الكاتب”.. وهو خلاصة جهد إنتاجي تدخل فيه أجانب “أحدهم هولندي” لمجرد التعاطف مع الفلسطينيين، وإعلامياً، كادت بعض الدوائر الصحافية ذات الهوى “الإسرائيلي” أو اليهودي تقول إن من وراء الفيلم هم “إرهابيون”.

ماذا نستنتج من بعد ذلك كله.. إذا عرفنا أن الفيلم ما هو سوى مادة سينمائية “بسيطة” للغاية، وليس له قرون من حديد تناطح الترسانة السينمائية العالمية التابعة لشركات انتاج يهودية ضخمة يمولها رجال مال كبار؟

ماذا نقول.. إذا كان مجرد “شريط” عابر أمكنه أن يزعج يهود هوليوود، وربما يهود العالم، ومن هم في فلك الهوى اليهودي، لأنه يتحدث عن فلسطين؟

نقول، أو نتكلم ببساطة شديدة عن “أثر السينما”..

الأثر الأقوى أحياناً من آلاف المقالات السياسية، والأجدى نفعاً من الخطب البليغة في المهرجانات، والتصريحات النارية هنا وهناك.

لقد أفرغت اللغة السياسية من مضمونها المقنع بخصوص عدالة القضية الفلسطينية، وأصبحت تظاهرات التضامن مع هذه القضية تفقد جدواها في حال انتهاء هذه التظاهرات، وما عاد غالبية الخطاب الإعلامي الذي يحمل فلسطين قادراً على إقناع العالم بأننا أصحاب حق.

إذاً.. هناك وسيلة أخرى يقتنع بها العالم، وتؤثر فيه، هذه الوسيلة هي الصورة، وثقافة الصورة، صورة المشهد التلفزيوني عبر الكاميرا الخبرية الناقلة للحدث الحيّ على الأرض كما هو الأمر في صورة “محمد الدرة”، وصورة المشهد السينمائي في دور العرض وفي عواصم السينما وعلى شاشات التلفزة أيضاً.

إن “الصورة” بكل اشتقاقاتها الاعلامية، وعلى رأسها الاشتقاق السينمائي، هي المؤثرة اليوم على نحو أكبر وأعمق من أي مهرجانات وخطابات وتصريحات أغلبها لا يؤخذ على محمل الجد على مستوى الناس العاديين الذين فقدوا الثقة بالسياسة والسياسيين.

إن المدخل المؤثر لهؤلاء الناس، هو مدخل “الصورة”، أي مدخل “السينما” ولو عبر شريط صغيرة من مثل شريط “الجنة الآن”.

لقد أصبحت “الصورة” في بثّها وعولمتها وتعميمها البصري الواقعي وبسرعة عبر التلفزة والسينما، أصبحت مؤثراً مباشراً حتى في “البيت الأبيض”، نفسه، وأتصور، لو أن آلاف المقالات المكتوبة تحدثت عن وقائع انتهاكات مهينة لسجناء في “أبو غريب”، فإن أحداً لن ينتبه إلى هذه المقالات، ولكن، كاميرا واحدة، حتى أنها كاميرا غير محترفة، استطاعت التقاط هذه الصور لتجعل سجن أبو غريب في مركز العالم كله.

والحال هكذا، ما الذي يفعله  مثلاً على سبيل الحلم  فيلم سينمائي كبير، مموّل بشكل كبير أيضاً، محشود له طاقة فنية وإخراجية كبرى، معزّز بالفكر والإنسانية، ويخاطب العالم من منظور حضاري، ويطرح قضية فلسطين بأبعادها التاريخية والإنسانية والروحية والجمالية والاستشهادية، يقول للعالم بالصورة والصوت واللون والموسيقا: إن العربي إنساني وحقيقي.. لا هو متوحش، ولا هو إرهابي.. فيلم مؤسسات وليس فيلم “مخرج” ولا “كاتب” كما هو الحال في شريط “الجنة الآن”؟

فيلم مؤسسات فلسطيني، وقبل فلسطينيته هو عربي مليون في المليون.. يأتي إلى العالم رغم القبعة اليهودية المهيمنة على ثقافة السينما الخطرة في المصنع الإعلامي والإيديولوجي في هوليوود.

هذا الفيلم “المفترض”  الحلم، حلم الصورة، أو الحلم بالصورة، هو “الكلام الثالث”.. هو السؤال الذي يتوجب طرحه بأقصى قوة أمام المسؤولين الفلسطينيين العاملين في الشأن الثقافي في فلسطين وفي خارجها قبل طرحه على العرب.

بعد فوز حماس في الانتخابات، ذاب الثلج وظهر ما تحته، كما يقول المثل الشعبي الفلسطيني، فهناك من تحدث علانية وبالأرقام عن فساد مالي إلى جانب فساد إداري.. وفي ضوء ذلك نتساءل اليوم: ألا يمكن لمسؤولي الثقافة الفلسطينيين أن يجمعوا على ضرورة خدمة بلدهم بمشروع سينمائي كبير، مشروع مستقل، يضاهي بل ويتفوق على مشاريع أعدائهم التي يقودها مثقفون ورجال مال وأعمال واقتصاد يهود؟

إن رجال المال والأعمال الفلسطينيين بوسعهم تمويل “هوليوود” فلسطينية أخرى، بكل معدّاتها ومتطلباتها الفنية والتمويلية، وربما كان لهم في ذلك جدوى استثمارية مالية أولاً بحسب متطلبات تقاليد رأس المال، ثم جدوى وطنية.

ولكن.. للأسف، فإن بعض رجال المال هؤلاء، كانوا أول المسارعين إلى نقل أموالهم واستثماراتهم إلى بلدان أخرى، نقلوها من “وطنهم” فلسطين إلى الخارج بعد الهزة السياسية الكبرى إثر فوز حماس في الانتخابات والتهديد الأوروبي والأمريكي و”الإسرائيلي” بحصار فلسطين اقتصادياً وسياسياً.. الخ.

لا أحب الخوض في هذا الباب بالذات، ولكنني أقول: إن أرباب المال الفلسطيني وهم كثر لا يتصرفون كما يفعل رجال المال اليهود.

رجل المال اليهودي يموّل فيلماً، أو ينفق على الدعاية التي تصب لمصلحة “إسرائيل” بصرف النظر عن كل دوافعه، ولكنه في النهاية، يفعل شيئاً من أجل “ساميّته” الدعائية المبثوثة في العالم.

طبعاً هنا، لا نضع الأثرياء الفلسطينيين في سلّة واحدة، إن منهم من لا نطعن أبداً في ضميريته الوطنية، ولكن بشكل عام هناك تقصير فادح على هذا المستوى، خصوصاً في مجال دعم المشروعات الثقافية الكبرى الخادمة للقضية الفلسطينية.

