الدورة 59
لمهرجان كان السينمائي:
عودة الإسباني المودفار الي جماعية العائلة وبابل المكسيكي
يناقش الخطأ البشري وصديق العائلة الإيطالي شايلوك الألفية الثالثة
زياد الخزاعي
ما كان
علي قيصر كان جيل جاكوب وفريقه النافذ ان يدرجا جديد المخرج الاسباني
المميز بيدرو المودفار العودة في المسابقة الرسمية، فهو اصبح قامة سينمائية
ذائعة الصيت عالميا، وتنافسه مع اقرانه لن يقدم او يؤخر بسمعته ومنجزه
الابداعي، فصاحب نساء علي حافة الانهيار العصبي (1987) و كل شيء عن امي (اوسكار
عام 1999) و تكلم معها (2001) يصبح عالة كبيرة علي التقييم العام الذي
تتورط به لجان تحكيم دولية، علي شاكلة كان، فان اعطته شيئا غير السعفة
الذهبية فالعار سينصب عليها، وان تجاهلته، قامت قيامة النقاد والصحافيين
الذين لا يتوانون عن توجيه سهام معاركهم الدائمة مع تلك اللجان، وقد عمد
جاكوب فيما يتعلق بالشريط الثاني المذكور أعلاه، الي اختياره شريط افتتاح
تلك الدورة، مما كتم افواه المستفزين للنيل من ادارته.
العودة او
ان تعود
Volver
هي حكايات نسوية تتداخل وتمتزح صيروراتها، بما يشكل لوحة عائلية شديدة
الميلودراما، وهي صبغة توافرت في اغلب نصوص المودفار الاخيرة، وهو بتركيزه
علي ثيمة الاقرباء (ام، اخت، جدة وغيرهن) يضع بصيرته علي مفهوم الاعتبار
الشخصي واعادة تقييمه. ففي نساء يحاكم بعلاقة سينمائية نادرة الغل العاطفي
الذي يسلب البطلة قدرتها علي التأقلم مع وحدة مفروضة لذا تسعي الي الاقربين
كي تعوض استلابها، وفي كل شيء.. تتحول حياة البطلة الام الي جحيم مع مقتل
وليدها في حادث سيارة، لتسعي بدورها الي الجيران والاقرباء لمحو قدر، ولو
قليل، من وجع الفاجعة، اما في تكلم فهنا يصل المودفار الي سمو ابداعه، عبر
حكاية امرأتين ترقدان في مستشفي وهما في غيبوبة، تقربان بين رجلين لا يعرف
احدهما الاخر، ليجتهدا في اعادة افتراضية لعائلة هجينة. هذه المرة رصد
المودفار ثلاثة اجيال من النساء كل واحدة منهن تواجه محناً متراكبة، وان لم
يربط بينهن، سوي عبر قرابتهن وتجاورهن في مدينة واحدة (او لنقل انهن من
مسقط رأس واحد) ريموندا (اداء متألق من بنيلوب كروز) تعيش حياة مزرية مع
زوج مدمن، عاطل عن العمل، لا يكف عن النق والتأفف والمشاكسة، يقضي جل وقته
امام شاشة التلفزيون متابعا مباريات كرة القدم، غير آبه بلوعة الزوجة
الشابة التي تتهالك في عملها من اجل توفير لقمة شريفة لها ولابنتها
المراهقة، هذا الزوج الجديد (والد الطفلة لن نعرف سره حتي اخر مشهد صاعق في
اعترافه) يضمر امرا قذرا، فكلما صدت ريموندا رغباته الجنسية، تظهر عليه
نزعة عدوانية، سيفرغها ذات ليلة بالابنة حيث يحاول الاعتداء عليها داخل
المطبخ، الا ان الصبية ترديه قتيلا، مما يحتم علي الام الملتاعة بالإثمين
ان تسارع الي اخفاء جثة الزوج السافل.
