كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

رحيل أول وآخر عربي حاز نوبل

محفوظ القاهري الواقعي

الذي جسدت أعماله أحلام الطبقة الوسطى

عن رحيل صاحب نوبل

نجيب محفوظ

   
 
 
 
 

في مسيرة الراحل نجيب محفوظ الذي ظل قريبا من السلطة في مصر طوال فترة حياته هو الذي منذ أعماله المبكرة أعطى الرواية العربية دفعة فنية هائلة إلى الأمام. ظلّ أيضا ‘’تصدع’’ ما يعتري وعيه السياسي هو الذي عاش ومات دون كتابة عمل واحد عن أثر الصراع العربي مع الاحتلال الصهيوني طيلة عمره المديد. إنها معجزة حقا أن لا يكتب عن ذلك أي أن يصمد بحيث لا يكتب عن قضية بهذا الثقل الاجتماعي المدوِّخ على كل طبقات الشعب المصري. إلى حدّ أنه ما من مغامرة في القول ربما أن الرجل قد استحق نوبل على هذا الصمود. مع ذلك فقد نقل نجيب محفوظ في أعماله حياة الطبقة المتوسطة في أحياء القاهرة، فعبر عن همومها وأحلامها ، وعكس قلقها وتوجساتها حيال القضايا المصيرية. كما أبدع في رسم حياة الأسرة المصرية في علاقاتها الداخلية وامتداد هذه العلاقات في المجتمع. كان نجيب محفوظ قد ولد في 11 من أيلول (ديسمبر) العام 1911 وحصل على ليسانس الآداب قسم الفلسفة عام.1934 أمضى أغلب طفولته في أكثر أحياء القاهرة شعبية: الجمالية حيث ولد، ثم انتقل إلى العباسية والحسين والغورية، وهي أيضا أحياء القاهرة القديمة التي أثارت اهتمامه في أعماله الأدبية وفي حياته الخاصة.

حصل على إجازة في الفلسفة عام 1934 وأثناء إعداده لرسالة الماجستير ‘’وقع فريسة لصراع حاد’’ بين متابعة دراسة الفلسفة وميله إلى الأدب الذي نمى في السنوات الأخيرة لتخصصه بعد قراءة العقاد وطه حسين. تقلد منذ عام 1959حتى إحالته على المعاش عام 1971 عدة مناصب حيث عمل مديراً للرقابة على المصنفات الفنية ثم مديراً لمؤسسة دعم السينما ورئيساً لمجلس إدارتها ثم رئيساً لمؤسسة السينما ثم مستشاراً لوزير الثقافة لشئون السينما

بدأ كتابة القصة القصيرة عام 1936 . وانصرف إلى العمل الأدبي بصورة شبه دائمة بعد التحاقه في الوظيفة العامة.

عمل في عدد من الوظائف الرسمية، ونشر رواياته الأولى عن التاريخ الفرعوني. ولكن موهبته ستتجلى في ثلاثيته الشهيرة (بين القصرين، وقصر الشوق، والسكرية) التي انتهى من كتابتها عام 1952 ولم يتسن له نشرها قبل العام 1956 نظرا لضخامة حجمها. ولكن هذه الأعمال التي اتسمت بالواقعية الحية لم تلبث أن اتخذت طابعا رمزيا كما في رواياته ‘’ أولاد حارتنا’’ و ‘’الحرافيش’’ و ‘’رحلة ابن فطومة’’. بين عامي 1952 و 1959 كتب عددا من السيناريوهات للسينما. ولم تكن هذه السيناريوهات تتصل بأعماله الروائية التي سيتحول عدد منها إلى الشاشة في فترة متأخرة.

صدر له ما يقارب الخمسين مؤلفا من الروايات والمجموعات القصصية. وترجمت معظم أعماله إلى 33 لغة في العالم .

وكان محفوظ قد تعرض لمحاولة اغتيال العام ,1994 على يد أحد المتشددين الإسلاميين، الذين أغضبتهم رواية ‘’أولاد حارتنا’’ رغم أنه كتبها ونشرها أول مرة في الخمسينات من القرن الماضي. وقام المهاجم بطعن محفوظ بسكين في رقبته، مما أدى لتدمير أعصاب الرقبة، الأمر الذي حد من قدرته على استخدام يده في الكتابة، إلى جانب ما يعانيه من تدهور في الإبصار، وضعف قدرته على السمع وأصبح يقوم بحكي قصصه لابنته التي تقوم بتدوينها. ولم تُنشر الرواية المثيرة للجدل في مصر حيث أصر محفوظ على موافقة الأزهر على طباعة الرواية.

كان نجيب محفوظ،، الذي تقوم الجامعة الأمريكية في القاهرة بمنح جائزة سنوية باسمه والذي أطلق اسمه على أحد شوارع القاهرة ، قد حاز نوبل العام 1989 لكنه لم يتمكن من تسلمها بنفسه لسوء حالته الصحية فتسلمتها عنه الكبرى من بين بناته كما أنها ألقت خطابا بالنيابة عنه هو التالي:

سيداتى، سادتى

فى البدء أشكر الأكاديمية السويدية ولجنة نوبل التابعة لها على التفاتها الكريم الاجتهادى المثابر الطويل وأرجو أن تتقبلوا بسعة صدر حديثى إليكم بلغة غير معروفة لدى الكثيرين منكم، ولكنها هى الفائز الحقيقى بالجائزة، فمن الواجب أن تسبح أنغامها فى واحتكم الحضارية لأول مرة. وإنى كبير الأمل ألا تكون المرة الأخيرة، وأن يسعد الأدباء من قومى بالجلوس بكل جدارة بين أدبائكم العالميين ا لذين نشروا أريج البهجة والحكمة فى دنيانا المليئة بالشجن

سادتى

أخبرنى مندوب جريدة أجنبية فى القاهرة بأن لحظة إعلان اسمى مقرونا بالجائزة ساد الصمت وتساءل كثيرون عمن أكون ـ فاسمحوا لى أن أقدم لكم نفسى بالموضوعية التى تتيحها الطبيعة البشرية. أنا ابن حضارتين تزوجتا فى عصرمن عصور التاريخ زواجا موفقا، أولاهما عمرها سبعة آلاف سنة وهى الحضارة الفرعونية، وثانيتهما عمرها ألف وأربعمائة سنة وهى الحضارة الإسلامية. ولعلى لست فى حاجة إلى تعريف بأى من الحضارتين لأحد منكم، وأنتم من أهل الصفوة والعلم، ولكن لا بأس من التذكير ونحن فى مقام النجوى والتعارف

وعن الحضارة الفرعونية لن أتحدث عن الغزوات وبناء الإمبراطوريات فقد أصبح ذلك من المفاخر البالية التى لا ترتاح لذكرها الضمائر الحديثة والحمد لله. ولن أتحدث عن اهتدائها لأول مرة إلى الله سبحانه وتعالى وكشفها عن فجر الضمير البشرى. فلذلك مجال طويل فضلا عن أنه لا يوجد بينكم من لم يلم بسيرة الملك النبى أخناتون. بل لن أتحدث عن انجازاتها فى الفن والأدب ومعجزاتها الشهيرة الأهرام وأبو الهول والكرنك. فمن لم يسعده الحظ بمشاهدة تلك الآثار فقد قرأ عنها وتأمل صورها. دعونى أقدمها ـ الحضارة الفرعونية ـ بما يشبه القصة طالما أن الظروف الخاصة بى قضت بأن أكون قصاصا، فتفضلوا بسماع هذه الواقعة التاريخية المسجلة. تقول أوراق البردى أن أحد الفراعنة قد نما إليه أن علاقة آثمة نشأت بين بعض نساء الحريم وبعض رجال الحاشية. وكان المتوقع أن يجهز على الجميع فلا يشذ فى تصرفه عن مناخ زمانه. ولكنه دعا إلى حضرته نخبة من رجال القانون. وطالبهم بالتحقيق فيما نما إلى علمه، وقال لهم إنه يريد الحقيقة ليحكم بالعدل. ذلك السلوك فى رأيى أعظم من بناء إمبراطورية وتشييد الأهرامات وأدل على تفوق الحضارة من أى أبهة أو ثراء. وقد زالت الإمبراطورية وأمست خبرا من أخبار الماضى. وسوف يتلاشى الأهرام ذات يوم ولكن الحقيقة والعدل سيبقيان مادام فى البشرية عقل يتطلع أو ضمير ينبض.

وعن الحضارة الأسلامية فلن أحدثكم عن دعوتها إلى إقامة وحدة بشرية فى رحاب الخالق تنهض على الحرية والمساواة والتسامح، ولا عن عظمة رسولها. فمن مفكريكم من كرمه كأعظم رجل فى تاريخ البشرية. ولا عن فتوحاتها التى غرست الآف المآذن الداعية للعبادة والتقوى والخير على امتداد أرض مترامية ما بين مشارف الهند والصين وحدود فرنسا. ولا عن المآخاة التى تحققت فى حضنها بين الأديان والعناصر فى تسامح لم تعرفه الانسانية من قبل ولا من بعد. ولكنى سأقدمها فى موقف درامى ـ مؤثر ـ يلخص سمة من أبرز سماتها. ففى إحدى معاركها الظافرة مع الدولة البيزنطية ردت الأسرى فى مقابل عدد من كتب الفلسفة والطب والرياضة من التراث الإغريقى العتيد. وهى شهادة قيمة للروح الإنسانى فى طموحه إلى العلم والمعرفة. رغم أن الطالب يعتنق دينا سماويا والمطلوب ثمرة حضارة وثنية

قدر لى يا سادة أن أولد فى حضن هاتين الحضارتين. وأن أرضع لبانهما واتغذى على أدابهما وفنونهما. ثم ارتويت من رحيق ثقافتكم الثرية الفاتنة. ومن وحى ذلك كله بالإضافة إلى شجونى الخاصة ـ ندت عنى كلمات. أسعدها الحظ باستحقاق تقدير أكاديميتكم الموقرة فتوجت اجتهادى بجائزة نوبل الكبرى. فالشكر أقدمه لها باسمى وباسم البناة العظام الراحلين من مؤسسى الحضارتين

سادتى..

لعلكم تتساءلون: هذا الرجل القادم من العالم الثالث كيف وجــد من فـراغ البال ما أتاح له أن يكتب القصص

وهو تساؤل فى محله.. فأنا قادم من عالم ينوء تحت أثقال الديون حتى ليهدده سدادها بالمجاعة أو ما يقاربها. يهلك منه أقوام فى أسيا من الفيضانات. ويهلك آخرون فى أفريقيا من المجاعة. وهناك فى جنوب أفريقيا ملايين المواطنين قضى عليهم بالنبذ والحرمان من أى من حقوق الانسان فى عصر حقوق الإنسان وكأنهم غير معدودين من البشر. وفى الضفة وغزة أقوام ضائعون رغم أنهم يعيشون فوق أرضهم وأرض آبائهم وأجدادهم وأجداد أجدادهم. هبوا يطالبون بأول مطلب حققه الإنسان البدائى وهو أن يكون لهم موضع مناسب يعترف لهم به. فكان جزاء هبتهم الباسلة النبيلة ـ رجالا ونساء وشبابا وأطفالا ـ تكسيرا للعظام وقتلا بالرصاص وهدما للمنازل وتعذيبا فى السجون والمعتقلات. ومن حولهم مائة وخمسون مليونا من العرب. يتابعون ما يحدث بغضب وأسى مما يهدد المنطقة بكارثة إن لم تتداركها حكمة الراغبين فى السلام الشامل العادل

أجل كيف وجد الرجل القادم من العالم الثالث فراغ البال ليكتب قصصا؟ ولكن من حسن الحظ أن الفن كريم عطوف. وكما أنه يعايش السعداء فأنه لا يتخلى عن التعساء. ويهب كل فريق وسيلة مناسبة للتعبير عما يجيش به صدره

وفى هذه اللحظة الحاسمة من تاريخ الحضارة لا يعقل ولا يقبل أن نتلاشى أنات البشر فى الفراغ. لا شك أن الإنسانية قد بلغت على الأقل سن الرشد. وزماننا يبشر بالوفاق بين العمالقة ويتصدى العقل للقضاء على جميع عوامل الفناء والخراب. وكما ينشط العلماء لتطهير البيئة من التلوث الصناعى فعل المثقفين أن ينشطوا لتطهير البشرية من التلوث الأخلاقى. فمن حقنا وواجبنا أن نطالب القادة الكبار فى دول الحضارة كما نطالب رجال اقتصادها بوثبة حقيقية تضعهم فى بؤرة العصر. قديما كان كل قائد يعمل لخير أمته وحدها معتبرا بقية الأمم خصوما أو مواقع للاستغلال. دونما أى اكتراث لقيمة غير قيمة التفوق والمجد الذاتى. وفى سبيل ذلك أهدرت أخلاق ومبادئ وقيم. وبرزت وسائل غير لائقة. وازهقت ارواح لا تحصى. فكان الكذب والمكر والغدر والقسوة من آيات الفطنة، ودلائل العظمة. اليوم يجب أنت تتغير الرؤية من جذورها. اليوم يجب أن تقاس عظمة القائد المتحضر بمقدار شمول نظرته وشعوره لمسئولية نحو البشرية جميعا. وما العالم المتقدم والثالث إلا أسرة واحدة، يتحمل كل إنسان مسئوليتة نحوها بنسبة ما حصل من علم وحكمة وحضارة. ولعلى لا أتجاوز واجبى إذا قلت لهم باسم العالم الثالث: لا تكونوا متفرجين على مآسينا ولكن عليكم أن تلعبوا فيها دورا نبيلا يناسب أقداركم. إنكم من موقع تفوقكم مسئولون عن أى انحراف يصيب أى نبات أو حيوان فضلا عن الإنسان فى أى ركن من أركان المعمورة. وقد ضقنا بالكلام وآن أوان العمل. آن الأوان لإلغاء عصر قطاع الطرق والمرابين. نحن فى عصر القادة المسئولين عن الكرة الأرضية. انقذوا المستبعدين فى الجنوب الإفريقى. انقذوا الجائعين فى إفريقيا. انقذوا الفلسطينيين من الرصاص والعذاب بل انقذوا الإسرائيليين من تلويث تراثهم الروحى العظيم. انقذوا المديونين من قوانين الاقتصاد الجامدة. والفتوا أنظارهم إلى أن مسئوليتهم عن البشر يجب أن تقوم على التزامهم بقواعد علم لعل الزمن قد تجاوزه

سادتى..