لن أضيّع الخيط الذي بدأت منه.. وهو خيط فيلم “الجنة الآن”.. فبعيداً عن قيمة الفيلم، وبصرف النظر عن الاختلاف أو الاتفاق عليه، يبدو من الواجب الوطني والثقافي والأخلاقي اليوم أن يفكر الفلسطينيون بسلاح آخر يضاف إلى أسلحتهم “التقليدية” وهو سلاح السينما.. سلاح الصورة، وعلى نحو أشمل سلاح الثقافة لا بوصفها جماليات أو غنائيات أدبية مهرجانية أشبه بالطابع الفولكلوري، بل بوصف الثقافة، خصوصاً الثقافة السينمائية هي أداة تأثير وقناة اتصال وحوار وإقناع وشرح وتصويب للصورة العاجزة التي كرّمها الخطاب السياسي عند الغرب، ثم، ليتضح أن غالبية أساتذة و”ثوريي” هذا الخطاب غارقون حتى رؤوسهم في الفساد.

الخليج الإماراتية في

17.04.2006

 
 

«الجنة الآن» فيلم يثير الحيرة... ابتداء من عنوانه

·        المؤلف استوحي فكرة مسرحية «العادلون» ليقدم فيلمه

·        الخيانة سلوك متوقع من الطرفين

محمود قاسم

ماذا يعني عنوان فيلم «الجنة الآن»؟

هناك أكثر من تفسير لهذا العنوان يمكن أن نستقيه من حوارات أبطال الفيلم الفلسطيني الذي أخرجه هاني أبوسعدة، والذي كاد يحصل علي جائزة أوسكار عام 2006 كأحسن فيلم أجنبي.

قبل أن نفند هذه المعاني المتعددة فإنه لابد التركيز علي هذا العدد من المؤسسات الأوروبية التي شاركت في الإنتاج والتي لوحظت في العناوين الأخيرة للفيلم مما يعني أن الفيلم حتي وإن نسب إلي مخرجه، ومؤلفه فإنه لا شك أنه يتناسب مع هؤلاء المشاركين بدرجات ما.

«الجنة الآن» قد تعني أن الحياة هي الجنة التي نعيش فيها الآن وأنه من الأهمية البقاء في الحياة نستمتع بها ونحياها، وقد بدا هذا في الحوار الذي تبادلته الفتاة «سها» مع الشاب «جمال» الذي وهب حياته كي يفجر نفسه في إحدي العمليات الانتحارية داخل إسرائيل.. كما بدا أيضا في الفارق الحضاري الهائل بين شكل الحياة في المدن الفلسطينية والحياة علي النمط الأوروبي، الأكثر تحضرا، ورقيا في المدن الإسرائيلية.

كما أن عنوان الفيلم قد يعني أن العمليات الانتحارية المسماة أيضا استشهادية هي جواز مرور سريع ومؤكد إلي الجنة وأن القائمين بها سوف يلتقون معا في الجنة مباشرة عقب القيام بها وهذا المفهوم بدا قويا في الحوارات التي دارت بين الشباب وزعمائهم الذين يخططون للقيام بهذه العمليات.

نحن أمام فيلم يؤكد علي العلاقة القوية بين الحياة والموت ورغم أن الفيلم تدور أحداثه من الجانب الفلسطيني دون الطرف الآخر من الصراع فإن الحوارات التي نسمعها من جانب الشباب الفلسطيني المجاهد هي عن الموت وتقديسه «اللي بيخاف من الموت يعيش ميتا»، أما الطرف الآخر أو المعتدلون فإنهم يتحدثون عن الحياة والبقاء.

ومن الواضح أن المؤلف المخرج قد استوحي فكرة مسرحية «العادلون» لألبير كامي، أو لعله سار علي الخط العام لها وهي تدور حول مجموعة من الفدائيين يحاولون اغتيال القيصر لكن الشاب الموكل إليه العملية يتوقف عندما يري الملامح الإنسانية للقيصر فهو رجل له ندبات وجه مثلنا وهو جد يداعب حفيده مما يجعله يتراجع عن تنفيذ العملية.

والفكرة الأساسية في الفيلم هي أن ظروفا ما تعرقل العملية وأن سعيد المتفخخ بالمتفجرات لا يقوم بركوب الحافلة عندما يري طفلا صغيرا إلي جوار السائق إلا أن الفدائي هنا في الفيلم يكتسب صفة إنسانية إضافية حين يرسل رسالة إلي أسرته ويرتبك فيعيد صياغة الرسالة مرة أخري دون أن نعرف أي شيء عن بقية أفراد المجموعة أو المشاركين فيها فهم مجرد أشخاص يدبرون العملية ويعرفون كيف يتصرفون عندما تشتد الأزمة من حولهم وهم أيضا لديهم منطقهم فيما يفعلونه.

ورغم كل هذه الشخصيات التي نراها في الفيلم فإن هناك الشابين سعيد وخالد اللذين سوف يقومان بالعملية ويقبلان أن يتفخخا بالإضافة إلي الثالث الذي تم استبعاده في اللحظة الأخيرة والفتاة التي استفتح بها الفيلم مشاهده الأولي، وهي في سيارتها عبر المعبر ثم هي التي ستقوم بمحاورة صديقها كي يغير من وجهة نظره ولعلها قد نجحت في نقل مفهومها إلي سعيد وصديقه.

والشابان اللذان تم اختيارهما لتنفيذ عمليتي تفجير في مدينة تل أبيب، عليهما أن يعيشا اللحظات الأخيرة من حياة كل منهما قبل تنفيذ العملية «أنت وخالد اختاروكما عشان المهمة» ووسط هذه التفاصيل فإن كل ما يفعلانه هو الأخير في حياة كل منهما ابتداء من زيارة جمال إلي أسرته وتفاصيل الحياة في البيت، خاصة ذلك الطفل الصغير الذي يتكلم بعفوية وجمال يعلن لأسرته أنه ذاهب في الغد إلي تل أبيب للعمل أما سعيد فإنه يذهب إلي فتاته التي يحبها وتعيش وحدها في الساعة الرابعة فجرا كي يتناول القهوة.

ومن خلال هذه التفاصيل الأخيرة نكتشف أن الشابين لا يتعاملان مع البهجة فآخر مرة شاهدا فيلما في السينما كانت منذ عشر سنوات كما نكتشف أن وراء بعض هذه الشخصيات الرئيسية تاريخا إما مشرفا أو يدعو للخزي فجمال يعرف أن الفتاة فخورة بأبيها وأخيها المناضلين الراحلين اللذين سبق لهما أن قاما بعمليات فدائية لكنها تردد «يمكن أن أكون فخورة به أكثر لو كان علي قيد الحياة».

أما الشاب سعيد فهو يعاني من عقدة أن أباه الراحل كان عميلا للإسرائيليين وهو سعيد بأنه سيقوم بالعملية لأن ذلك سيمحو العار الذي يطارده بسبب أبيه.