بعد الدفن
يأخذنا المودفار بعيدا عن ريموندا الي شقيقتها الحلاقة صول التي هرب زوجها
مع احدي زبوناتها لتعيش وحيدة الي النهاية. هذه المرأة المرعوبة من ماض
غامض لا نعرف كنهه إلا في وقت تأخر، حين نفهم انها تخشي ارواحا تتبعها
وتطاردها، ومع وفاة العمة باولا ستفاجأ صول بشبح والدتها (الممثلة كارمن
ماورا) يخاطبها وهي تقف في دارتهما القديمة في قرية المانشا، بيد ان الام
العائدة ليست روحا هائمة، بل هي كائن حقيقي من لحم ودم، فما حدث من امر
احتراقها هو تلفيق من هذه الاخيرة لتدمر اثما موجعا للعائلة، فالتي احترقت
هي عشيقة الاب الذي قضي بدوره في الحريق. هل هي عقوبة الحب الدنس كما يبدو؟
تجيب الام لاحقا في اعتراف مفاجيء لريموندا، انها احرقتهما عمدا لأن اب
ريموندا اعتدي عليها جنسيا وكانت ثمرته طفلتها الصبية!!
هذه
الحقيقة المرة التي تجلت عند عودة العائلة الي البيت القديم، تبعث مجددا
حيوية من نوع اخر، اجتماعهن الابدي كإرادات انسانية في عالم متوحش، وكثير
السفالة!
لا يتركنا
المودفار من دون ان يمررنا بتطهير درامي والمتمثل بالجارة المستوحدة التي
سيعبث المرض الخبيث بجسدها وشبابها، ومع مشاهد لم شمل العائلة الرئيسية
سنشهد الموت البطيء لهذا الكائن الرقيق الذي ظل طوال الفليم يحاول اعادة
الاعتبار لافرادها.
ليس من
السهل تلخيص هذا الفيلم، فهو متشابك الاحداث، كثير الشخصيات والمواقع وفيه
سيل هائل من الحوارات، غلب عليها القفشات والروح المرحة التي يصر المودفار
علي سبغها علي مشاهد عديدة رئيسية في افلامه، لكن ما هو مؤكد هنا
الاستعارات البليغة والبينة من اشتغالات البريطاني الفريد هشكوك، خصوصا ما
يعني بأمور ثلاثة:
أ ـ
الاختزال الدرامي في مشاهد الجريمة والدفن واحالتها الي الكوميديا اكثر منه
الي الاثارة السمجة، فالاستاذ الكبير يصر دوما علي وضع شخصيات خفيفة الظل
داخل المشهدية الحرجة تقول كلاما في الضد من حالة الشد العالية، والمودفار
لم يشذ عن هذا، فبعد اكتشاف ريموندا للجثة، ستفاجأ بالزيارة غير المنتظرة
لصاحب البار المجاور والذي كانت تعمل فيه عندما كانت شابة، ولدهشتها سيعرض
عليها الاحتفاظ بمفاتيح المطعم (سنراها تعمل فيه لاحقا لتأمين وجبات طعام
فريق سينمائي يقع احد افراده في حب البطلة الشهية!!) وحين تطلب من جارتها
البدينة مساعدتها في دفن الثلاجة التي تحوي الجثة، سنسمع الكثير من نكات
هذه الاخيرة وتحاملها علي الرجال جميعهم!!
ب ـ
الاناقة داخل المشهد، فكما كان يفعل هيتشكوك متعمدا جعل محيط مشهدياته
اخاذا في توظيفه، يتأني المودفار في تلوين مشهدياته من دون افتعال، ويرتب
ديكوراته والوانها بما يضفي بهاء وعطفا علي اناقة بطلاته وصفو دواخلهنّ.
ج ـ
اللامفاجأة التي تتولد من تراتب الحكاية المعروفة، فهيتشكوك كان شهيرا في
عرضه للجريمة من دون ترقب ويدخلنا لاحقا في اجواء التخمين، والمودفار لم
يبتعد عن هذا، فحينما اراد اخبارنا بالحدث الجلل سنري الصبية ترتعد وهي
تنتظر امها، وحينما تصرخ فيها ستعترف بالجريمة، ويصبح الامر لدينا كمشاهدين
في حكم الامر المنتهي. سنري جثة، وهذا ما يحدث لاحقا من دون دهشة، فما يسعي
اليه المودفار هو الوصول الي اللب الثاني من الاعتداء الثاني (الاب الذي
اغتصب ريموندا وخلف منها الصبية التي ستقتل زوج الأم!!).