معذرة. أشعر بأنى كدرت شيئا من صفوكم ولكن ماذا تتوقعون من قادم من العالم الثالث. أليس أن كل إناء بما فيه ينضح؟

ثم أين تجد أنات البشر مكانا تتردد فيه إذا لم تجده فى واحتكم الحضارية التى غرسها مؤسسها العظيم لخدمة العلم والأدب والقيم الإنسانية الرفيعة؟ وكما فعل ذات يوم برصد ثروته للخير والعلم طلبا للمغفرة فنحن ــ أبناء العالم الثالث ــ نطالب القادرين المتحضرين باحتذاء مثاله واستيعاب سلوكه ورؤيته

سادتى..

رغم كل ما يجرى حولنا فإننى ملتزم بالتفاؤل حتى النهاية. لا أقول مع الفيلسوف كانت إن الخير سينتصر فى العالم الآخر. فإنه يحرز نصرا كل يوم. بل لعل الشر أضعف مما نتصور بكثير. وأمامنا الدليل الذى لا يجحد. فلولا النصر الغالب للخير ما استطاعت شراذم من البشر الهائمة على وجهها عرضة للوحوش والحشرات والكوارث الطبيعية والأوبئة والخوف والأنانية. أقول لولا النصر الغالب للخير ما استطاعت البشرية أن تنمو وتتكاثر وتكون الأمم وتكتشف وتبدع وتخترع وتغزو الفضاء وتعلن حقوق الإنسان: غاية ما فى الأمر أن الشر عربيد ذوصخب ومرتفع الصوت وأن الإنسان يتذكر ما يؤلمه أكثر مما يسره. وقد صدق شاعرنا أبو العلاء عندما قال

إن حـــزنا ســاعـة المـــوت أضعاف سرور ساعة الميلاد.

الوقت البحرينية في

31.08.2006

 
 

زمن «عمّ نجيب».. وأمكنته الأليفة

الوقت - فــاروق وادي: 

بعد شهور قليلة من هزيمة حزيران ,1967 وصل الفتى ابن السابعة عشرة إلى القاهرة قادماً من رام الله المحتلة لمواصلة دراسة الثانويّة العامّة في إحدى مدارس مصر. وكانت المرّة الأولى التي يجد نفسه فيها جوّالاً نهماً يسير في شوارع مدينة جمال عبدالناصر وعبد الحليم حافظ ونجيب محفوظ..

بدت له المدينة مثقلة بالأحزان، رغم طوفان النكتة الذي كان يداهمها في كلّ مكان ليزيح الشعب من خلالها عن صدره، وبسخريته التاريخيّة المعهودة، شيئاً من ثقل الهزيمة المُرّة.

جاء الفتى باحثاً عن مدرسة يُكمل فيها سنته الدراسيّة الأخيرة، فقادته الصدفة إلى نُزلٍ صغير في شارع طلعت حرب (سليمان باشا سابقاً) اسمه ‘’غولدن تيوليب’’. وعلى بعد خطوات قليلة من ذلك الفندق الصغير، قريباً من الميدان الذي يحمل اسم الاقتصادي المصري الكبير، عثر على مطعم يبدو من الخارج كمقهى رصيف، يخدم فيه نادل يوناني عجوز ترتجف الصحون بين يديه، لكنه مع ذلك كان يُقدِّم أطباقاً شهيّة وبأسعار لم تكن تُرهق ميزانيّة طالب يتهيّأ للتوجيهي. كان اسمه ‘’مقهى ريش’’، وما زال يحمل حتّى الآن الاسم نفسه.

ما لفت الطالب في المطعم، ليس ذلك بالأساس، وإنما الصور التي تتسلّق الجدران. كانت لكتّاب وفنانين ومبدعين مصريين أسهموا في تشكيل وعيه وحسه الأدبي وذائقته الجماليّة.. من طه حسين والعقاد، وحتّى أم كلثوم وأحمد رامي ورياض السنباطي، وغيرهم من الكتّاب والفنانين العِظام. ولم يعثر الفتى على إجابة لسؤال طرحه على نفسه حول الأسباب التي حدت بصاحب ذلك المقهى، أو النادل اليوناني، إلى وضع تلك الصور في مطعمه. ولم يكن الرجل العجوز، بلغته العربيّة المضعضعة، بقادر على أن يشرح للفتى شيئاً عن الدور السياسي والثقافي الذي لعبه هذا المقهى في حياة مصر طوال ستة عقود من الزمن، عمر المكان في ذلك الزمان، والتي تكاد تبلغ المئة هذه الأيّام.

? ? ?

المفاجأة التي لم تكن في حسبان الفتى آنذاك، هي أنه سوف يرى هناك ما هو أكثر من صورة نجيب محفوظ. أن يراه هو نفسه جالساً هناك، يتوسّط مجموعة من الكتّاب الشُّبان الذين لم يكن الفتى الغرّ يعرف أحداً منهم. كانوا يتحدّثون بحماستهم وتوقدهم أكثر من استماعهم للرجل، الذي بدا مصغياً لحديث كلٍّ منهم وكأنه يتلفّظ دُرّ الكلام. وقد أدهش الفتى، أن يخاطبه معظمهم بـ.. ‘’عمّ نجيب’’.

الفتى الذي لم يكن رصيده في الكتابة سوى بعض القصص والمقالات المنشورة في صحف القدس، كان قد قرأ الثلاثيّة قبل وقت قريب، وأدهشته قدرة نجيب محفوظ على رسم شخصيّة كمال عبدالجواد، التي وجد فيها ما يشبهه وما يتماثل مع مشاعره وأحاسيسه وبعض تجربته.. فكأنما نجيب محفوظ كان يتحدّث عنه ولا أحد غيره، منعه خجله من أن يقترب من الرجل، فيُقدِّم نفسه ليطرح سؤاله: أنا كمال عبدالجواد، قادم من رام الله؟ وأرغب في أن أطرح عليك سؤالاً يؤرقني.. كيف عرفتني إلى هذه الدرجة وعبّرت عنّى بكلّ هذه الدقّة وتلك التفاصيل؟

لم يجرؤ الفتى على الاقتراب من الرجل. لكنه عرف في ما بعد، من أصدقاء كُثُر قرأوا الثلاثيّة في مطلع شبابهم، إنهم أيضاً شعروا، هم أنفسهم أيضاً، بأن كمال عبدالجواد كان تعبيراً عنهم ونسخة مُتقنة من شخصياتهم في ذلك العُمر. فشكر خجله الذي أنقذه من ارتكاب حماقة السؤال في تلك الليلة البعيدة.. التي رأى فيها نجيب محفوظ يجلس في مقهى ‘’ريش’’.

? ? ?

نجيب محفوظ، هو إلى أشياء أُخرى عديدة عصيّة على الاختزال، يظلّ سيِّد كتابة الحارة المصريّة، بريادة وامتياز لا يُضاهى. دخل في صميم حياة الطبقة الوسطى وعبّر عن همومها، عملاقاً لم ينفِ يوماً أن رؤياه لم تتعدّ الرؤية البورجوازيّة في مسألة الصراع الاجتماعي.

روايات نجيب محفوظ تأخذك إلى المكان المصري الشعبي باقتدار، وقبل أن تتاح لك فرصة زيارته جسدياً..

بعد سنوات طويلة من رؤية نجيب محفوظ في مقهى ريش، كنّا في القاهرة للمشاركة في إحدى التظاهرات الثقافيّة، عندما عرج بعض الأصدقاء من الكتّاب المصريين لاصطحاب إميل حبيبي إلى سيدنا الحسين في جولة للتعرف على تلك الأجزاء الثريّة القديمة من المدينة، وكان يزور مصر للمرّة الأولى. وعندما عاد ‘’أبو سلام’’ من جولته تلك، لم يكشف وجهه عن أدنى انطباع تركته الزيارة فيه. ولمّا سألناه أن يُحدثنا عن مشاعره وما أحسّ به في زيارته لتلك الأماكن، أجاب ببرود:

ـ كأنها لم تكن زيارتي الأولى. لقد شعرت وأنا أطوف في مناطق الحسين وبين القصرين وقصر الشوق والسُّكريّة، أنني جئت إليها من قبل، وأنني كنت أعرف تفاصيلها وخصوصياتها واشم روائحها المميّزة.. كأنني زرتها من قبل عشرات المرّات. واكتشفت بيني وبين نفسي أن تلك المعرفة الدقيقة للمكان لم تكن إلاّ بفضل قراءتي روايات نجيب محفوظ!

عمّ نجيب، الذي عشنا زمانه وعيّشنا في مكانه، واجه الظلام بالكتابة، فلاحقه خنجر العتمة في الشارع. كتَبَنا قبل أن نتمكّن نحن من كتابة أنفسنا، فاكتشفنا أن ذلك لم يكن إلاّ بفضل قدرته على أن يكتب نفسه، كما هو، ابن القاهرة والطبقة الوسطى.. وربما ابن السيد أحمد عبدالجواد الصغير.. كمال، الذي اعتقده الفتى الذي جاء يوماً إلى القاهرة من رام الله لدراسة الثانويّة العامّة.. أن نجيب محفوظ كان يكتبه هو!

الوقت البحرينية في

31.08.2006

 
 

خرج إلى المقبرة أم إلى البيت.. لا يهم .. فقد بلغ خلود الحكاية

الوقت - حسام أبواصبع: 

حينما تجري الحكاية على الألسنة، فإن ذلك يمنحها حياة ممتدة، كما تمنح هذه الألسنة الحكاية وهجاً وزخماً وتنوعاً واختلافاً.. والحكاية لا تموت باختصار. ونجيب المحفوظ الذي يتهيأ الجميع الآن لتوديعه، هو حكاية الحكايات في الرواية العربية. ولأنه كذلك، فهو باق ما بقيت الرواية، وما بقي الأدب، وما بقيت القاهرة بأحياها وحواريها وأزقتها، وما بقي النيل والثرثرة فوقه ومن حوله وعلى ضفتيه.

هاهم الجميع في الجهات الأربع يعدون جنازة الأديب الكبير - ولا أظن أن أحداً يستحق لقب الكبير سواه - وقد بدأت بالفعل الملاحق المعددة لمناقبه بالطفر في غير صحيفة ومجلة، ومنها هذا الملحق الذي نكتب فيه، لتوديع هذا الراحل.. وإنه لأمر غريب بالفعل أن كنا نستبق يد الموت قبل مماته ونقوم نحن بقبض روحه، وتهيأة ‘’تربته’’، وتوضيب نعشه، ونصب صوانات العزاء لاستقبال محبيه وطالبي الرحمة له، بل ونستأجر ‘’ المعددات ‘’ للولولة عليه، ونغلي القهوة ‘’ السادة ‘’ المُرة إلى غير ذلك من خطوات وطقوس لشخص فضلاً على أنه كان مايزال حياً قبل ساعات قليلة.. لكنه الآن بحاجة إلى اكتشاف ثالث.