والغريب أن الشباب هنا يوافقون علي أداء العملية لمجرد الطاعة أما الفتاة فإنها صاحبة وجهة نظر تحاول أن تنقلها إلي من حولها خاصة سعيد وهي فتاة مستقلة الفكر تعيش وحدها وتحمل شرف الأب والأخ فوق ذكرياتها وهي واعية أن الفلسطينيين ضعفاء عسكريا.

وسعيد شاب أبيض المستقبل سواء من حيث النصاعة إنه سيكون شهيدا أو من حيث إن الغد بالنسبة له سيكون النهاية ولن تكون هناك كلمات في صفحات حياته بعد ذلك.

وأصحاب الرأي في الفيلم هم الذين يخططون ويحركون الآخرين كعرائس الماريونت فهم الذين يرون أن الموت انتقال لحياة أفضل وأن العدالة والحرية مهددان وأن القوي يلتهم الضعيف لذا فهناك حتمية للحرب بهدف التوصل إلي الحرية.

وخالد الذي سيؤدي العملية بعد استبعاد جمال يبدو مرتجفا عندما يقرأ آخر بيان له في حياته قبل أداء العملية ففي المرة الأولي يحمل سلاحه ويقف أمام الكاميرا ثابتا ثم يكتشف أن هناك عطلا في الكاميرا وفي الإعادة يبدأ في الارتجاف ويحس أنه ضعيف وكأن هذا واحد من أجمل مشاهد الفيلم.

أما المشهد المهم أيضا فهو الذي يصور الاستعداد للعملية: قص اللحية والشارب الاستحمام بما يقرب غسول الميت ثم لف المعدات والدعاء إلي الله والاجتماع حول المائدة بما يشبه العشاء الأخير للسيد المسيح مع حواريه يجلسون علي مائدة طويلة فلا يواجه أحد منهم الآخر يجلسون متجاورين ووجوههم ناحية الكاميرا يأكلون أبسط الطعام إنه أيضا الطبق الأخير لكل من خالد وسعيد ثم يخرجون معا تحت حراسة مشددة.

وفي هذا المشهد فإن «أبوكريم» يردد بعد أن شرح كافة تفاصيل العملية: بعد أن تصلوا إلي الجنة فإننا سوف نتدبر كيف نعاملكم كالأبطال.. وفي هذا الحوار يطمئن الشابين إلي أن أسرة كل منهما سوف تلاقي أحسن معاملة دون أي تركيز علي أن قوات الاحتلال يمكنها أن تنكل بهذه الأسرة ولا أعرف لماذا لم تتم الإشارة إلي ذلك بالمرة.

كشف لنا الفيلم كيف يتم التدبير لمثل هذه العمليات والتفاصيل الدقيقة التي تصحب كل منها ومنطق الذين يقومون بها خاصة أننا لا نري وجوه الطرف الثاني حتي في المشهد الأخير فسعيد الذي يجلس في أحد الأتوبيسات مفخخا يبدو محشورا وسط مجموعة من الجنود المفتولي العضلات المدججين بالأسلحة مما يوحي بأنه يجب ألا يتردد في تفجير نفسه هذه المرة وهو الذي فعل ذلك من قبل عندما رأي طفلا داخل حافلة مشابهة. وقد اختار الفيلم شبابا أكبر سنا للقيام بالعملية من الشباب الذين نراهم عادة في نشرات الأخبار وهم يتلون بياناتهم الأخيرة قبل العمليات ويشير الفيلم إلي أن الفدائيين قد توقفوا عن هذه العمليات وأن العملية الجديدة هي الأولي من نوعها بعد عامين من التوقف لذا فإن التفاصيل الخاصة بالعملية تبدو واضحة سواء فيما يتعلق بآلية العملية أو أسلوب التنفيذ والهروب ونحن نسمع هنا العبارات التي تقال عادة في الخفاء أثناء التحضير السري لهذه العمليات «هم بيخافوا من الموت» أو «الملائكة سيأخذونكم» و«كمات أن ساعة ح نكون أبطال و ح نكون عند الله سبحانه وتعالي». كما كشف الفيلم آلية العلاقات داخل التنظيم فما أن يفشل الفدائيان في العبور حاجز السلك ويعودان إلي حيثما جاءا ويختفي سعيد متأهبا الفرصة كي يرجع مرة أخري ويدخل إلي الأرض المحتلة فإن زملاءه يرتابون في أمره، ويخشون أن يخونهم مثلما فعل أبوه ويسرعون بإخلاء القاعدة التي يتدربون فيها ويتخذونها مقرا لهم أي أن هناك شكا مؤكدا بأن أيا منهم يمكن أن يخون.

علي جانب آخر فإن الخيانة حسب الفيلم سلوك متوقع فالسائق الإسرائيلي الذي سيقل الفدائي إلي داخل إسرائيل هو أيضا خائن سيأخذ مقابلا لقيامه بتوصيل سعيد وإرشاده.

وقد قرأنا علي جدران الحوائط بعضا من شعار منظمة حماس دون أن يكون هذا أساسا في الفيلم لكنه يفسر الكثير من الأحداث من هذه الشعارات «حماس + رصاص= طريق الخلاص».

التناقض بين سعيد والفتاة سها أن والد الأول خائن سابق، ووالد الثانية بطل سابق وفي مشاهد الانتقال بين الأرض المحتلة وفلسطين حدث الكثير من اللغط وعدم الفهم فكيف أمكن الانتقال بسهولة بين الجانبين وهو أمر بالغ «الصعوبة كما أن تشابه الأسماء وأيضا تشابه الوجوه والأعمار بين الممثلين الثلاثة خلق بعضا من عدم الفهم وقد قمت بالتفرقة بين سعيد وخالد في الكثير من المشاهد من خلال أن أحدهما يفك رابطة عنقه، أما الثاني فيربطها.

في الجزء الأخير من الفيلم صار منطق سها هو السائد علي أجواء العمل حين تتحدث إلي خالد وتقول له: «إذا كانت لديك القدرة علي أنك تموت وتقتل بهدف التكافل فلما تبحث عن إمكانات في الحياة كي تعيش علي ما يرام» ثم تقول «هذه ليست تضحية أنت تقتل وتصير مثلهم وهناك فرق بين الضحية والقاتل».

ويردد خالد أنه ليس أمامه خيارات أخري للنضال.. «لو لدينا طائرات ما كان لدينا استشهاديون» بما يعني أن الاستشهاد بهذه العمليات الانتحارية هو بديل عن عدم وجود طائرات ويردد خالد أيضا في هذا الحوار «أفضل أن تكون لدي جنة في رامس عن حياة الجحيم التي نعيشها نحن موتي بالحياة ماذا يدفعك إلي الموت سوي ما هو أمر منه».