هذه
التداخلات جعلت من العودة اكثر نصوص المخرج الاسباني تعقيدا، فهو يداور علي
مدي الساعتين في حكايات بطلاته اللواتي سيعدن الي المرتع العائلي بعد سلسلة
من الاوجاع التي احالتهن الي اضحيات مقدسة!
السردية
المتراكبة، ولكن بدهاء سينمائي اكبر، كانت متوافرة باقصي درجاتها الباهرة،
في جديد المخرج المكسيكي اليخاندرو غونزاليس اناريتو بابل (142 دقيقة) وهو
يستكمل الاسلوب ذاته الذي درج عليه في فيلميه السابقين الحياة عاهرة (2000)
و 21 غراما (2003) فالاحداث والشخصيات التي تقع وتعيش في بقع مختلفة
ومتباعدة، ستتجمع وتتلاقي في اقدار لولبية الحركة، انها طلق في الحياة علي
الشاشة، لا يمكن اقتطاعها او قصها، او حتي التجرؤ علي تغيير تراتبها.
آناريتو
(ومعه كاتب السيناريو الدائم غيليمرمو آرياغا الذي كتب الفيلمين السابقين)
احال هذا الاسلوب الي علامة مميزة لاشتغاله الذي اكتسح المهرجانات وخلب لب
النقاد والمتابعين، ومنهم استوديوهات هوليوود التي هرعت الي موهبته لتوقع
معه عقودا، من فضائلها انها ستؤمن لنا كمشاهدين فرصا لمتابعة نصوص هذا
المخرج الرهيف وشديد الذكاء والحرفية.
في بابل
يطرح اناريتو اسئلة ازلية: من يرتكب الخطأ، ومتي نرتكبه؟ وما الذي يدفعنا
الي ارتكابه؟ هل هي نزعاتنا، ام فساد نفوسنا ام الاخرون الذين لا يسعون الي
الاقتراب منا؟ وفوق هذا: هل الخطأ عقاب مبطن للارادة الضعيفة والخطلة
الدوافع؟ هذا ليس تفلسفاً زائدا من المخرج الشاب (ولد في مكسيكو عام 1963)،
وانما قناعات عميقة تولد في دواخله باعتباره ابن شعب متراكب الاعراق، معقد
السياسات، متباين الطبقات، متأصل في ابداعاته الادبية والفنية
والايديولوجية التي ولدتها حركات مسلحة وثورات وعصيانات اصبحت علامات في
تاريخ امريكا اللاتينية.
في الحياة
عاهرة يداخل اناريتو حياة بطله الشاب الهامشي الذي يعتاش علي السرقة
ومصارعة الكلاب، مع حياة ممثلة تلفزيونية شهيرة ستقع ضحية حادث اصطدام
يحيلها الي جثة متحركة، مع حياة هامشي يعيش علي ارصفة المدينة الكبيرة
والذي سنكتشف انه قاتل مأجور مكلف بتصفية قطب سياسي.
اما 21
غراما فالحكاية ستمس اربع شخصيات: الغني الذي يعاني من عطب في القلب،
وزوجته الساعية الي الحمل منه قبل موته، والشقي الذي وجد في المسيح وكنيسته
ملاذا ايمانيا لآثامه وجرائمه السابقة ليتحول الي قديس متوحد مع نفسه، بيد
ان سعيه الي نظافة ذمته سيدفن ثانية حينما يقتل بالخطأ دهسا أباً مع
ابنتيه، ليقع الامر مهولا علي كيان الام الشابة التي ستقرر التبرع بقلب
الزوج الشاب الي مريض محتاج، ليتبين انه الغني، الذي يجتهد في الوصول الي
معرفة العائلة التي انقذته من موته المبكر، واصلا الي الارملة حيث يقعان في
الحب، ويتعاهدان علي القصاص من المجرم الذي يعلن ان المسيح تخلي عنه!