فمن ناحية مبدئية، يصعب الحديث بمستندات كثيرة وعميقة عن رواية عربية قبل الهرم المتين الذي أسسه ابن الجمالية نجيب محفوظ ( 1912 - 2006 )، فقد اجتهدت زمرة كبيرة من النقاد العرب في رصد المحاولات الأولى التي كانت المهاد لظهور رواية عربية، حتى أن بعض النقاد من أمثال المرحوم ‘’علي شلش’’ كان قد رصد أكثر من 180 رواية حتى قبل ظهور ‘’زينب’’ لمحمد حسنين هيكل، إلا أن ما رصد يتقاطع جزئياً مع هذا الفن الإبداعي الحديث في الثقافة العربية، ويدلل إعادة فحص هذا التراث وهو عادة ما يختزل في حديث ‘’المويلحي’’ وبضعة أعمال أخرى أن الرواية لم تتأسس بعد بشكلها وهيكلها وحدودها المعروفة أجناسياً قبل نجيب محفوظ، الذي بدأ مشواره الإبداعي في أواخر ثلاثينات القرن الماضي.

كان الاكتشاف الأول مطلع الستينات - أي بعد أزيد من عقدين من العمل الدؤوب - من خلال رواية ‘’اللص والكلاب’’ أو ما يمكن تسميته بظاهرة سعيد مهران / شكري سرحان. ففي الوقت الذي جسدت الرواية سينمائياً، ونال الفيلم وقتها اعترافاً واسعاً، بدأت الالتفاتة التداولية الأولى لأعمال نجيب محفوظ السابقة على مستوى نقدي بالدرجة الأساس، وعلى مستوى التداول الجماهيري بدرجة أقل لهذه التجربة التي بدأت بسلسلة التاريخ الفرعوني، ثم شهدت تحولاً صوب الواقعية التسجيلية، وصولاً إلى ترصيع هذه الواقعية بالرمز وبالأجواء النفسية الخاصة، مما عقد في شكل الخطاب ومضمونه معاً، وكل ذلك توزع بالتساوي على المجتمع القاهري الذي ظل مخلصاً له في معظم تجربته الهائلة.

أما الاكتشاف الثاني فتزامن مع حصول محفوظ على جائزة نوبل للآداب العام 1988 كأول عربي يحظى بهذا الاعتراف العالمي الرفيع تقديراً لعمله وربما للثقافة العربية في تجليها الإبداعي. وقد أفضى هذا الاعتراف العالمي بقيمة ما كتب، إلى إعادة اكتشافه - مرة أخرى- عربياً وعالمياً، لكن هذا الاكتشاف الثاني كان بعد أن قدم محفوظ روائعه جميعها وبعد أن خف سمعه وبصره ومداد قلمه. وقد انتهز بعضهم هذه السانحة لمحاولة تصفيته.. جسدياً في مستوى معين أو عبر التقليل من قيمة ما كتب تحت ذرائع مختلفة من بينها ما سمي في ذلك الوقت بالكتابة الجديدة أو الحساسية الجديدة؛ على اعتبار أن حركة الزمن قد جعلت من إبداعه كلاسيكياً وتراثاً قديماً ينبغي مجاوزته، أو أنه بالفعل تم تجاوز ما كتب فعلاً. كما طعن طعنات موجعة من مجموعة من المزايدين الذين ذكروا أن حصوله على تذكرة نوبل لم يكن إلا بتأشيرة سياسية. وعلى رغم هذين الاقتراحين اللذين استهدفا تصفيته، يمكن القول باطمئنان أن نجيب محفوظ ظاهرة لم تتكرر في عوالم الرواية العربية، وهي غير مرشحة للتكرار أبداً.

والسؤال الأزلي المناسباتي الذي يُطرح في هذا السياق، ما الذي بقي من محفوظ وقد رحل الآن.. وقد رقد في مستشفى العجوزة وطبيبه الخاص يلغز تصريحاته اليومية بكلام مبهم غير مفهوم؟ أغلب الظن أن أهم ما بقي، وربما أهم من العناوين الآتية: زقاق المدق / الثلاثية / أولاد حارتنا / الحرافيش / ثرثرة فوق النيل / ميرامار / الكرنك / الشحاذ / السمان والخريف / يوم قتل الزعيم وغيرها هو أنثروبولوجيا القاهرة، هذه الانثروبولوجيا كانت سبباً رئيساً في جعل القاهرة مكان استقطاب إبداعي بل وحتى سياحي. فقد خلقت أعماله علاقة شائقة بين المكان والمتلقي من دون الحاجة إلى التعرف عليه فيزيائياً بالنسبة لمن هم في الخارج، كما أن كم الأنماط السلوكية، والطبيعة المكانية كلها مجتمعة هي مادة دسمة لمعرفة التحولات الخطيرة والمفصلية التي شهدها المكان، في علاقته بالزمن والحدث والشخصية، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وكذلك أخلاقياً، رأسياً وأفقياً. ويكفي أن نلمح إلى أن أعماله أسهمت إسهاماً جليلاً في تحول الواقع إلى خيال والعكس بالعكس، حتى أصبحت بعض الشخصيات مثل ‘’سي السيد’’ و’’ممدوح علوان’’ و’’زعبلاوي’’ وكثير كثيرعنوان لنوعية محددة من العلاقات الإنسانية الخاصة، التي تقفز إلى الأذهان فوراً حين نلتقي بمتشابهات لها. وقد قال الناقد صلاح فضل مرة أنه عشق بلا هوادة كثيراً من الشخصيات النسائية التي أبدعها محفوظ.

والآن يبقى أن ننتظر الاكتشاف الثالث الضروري لهذا المبدع الذي تميز عن جيله والأجيال اللاحقة بالجدية والصرامة، كما أنه انفرد- وهذا شيء مثير ولم يبحث كثيراً - بكتابة العامية بلغة فصيحة، فجميع أعمال محفوظ كتبت بلغة ثالثة هجينة، هي عامية وهي في الوقت نفسه لغة فصحى، فمتى سيتم الاكتشاف الثالث؟ لا أحد يعرف، لكن المؤكد أن نجيب محفوظ حكاية ممتدة تتدحرج على الألسنة جيلاً بعد جيل، والحكاية لا تموت، بل يتعدد ويتنوع رواتها، وهذا ببساطة هو خلود الأديب. فمحفوظ إن خرج من مستشفى العجوزة إلى المقبرة أو ‘’ القرافة’’ - ياله من اسم بشع - أم عاد إلى بيته، فهو قد بلغ خلود الحكاية ومنذ سنوات عديدة.

الوقت البحرينية في

31.08.2006

 
 

في وداع نجيب محفوظ:

سينما برجمان ولينش في أحلام فترة النقاهة

عين ترصد الواقع من خلف ستار الحلم وتتساءل ماذا جرى؟

بقلم صلاح هاشم

بمناسبة وفاة الكاتب المصري الروائي العظيم نجيب محفوظ تعيد سينما ايزيس نشر هذا المقال ،الذي يكشف عن حضور السينما من خلال اعمالها الكلاسيكية العظيمة ومخرجيها القدامي والمحدثين في مجموعة " أحلام فترة النقاهة " التي ترجمت عام 2004 الي الفرنسية، ويقدم استكشافا لذلك الحضور السينمائي في العمل

***

صدر حديثا عن دار نشر "روشيه" في باريس، كتاب "احلام فترة النقاهة" للروائي المصري العربي الكبير الحائز علي جائزة نوبل نجيب محفوظ، وترجمها من العربية الي الفرنسية الصحفي والكاتب المصري المقيم في باريس أحمد يوسف بمساعدة ردولف كاريب، وقدم للكتاب رئيس تحرير "الاهرام ابدو" الكاتب الصحفي محمد سلماوي. ويضم الكتاب الذي صدر بمناسبة الاحتفال بمرور92 سنة علي ميلاد نجيب محفوظ-أطال الله في عمره- يضم خمسة وخمسين حلما من
أحلام فترة النقاهة" التي كانت تنشركل اسبوع منذ عام 2001، ومازالت، في مجلة "نصف الدنيا" التي تصدرها مؤسسة "الاهرام"، وهذه هي المرة الاولي، التي ينشر فيها عمل روائي للكاتب الكبير، خارج حدود مصر، وهو لم ينتهي من كتابته بعد، ولم يصدر حتي الآن في كتاب في وطنه.

احلام فترة النقاهة" هي الاحلام التي يراها نجيب محفوظ في منامه، وبسبب عجزه عن الكتابة بعد اصابته في محاولة لاغتياله علي يد احد المتطرفين عام1994 يقوم حاليا بتمليتها علي مساعد، وتنشر تباعا في المجلة المذكورة، وهي تعتبر نوعا جديد من الكتابة الروائية، اقرب مايكون الي الحكاية او القصة الرمزية، وشكل روائي جديد علي نجيب محفوظ الذي صدر له حتي الآن اكثر من 40 رواية و300 قصة قصيرة، ويرتبط اسمه- كما يذكر محمد سلماوي في مقدمة الكتاب- بتطور فن الرواية في مصر، والمكانة الرفيعة التي بلغتها في العالم العربي بفضل اعماله، كما في رواية " اولاد حارتنا"، والتي حصل بها علي جائزة نوبل عام 1988، وكرست تاريخيا مع غيرها لرصد حالات المجتمع المصري وتقلباته السياسية واوضاعه وطبقاته الاجتماعية، وبلغت قمما سامقة في التصوير والوصف، جعلت السينما العربية والعالمية تنهل وتقتبس منها الكثير، ومازلنا -نضيف من عندنا- مازلنا نتذكر الروائع السينمائية التي قدمتها واعتمدت علي رواياته، مثل " بداية ونهاية" بطولة عمر الشريف وسناء جميل وفريد شوقي وامينة رزق للمخرج المصري الكبير الراحل صلاح ابوسيف، كما اقتبس ذات الرواية المخرج الارجنتيني ارتور روبنستين وقدمها في عمل سينمائي"باروكي" متميز، وفيلم "اللص والكلاب" للمخرج المصري الكبير الراحل كمال الشيخ بطولة شكري سرحان وشادية، ويعتبر دورها في هذا الفيلم من اعظم الادوار التي قدمتها علي الشاشة،عبر مسيرتها السينمائية الكبيرة، وشمخت فيه بفنها

غرباء في الوطن

أحلام فترة النقاهة التي نشرت منها جريدة "اخبار الادب" في مصر 90 حلما في العدد الخاص الذي اصدرته في شهر ديسمبر2003 بمناسبة الاحتفال ببلوغ الكاتب سن الثانية والتسعين، هي نوع ادبي جديد كما يذكر محمد سلماوي في مقدمة الكتاب، لكن هذه الاحلام التي قرأتها في "اخبار الادب" والتهمتها في ليلة، ذكرتني ايضا بعوالمها باعمال الكاتبين الارجنتيني جورج لوي بورغيس والكاتب الامريكي ادجار الآن بو، وبخاصة في قصصهما القصيرة المكثفة المركزة وعوالمها الغامضة ونزعتها "الصوفية" ومحاولة تفسير العمل كأنه لغز محير، لغز قد لاتدرك كنهه بعد طول تفكير، لكنه بسرعة سوف يصبح قطعة منك، لانه يحكي عن اشياء تحبها مثله، واماكن عشتها، واناس فقدتهم، وذكريات امتزجت بوعيك وكيانك، ولاتستطيع منها خلاصا، وهم يدخلون مع نجيب محفوظ في الحلم او هو يدخلهم بنفسه ويجعلهم يشاركونه ويصحبونه في جولاته، في نعيم اللحظة اوجحيم الواقع العبثي المعاش في الحلم، فهو يحكي عن امه واخته وسيد درويش، ويجعل اخته تتحول في الحلم الثامن الي نجمته السينمائية المفضلة السويدية جريتا جاربو("ونظرت الي اختي فاذا بها قد تحولت الي الممثلة السينمائية جريتا جاربو وهي ممثلتي المفضلة وطرت من السعادة بغير اجنحة وملأ السرور جوانحي، غير ان ذلك السحر لم يدم طويلا".) ثم اذا به يفقدها جريتا جاربوحين تختفي فجأة مثل طيف في احلامه، ويشعر بأن الحزن غشي كل شييء كأنه شبورة مفاجئة

أحلام فترة النقاهة تجمعها عوامل مشتركة من حيث الشكل، فهي خبطات سريعة مركزة بريشة فنان ساحر، ولاتزيد عن صفحة، وبعضها يحتل نصف صفحة، وهي كما بدت لنا، تكثيف مركز باهر وجريء، لواقع مجتمع بكل ازماته واحباطاته ورعبه، والقهر الذي يمارسه علي المواطن، ونتيجة للفوضي الضاربة التي خلقت العشوائيات وتلك "الخرابات" التي نجدها في احلام نجيب محفوظ، وجعلتنا نتغرب عن حياتنا في مجتمعاتنا، وعملت نتيجة القهر السياسي والاجتماعي علي تهميش وابعاد المواطنين عن المشاركة في أي مشروع، لترتيب وتنظيم حياتهم من جديد، في ظل الادارة التي يرمز لها نجيب محفوظ بصاحب البيت في احلامه، وتستطيع ان تطردك يامواطن من دارك في اي وقت، في غياب العدالة، وتجعلك تركض عريانا في العراء، وانت تصرخ ملتاعا من فرط الظلم