وفي حوار طويل للغاية وقبل أن ينفذ سعيد عمليته إذا كان قد فعلها فإنه يحكي قصته منذ أن كان طفلا نفهم منه أنه لن يعود إلي المخيم الذي ولد وتعذب وعاني فيه، ويعني هذا أن الموت أفضل بالنسبة له من الحياة في مثل هذه الظروف.

نحن أمام فيلم يثير الجدل ليس فقط من خلال النهاية المفتوحة ولكن من خلال الحوارات التي تدور بين الفلسطينيين فهي تمثل الاعتدال وقد نجحت في أن تجعل جمال يميل إلي كفتها، بينما هرب سعيد منها، وعاد إلي المدينة كي ينفذ عمليته.

يستحق هاني أبوسعدة أن يصل فيلمه إلي هذه المكانة الدولية فهو الفيلم الأجرأ في تاريخ السينما الفلسطينية حول هذا الموضوع.

جريدة القاهرة في

25.04.2006

 
 

الجنة الآن‏..‏مشاعر الإنسان الفلسطيني بين الحياة والموت

كتب ـ نــــادر عـــــدلي 

حظي فيلم الجنة الآن للمخرج الفلسطيني هاني أبواسعد بتقدير عالمي جعله أول فيلم عربي يفوز بجائزة الكرة الذهبية لأحسن فيلم اجنبي في امريكا‏..‏ وسبق ذلك اهتمام لافت بالفيلم في مهرجان برلين‏,‏ ثم منح جائزة أحسن سيناريو من المهرجان الأوروبي بوصفه انتاجا مشتركا بين هولندا وفرنسا وألمانيا وفلسطين‏..‏ وبعد أن رشح لجائزة الأوسكار قامت إحدي الشركات الأمريكية الكبري بشراء حق عرضه تجاريا‏..‏ وقد منح كل هذا الجنة الآن اهتماما اعلاميا ونقديا‏,‏ حيث اختلفت الآراء حول قضيته ورؤيته‏.‏

يطرح الفيلم الجنة الآن قضية العمليات الفدائية التي يقوم بها فلسطينون داخل إسرائيل‏,‏ من خلال معالجة سينمائية وفنية جيدة بالفعل‏,‏ وتخلو من أي عنف أو دماء وتنتقل بين المشاعر والأفكار ببساطة وقوة من خلال سيناريو يحمل الكثير من التشويق الدرامي الذي يجعل المتفرج يتابع مصائر شخصياته ويتأمل القضية المطروحة‏.‏

تبدأ الأحداث مع شخصيتين عاديتين‏(‏ سعيد وخالد‏)‏ يعملان في ورشة لاصلاح السيارات‏,‏ وتمضي بهما الحياة في فلسطين في ظل الاحتلال الإسرائيلي‏(‏ لا يتعرض الفيلم لأي مظاهر تعبر عن الاحتلال إلا من خلال وجود بعض الحواجز المرورية التي تضعها إسرائيل‏,‏ والتي تبدو الحركة فيها هادئة بلا منغصات‏!)..‏ ويتم ابلاغ سعيد وخالد من خلال إحدي منظمات المقاومة أنه تم اختيارهما لتنفيذ عملية فدائية ـ داخل إسرائيل‏,‏ ونفهم من الحوار أنه سبق لهما الاعلان عن رغبتهما في ذلك‏..‏ وتتصاعد الأحداث في هدوء باتجاه الإعداد للعملية‏,‏ ويلقي الفيلم الضوء علي مراحل ذلك مثل التغسيل والالتفاف بالاكفان للصلاة‏,‏ ولف المتفجرات حول الاجساد‏,‏ وتسجيل صورته علي شريط فيديو ثم رسم خطة العملية وكيفية الوصول من نابلس إلي تل أبيب‏.‏

في البداية كان خالد هو الأشد حماسا لتنفيذ العملية‏,‏ بينما سعيد يشعر ببعض التردد‏,‏ وقد نمت بينه وبين سهي ـ الفتاة الفلسطينية المغتربة في فرنسا والمغرب التي كان ابوها من ابطال المقاومة ـ مشاعر صامتة من الاعجاب‏..‏ واثناء بداية تنفيذ العملية يكاد الإسرائيليون يكتشفونها‏,‏ فيتم تأجيلها‏,‏ ويؤدي الهروب إلي أن يفتقد كل من خالد وسعيد بعضهما‏..‏ وتمضي الأحداث مع تحول جديد‏,‏ حيث يصبح سعيد هو الأشد تحمسا لتنفيذ العملية رغم تردده في البداية لأنه يعاني من نظرة من حوله بعد أن اتهم والده بأنه من المتعاونين مع الاحتلال‏,‏ بينما يتجه التردد نحو خالد بعد حوار مع سهي عن جدوي هذه العمليات‏,‏ وان هناك اشكالا أخري للمقاومة‏(‏ لم يذكرها الفيلم‏)..‏ وتمضي العملية في طريقها بين من قرر تنفيذها ومن تراجع‏!‏

ابدي المخرج هاني ابوأسعد تعاطفا هائلا مع بطليه‏(‏ سعيد وخالد‏),‏ بينما تعامل مع اعضاء المنظمة التي تقوم بالجهاد والمقاومة بكثير من الفتور‏,‏ بل وبطريقة لا تدعو للتعاطف معهم‏..‏ وطوال احداث الفيلم يؤكد أبو أسعد أنه ضد العمليات الانتحارية‏,‏ ولكنه لا يطرح بديلا ـ من خلال الدراما ـ وفي الوقت نفسه يقدم الانسان الفلسطيني وردود افعاله الانسانية ومشاعره بمنتهي الرقي مما يجعل العالم يتعاطف معه‏,‏ وان كان يتجنب إظهار ظلم وقهر المحتلين الإسرائيليين للانسان الفلسطيني‏,‏ ويوحي من خلال الدراما ان اتجاه شخصين عاديين لتنفيذ عملية انتحارية وراءه انهما يعيشان علي الأرض بلا حياة أو أمل أو مستقبل‏.‏

فيلم الجنة الآن عمل فني متميز للغاية في معالجته كسيناريو بسيط يطرح قضية كبيرة بذكاء وفي قالب درامي جيد‏,‏ ونجح في تقديم اجواء الحياة في نابلس‏,‏ وفي إسرائيل أيضا من خلال بعض اللقطات‏,‏ واقترب من مشاعر شخصياته الرئيسية وافكارهم وحالة القهر التي يعيشونها بمهارة ووعي‏..‏ وتبقي معالجته مختلفة وجديدة عن كل ما قدم عن الاحتلال الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية‏,‏ وهذا ما جعل الفيلم جديرا بالمشاهدة والمناقشة‏,‏ وجعل الأوروبي والأمريكي يتأمله‏,‏ بينما اختلف الفلسطينيون والعرب والإسرائيليون حوله كرؤية ووجهة نظر‏,‏ هناك من تحمس لها‏,‏ وهناك من تعامل معها بتحفظ‏.‏