هذه
اللمحة واجبة للتعرف علي البناء الدرامي المتشابك والايقاع الداخلي لـ بابل
الذي عرض ضمن المسابقة الرسمية والمديات الفلسفية التي يتشارك بها مع
سابقيه في ثيمة الخطأ وتبعاته. في جبال الاطلس الصحراوية المغربية يشتري
راعٍ بندقية من جارٍ له لقتل الذئاب التي تفتك بقطعانه وهذا الاخير حصل
عليها من سائح ياباني جاء لتمضية عطلة جيدة في ربوع المغرب. يعهد الاب
بالسلاح الي ولديه اليافعين اللذين يشكان (بعد عدة محاولات لقتل الحيوانات
المفترسة) ان البندقية لا تصيب علي مبعدة اكثر من مترين وليس 3 كيلومترات
كما ادعي الجار البائع.
يجرب يوسف
حظه علي باص سياحي، ويطلق رصاصة واحدة في اتجاهه، يقطع آناريتو هذا المشهد
القدري الضاغط، الي الامريكي ريتشارد (النجم براد بيت) وزوجته سوزان
(الممثلة كيت بلانشيت) وهما يتشاحنان علي صواب سياحتهما في حين نري ولديهما
في رعاية مدبرة منزلهما المكسيكية (قطع آخر) لتنتقل الي طوكيو متعرفين علي
الفتية شيكو (اداء اخاذ من الممثلة اليابانية رينكو كيكونش) الصماء البكماء
التي تعاني من فشلها الدائم في العثور علي حبيب انها تعيش في عالم مختزل،
قليل الصداقات، كثير سوء الفهم، ورغم ثراء والدها فان شيكو التي فقدت امها
مؤخرا اثر انتحارها المفاجيء لا ترتبط بعاطفة حقيقية معه، فهي تتهمه بـ
اقصائها عن عمد وعدم الالتفات اليها ومشاعرها، عليه سنجدها دائما في مركز
اللهو او المطاعم، وبحثا عن طعم جماعي ضد وحدتها وحياة الصمم.
حينما
نعود الي المغرب سنعرف ان الرصاصة اخترقت كتف الامريكية سوزان، وتتحول
البلاد الي حقل من الاشاعات بخصوص عودة المتشددين المسلمين واعوان الارهاب،
فيما سنري مدبرة المنزل وهي ترافق الصغيرين لحضور حفل زواج ابنها الاصغر
قبل ان تواجه محنة كادت ان تودي بحياتها حينما يتركها ابنها البكر سنتياغو
(الممثل المكسيكي غايل غارسيا بيرنال بطل مذكرات دراجة نارية في صحراء
الحدود الامريكية ـ المكسيكية بعد مطاردة مع الشرطة. في الختام سيتم انقاذ
الأم الامريكية وتنجح الشرطة المغربية في الوصول الي المعتدين السذج ويتم
اعتقالهم، فيما تحقق نظيرتها اليابانية مع والد شيكو الذي سلم البندقية
ذاتها التي كادت تودي بحياة السائحة غالية الثمن ليكتشف ان ابنته قد كذبت
علي المحقق الشاب في محاولة لاغرائه في وصال جنسي فاشل.
هذه
الشخصيات ارتكبت جميعها اخطاء لا تغتفر (او علي الاقل لا تفهم دوافعها
بسهولة ويمكن احالتها الي ضغط الظروف والمصادفات) فلولا وجود البندقية
اللعينة (وهو سلاح وافد الي منطقة مغربية نائية!) لما تحققت العقوبات
الرباعية، الام الامريكية لانها استمرت السياحة علي حساب ولديها، مدبرة
المنزل التي رضخت لالحاح العرس لتنتهي مطرودة من الولايات المتحدة بعد
مقايضة بين السجن بتهمة اختطاف طفلين امريكيين او الإبعاد، وشيكو اليابانية
التي ارادت الانتقام من والدها فخلعت ملابسها لمحقق الشرطة!! لتحصل علي
اهانة داخلية بمثابة العقاب!