محفوظ يتساءل: ماذا جرى؟

بمعني انك حين تقرأ احلام فترة النقاهة لنجيب محفوظ، فكأنك في الواقع تتفرج علي احوال البلاد والعباد الآن في مصر، بل ان عبثية الواقع المعاش في بعض مظاهره الحالية- كما تلمسناها في زيارة حديثة للبلاد التي صارت كما ذكر الروائي صنع الله ابراهيم بلا تعليم ولا ثقافة ولاصحة- قد تتجاوز عبثية وكابوسية ورعب تلك الاحلام التي يحكي عنها نجيب محفوظ في عمله الجديد .انها العين- عين نجيب محفوظ في احلامه- التي ترصد من خلف ستار الحلم، مجريات واقع معاش، احداثه ومجاعاته، رعبه وعبثه الآن، وتصرخ ان الحقونا، كما تبدو لنا بعض احلام نجيب محفوظ التي تذكرك ايضا باعمال الايطالي ايتالو كالفانو و الكاتب التشيكي فرانز كافكا كما في قصة "المستعمرة، تبدو اشبه ماتكون بشريط سينمائي طويل، يذكرك في بعض مشاهده بمشاهد افلام شاهدتها من قبل مثل فيلم "التوت البري" للسويدي انجمار برجمان، وبخاصة مشهد الحلم في الفيلم بجوه وغرابته، وتلك الساعة التي تتوسط الميدان، وسوف تجد نفس الساعة التي تتوسط الميدان في اول مشهد من فيلم او كما تريد- "حلم" نجيب محفوظ الذي يرويه لنا كما يلي:"اسوق دراجتي من ناحية الي اخرى مدفوعا بالجوع باحثا عن مطعم مناسب لذوي الدخل المحدود ودائما اجدها مغلقة الابواب، وحانت مني التفاتة الي ساعة الميدان فرايت اسفلها صديقي فدعاني باشارة من يده فملت بدراجتي نحوه واذا به علي علم بحالي فاقترح علي ان اترك دراجتي معه ليسهل علي البحث فنفذت اقتراحه، وواصلت البحث وجوعي يشتد وصادفني في طريقي مطعم العائلات فبدافع من الجوع واليأس اتجهت نحوه علي الرغم من علمي بارتفاع اسعاره ورآني صاحبه وهو يقف في مدخله امام ستارة مسدلة فما كان منه الا ان أزاح الستارة فبدت خرابة ملأي بالنفايات في وضع البهو الفخم المعد للطعام فقلت بانزعاج ماذا جري؟ فقال الرجل: اسرع الي كبابجي الشباب لعلك تدركه قبل ان يشطب ولم أضيع وقتا فرجعت الي ساعة الميدان ولكنني لم اجد الدراجة والصديق

هذا الحلم الاول في الكتاب يذكرنا بمشهد الحلم في فيلم برجمان، الذي يحكي عن استاذ جامعي متقدم في السن وفي عمر نجيب محفوظ وهو يسافر في سيارة في طريقه الي استوكهولم العاصمة لحضور احتفال بمناسبة تكريمه واستلامه جائزة، واثناء الرحلة يحلم مثل نجيب محفوظ، ويجعلنا برجمان نشاهد احلامه ومن ضمنها هذا الحلم او بالاحري الكابوس والساعة التي تتوسط الميدان هي علامة علي الزمن الذي يولي مع الكبر والهرم من بين ايدينا، ويسترجع بطل الفيلم من خلال احلامه ذكرياته وماضيه ويلتقي باناس احبهم وفقدهم ويحاول ان يبلور كشف حساب لنفسه لامنياته التي لم تتحقق ولاحباطته التي مازالت تجثم ثقيلة في داخله وتكاد ان تكتم علي انفاسه

أي انسان مهما هان شأنه لايخلو من كرامة

كما تحيل بعض الاحلام كما في الحلم الثالث وغيره، الي مشاهد التعذيب والعنف في بعض افلام الامريكي دافيد لينش كما في فيلمه "الطريق المفقود" ورعبها ودمويتها، وتذكرنا بالاهانات اليومية التي يتعرض لها المواطن المغترب المعذب في وطنه، وهنا يرتفع صوت الرواي في الحلم الثالث محتجا ضد القهر والتعذيب مذكرا بأن أي انسان لايمكن ان يخلو من كرامة مهما هان شأنه.احلام نجيب محفوظ السريالية، بكل مافيها من جد وهزل، ضحكات ودموع،غم وفرح، ليست احلاما عبثية، لانها تجعلنا نتأمل في حياتنا وواقعنا الآن، من خلف ستار الحلم، وربما كانت نوعا من التطهير كما في التراجيديا اليونانية القديمة التي تجعلنا نتطهر بالرعب من ادراننا ونحب الحياة ونقبل عليها اكثر، حتي نتواعد من جديد في عالم او وطن آخر جديد، يكون اكثر عدالة وتسامحا، نتواعد في حارات مصر ولاهدف لنا الا الانشراح باللقاء والاستسلام للمزاح والضحك، ونطير في الفضاء من الفرح. هذا الطيران الذي هو نوع من التسامي الذي يربطنا بالوطن الحقيقي حين تتحقق فيه الكرامة والامان والسلامة لكل مواطن، فيجعلنا نتصالح مع انفسنا والعالم، ونعانق كل الكائنات والموجودات

تحيةالي نجيب محفوظ علي احلامه وكتاباته، التي مازالت مثل "بوصلة" نهتدي بها علي الطريق، فلانتغرب عن واقعنا ومجتمعاتنا، حتي في اشد احلامنا ظلاما ورعبا. 

صلاح هاشم: salahashem

موقع "إيزيس" في

31.08.2006

 
 

العالَم من دون نجيب محفوظ

بول شاوول 

انتصر نجيب محفوظ على الموت مرات وانتصر عليه الموتُ مرة واحدة، وأخيرة. وهكذا كانت حياته انتصاراً على الواقع: الاجتماعي في بدايات القرن وأربعيناته وخمسيناته، بما حمل من تناقضات وجمود وتقاليد على النظام السياسي الناصري، بما حمل، في تضاعيفه، الكثير من الأخطاء والشعارات والعسكرة والقمع والأحادية والشمولية. فمحفوظ إبن حزب الوفد الليبرالي، ابن التعددية السياسية والثقافية وابن الأحلام الديموقراطية، التي كان يرى أنها تُؤسس ببطء ومن داخل إرادة الناس، ومن داخل صياغة التاريخ.

انتصر حتى عندما وجد نفسه في خانة "المهزومين" المفجوعين في أحلامهم، وفي النكسات التي عرفتها مصر والأمة العربية. كأنه، ومن باب المعايشة ومن الداخل كان في قلب الأحداث والتداعيات والظواهر، وعلى هامشها. عايشها، بصيرة تُسائل، وبعقلانية تنتقد، وبشفافية تنفذ إلى عمق المعضلات والأسئلة الكبرى والوقائع المتعاقبة. كل هذا رآه في رواياته وقصصه وكتاباته. رآه في الزقاق، وفي "الحتة" وفي المدينة وفي الحارة وفي الأمكنة. رآه واختزنه لأنه عايشه وجربه وخبره وعلمه واستوعبه في تاريخ طويل من التحولات والتبدلات. ارتد في بداياته الى التاريخ القديم فرواه كحكواتي مشوق وحيّ، وكمتدارك فذ. ثم ومن التاريخ الفرعوني وسواه إلى الخلفية غير المنظورة، وراء النوافذ والستر والعائلات والأحداث والشخصيات السائدة والهامشية. هذا ما وجدناه بكل عنفه ورغباته، في معماريته الروائية، التي اخترق بها مجاهل المجتمع المصري، (الأبوي آنئذٍ) ثم، و"بمكر" الكبار و(الرواية فن المكر الإبداعي)، تأمل، وتأمل وانتهك المحرمات والأسئلة المحظورة في "أولاد حارتنا" ثم توجه إلى ما قبل النكسة وما بعدها، بتداعياتها ومسبباتها وظواهرها "في حب تحت المطر" و"اللص والكلاب" و"ثرثرة فوق النيل" وبين هذه وما قبلها تفرع الى حكايات الأمكنة والناس "خان الخليلي" و"زقاق المدق" وهواجسهم وتلاوينهم وشخصياتهم وفجائعهم..

كل ذلك بحنو ما بعده حنو، وبإلفة الناظر أحياناً إلى غير المألوف. وبحدة الناظر بجوارحه وبعقله وبمبضعه وانقشاعه من دون الوقوع في ثنائية الشعارات أو الموروثات الميتافيزيقية والأيديولوجية التي تقسم العالم إلى أبيض وأسود.

رعى شخصياته، حتى الأقسى منها، برحابة رابطاً شروطها بشروط المجتمع، وآلياته وإلزاماته. وتخطى بذلك الزمن "المحافظ" التقليدي المتردد بين مفاهيمه الثنائية، وكذلك الزمن الأيديولوجي (ثورة يوليو) بشعاراته الثنائية الموزعة بين المخلص والخائن، بين الوطني والعميل، كذرائع لإلغاء الصوت الآخر. ومحفوظ كان الصوت الآخر بكل تشعباته. كان على الضفة الأخرى ينظر ويرى ويتكهن، ولا مباشرة ولا وعظ ولا إملاءات. فليتكلم الواقع كله في رواياته وقصصه، فليصعد هذا الواقع السفلي بكل جذوره، ومآلاته وبواطنه وتشعباته وغضاضاته وفجاجاته وتناكراته إلى السطح. فالرواية هي الجذر الذي يستمر في الضوء. روائي المرايا والنوافذ نجيب محفوظ. روائي الواقع وما بعده وما إليه. روائي الزمن بكل أضلاعه وزواياه، روائي الأمكنة بكل أزقتها، ومقاهيها، وحواريها، وأحيائها، وهامشيتها. هكذا، كان محفوظ، شاعر الرواية العربية في خلفية كتاباته. شاعر المكان، شاعر التحولات، مواظب، وبذلك "الهدوء العاصف"، وبذلك الصمت المكتنز، على مقارعة الواقع بأدواته، بجدرانه، وببلاطه، وشوارعه، وتقاليده، وأمراضه، واظب، وكأنه يعيش دائماً على حافة الأشياء، على حافة الأحداث، لذا فهو روائي على حد اللحظات الحاسمة. رواها، واستنبط منها ما استنبط، بلغة مفخخة، "ماكرة" تبدو كسطح البحيرات، وهي تعصف من الداخل، تعصف بقوة معطياتها. وبقوة هدوئها، وبقوة نفادها. كأن النفاد الى الواقع، وروايته بأدواته، يُعوّض كل أشكال الغموض، وكل الفصاحات، والبلاغيات، بل كأنه رَفَضَ أن تحل اللغة (باجتراحاتها الشكلانية) محل الواقع، وأن تحل الكتابة محل الشخصيات، والأسلوب محل الأمكنة، مع هذا كان عليه أن ينقل الواقع بروائحه، وبعبقه، الواقع الذي يتضمن لغته. وبها، يطل على ما فوقه، أو على ما تحته، بلا زخرفة، ولا سهولة، ولا ادعاء لا "طليعية" ولا "تقدمية". وهكذا بقي محفوظ خارج كل التصنيفات، والمدارس، والنظريات، إذ أن "نظرياته" في نصوصه، لا قبلها، وفي سياق لغته، لا بعدها، من دون أن يقع لا في التبسيط، ولا في التيسير، ولهذا، بدا محفوظ، روائي "المجاز" المخفي؛ ذلك المجاز الذي به، يواجه العالم بعقل نافذ، وببصيرة تنويرية "لاذعة"، وبحرية شاسعة. فلينظِّروا للرواية ما شاؤوا، فالنظرية قيد. وليقننوا ما شاؤوا، فالتقنين قتل لطزاجة المقاربة. وليجربوا بحسب الأفكار الجاهزة، فالتجريب يأتي من داخل الحالة والظرف والتاريخ، من داخل التجربة.

ذلك أن محفوظ، وبهذا الحس الروائي المفتوح، والحر، رصف معمارية روائية، ما بعدها معمارية في أدبنا. ويكاد يكون الوحيد الذي عرف كيف تطلع الرواية من الرواية، والقصة من القصة، والحكاية من الحكاية، لتشكل هرماً معمارياً، متماسكاً، وحياً، وراسخاً.

رحل محفوظ. ترك أمكنته. ومقاهيه. ومشواره اليومي، وسيجارته، وحرافيشه، وصعاليكه، وناسه، و"حتته"، ولقاءاته.. غادر ذلك الحضور اليومي الذي كان يشع على امتداد ما يقارب القرن على كل مكان ألفه... وعلى القاهرة التي عشقها، وعلى مصر التي لم يغادرها سوى مرة واحدة... وعلى كل العالم العربي والعالم.