الأهرام اليومي في

26.04.2006

 
 

مخرج "الجنة الآن" الحائز غولدن غلوب يقدم فيلمه في بيروت

هاني أبو أسعد: حاولت خلق جدل مثير في الفيلم يبقيه حياً مع مرور الزمن

ريما المسمار

قبل "الجنة الآن"، كان هاني ابو أسعد مخرجاً فلسطينياً آخر برصيد أفلام صغير وربما عادي أبرز ما فيه الروائي الطويل "عرس رنا" والوثائقي "فورد ترانزيت". بعد "الجنة الآن" صار صاحب الغولدن غلوب والمرشح للأوسكار وصاحب المشاريع الهوليوودية بالجملة (وقع ثلاثة عقود في هوليوود يبدأ تنفيذ اولها هذا الصيف). ولكن أبو أسعد يريد لشريطه ان يُشاهد بعيداً من الضجيج الاعلامي و"بهرجة" الجوائز كعمل فني اولاً وأخيراً، يطرح وجهة نظر شخصية حول موضوع شائك هو العمليات الانتحارية او العمليات "الانسانية" كما يسميها وان يتمكن من الصمود في وجه امتحان الزمن. ولكن عبثاً يحاول إذ لا مفر من العودة دائماً الى نقطة الصفر عندما يطغى الموضوع على، او على الاقل يتنافس مع، الشكل السينمائي. هنا محاولة حوارية مع المخرج للدخول في "فنيّة" الفيلم وخياراته الدرامية على خلفية خطابه السياسي مع الاشارة الى ان عروضه في الصالات المحلية تنطلق خلال أيام بتوزيع شركة "برايم بيكتشرز" بعد عرض صحافي أقيم قبل اسبوعين وعرض افتتاحي في 3 أيار المقبل (كلاهما بالتعاون مع جمعية بيروت دي سي).

·     ان اختيارك لموضوع الاستشهاديين او الانتحاريين­ لا أدري ماذا تسميهم انت­ هو في حد ذاته خيار مهم لموضوع كبير ومثار جدل وبرغم ذلك لم تطرقه السينما العربية من قبل. بالنسبة اليك، كيف انطلقت فكرة الفيلم وهل شعرت بمسؤولية تجاه موضوع غير مطروق؟

ـ الفكرة بدأت تحديداً من حيث تقولين. اي أنني مثل كثيرين لا أعرف شيئاً عن هذا الموضوع وخباياه. نحن قريبون روحياً منه ولكننا بعيدون جسدياً. وبالتالي الفيلم هو اقرب الى عملية بحث في هذا الشأن وبث لأفكاري حوله. في البداية لم أشعر بتلك المسؤولية التي ذكرتها. كان الشغل منصب على تحويل الواقع الى فيلم يناقش الأخلاقيات او الجدل القائم بين الاخلاقيات المطلقة والأخلاقيات التي تخلقها الظروف. كان الفيلم رحلة اكتشاف حقيقية.

·         إلام توصلت من خلال تلك الرحلة؟

ـ فهمت ان الأمر معقد ومركب وبعيد من التبسيط الاعلامي الذي يصنف تلك العمليات اما ارهابية واما ثمرة ايمان مطلق. الواقع ان هناك دافعاً عاماً واساسياً هو الاحتلال وهذا امر معروف سلفاً. ولكن قد تكون هناك دوافع شخصية وكل انسان معرض للوقوع في شرك العمليات كل بحسب ظروفه. انما الفيلم هدفه الدخول في الصراع الداخلي للشخصية، صراع الأخلاقيات الأبدي الذي نعثر عليه في كلاسيكيات الادب مثل "هاملت" والملاحم الادبية وهو تحديداً الصراع الذي يبقيها حية..

·         لم تسمِ تلك العمليات بعد. هل تصنفها انتحارية او استشهادية او...؟

ـ هي عملية انسانية بالدرجة الاولى. فيها البطولة والارهاب والتخبط والتناقض والايمان والشك...

·     يمكن المشاهد ان يستنتج في نهاية الفيلم موقفك من العمليات "الانسانية" كما تطلق عليها. ولكنك بدوت منساقاً الى تضمين الفيلم الجدل الكامل اي الموازنة بين وجهتي النظر "المع" و"الضد". ولهذا نقع في الفيلم على مونولوغات وحوارات ترد على بعضها. هل قمت بذلك للوصول الى جمهور اوسع لاسيما الأجنبي؟

ـ لم أفكر في الجمهور. ما في شي اسمو جمهور. انا الجمهور. من يبحث عن الجمهور يصنع اعلانات. هناك جمهور البيبسي كولا وجمهور كذا وكذا. جمهور الفيلم ليس ثابتاً لأن الفيلم ليس سلعة. بالنسبة الى وجهتي النظر في الفيلم من العمليات فمردها انني كنت أحاول خلق جدل مثير بالنسبة الي وتضمين وجهتي النظر هو ضمان لصمود الفيلم مع الزمن. بعد 20 سنة ستتغير المواقف ولكن تساوي وجهتي النظر قد يبقي الفيلم مثيراً للجدل.

·     ولكن خيار الموازنة اثر على الخيارات الدرامية. لنأخذ مثلاً شخصية الفتاة "سهى". دورها صغير وغير مؤثر فعلاً ولكنها مع ذلك تتلو ثلاثة مونولوغات رنانة. اي ان وجودها موظف فقط لحمل وجهة النظر المناهضة للعمليات الانتحارية.

ـ الدراما هي دراما "سعيد" وليس "سهى". الأخيرة بالفعل موظفة للمونولوغ. كشخصية درامية، لا تملك "سخى" عمقاً. ولكن ذلك مقبول في الدراما اي توظيف شخصيات في خدمة دراما الشخصية الاساسية. ولكنها شخصيات لا يمكن الاستغناء عنها ايضاً. ولا ننسى ان الجدل موجود ولكنه ليس محسوماً... انه جدل حي لأن قوامه الصراع الداخلي للشخصيات الذي لا يقدم أجوبة بل يطرح التساؤلات دائماً. ان هذه القراءة للصراع الداخلي الانساني هو الذي يبقي الحكاية حية ومتجددة مع الزمن.

·     هناك ترداد لشعارات وجمل مكرورة في سياق الجدل الذي يطرحه الفيلم حول العمليات الانتحارية يجعلنا نتساءل اذا ما كنت ساخراً ام جاداً فيه.