بابل
انموذج عالي الجودة في استخدام المونتاج الذي انجزه ببراعة الثنائي ستيفن
ميريوني ودوغلاس كرايس، فلولاهما ما كان توظيف المشاهد يملك سحره، انه اشبه
بلهاث سينمائي تتداخل فيه صور (من توقيع مدير التصوير رودريغو برتنو)
والوان ومشهديات اخاذة تتقابل فيها جبال المغرب مع صحراء المكسيك وزحام
طوكيو، انه فيلم يحتاج الي صبر طويل وعين حاذقة لتجمع جمالاً سينمائياً لا
يضاهي.
بعد
باكورته الناجحة عواقب الحب (مسابقة كان عام 2004) يعود المخرج الايطالي
الشاب باولو سورينتينو (ولد في نابولي عام 1970) بجديده صديق العائلة (داخل
المسابقة) ليؤكد علي موهبته وطلقه الابداعي، وكما قدم في الاول عزلة بطله
العجوز الذي يعيش حياة منعزلة في فندق، محافظا علي سر غامض عماده احتفاظه
باموال عملية سرقة كان عليه تسليمها الي اعوان عصابة مافيا قبل ان يقع في
حب شابة صموتة تعمل في ادارة الفندق، تداريه وتعطف عليه من دون ان تعي
عواطفه لتكتشف بعد تصفيته، انه حول الثروة الي حسابها الشخصي. يقدم
سورينتينو بطلا من نوع اخر، يعاني بدوره من عزلة ذات صبغة اخري. فجرميا
البالغ من العمر سبعين عاما، يداري وحدته وشكله المقرف بمداورة الديون التي
يراكمها علي الاخرين، مهددا اياهم تارة، ومقايضا تارة اخري، انه شايلوك
معاصر يتحصن بماكينة خياطته ودكانه الذي تحول الي مركز للتعاملات
والحسابات، قبيح، قذر الطلة والنفس والسريرة، لكنه يمتاز بقوة الشخصية
واللسان الذرب.
يستغل
جرميا صداقته لعائلة تعاني من صعوبات مادية، فيقايضها بمقتنياتها قبل ان
تأتيه فرصته الذهبية مع الزيجة المرتقبة لابنتها الحسناء روزالبا (لورا
كياتي)، فاموال الزفاف ستأتي من جيبه وثروته علي شرط النسبة العالية، فهذا
المرابي عديم العاطفة لا يفكر سوي بربحه وما سيأتيه من صفقاته.
وهنا سيضع
عينيه ورغبته في جسد الحسناء الفتي. ويخطف فرصته حينما يقترب من يوم زفافها
ويحاصره بشبقه، تقول له: انت تمسني . يقول انا امس الجنة فترد عليه بل انت
تمس الصبا! . جرميا الذي يعيش مع والدته المتماوتة، ويستغل الجسد المترهل
لجارته، سيقضي وطره من الفتاة التي ستمسك بزمام المبادرة لتنهي ارتهان
عائلتها الي الدين المالي: العفة كثمن للشهوة.
لكن
روزالبا تضمر امرا آخر، انها تسعي الي تدميره والغائه، اولا عبر صفقة مالية
تستنزف ثروته كلها تحت تهديد حملها بوليده، فالسبعيني الذي ينافح بفحولة
متأخرة سيرضخ للاغراء (بديلا للابتزاز الذي ظل يمارسه علي ضحاياه) ومن ثم
الموت علي يد احد ضحاياه. اذا اردنا النظر بانصاف الي شخصية جرميا، فهو
كائن معطوب، محظوظ في الوقت ذاته، فقصر قامته وبشاعة طلته، حصنته الي حد
ما، من المغامرة، فهو شخص شديد الحذر، مخاتل، من دون عواطف (ما عدا انينه
الدائم علي مرض والدته) ومع دخول شخصية روزالبا في حياته، يحقق البطل
العجوز خبطته الشخصية التي طال انتطارها، ويعزز حظوظه في ان يكون انسانا من
جديد.. ولو لمرة واحدة فحسب. المقاربة واضحة بين بطلي فيلم سورينتينو، ليس
عمرهما او عزلتهما، بل بما يمثلانه من خسة اجتماعية، وانحطاط شخصي، فبطل
عواقب الحب مجرم ومتورط في الدم، يعزل نفسه في اروقة الفندق ويلوذ بصمته
وحيادية شخصيته، لان العالم الخارجي يقف له بالمرصاد وليعاقبه، وهذا ما
سيتحقق لاحقا، حينما نراه مواجها مصيره علي يد المنتقمين من صحبته
السابقين. اما بطل صديق العائلة فهو علي قدر اكبر من التعقيد الدرامي، يلغو
بالكلام طوال الفيلم، ولغته ذات ايقاع غريب قريب الي الشعر، وهو فيها دائم
الاستعارة لنصوص قرأها ذات يوم (اغلبها من مجلة ريديرز دايجيتس الامريكية
ذات الارتباطات بوكالة المخابرات المركزية!) مضفيا لمحات من تفلسف محبب حول
الناس والاشياء (لفتة ذكية علي موضوعة اصابع الشوكولاته!) والاحداث، جرميا
انسان فاعل في وسطه، بيد ان عزلته عاطفية فقط، وعندما يقع في المحظور وفخه
عليه ان يدفع ثمنا غاليا: حياته مثلما بطل عواقب الحب !