كم هو غريب، وقاسٍ، أن تكون مصر، اليوم، من دون نجيب محفوظ.

أن نكون كلنا من دون نجيب محفوظ.

أن يكون العالم كله من دون نجيب محفوظ.

المستقبل اللبنانية في

31.08.2006

 
 

رحيل نجيب محفوظ عميد الرواية العربية ومؤسسها ومفتتح فضاءاتها المعاصرة (1)

تجاوز مجمل التجارب الجديدة.. والآخرون لم يقدموا شيئاً فَاتَهُ 

بيروت: القسم الثقافي / عمان ـ رام الله: موسى برهومة/ دمشق: عمر كوش /مكتب القاهرة

رحل الروائي المصري الكبير نجيب محفوظ عن عمر يناهز الخامسة والتسعين، مخلّفاً وراءَه معمارية شاهقة من الكتابة الروائية والقصصية، التي أسست للرواية العربية المعاصرة، وافتتحت، ربما للمرة الأولى، آفاقاً جديدة خصبة لها، تتنوع في لغتها، وفي سياقها، وفي أمكنتها، وفي كلاسيكيتها ولا سيما في تجربتها.

رحل صاحب "الثلاثية" و"أولاد حارتنا" و"الحرافيش" و"خان الخليلي" و"اللص والكلاب" و"حب تحت المطر" و"زقاق المدق..."، الذي عبّر بعمق وشفافية عن تحولات قرن كامل في مصر، تحولات سياسية واجتماعية وثقافية...

هنا شهادات لحوالي 25 كاتباً وناقداً عربياً في حلقات.

ابراهيم أصلان.. متعة المثل الكبير

لم أكن مرافقاً دائماً في جلسات نجيب محفوظ وعندما ترك مكانه في مقهى "ريش" تقطعت الفترات التي أحضر فيها ندوته الأسبوعية. لكنني دائماً كنت أشعر بوشائج قوية بيني وبينه. وهو أعطاني الإحساس بأنه كان منتبهاً لها. فهو رجل عاش في بيئة شعبية وبحكم تركيبته ابن بلد. وهذا أحدث نوعاً من الصلة به كإنسان تتكافئ مع صلتي به ككاتب، خصوصاً أنه في أيامي الأولى عندما نشرت لي قصص قصيرة سأل عني وقال لي: ضروري تأخذ منحة تفرغ من الدولة. وقتها كان التفرغ يحتاج الى تزكية من كاتب كبير، وسافرت اليه في الاسكندرية لأحصل منه على خطاب التزكية فوجدته يجلس مع توفيق الحكيم وقدمني له باعتباري سأكون من مقدمة الصف الأول. ما زلت أحتفظ بصورة من شهادته تلك، والتي كانت سبباً في حصولي على تزكية أخرى من الدكتورة لطيفة الزيات ومن صلاح عبد الصبور وحصلت على منحة التفرغ. كنت وقتها أعتقد أنني مجرد كاتب قصة، لكن من شروط المنحة أن أكتب رواية فقلت لنفسي: لا مشكلة... نجرب. فكان نجيب محفوظ السبب في توجهي لكتابة الرواية... وهذا لأنه أبدى إعجاباً بما يكتبه شاب لا يعرفه.

وهو من نواح متعددة يمثل النموذج بالنسبة لنا. لم نكن نقرأه فقط، لكنه كان نموذجاً استثنائياً في علاقته بعملية الكتابة، واستمراره حتى الآن يأتي من هذه العلاقة أساساً. حضور توفيق الحكيم مثلاً ارتبط بتصرفات ذكية تجاه الإعلام، آخرون يكرسون حضورهم عبر الإلحاح أو الحضور الجسدي. نجيب حضوره دائماً عبر عملية الكتابة ونتيجة لعمله وكتاباته، ومن هنا قرر من البداية وحتى اليوم تقنين عملية النشر. كان حريصاً على أن يوجد سنوياً بأعمال، وكأنه موضوعاً بقوى لا رادع لها، وكأنه يدخر حياته كاملة لتحقيق ما نذر من أجله، أن يكون من الذين نزلوا ليكونوا لسان حال الدنيا من حولهم. هؤلاء يعملون كأنهم أشبه بقوى الطبيعة، العواصف والرياح ودورات الفصول، نجيب محفوظ واحد من هؤلاء.

وهكذا كانت صلته بالآخرين هي ترتيب لحياته نفسها، وليس كما يتصور البعض أنها تضيق الحركة، بل أعطته فرصة ليعيش بشكل جيد، لم يفقد شيئاً، أعطى لكل شيء نصيبه، الأصدقاء القدامى كان لهم مساحة، أصدقاء الكتابة أيضاً، وهكذا كل شيء في حياته كان له مساحة.

على مستوى آخر... سيظل نجيب محفوظ هو من أسس لرواية عربية، وكل المحاولات قبله ـ إذا استعرنا لغة المعمار ـ عبارة عن مجسات، وهذه مسألة على قدر كبير من الأهمية، فهو الذي قام بتأهيل اللغة لكي تكون لغة حكي وجعلها صوت البشر وهذا لم يتم قبل محفوظ تقريباً.

ولذا سيظل هو مزاراً لقارئ ما، لدارس الأدب، ولغيره فهو منجم للذين يحسنون الفهم من علماء النفس والاجتماع، مادته أغنى وأصدق وأكثر ثراء بالقياس الى مواد أخرى. هناك أيضاً قيمة العمل، وأن تعكف على هذا العمل سنوات طويلة، هذا يعطي قيمة كبيرة جداً، لأن كل عمل حقيقي وراءه جهد حقيقي يعكس إيماناً بهذا الكائن... على مستوى الفن والحرفة والعلم ويعبر عن موهبة عظمى، وفي نفس الوقت احترام للمتلقي باعتباره لا يقل عنك قدرة أو قيمة.

لهذا عندما أتحدث عن نجيب محفوظ أهتم بالحديث عما يمثله من قيم. ليس هناك الكثير لم يقل بعد عن أدبه، لكنه على مستوى آخر حقيقة أدبية في حياتنا. وهو حاضر في لحظة نفتقد فيها المثل الكبير، ودائماً في حياتنا شخصيات هي بحد ذاتها تتحول الى معانٍ وقيم، معانٍ كبيرة مستقلة عن أصحابها وتؤثر بعيداً عن أبعادها الشخصية، خصوصاً في زمن عشوائي، كل شيء فيه عشوائي، وليس العمارات والشوارع فقط، فهذه ليست إلا ترجمة لذهنية عشوائية، ونجيب محفوظ قيمة كبيرة في مثل هذا الزمن يجب الإلحاح عليها، فحياته تعكس إيماناً بفكرة العمل. الكاتب من هذا النوع لا تسمح حريته ولا كرامته إلا أن يكد في عمله. وهذه قيمة تضع نجيب محفوظ في مشهد الكتابة الكبيرة في العالم.

في أدبه، أنا بداية اعتبر الحرافيش أفضل نص روائي كتب بالعربية، وفي مرة كان يوسف ادريس غاضباً من يحيى الطاهر عبد الله لأنه في حوار اتهم نجيب محفوظ بالخيانة لأنه أعلن تأييده لكامب ديفيد، ورغم أن آراء ادريس في العادة جموحة إلا أنه قال بالنص: "هذا رجل يكفيه أنه كتب رواية اسمها الحرافيش" وكان يقصد أن هذه الرواية تغفر الذنوب لصاحبها إذا كان له ذنوب.

هناك فرق أعيه تماماً بيني وبين نجيب محفوظ. ربما لأنني لم أكمل تعليمي، ولم أكن مرتبطاً بأي من المرجعيات الفكرية الشائعة، كما أنه بطبيعة تكويني لا أصلح أن أكون فرداً في منظومة تقول رأياً واحداً. عندي إدراك مبكر أن الكتابة هي وسيلة معرفتي.

بينما نجيب شأنه شأن كل الكبار من كتاب العالم (مع وجود استثناءات) ولا أريد أن أقول الكلاسيكيين (لأنه من الذين سعوا لتحطيم القواعد الفنية)... المهم نجيب أدرك أن عنده رسالة ما، أساس، مفهوم يبدأ به العمل، ومن ثم يأتي العمل في جوهره سعياً لتأكيد هذا المفهوم.

أنا أنتمي الى فريق آخر، ربما لأنني جئت في الستينات، وكانت كل المسائل "ملخبطة". ولم أكن مقتنعاً بشيء، فكانت الكتابة بالنسبة لي سعياً لمفهوم، لمعنى، لرسالة، وهذا لم يكن معارضة لنجيب محفوظ. ورغم أنني لم أقرأه كله إلا أن قراءته منحتني المتعة، نعم المتعة.

إدوار الخراط.. تجاوز الطعنة

كلنا نعتبر نجيب محفوظ عميد الرواية ومؤسسها وهو الذي أرسى قواعد الرواية المعاصرة بأعماله الباقية بدءاً من الثلاثية وحتى إصدار السيرة الذاتية.

نجيب محفوظ يتميز في تناوله للرواية والقصة ما نسميه واقعية النظرة وسطوتها على المظاهر الخارجية الاجتماعية والحرص على إرجاع هذه المظاهر الى أصولها النفسية وتكوين سمات وخصائص الشخصية كما نرى في رواية مثل "السراب" أو غيرها من رواياته.

يمتاز نجيب محفوظ أيضاً كشخصية مؤثرة ومضيئة بعدة خصائص لعل أهمها الدأب على الكتابة والإخلاص لها، والمثابرة في تجويدها عبر عشرات السنوات دون كلل فضلاً عن دماثة خلقية وسعة صدر ورحابة تلقى أعمال المبدعين بأجيالهم التي جاءت بعده وإن اختلفت مشروعاتهم الأولية اختلافاً أساسياً عن مشروعه، ومتابعته الدقيقة ليس فقط للأحداث العامة بل أيضاً لهذه الإبداعات.

وعندما تعرض نجيب محفوظ لطعنة السكين الغادرة التي سددتها يد الجهل والتعصب وضيق الأفق أحسسنا جميعاً أن الطعنة في صدورنا ولعل مقدرته على تجاوز آثار هذا الغدر بسماحته المعهودة وصبره... يعتبر قدوة لنا جميعاً.

علاء الديب.. كأنه يكتب موسيقى باخ..!!

بعد تخرجي من الحقوق لم أحصل على درجات كافية للالتحاق بالنيابة... وكنت عرفت الطريق الى الصحافة والترجمة مرة عبر الوكالات الصحفية ومرة عبر الترجمة، كنت وقتها بدأت انسحابي من الدنيا... والحياة في مكتبة جامعة القاهرة... في هذه الفترة عرفت الأدب بمعناه الحقيقي. وعرفت من مروري بالتجربة الماركسية أنه إذا لم يكن للأدب دور اجتماعي يصبح عبثاً مطلقاً.

وفي "روز اليوسف" عرفت أيضاً العلاقة بين الأدب والناس من خلال الصحافة واحسان عبد القدوس وخاصة فتحي غانم... وقتها كان الموقف من نجيب محفوظ هو الموقف من الرواية التقليدية. وقتها كانت الثلاثية و"خان الخليلي" و"زقاق المدق" هي أقصى ذروة وصلت لها الرواية الكلاسيكية. وكل ما هنالك بالنسبة لكاتب مثلي أن أتعلم منها و"أمشي" بمعنى آخر أعربها أتجاوزها كما يقولون في تعبيرات النقد الأدبي.

الآن عندما أنظر إليه، الى نجيب محفوظ أجده هو الذي عبر أو "تجاوز" كل التجارب الجديدة والآخرون لم يقدموا شيئاً فاته. هو الذي دخل مغامرات مثل "اللص والكلاب" و"ثرثرة فوق النيل"... وكلها تجارب في الشكل الروائي جديدة وخاصة جداً. لا هي شرقية ولا غربية، أي ليست مستوردة أو مقلدة من الغرب ولا مستوحاة من التراث والثقافة القديمة، هي له وحده، تخصه، تجارب وصلت مداها لغاية ما استوى على "أصداء السيرة الذاتية" التي اعتقد أنها قمة عالية في الكتابة العربية وهي كتابة صرفة، مثلما موسيقى باخ موسيقى صرفة، جمالها في التوافقات فقط... وليس في المعاني والايحاءات...

هذه الكتابة الصرفة هي التي وصل إليها نجيب محفوظ بعد هذه الرحلة المثيرة مع تجارب تضعه في مصاف تصل بالشخص الذي يتعاطى الأدب الى أن يرى بقعة نور في الظلام الذي بين اللحظة والأخرى.

توفيق صالح.. إيقاع نجيب وصلاح أبو سيف

لا أريد أن أتعرض لأدب نجيب محفوظ وسأتكلم فقط عن علاقته بالسينما وإن كان كلامي عن السينما سيصب بأي حال في أدبه.