ـ هناك وجه ساخر للجدل. أعترف أنني ربما أخطأت في هذه النقطة. كنت أدرك سلفاً ان الكليشيه في الكلام قد يبدو فظاً وساخراً. ولكنني اخترت أن أبقي عليه لسبب واحد فقط هو انه بعد 50 سنة ثمة أمور في طبيعة الصراع الفلسطيني الاسرائيلي لن تكون مفهومة سلفاً. ربما أكون قد أخطأت ولكنني شعرت ان السفينة (الفيلم) قوية وتتحمل ثقل الفظاظة.

كذلك أريد ان أشير الى ان فكرة الحوار المتكرر والافكار المعادة هي جزء من يومياتنا في فلسطين. نحن نكرر النقاش نفسه كل يوم في موضوع العمليات وفي غيرها. بهذا المعنى، لا يحاول الفيلم ان يقدم تلك التفاصيل كمفاجأة او كاكتشاف وانما كلعبة يومية عالقون نحن فيها.

·     برغم ذلك يبدو لافتاً التأثير الذي يتركه مونولوغ "سعيد" الأخير على الرغم من ان ما يقوله سمعناه من قبل. هل ذلك عائد الى قدرة الممثل على اقناعنا بأن هذا الكلام كأنما يُقال للمرة الاولى؟

ـ هذا صحيح تماماً. كنا ندرك اننا في هذا المونولوغ لا نقول جديداً واننا سنكرر اشياء نعرفها وشرحاً مفهوماً. ولكن ذلك كان اساسياً في بناء الشخصية لأنه يأتي بعد صمتها الطويل. يخرج الكلام من "سعيد" كأنما للمرة الاولى كأنه هو يسمعه للمرة الاولى، يسمع نفسه ويحكي لنفسه. بالطبع أسهم أداء الممثل في منح المشهد قوته. ولكنني اود هنا العودة الى فكرة صمود الفيلم مع مرور الزمن. فهذا أمر الزمن وحده يثبته ولكن كل سينمائي يعمل على ان يترك عمله بصمة ما وان لا يشيخ مع مرور السنوات. بمعنى آخر، آمل ان تبقى لهذا الفيلم قيمة حتى عندما تصبح هذه العمليات تاريخاً. وهذا هو برأيي الفارق الاساسي بين تحقيق فيلم سياسي وآخر فني او هدفه التعبير الفني. السياسة تعبير عن الآني والمبسط بينما الفن يفضح المركب والمعقد. لذلك لا يمكن لفيلم مبني على وجهة نظر سياسية فقط ان يعيش لأن الأخيرة متغيرة.

·     هل كتبت المشاهد التي تسبق العملية وفقاً لمعرفتك بتفاصيلها. أقصد اننا نحاول جاهدين ان نتخيل كيف تتم تلك الأمور من تبليغ الذي سيقوم بالعملية ان الوقت قد حان وكيف يسجل شهادته وكيف.. وكيف.. لنجدك في الفيلم تقدمها بسكل بسيط وربما ساخر أحياناً..

ـ هذه المشاهد كتبتها نتيجة بحث وتجربة ذاتية في آن. خلال الانتفاضة الثانية، عشت لفترة طويلة في الضفة الغربية وكان لي اتصال مباشر وغير مباشر مع هؤلاء. هذا بالضبط ما يحدث في الواقع. هناك تفاصيل مثل ذهاب "جمال" الى بيت "سعيد" لا تحدث في الواقع اي ان من يخبر لا يذهب الى بيت منفذ العملية لأسباب امنية. ولكنني تعديت على الواقع لصالح الواقعية في الفيلم.

·     تقدم في الفيلم نموذجين في التنظيم. أحدهما "ابو كارم" شخصية مؤثرة وصادقة و"جمال" الوسيط الذي يبدو خليطاً من الاستغلالي وربما الخبيث..

ـ في كل تنظيم أدوار مختلفة. "جمال" هو أكثر شخصيات الفيلم المركبة. هو ليس خبيثاً ولكن ما يقوم به لا يخلو من استغلال. انه شخصية درامية مثيرة. هذا دوره وواجب عليه تأديته. ولكنه لا يستطيع ان يطور علاقته بالشباب لأنه في النهاية لن يستطيع ان يرسلهم الى الموت. ومشهد أكل السندويشات خلال تسجيل "خالد" شهادته ليس ساخراً بل هو تعبير عن الحالة النفسية لـ"جمال". انه يأكل غضبه ويحاول العثور على وسيلة ليبقى منفصلاً عاطفياً عما يجري. "جمال" مؤمن بما يقوله ولكن دوره مرعب. فإذا لم يقتل عاطفته ولم يتحلَ بشيء من العبث لا يستطيع ان يقوم بمهمته. عندما كنا نصور مشهد تثبيت المتفجرات الى جسدي "سعيد" و"خالد" كدنا نحن فريق التصوير ان نموت هلعاً ونحن ندرك اننا نمثل. فما بالك بالضالعين فيها في الواقع!

·         كيف قربت شخصية "جمال" من الممثل الذي لعبها؟

ـ اقتنعنا الممثل وانا ان يكون صادقاً في اداء شخصية "جمال" انطلاقاً من دوره ومهمته. فهذا رجل مهمته ان ينجّح العملية وعليه ان يقوم بما يلزم لذلك. ولكنه في النهاية لا يكون سعيداً بل نلمح على وجهه ذلك التردد وان لثوانٍ قليلة.

·         هل عرضت السيناريو على تنظيمات ضالعة في العمليات الانتحارية؟

ـ نعم حدث ذلك وبعض من المنتمين الى تلك التنظيمات ممن شاهد الفيلم كان يصيح وسط العرض "ايه مظبوط هيك منعمل"!

·         ولكنك تعرضت ايضاً لتهديدات كما أشيع...

ـ تعرضت لتهديدات من جانب فلسطيني ومن الاحتلال الاسرائيلي. موضوع العمليات الانتحارية شائك والفيلم ينتقد الطرفين الاسرائيلي والفلسطيني. لذلك عندما يكوك موضوع الفيلم مثار جدل فإن تقديمه من زاوية نظر خاصة سيصطدم بوجهتي النظر الاساسيتين لطرفي الصراع. ولا ننسى ان لهذا الموضع وجهين فقط لا ثالث لهما: الوجه الذي يقدمه الاعلام الغربي واسرائيل وهو الوجه الفلسطيني القبيح والارهابي والوجه الذي يطرحه الجانب الفلسطيني محاولاً تجميل الصورة. كلا الوجهين ناقص ومبسط.

·     هناك مشهد "سعيد" هائم في الشوارع مزنراً بالمتفجرات. هل تختزل تلك الصورة برأيك الفلسطيني كمشروع قتيل في كل لحظة؟

ـ انه اختزال للتناقض المرعب في هذا الجسد الذي يستطيع ان يكون القاتل والمقتول في آن معاً وان يخاطر بالشعب وفي سبيل الشعب في الوقت عينه. هذا أشبه بالتحول بالموضوع من المتخيل والنظري الى العملي. اي ان تسليط الضوء على هذا الموضوع الذي نظن اننا نملك وجهة نظرنا الخاصة عنه لا يلبث ان يربكنا عندما نراه متجسداً في فيلم لأننا نصبح في مواجهته مباشرةً.