يستكمل
المخرج الجزائري الاصل الفرنسي الهوية رشيد بوشارب ما بدأ في غبار الحياة
(1994) الذي قارب فيه الورطة الامريكية في فيتنام والجرائم التي ارتكبتها
جيوش واشنطن في حق المدنيين، وكان الفيلم بمثابة اقرار بان الحروب دائما
تلغي الحقوق حتي وان ادعت جيوش الاحتلال والتحرير انها جاءت لتؤكدها، وهذا
ما توافر عليه جديده بلديون (اسمه الاخر ايام المجد ) ـ عرض داخل المسابقة
ـ الذي يتصدي لبطولات الفرق الافريقية (شمالها وغربها) التي تطوع افرادها
في الجيش الفرنسي خلال الحرب العالمية الثانية ضد الاجتياحات النازية
واعوان حكومة فيشي.
بوشارب لا
يوثق وحسب، بل يربط ماضياً هبَّ فيه اهل شمال افريقيا للدفاع عن فرنسا، رغم
احتلالها وعسفها، منهم من باب صادق واخرون أرادوا استغلال الحرب للانتفاع
ماديا او تحقيق مغامرة ما، ليشكلوا نواة لما يسمون بـ البلديون اي السكان
الاصلين الذين جندوا لتحرير اوروبا، لكن من دون ان تضمن لهم الحقوق نفسها
التي يتمتع بها الاوروبي (فرنسا في حالة بوشارب).
تاريخيا
ُشكل الجيش الافريقي في العام 1830 علي يد الجنرال دوبورفونت الذي رست سفنه
علي شواطيء سيدي فرج قرب الجزائر العاصمة، لينظم لاحقا اكبر جيش من
المرتزقة الافارقة، الذين شاركوا في حروب فرنسا في الصين والمكسيك والقرم،
كانت منهم فرقة شديدة البأس تدعي بالبربرية زوافيرز (او زواواز) تشكلت في
عام 1830 يشير اليها بورشاب علي لسان جنرال فرنسي يخطب في مجموعة من
البلديين.
هناك 290
الف جندي شمال افريقي حاربوا ضمن الجيش الافريقي، قتل منهم 29 الفا واختفي
8 الاف اخرين.
دراميا
حاك بوشارب حكاية فيلمه الملحمي (128 دقيقة) حول اربعة رفاق سعيد (المغربي
جمال دبوز) الذي يقاتل بيد واحدة، وياسر (سامي نصري) الذي يجاهد في
المحافظة علي حياة شقيقه الاصغر الذي تورط في تطوعه، ومسعود (الممثل رشدي
زيم).