السينما المصرية في نهاية الأربعينات كانت تعتمد في سرد الفيلم على الحدوتة، وعندما بدأ نجيب محفوظ العمل مع صلاح أبو سيف أدخل الى كتابة السيناريو البناء، ومع ممارسته لكتابة السيناريو أصبح قادراً على تكثيف المعاني المطلوبة أو الموقف المطلوب وعلى بناء سيناريو بناء محكماً، وهو ما أثر على كل كتاب السيناريو في السينما بعد ذلك، وبالطبع نظرة نجيب محفوظ الواقعية أثرت على كل الأفلام فواقعية صلاح أبو سيف بدأت بتأثير وكتابة نجيب محفوظ فتعلم منه وعمل.

ركز نجيب محفوظ على كتابة سيناريو من 4 ـ 5 سنوات رغم أنه عمل فيها ما بين 10 الى 12 سنة فتأثر أدبه بالايقاع السينمائي ومن "اللص والكلاب" وما بعدها سنجد أن إيقاع كتابته مختلف عن الثلاثية فأصبحت السمة الأساسية في أدبه هي كثافة المشاهد والحوار. فقد استلهم إيقاع السينما.

صنع الله ابراهيم.. مهنة عمر

بالنسبة لي ككاتب نجيب محفوظ أضاف قيمتين أساسيتين لم تكونا موجودتين قبله. الأولى قيمة الإخلاص للكتابة والاعتزاز بمهنة الروائي.. وانها مهنة جدية تتطلب التفاني التام لها، وإعلاء شأنها.

قبل نجيب محفوظ كانت كتابة الرواية أو القصة هي نشاط جانبي للكاتب الصحافي مثلاً. إحسان عبدالقدوس يكتب مقالات وتحقيقات صحافية وبجانبها يكتب الروايات. يوسف السباعي له حياته المهنية كضابط ثم صحافي وبجانبها يكتب الروايات.

نجيب محفوظ على الرغم من تمسكه بالوظيفة حتى آخر لحظة كان يعطي الكتابة المكانة الأولى في حياته.

ارتبط هذا بفكرة التنظيم. فقد كانت الفكرة السائدة أن الكتابة عملية عشوائية تتوقف على الإلهام. كان نموذج الفنان: بوهيمي. يسهر. يسكر. يجري. يكتب في لحظات من الإلهام المفاجئة. وكان الشعر وقتها أن القلم هو الذي يكتب.

أعتقد أن نجيب محفوظ هو أول شخص (باستثناء يحيى حقي) يرى أن الكتاب ليست إلهاماً بقدر ما هي مهنة تتطلب الانتظام في العمل والدراسة والبحث وتطوّر ومواكبة. وتحتاج الى قواعد وبرنامج ومخطط. هي مهنة عمر.

هذا ما أضافه نجيب محفوظ الى وعي الكتاب والجمهور.

على مستوى آخر كانت نظرتي الى أعماله في البداية نظرة استخفاف باعتبار أن ليس بها جديد. وهي نظرة تغيّرت تماماً مع ملحمة الثلاثية التي جعلتني أتوقف أمام أعماله باهتمام كبير، خصوصاً أنه بعد ذلك تزعم حركة التجريب في الرواية في الوقت الذي كنا فيه نعلن تمردنا في الستينات ونسعى الى استكشاف مناطق جديدة.. هذا الاستكشاف هو ميزة جيل الستينات لكن نجيب محفوظ كان قائد هذه العملية لأن أعماله في الستينات كانت بحثاً عن طرق جديدة عبر المونولوج الداخلي واستخدام لغات مختلفة مثل اللغة الصوفية كما في عدد من الروايات على رأسها "حضرة المحترم". المهم هذا السعي كان إضافة مهمة وفتح عالم جديد وريادة.

نجيب محفوظ استطاع أن يقدم في أعماله الشخصية المصرية. وهو نفسه يمثلها بشكل كبير، أقصد الشخصية المنتمية الى الطبقة الوسطى بشريحتها المتقدمة المتنورة بمعنى أنها بحكم مصريتها وتاريخها السيكولوجي شخصية محافظة في عمقها. تتطلع وتفهم.. وفي الوقت نفسه مكبلة في سلوكها اليومي بقيود المحافظة والاحتفاء أو احترام السلطة.

وفي رواية "حضرة المحترم" شخص علاقته بالوظيفة والسلطة تصل الى درجة التقديس. يعبر عن ذلك بعبارات صوفية أو دينية. وفي النهاية يشعر البطل بالقرب من الموت وهو يرى أنه خسر حياته. ففي بحثه عن المطلق أو المثال كان مكبلاً بقيود الوظيفة أي الإخلاص للمجتمع البرجوازي. للطبقة المتوسطة المصرية المرتبطة بتاريخ شعب معتمد على مياه النهر التي تنظم توزيعه سلطة مركزية. وهذا ما يفسر التناقضات الموجودة في حياته. ففي الوقت الذي كان موظفاً تقليدياً سلوكه الحياتي يخضع لهذا التوصيف، كتاباته كلها ضد أو تتمرد على هذه الصورة، أقصد الكتابات الروائية بالتحديد، لأن له شكلاً آخر من المقالات والتعليقات الصحافية (كان له عمود في الأهرام أسبوعياً يكتب فيه مقالات أقرب الى موضوعات الإنشاء في المدارس وتدور حول مفاهيم عامة ولا تتضمن نقداً للسلطة.. هذا قبل الحوارات التي نشرها محمد سلماوي). وهذه الكتابات تخضع لجانبه الوظيفي الملتزم.

هذه الشخصية تفسر موقفه من ثورة تموز (يوليو) وحنينه الى الماضي الليبرالي الوفدي بل ومواقفه من الصراع العربي الإسرائيلي. وبشكل عام مثلاً كان يؤيد السادات لكنه في رواية "يوم قتل الزعيم" يقول على لسان أحد شخصياته أنه (أي السادات) كان خلطة من هتلر وشارلي شابلن. هذا التناقض هو ربما أحد أسرار شخصيته.

الإضافة الثانية هي لغته العربية التي استطاع نجيب محفوظ على مدى سنوات طويلة نحتها بأسلوب خاص.. فهي سليمة على قواعد اللغة وفي الوقت نفسه عصرية. وهو في هذه النقطة قدم حلولاً عبقرية لمشكلة الكلمات العامية في الحوار وهي مشكلة خطيرة ليس فقط بالنسبة لنا بل لكتاب الرواية عموماً وقد تحدث ماركيز عن هروبه منها واللجوء لفكرة الحوار. لكن نجيب محفوظ حاول أن يجعل الحوار بسيطاً وفي الوقت نفسه يكون وفقاً للقواعد الكلاسيكية. في "ثرثرة.." يتكلم البواب بفصحى تبررها الطريقة الصوفية.

هذا ساعدني أنا شخصياً على اكتشاف إمكانية التجاوز بأن يكون هناك حوار بفصحى بسيطة وكلمات عامية بسيطة في إطار بناء كلاسيكي.

ابراهيم نصرالله.. مواقفه من القضية الفلسطينية

يظل نجيب محفوظ حالة أكبر من أن نحيط بها، لأنه ظاهرة استثنائية في العطاء الروائي، ولا يوجد اليوم في عالمنا العربي من عاصر وعاش كل تلك المراحل والتغيرات التي عاشها نجيب محفوظ وكتب عنها، كما لا يوجد هناك من بين الروائيين من تنوّع داخل تجربته إلى هذا الحد فنياً.

قد لا يكون نجيب محفوظ من الذين أثروا كثيراً في تجربتي على صعيد كتاب الرواية، لأن بدايتي لكتابة الرواية كانت في فترة شهدت منطقتنا العربية فيها انفتاحاً هائلاً، لا مثيل له على الرواية في العالم، ولكنه كان لصيقاً بحياتي في مرحلة القراءات الأولى مثله مثل بعض الكلاسيكيين الكبار: إميل زولا وتشارلز ديكنز، ولذلك قد تكون بعض أعمال الروائييين والقصاصين المصريين أكثر قرباً إلي من كثير من أعمال نجيب محفوظ، لكن ذلك لا يجعله أقل تأثيراً في حياتي، لأنه وضع معايير أدبية جديدة ومتنوعة لم يستطع غيره أن يحققها بهذا الزخم الكبير، بدءاً بالثلاثية ومروراً بـ (ثرثرة فوق النيل) و(الحرافيش) و(أولاد حارتنا) وكثير من مجموعاته القصصية فائقة الأصالة في تجديدها.

بصورة أو بأخرى أجده مثالاً من الصعب تحققه، ونموذجاً فذاً، اذ يكفي ان نتذكر أنه استطاع ان يكتب كل هذه الأعمال المتنوعة عن مصر وشعبها، ويكفي أن نتذكر حجم إخلاصه للكتابة والتزامه بها خيار حياة، ويكفي أن ندرك أنه كان يعمل بكل ما لديه غير منتظر شيئاً مقابل عمله سوى عمله نفسه، هذا العمل الفني الذي إن لم يوجد فلا شيء سيوجد، لأنه الدليل الوحيد على وجود الكاتب، يكفي أن نتذكر ذلك كله لندرك أننا أمام حالة استثنائية.

لكن الشيء الذي يعذب حبي وتقديري لهذه الشخصية الفذة، أنها، وهي التي أدركت أدق وأعمق ما في تاريخ مصر، وكان صاحبة رؤى عظيمة وهي تقرأ هذا التاريخ، يعذب هذا الحب وهذا التقدير أن رؤاه ظلت تتعثر كلما أدلى بدلوه في أخطر قضايا العرب، وأعني قضية فلسطين، التي لم يعاصرها أحد مثله، ورغم كونها قضية كبرى فهمها كثير من كتاب العالم الشرفاء، البعيدين عن هذه المنطقة جغرافياً وثقافياً، من هم بمستوى نجيب محفوظ، ومن هم أقل منه سطوعاً، إلا أن مواقفه الوجِلة، لم تكن تليق بكاتب مثله، فمواقف كهذه يمكن أن يمارسها رجل من الطبقة الوسطى في احدى رواياته خوفاً على مصدر رزقه مثلاً.

أما على مستوى الكتابة فقد قدم لي الدرس الأكبر، فلكي تكون كاتباً عليك أن تعطي الكتابة وأن تلتزم بمواعيدها، ولذلك تحولت دقته هنا إلى طريق أسلكه منذ أكثر من عشرين عاماً والتزم به، فللكتابة وقتها المقدس الذي تحتاجه ولا تستطيع أن تخلص لها بنصف قلبك أو بربع هذا القلب.

سيرة وأعمال

·         ولد نجيب محفوظ في 11 ديسمبر 1911

·         حصل على ليسانس الآداب قسم الفلسفة عام 1934

·     أمضى طفولته في حي الجمالية حيث ولد، ثم انتقل الى العباسية والحسين والغورية، وهي أحياء القاهرة القديمة التي أثارت اهتمامه في أعماله الأدبية وفي حياته الخاصة.

·     حصل على إجازة في الفلسفة عام 1934 وأثناء إعداده لرسالة الماجستير وقع فريسة لصراع حاد بين متابعة دراسة الفلسفة وميله الى الأدب الذي نمى في السنوات الأخيرة لتخصصه بعد قراءة العقاد وطه حسين.

·     تقلد منذ عام 1959 حتى إحالته على المعاش عام 1971 عدة مناصب حيث عمل مديراً للرقابة على المصنفات الفنية ثم مديراً "لمؤسسة دعم السينما ورئيساً لمجلس إدارتها ثم رئيساً لمؤسسة السينما ثم مستشاراً لوزير الثقافة لشؤون السينما.

·         بدأ كتابة القصة القصيرة عام 1936. وانصرف الى العمل الأدبي بصورة شبه دائمة بعد التحاقه في الوظيفة العامة.

·     عمل في عدد من الوظائف الرسمية، ونشر رواياته الأولى عن التاريخ الفرعوني. ولكن موهبته ستتجلى في ثلاثيته الشهيرة: "بين القصرين"، "وقصر الشوق"، و"السكرية" التي انتهى من كتابتها عام 1952 ولم يتسنى له نشرها قبل العام 1956 نظراً لضخامة حجمها.

·         هو عضو المجلس الأعلى للثقافة والمجلس الفومي للثقافة، نال وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى، ونال جائزة نوبل للأدب سنة 1989.

·     نقل نجيب محفوظ في أعماله حياة الطبقة المتوسطة في أحياء القاهرة، فعبر عن همومها وأحلامها، وعكس قلقها وتوجساتها حيال القضايا المصيرية. كما صوّر حياة الأسرة المصرية في علاقاتها الداخلية وامتداد هذه العلاقات في المجتمع. ولكن هذه الأعمال التي اتسمت بالواقعية الحية لم تلبث أن اتخذت طابعاً رمزياً كما في رواياته "أولاد حارتنا" و"الحرافيش" و"رحلة ابن فطومة".