·         هل تقصدت الفصل بين العمليات الانتحارية والدافع الديني؟ فالشابان ليسا متدينين بالمعنى الكامل للكلمة..

ـ هذا حقيقي في فلسطين. الدين ليس دافعاً وراء العمليات وما الحديث على الجنة والملائكة والثواب الا بلسمة للخوف والرعب المرتبطين بالعمليات.

·         في النهاية، يحدث تحول عند كل شخصية في الاتجاه المعاكس لصورتها الاولى. الامَ استندت في ذلك؟

ـ "سهى" هي التي أسهمت في تغيير الشخصيتين. لم يكن لدى "خالد" دافع قوي لذلك رأيناه يعيد التفكير بعيد محادثته معها. اما "سعيد" فإن تقربه منها هي ابنة الشهيد كان بمثابة اذلال يومي له وتذكير بأن والده كان "عميلاً". لم يكن ممكناً ان يمحو وصمة العار تلك الا بالقيام بعمل مضاد وهو تفجير نفسه. ولكن كما ذكرت سابقاً، التحول الذي يحدث للشخصيتين داخلي أقرب الى مسار الشخصيات الملحمية.

·     المشهد الأخير هو تتويج لذلك التبدل: "سعيد" يزج بـ"خالد" في السيارة ويقفل الباب عليه ويصيح بالسائق لينطلق. "خالد" يبكي في المقعد الخلفي ولكنه لا يصارع القدر..

ـ هذه صورة استوحيتها من الواقع من قصة حقيقية وقعت قبل سنوات قليلة حيث كان شاب متوجهاً الى تنفيذ عملية يكتشف ان الفتاة التي الى جانبه في السيارة مزنرة ايضاً بالمتفجرات. يرفض عندها تنفيذ العملية معها معتبراً ان دور المرأة خلق الحياة ووظيفة الرجل ان يقتل اذا اقتضى الأمر ليحمي. وعندما وصلا الى الهدف، ذهب هو في الاتجاه المعاكس تاركاً اياها لتقوم بالعملية وحدها. ولكنها في تلك اللحظة انهارت فاتصلت بالسائق ليعود اليها ولكنه حاول اقناعها بأنها على بعد خطوات من الجنة ولما لم تقتنع قال لها ان الوضع الامني لا يسمح له بالعودة ثم قال لها ان "البوسترات" أصبحت جاهزة ولا تستطيع التراجع الآن! عندها لجأت الى الشاب الذي اقنع السائق بالعودة واوهمه بأنه غير رأيه ايضاً. ولما وصلت السيارة وضعها في المقعد الخلفي وانطلقت بها ليبقى هو وينفذ العملية!

·         كيف كانت ردود الفعل في الغرب على الفيلم لاسيما انه نال جائزة الكرة الذهب وكان على قاب قوسين من الاوسكار؟

ـ أنا رافض التعامل مع الموضوع بهذا الشكل. بالنهاية تكوين رأي بالفيلم يستند الى تجربة شخصية وتفاعل آني مع الفيلم. لا يوجد رد فعل عام هناك ردود فعل مختلفة ومتناقضة لأن الفيلم يتيح الفرصة لمشاهده ليفكر بالموضوع ولا يدفع به في اتجاه واحد. بهذا المعنى، كان هناك جزءاً في اوروبا واميركا حارب الفيلم ووصفه بالبروباغندا التبريرية للعمليات الارهابية بسبب تعاطفه مع الشخصية الاساسية. ولكني اعتبر ذلك الرأي نابعاً من فريق تابع لسياسة معينة من مصلحته الا يصدر شيء حضاري من الشعب الفلسطيني. الفيلم مهما كان هو الوجه الجميل للحضارة لأ للحضارة وجوه قبيحة كالدبابات.

بالنسبة الى الجوائز، فاز الفيلم بها لأن عمل فني بالدرجة الاولى. وظيفة السينما برأيي ان تقدم للمشاهد ما هو بعيد عنه وربما رافض له. السينما إغناء للتجربة الانسانية من مكان آمن.

·         لا وجود للموسيقى في الفيلم الا عندما تستمع اليها إحدى الشخصيات في راديو السيارة او على شريط كاسيت..

ـ جزء من فكرة الفيلم استخدام معادلة الثريلر المعروفة وتغيير قواعدها: الشخصيات مركبة ومتناقضة الدوافع بعكس شخصيات الثريلر الكلاسيكية؛ التجربة ليست تجربة الرجل الابيض العادي وانما تجربة فلسطينية؛ تجريد النوع من الاصطناعية ومنها الموسيقى المرافقة.

·     في المشهد الأخير، تقترب الكاميرا ببطء من وجه "سعيد" كأنها تحاول اكتشاف ما يدور في هذا الرأس الذي على وشك الانفجار. هل يقوم حتماً بالعملية ؟

ـ بالنسبة الي، من المؤكد انه ينفذ العملية. ولكن المشهد مزدوج. فنحن عادة كمشاهدين نريد ان نرى ما يراه ووجهة نظره. حاولت في اللقطة الأخيرة ان نرى بعينيه ما يراه.

المستقبل اللبنانية في

28.04.2006

 
 

الجنة الآن بعيون أمريكية: ترجمة: أحمد يوسف 

انتحاريون بسمات إنسانية

بقلم: فيل هول فيلم ثريت 

يمكن اعتبار الجنة الآن فيلما عن رحلة صديقين، غير أنها هذه المرة رحلة صديقين فلسطينيين انتحاريين. يعمل سعيد وخالد عاملين فى ورشة إصلاح للسيارات فى نابلس، ويتم تجنيدهما للتسلل داخل اسرائيل حتى يفجرا نفسيهما فى مكانين مزدحمين فى تل أبيب، لكن خلال محاولتهما عبور حاجز أمنى يفصل بين المناطق المحتلة وإسرائيل تتعقبهما القوات العسكرية الإسرائيلية مما يضطرهما للافتراق. وعند تلك النقطة يتداعى ويتشتت الفيلم، فمن المستبعد ألا يكون لهذا النوع من العمليات خطة بديلة إذا ما تعرض أصحابها لأن يتم اكتشافهم، كما أن من غير المعقول أن الميليشيا التى تخطط للعمليات الانتحارية توجه اللوم إلى سعيد على هذا الفشل، بينما يبدو من الواضح أن اللوم يقع على عاتق الرجل الذى يعيش داخل إسرائيل وكان من المفترض أن يعاونهما لكنه رحل دون أن يأخذهما معه.