المقاتل
الوحيد الذي التقي بفرنسية وقعت في غرامه عند نزوله في مارسيليا، وحقق
اللقاء الجسدي الاخير في حياته قبل ان تواجهه رصاصات النازيين في احدي
المعارك واخيرا عبد القادر (الممثل سامي بوعجلة) الشخصية المركزية والاكثر
ثقلا في الشريط والذي سيقود فرقته الشمال افريقية ليكونوا اول مجموعة غير
فرنسية تحرر مقاطعة الالزاس الشهيرة. هذه الشخصية ذات ديناميكية وحضور
قويين، اولا لان حسها السياسي اكثر من الاخرين، علي اعتبار انهم مجموعة من
الرعاة وابناء ريف، فيما هو القاريء الوحيد، ثانيا لانه قيادي النزعة،
ينتقد القادة الفرنسيين في اصرارهم علي التفرقة العنصرية رغم ان الجميع
يحارب من اجل هدف واحد تحرير فرنسا وله مواجهات متعددة الوجوه في الشريط،
او سيرفض قرار الطباخ في عدم اعطاء وجبات متشابهة للجميع، ويتجادل مع احد
القادة الذي سيرضخ للمحاججة قائلا ببلاغة ان الرصاصة لا تختار ولا تنتقي! .
كأي شريط
عن الحرب سنري لعناتها واوجاعها وبطولاتها وجيشها، تخوض هذه الثلة من
الاصدقاء معارك دامية،يفلتون في كل مرة، فالمهمة يجب ان تنجز. توكيد
احقيتهم بان يذكروا وان تتكرس حقوقهم المدنية والقانونية وهذه قضية حساسة
لا تريد بيروقراطية وعنصرية القيادات العسكرية اظهارها علي السطح (سيرفض
الرقيب العسكري السماح بتمرير رسائل مسعود الي حبيبته الفرنسية، ويموت من
دون ان يتسامعا، متهكما ان هذا الجندي البلدي يكتب رسائله كشاعر عاشق!)
فعندما تحقق الفرقة انتصارها التاريخي وبتضحيات تحصد الاخرين ما عدا عبد
الكريم، سيرفض المرافقون المحاطون بالقائد السماح له بالاقتراب منه،
لتذكيره بانه وعد بترقيته ليصبح من ضمن النافذين علي الجبهة، وسيسمع هذا
المتطوع مسؤول الاعلام التابع للجيش وهو يصور الفلاحين ابتسموا فقد حرركم
الجيش الفرنسي .
في المقطع
الختامي ستراه وقد اصبح هرما وهو يسير بين شواهد قبور رفاقه في منطقة
الالزاس ذارفا دموعا سخية علي خساراته وعزلته التي سنتبعها وهو يدلف باب
عمارته السكنية المتواضعة، ونراه داخل شقة اكثر تواضعا، ليكتب بوشارب علي
الشاشة الحقائق الصاعقة للعنصرية وعدم الانصاف، اذ سترفض الحكومة الفرنسية
الاقرار ببطولات البلديين وذودهم عن فرنسا الام، ومثلما سترفض لاحقا السماح
لمن تبقي منهم بالاستفادة من التقاعد والنظام الاجتماعي (حتي فترة قريبة)،
فدماؤهم التي سفحت علي ارض اوروبا لا يثمنها موظفو الاليزيه ومتنفذو الجيش،
فاولئك المتطوعون ليسوا سوي وقود حرب واستشهادات يجب ان تغمط عن دفاتر
التاريخ.
البلديون
(او ايام المجد) اشتغال محترف من مخرج عرّف بشجاعة ان الوقت ازف لمقاربة
موضوع المتطوعين الافارقة، وهو ما تزامن ـ للغربة ـ مع معارك الشوارع التي
شهدتها المدن الفرنسية، ضمن انتفاضة ابناء واحفاد المهاجرين قبل اسابيع مضت
ودعواتهم للاندماج والانصاف الاجتماعي وتأمين فرص العمل، فهل ما ضحي به
الاجداد يجب ان يأخذ مداه بعد ستين عاما او هل شعار المساواة المرفوع علي
هامة فرنسا يطبق علي الجميع من دون استثناء؟ شريط بوشارب يكشف عورة سياسية،
ضاغطة وضاربة في عمق الوجدان الفرنسي، ولعل اشعال جذوتها سيتطلب اكثر من
فيلم سينمائي واحد واكثر من مخرج علي شاكلة بوشارب وحكمته وإقدامه الابداعي.
|