·     بين عامي 1952 و1959 كتب عدداً من السيناريوهات للسينما. ولم تكن هذه السيناريوهات تتصل بأعماله الروائية التي سيتحول عدد منها الى الشاشة في فترة متأخرة. ومن هذه الأعمال "بداية ونهاية" و"الثلاثية" و"ثرثرة فوق النيل" و"اللص والكلاب" و"الطريق".

·         صدر له ما يقارب الخمسين مؤلفاً من الروايات والمجموعات القصصية.

 

·         ترجمت معظم أعماله الى 33 لغة في العالم. منها على سبيل المثال لا الحصر:

1.       "عبث الأقدار"، 1939

2.       "رادوبيس"، 1943

3.       "كفاح طيبة"، 1944

4.       "القاهرة الجديدة"، 1945

5.       "خان الخليلي"، 1946

6.       "زقاق المدق" 1947

7.       "همس الجنون"، 1947

8.       "بداية ونهاية"، 1950

9.       "بين القصرين" 1956

10.   "قصر الشوق" 1956

11.   "السكرية" 1957

12.   "اللص والكلاب"، 1961

13.   "السمان والخريف"، 1962

14.   "دنيا الله"، 1962

15.   "الطريق"، 1964

16.   "الشحاذ"، 1965

17.   "بيت سيئ السمعة" 1965

18.   "ثرثرة فوق النيل"، 1966

19.   "أولاد حارتنا" (1959)

20.   "ميرامار"، 1968

21.   "تحت المظلة"، 1969

22.   "خمارة القط الأسود"، 1969

23.   "حكاية بلا بداية ونهاية"، 1971

24.   "شهر العسل"، 1971

25.   "المرايا"، 1972

26.   "الحب تحت المطر" 1973

27.   "الجريمة" 1973

28.   "الكرنك" 1974

29.   "حكايات حارتنا" 1975

30.   "قلب الليل" 1975

31.   "حضرة المحترم" 1975

32.   "ملحمة الحرافيش"، 1977

33.   "الشيطان"... 1979

34.   " اصداء السيرة الذاتية"، 1996

35.   "حديث الصباح والمساء"، 1987

36.   "الفجر الكاذب" 1989

37.   "قشتمر" 1988 

·     تم اقتباس أكثر من 46 رواية وقصة له الى السينما والتلفزيون منها على سبيل المثال: "الوحش" (1954)، "درب المهابيل" (1955)، "بين السماء والأرض" (1959)، "زقاق المدق" (1963)، "الطريق"، (1964)، "ثرثرة فوق النيل" (1971)، "الكرنك" (1975)، "وكالة البلح" (1982)، "الحب فوق هضبة الهرم" (1986)، "نور العيون"، (1991) وغيرها من الأفلام...

·     عام 1994، تعرض الى محاولة اغتيال على يد أحد المتشددين الإسلاميين الذين أغضبتهم فكرة إعادة طباعة كتابه "أولاد حارتنا" التي صور فيها محفوظ الله في إطار انتقادي. وعلى اثر المحاولة، اصيب بشلل في يده اليمنى واستلزمه الأمر شهوراً طويلة ليعود الى استخدام القلم والكتابة من جديد.

·         "توفي نجيب محفوظ الأربعاء 30 آب فجراً في احد مستشفيات القاهرة عن عمر يناهز 95 عاماً.

المستقبل اللبنانية في

31.08.2006

 
 

رحيل نجيب محفوظ عميد الرواية العربية ومؤسسها ومفتتح فضاءاتها المعاصرة (2)

تقمص معظم جيل الروائيين بعده شهوة الإضافة إلى المشهد الروائي العربي 

بيروت: القسم الثقافي /عمان ـ رام الله: موسى برهومة ـ دمشق: عمر كوش /مكتب القاهرة 

رحل الروائي المصري الكبير نجيب محفوظ عن عمر يناهز الخامسة والتسعين، مخلّفاً وراءَه معمارية شاهقة من الكتابة الروائية والقصصية، التي أسست للرواية العربية المعاصرة، وافتتحت، ربما للمرة الأولى، آفاقاً جديدة خصبة لها، تتنوع في لغتها، وفي سياقها، وفي أمكنتها، وفي كلاسيكيتها ولا سيما في تجربتها.
رحل صاحب "الثلاثية" و"أولاد حارتنا" و"زقاق المدق" و"الحرافيش" و"خان الخليلي" و"اللص والكلاب" و"حب تحت المطر" ، الذي عبّر بعمق وشفافية عن تحولات قرن كامل في مصر، تحولات سياسية واجتماعية وثقافية...

هنا شهادات لحوالي 25 كاتباً وناقداً عربياً في حلقات.

نشرنا أمس مجموعة من الشهادات والآراء، وهنا مجموعة أخرى من العالم العربي

قاسم حداد: درس السرد السابق

يبقى أن نرى الى تجربة نجيب محفوظ، قبل كل شيء، بصفتها النص الذي يكتمل بين أيدينا، يكتمل يوماً بعد يوم، فيما يكف عن كونه مستقبلاً.

بهذا المعنى أحب أن أرجع الى نص نجيب محفوظ، الذي تدربنا في شرفته على النظر الى المستقبل بطريقتنا، حيث السرد العربي، في نص محفوظ، يتأهب لإنجاز الانعطاف النوعي في السرد العربي منذ الجاحظ ورفاقه الأجلاء. مما يفيد الآن الى وضوح الرؤية لمن يريد أن يعتبر نص محفوظ تحولاً يختتم طريقة واحدة للسرد، ليس من المنتظر (تاريخياً وإبداعياً) أن تستمر في السرد اللاحق، بنفس شروطها التي وصلت الذروة كمشروع (يكتمل قبل حين).

في منتصف السبعينات، كتب الناقد المصري عبد الرحمن أبو عوف، إذا لم تخذلني الذاكرة الخائنة، في كتاب نقدي له عن نجيب محفوظ طرح فيه سؤالاً جوهرياً، وفتح الأفق أمام الجواب عليه.

كان يسأل ما إذا كانت تجربة نجيب محفوظ الروائية قد شكلت حجر عثرة في طريق العديد من الروائيين المصريين. بسبب الهيمنة الفنية التي حققتها التجربة. وما إذا كانت هذه التجربة قد تحولت، بسبب رحابتها وتغلغلها في البنية الذهنية والفنية والاجتماعية للمجتمع المصري والثقافة المصرية، الى حكم قيمة مسبق على كل المحاولات الروائية التي جاءت بعد محفوظ، خصوصاً وهو الروائي الذي تمكنت أعماله، بدرجات متفاوتة، من حجب أسماء وروايات مهمة عاصرته منذ الخمسينات حتى السبعينيات. وهي الأسماء التي سيحتاج المرء بعض الجهد لتذكرها واستعادتها لفرط الهيمنة المحفوظية على مشهد الرواية المصرية.

أقول، هل سيشكل محفوظ، (استطراداً لسؤال عبد الرحمن أبو عوف) حجباً إضافياً مستمراً لبعض التجارب الروائية اللاحقة من جيل التسينات حتى اليوم، بسبب يختلف في النوع دون أن يختلف في الدرجة، عن لحظة الجيل السابق؟

لقد اشتغل النقد الأدبي، في حقل الرواية، في مصر خصوصاً، على تكريس قيمة نقدية وضعت تجربة محفوظ حدوداً لها، تشبه حدود النفي والإثبات.

الأمر الذي رشح العديد من تجارب الجيل الجديد من الروائيين (في مصر وغيرها) لأن تتهيأ لإخفاق تحقيق أي إنجاز نوعي في حقل السرد الروائي.

وبحكم العادة (التي هي كالعبادة كما يقول المثل العربي) تقمص معظم جيل الروائيين بعد محفوظ، شهوة الإضافة الى المشهد الروائي العربي، صور (جديدة) من تجربة نجيب محفوظ، خضوعاً للوهم الذي عممته وكرسته الفعاليات النقدية على امتداد الثقافة العربية في هذا الحقل، والذي مفاده: أنك إذا أردت أن تذهب الى الرواية سيتحتم عليك عبور هذه البوابة الكبيرة التي اسمها نجيب محفوظ.

وعندما لا نقلل من أهمية تجربة نجيب محفوظ، سوف نشعر بأن كل ذلك التكريس النقدي الذي صدر معظمه من التقدير الجليل الذي تستحقه تجربة محفوظ، قد أدى، من حيث لا يريد الكثيرون، الى تحويل نص محفوظ الى قانون الثبات، فيما نتوقع أن يكون افقاً لانطلاق السرد الجديد في سياق الكتابة العربية.

وسوف تأتي جائزة نوبل لتضم أمام الجميع حقيقة أن ما كنا نقوله عن هذه البوابة قد تأكد لكم الآن. فالرواية هي أن تمر من هنا.

ولا يتأخر الكثيرون عن مجابهة سؤال عبد الرحمن عوف القديم، (نقضاً أو تقمصا) خصوصاً في السرد المصري الراهن، خضوعاً للوهم ذاته، في المشهد الروائي على الجانبين: مدرسة نجيب محفوظ والمعجبين والمتفقين مع أسلوبه.

ومدرسة التحديث الروائي وتجديد السرد المختلفين مع أسلوبه.

أخشى أن كلا الاتجاهين قد تعثر بتجربة محفوظ بشكل أو بآخر. مما فوت على العديد من الفرص الإبداعية التي يمكن أن تحقق بها تجربة محفوظ درساً نوعياً وهي تسعف المواهب الجديدة (لو أنها تحررت) كمنطلقة الى الإضافة الخاصة في النص السردي العربي. الا ما الذي يفسر لنا ظاهرتين نصادفها ونحن في لحظة الرواية الراهنة:

الأولى: ندرة النص الروائي العربي اللافت والجديد.

الثانية: النزوع القوي لدينا للرواية الواردة من الكتابة غير العربية.

إن الأساتذة والرواد لا يصبحون كذلك، الا إذا اتيحت لتجاربهم حرية التحقق والتجلي بأساليب وأشكال جديدة ومختلفة وحرة ومغايرة، بحيث لا يكون الدرس السابق حاضراً الا بصفته ذاكرة ترصد وترفد الأجيال اللاحقة، وليس بتكريسها حكم قيمة وحدود لازمة للتجارب الجديدة.

بهذا المعنى، سوف نقترح، (فيما نتأكد دائماً، من الفعل والدور التأسيسيين لتجربة محفوظ وهي تنجز أول أهم التحولات النوعية للسرد العربي منذ قرون النثر العربي الأولى)، أن السرد العربي بعد نجيب محفوظ، لا بد له أن يختلف رؤيوياً وفنياً بشكل جذري حاسم وصارم، متميزاً بوعي ومعرفة عميقين بأن البناء الشاهق الذي شيده نجيب محفوظ يستحق التكريم الحقيقي المتمثل في تأسيس جديد لبناء سردي مختلف، لا يضاهي السرد السابق فحسب، ولكن بتجاوزه بالثقة والإبداعي الجديرين برؤية كونية يستحقها المبدع العربي وهو يصقل تراث مستقبله بالأحجار الكريمة التي يكتنز بها تراث تاريخه الأدبي الكثيف فناً وفكراً.

وظني أن درس السرد الذي اقترحه نجيب محفوظ علينا سوف يبدأ في التجلي، عندما تتمكن الرواية العربية من الانتقال الجذري من الخضوع لوهم الواقعية الطويلة، الى حلم المخيلة النشيطة.

ومهما يكن الأمر، فان نجيب محفوظ عبقرية عربية اسلامية عالمية.. يقدرها العالمون قدرها، ويقع دون ذلك ا لجاهلون.

رشاد أبو شاور: المؤسس الحقيقي للرواية العربية

هو الروائي العربي الأكبر، والأهم، والأعظم حتى يومنا.

قرأت ثلاثيته في وقت مبكر، فتعلقت به، وصرت مواطناً في (حارته) الفسيحة جداً، والتي تبدأ من القاهرة، ولا تنتهي في مكان، لأنها حارة الإنسان، بكل جوانب حياته، وتعقيداتها... هو مؤسس الرواية العربية الحديثة، ومطورها، ورافع مداميكها، ولذا أحسب أن روائياً في عصرنا لا يشبهه، ذلك أن الرواية وجدت، وتطورت في أوروبا عبر زمن ممتد، بينما عندنا نحن العرب، ما يزال مؤسسها الحقيقي، ومطورها المغامر فاتح الآفاق.. حياً يرزق!... منذ (تاريخياته) مروراً (بواقعياته) و(رمزياته)، ومن ثم روايته الشرقية الروح، والبناء المعماري (الحرافيش، ليالي ألف ليلة، رحلة ابن فطومة...) وهو لا يكف عن التجديد، والإبداع حتى صار وحده مراحل أدبية اختصرت في مبدع واحد.