وبعدما يفترق سعيد وخالد يمضى الفيلم فى مطاردة معقدة ملتوية ومحاولات للبحث عن سعيد، لكن دون أن يحقق ذلك أى نوع من الإثارة لأن المتفرج يعرف سلفا أنهما لابد أن يلتقيا مرة أخرى عند نقطة ما من الحبكة. يحتوى فيلم الجنة الآن فى نصفه الأول على لحظات تبقى فى الذاكرة، خاصة المحاولات الكوميدية هكذا فى النص لتصوير شريط الشهيد، عندما تتوقف الكاميرا عن التسجيل، ويتشتت انتباه الفدائى الذى يتلو كلمات الاستشهاد بينما ينشغل زملاؤه بتناول الطعام خلال حديثه عن الأسباب التى دعته للتضحية بنفسه. كما أن هناك لبنى عزبل التى تمثل محور قصة الحب، فهى تتمتع بالجاذبية لكن الفيلم يحولها قسرا لكى تكون لسان حال الرأى الذى يعارض العنف فى النضال ضد الاحتلال الإسرائيلى. إن هانى أبو أسعد الذى أخرج من قبل فيلمه الرائع عُرْس رنا فقد قدرته على التأثير هنا، فلعله أراد أن يمنح الانتحاريين سمات إنسانية، لكنه لم يمنحهما إلا فيلما طاش عن هدفه المنشود.

العربي المصرية في 30 أبريل 2006

الذل.. يصنع الإرهاب

بقلم: جيه هوبرمان فيلدج فويس 

الجنة الآن فيلم يستكشف تلك الأرض المجهولة للجانب النفسى من السياسات المعاصرة، خاصة فيما يتعلق بما يدور فى عقل الانتحاريين الذين يفجرون أنفسهم. يتبنى الفيلم حبكة تفرط فى التعقيد المصطنع أحيانا لكنه يظل قادرا على إثارة القشعريرة عندما يحكى قصة اثنين من عمال ميكانيكا السيارات يعيشون فى الضفة الغربية، يتم تكليفهما بمهمة داخل إسرائيل لكن المهمة تنتهى إلى الإخفاق.

تقول شركة وارنر التى توزع الفيلم فى الولايات المتحدة إن الفيلم يمثل مخاطرة حقيقية، لكنه إذا كان بالنسبة لها مخاطرة من الناحية التجارية فإن صنع الفيلم ذاته كان عملا بطوليا، فقد تم تصويره فى موقع أحداثه فى نابلس، بالإضافة إلى الناصرة مسقط رأس المخرج والمؤلف والمنتج هانى أبو أسعد، حيث كان الفنانون والفنيون مضطرين للتنقل والمراوغة بين أماكن تشهد يوميا معارك قتالية أو قصفا صاروخيا، كما كان عليهم أن يعبروا بحذر ذلك الخط الفاصل بين جيش الاحتلال الإسرائيلى وقوات فلسطينية مسلحة، وحيث الساحة السياسية لا تقل غموضا وتعقيدا عن ساحة القتال.

يتعمد هانى أبو أسعد أن يصبغ فيلمه بقدر من الروح العبثية القاتمة، فالشابان سعيد قيس ناشف وخالد على سليمان يتلقيان الأمر بمهمتهما قبلها بيوم واحد، ويكون عليهما أن يمرا بطقوس تحضيرية معقدة، مثل تصوير شريط فيديو يلقيان فيه بيان الوداع، وسوف نكتشف فيما بعد أن هناك سوقا رائجة تتكسب من بيع وتأجير شرائط مثل هؤلاء الشهداء، بالإضافة إلى الشرائط المناقضة تماما التى تسجل إعدام الخونة الفلسطينيين. هكذا فى النص. ولأن هانى أبو أسعد يتمتع بموهبة حقيقية فإنه لا يقاوم إغراء محاكاة صنع هذه الشرائط، حيث يتم تصويرها بميزانسين ينحو إلى المبالغة، وبإخراج الهواة، وبحركة كاميرا مرتبكة، لكن أبو أسعد لا يهتم بتحديد هوية التنظيم الذى يجند سعيد وخالد للمهمة، فهو ليس دينيا مثل حماس، وليس أيديولوجيا كشهداء الأقصى.

قد يعانى فيلم الجنة الآن من بعض الخلل فى الراكورات، كما يسير فى منحنيات سردية عديدة لكى يصل إلى نهايته بقدر كبير من الالتفاف حول نفسه، لكن قلب الفيلم هو ذلك المشهد شديد التوتر الذى يشبه مشهد الحافلة فى فيلم هيتشكوك تخريب. فبعد أن يمر البطلان بطقوس حلاقة الشعر والمسح بالزيت يقصد مشهد غُسْل الاستشهادى قبل أن يموت، فإن هاتين القنبلتين البشريتين ينطلقان مع ضجيج الصلوات ليعبرا الخط الأخضر بقدر كبير من السهولة ليتسللا إلى إسرائيل. وفى هذا المشهد يتجول الإرهابيان اللذين يرتديان ملابس العُرس خلال المناظر الطبيعية التى لم يريا مثلها من قبل، وهنا يحشد الفيلم تأثيرا وجوديا عارما. ويفترق الصديقان، ليضل سعيد الطريق وسط من يفترض أنهم سيكونون ضحاياه، ليعانى من الشك ويتساءل حول قبوله بهذا القدر من البلاهة والغباء هكذا فى النص أن يقوم بالمهمة الانتحارية، لذلك فإنه يحاول أن يعود أدراجه ليعبر الحدود من جديد.

يحتوى الفيلم على الكثير من السمات التى تميز الأعمال الفنية التى تشترك فى إنتاجها أكثر من دولة هنا هى فلسطين وهولندا وألمانيا وفرنسا، فهو يشتمل على العديد من الخطوط السردية الفرعية، والمشاهد التعليمية التى تحاول أن تنقل وجهات نظر متعددة، وهو ما يتجسد فى الفتاة الكوزموبوليتانية سها لبنى عزبل، التى تمثل بالنسبة لسعيد علاقة رومانسية وحوارا جدليا فى وقت واحد، فوجهة نظرها السياسية قريبة من تلك التى تتبناها حنان عشراوى هكذا فى النص إذ ترفض الإرهاب وتراهن على قوة التأثير فى الرأى العام.

لكن سعيد يتصرف على النقيض بدافع من شعوره الشخصى بالمهانة والخزي، وهو يخبر سها بأن جرائم الاحتلال لا تحصي، ولن أعود مرة أخرى لمخيم اللاجئين، كما أن له أسبابه الخاصة الأخرى فى هذا الأمر. إن الجنة الآن لا ينجح فى إثارة التعاطف مع هؤلاء الإرهابيين، لكنه يحث المتفرج على أن يفكر فى ذلك الشعور الذى لا يمكن احتماله بالذل والهوان الذى قد يدفع مثل هؤلاء للقيام بهذه الأعمال.

العربي المصرية في

30.04.2006

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2016)