جمعتني به سهرة في مقهى (ريش)، وكنا ثلاثة أصدقاء: الشاعر أمل دنقل، والشاعر أحمد دحبور، وأنا، ثم وفد آخرون...

دار نقاش حول أعماله، وأذكر أننا تطرقنا الى كتاب الناقد جورج طرابيشي (الله في رحلة نجيب محفوظ).

سألته إن كان قد سمع بما كتبه عنه الصديق محمود موعد، فأجاب بأنه قرأ تلك الرسالة ـ هي رسالة دكتوراه من جامعة السوربون ـ بفرنسيته المتواضعة!.

كان يصغي بلطف، وتواضع، ويرسم ابتسامة رضى.

نعم، كنت أشعر بالرهبة في حضرته، وهو لشدة فطنته شجعني على الحديث، وطرح أفكاري...

بعد دقائق من جلوسنا معه، أنا وأحمد ـ أمل تربطه به علاقة حميمة ـ اندمجنا في (الجو)، وتبادلنا معه الطرائف، وكان يضحك ضحكات ابن بلد أصيل، ببساطة، وتلقائية.

متى كان ذلك بالضبط؟!

لا أدري، ولكنني لا أنسى تلك الجلسة، وسعدت لأن الأستاذ نجيب محفوظ افتقدني في اليوم التالي عندما التقيت بأحمد وأمل، وكنت قد انشغلت في زيارة بعض الأصدقاء.

أذكر أننا ذات يوم، وأنا وأحمد دحبور كنا نتسكع في شارع (سليمان)، متجهين الى مكتبة (مدبولي) في ميدان طلعت حرب، فرأينا الأستاذ نجيب يقف على ناصية الشارع، وهو يتأمل حركة الناس، وملامحهم...

توقفنا، وأخذنا نتأمله دون أن ينتبه. أذكر أنني قلت لأحمد بلهجتنا المحلية جداً نحن أبناء قرى الخليل:

يا أحمد، (والله غير يلدعها)، أراهنك...

ذات يوم ونحن في تونس، وفي وقت مبكر جداً اتصل بي أحمد دحبور، وجاءني صوته على الهاتف:

ـ نجيب محفوظ...

ولم يكمل، فحصت فزعاً:

ـ يا لطيف!...

هدهد مخاوفي:

ـ أين ذهب فكرك؟ نجيب محفوظ لدعها!..

ـ لدعها؟

تساءلت

فأبدى دهشته، وفاجأني:

ـ ألم تتنبأ بأنه سيلدعها.. لقد لدع (نوبل) يا رشاد!

نعم فرحت، ولم أخف فرحي، فهو أكبر من كثيرين منحت لهم (نوبل). صحيح أن ظروفاً سياسية تدخلت، ولكن ألم تكن الظروف الموانع السياسية هي التي حالت دون منحها لها، ولبعض العرب الكبار؟!.

لما كتب (الكرنك) لم أنتقده، رغم ناصريتي، فأنا أرى بأن الكتابة هي نقد، وتغيير، ومنافحة عن كرامة الإنسان.

لم تتغير نظرتي لنجيب محفوظ عندما كتب أمام العرش وقلل فيها من شأن القائد جمال عبد الناصر، فذلك عمل فني متواضع، وليس له مكان بين أعماله الكبيرة.

ولأنه مبدع ناقد فقد كتب (يوم قتل الزعيم) التي هجا فيها زمن الانفتاح، وكل ما جلبه السادات وعصره على مصر..

نجيب محفوظ قاص كبير، وهو كتب القصة الطويلة والقصة القصيرة، والقصة المركزة القصيرة جداً والتي بالكاد تبلغ المائة كلمة.

نجيب محفوظ!...

كيف أحيط بعالمه المترامي، الرائي، والقصصي.. بجمل قليلة؟!...

إنه الأقرب الأكبر، والأعظم، وإنني كروائي، وقاص.. أشكره على كل ما قدم، وخلافي معه في السياسة لا يقلل أبداً من قيمته في نظري.

فاروق عبد القادر: العاجز عن التوقف

نتكلم اليوم عن نجيب محفوظ عبد العزيز ابراهيم احمد الباشا.. السبيلجي!!

اسمه الرسمي يقف عند الباشا. والاسم المعروف في حواري الجمالية والعباسية هو: السبيلجي أي ناظر السبيل. ولو عدت الى رواية "حديث الصباح والمساء" ستجدها تبدأ بأخين: داود وعزيز يلعبان في حواري الغورية. أو عندما أتى عسكر محمد علي الكبير ليقتنصوا الصبيان من الشوارع ليدخلوا المدارس أمسكوا بواحد هو داوود الذي تعلم الطب وأصبح باشا.. وهرب عزيز ليصبح هو "سبيلجي" بين القصرين. وأرجح أنه جد نجيب محفوظ.

في نفس الرواية اعتقد أن "راضية" هي الأقرب الى أم نجيب محفوظ التي عاشت حتى سن المئة. ولعبت دوراً مؤكداً في تكوين شخصيته. فبالرغم من انها كانت أمية، كانت مخزناً لكل عناصر الثقافة الشعبية التي من الممكن ان تتضمن السحر والاولياء والقديسين. وكانت تأخذ نجيب لزيارة الكنائس والمساجد والمتحف المصري. ثلاثة عناصر كونت ثقافة نجيب. وهذه السيدة الأمية هي التي فتحت أمامه العناصر الثلاثة.

هذا ناحية.. لكن ما يهمني بالنسبة لنجيب هو علاقته بعملية الكتابة. لا بد هنا ان نشير الى عملية تحديد مواعيد صارمة للقراءة والكتابة. وهي مسألة لم أعرفها عند كتاب آخرين. كان من المعروف عنه انه منذ توظف أولاً في مكتبة جامعة القاهرة بعد توسط قريب له فقد كانت أيام بطالة... وحتى فترة الوظيفة الأساسية في وزارة الأوقاف التي عينه فيها استاذه مصطفى عبد الرازق وظل يعمل بها حتى 1952.

اذن هو موظف حكومي في مصلحة حكومية عليه أن يؤدي عمله فيها.. وشهادة ممن زاملوه تقطع أنه موظف نموذجي يحضر قبل الموعد ويغادر بعد انتهاء الدوام. وفي الوقت نفسه لم يكن معنياً بما يعنى به الموظفون في العادة (الترقي ـ الدرجات ـ الخ) لكنه كان ملتزماً شروط الوظيفة حتى ينتهي منها عند نهاية ساعة العمل. وأظن انه قال إن الوظيفة حمتني من الضياع. لأنه لم يكن في اعتباره انه سيكسب أي شيء من كتابته.. فعليه ان يكتفي في حياته بمرتبه من العمل الحكومي. ولم يكن هناك مصدر للحياة الا دخل العمل الحكومي. وهذا سر التزامه به هذا الالتزام الملفت.

نأتي بعد ذلك الى ما بين الخامسة بعد الظهر الى العاشرة مساء وهذا هو الموعد المحدد للقراءة والكتابة. حافظ على هذا النظام الصارم 5 ساعات في اليوم 5 أيام في الأسبوع 8 أشهر في السنة (الاستثناء هي شهور الصيف التي كان يمتنع فيها عن القراءة بسبب حساسية عينيه). هكذا كانت علاقته بالكتابة لا تقوم على انتظار وحي او الهام يأتي في وقت من الأوقات. لكنه جهد ارادي. اتكلم عن عملية الكتابة نفسها. فالملفت مثلاً ان نجيب في مذكراته يتكلم عن علاقته بالمخدرات وبشكل خاص الحشيش وقال انه كان طوال الوقت صديق المصريين يعينهم على احتمال مشقات حياتهم ويعطي لهم لحظات من السعادة والانتشاء.

هذه العلاقة كانت صارمة لأنه فور أن يجلس على المكتب لا يتعامل مع أي شيء حتى القهوة والشاي. فالكتابة بالنسبة له عملية احتشاد بوعي كامل.

وكانت هي بالفعل معنى حياته. أو المعنى الذي اختاره لحياته أو الدليل الذي لا يمكن نقضه هي أنه رغم كل ما يلقى من عناء غير انساني بعد حادثة تعرضه للاغتيال (1994) وحتى الآن وعندما عجزت يده اليمنى عن الكتابة اصر على العلاج الطبيعي حتى يعود الى الكتابة رغم انه تقريباً أصبح عاجزاً عن قراءة ما يكتبه.. لماذا هذا الحرص والكتابة لن تضيف اليه شيئاً؟! لماذا يصر علي الكتابة وقد أصيبت حواسه جميعاً على هذا النحو؟

ببساطة الكتابة هي معنى حياته. لا تنفصل عنه. وبالتالي ليست سلعة موجودة خارجة يسعى لبيعها. وهذا معناه انه لا يكتب تحقيقا لهدف آني. ولا يتعامل مع اعماله باعتبارها سلعاً في سوق. هي حقيقته. هي تعيينه لنفسه.

تأسيساً على هذا وأنا كواحد من متابعيه لا ألقي بالاً لما يكتبه خارج الشكل الفني. كل كتابة خارج الشكل الابداعي لا تعنيني كثيراً في تقييم نجيب محفوظ. هذا معنى الكتابة في عالمه. وبالتالي انا متعاطف بعمق مع عجزه عن التوقف. ولأنه حدد ذاته في الكتابة فالنظرة من أعلى للابداع العربي تؤكد شموخ ما انجزه نجيب محفوظ. بدون تردد ولا مبالغة. كل من يستعرض الابداع الفني يخرج بنتيجة واحدة وهي ان نجيب محفوظ أسس الرواية العربية. وان كل الروائيين التاليين عليه مدينون له بشكل أو بآخر. وأنا لا أنسى ما قاله عبد الرحمن منيف. لم يكن ممكناً ان أكتب ما كتبت لولا سبق نجيب محفوظ. وما يقوله منيف يقوله آخرون.

ونجيب منذ المرحلة التالية لمحاولته كتابة التاريخ المصري بالرواية.. ومنذ "القاهرة الجديدة" كان ينشر في كل عام رواية.. كان فيها متابعاً لتحولات الواقع. لأنه كان يعيش وسط الناس. لكنه منذ نهاية الثمانينات والتسعينات وحتى الآن تلخصها جملها قالها احد ابطال روايته "صباح الورد": ".. الذاكرة هي النعمة الباقية.." فعندما عجزت حواس نجيب عن الاستمرار في معرفة تفاصيل الواقع كمادة لإبداعه، استعاض عنها بالذاكرة. وأعماله الأخيرة تتحرك من داخل الذات بعد أن أصبحت العلاقة بالواقع الخارجي شديدة الوهن. واقتصرت على ما يبلغه من المحيطين به. وانتفت منها المعرفة المباشرة. وبالضرورة ما يبلغه ناقص وغير محايد. وبالتالي يأخذ من مخزون الذاكرة صوراً وشخصيات، واحلاماً ورؤى. وهذا قوام عمله حتى الآن بعد مجموعة "القرار الأخير" (1996) وقبلها "اصداء السيرة الذاتية" بعدها ليس الا احلام فترة النقاهة وهو ما يؤكد ان الداخل هو الذي أصبح مصدر الابداع.

مرة أخيرة انا متعاطف مع عجز نجيب محفوظ عن التوقف عن الكتابة.

نهاد سيريس(*) أصداء السيرة الذاتية

لم يكن نجيب محفوظ غريباً عني حين وعيت الى عالم الكتب فكأن القراءة يجب أن تبدأ بالضرورة بقراءة نجيب محفوظ، وكأن الطريق الى سحر الرواية يبدأ من رواياته. بالاقتراب منه تعرفت على عالم الرواية الواسع وقد كانت "بداية ونهاية" الكتاب الأول لنجيب محفوظ وكذلك الرواية الأولى التي وضعتني على طريق الأدب، أما آخر كتاب قرأته له فقد كان "أصداء السيرة الذاتية".

مثل أي قارئ كنت أبحث في ثنايا رواياته عن سيرته، فكما يقولون، يضع الروائي سيرته الذاتية في أعماله ولكنه يسعى في الوقت نفسه الى تمويهها، خصوصاً إذا ما كان ذا خيال غني مثله. لقد كتب الرواية الكلاسيكية المسترسلة وأثر في أجيال من الروائيين، إلا أنه سرعان ما انفك من أسر ذلك النوع من الكتابة الروائية ليبدأ رحلة مدهشة في صناعة الرواية عبر التجريب وبالضبط عبر الاقتصاد في اللغة.

أصبحت جملته مختصرة ومكثفة وجمله الحوارية قصيرة، وكان قد انتقل الى الترميز ليضع "أولاد حارتنا" و"ملحمة الحرافيش" ولكنه جمع الترميز بالاقتصاد اللغوي حين كتب سيرته فكانت "أصداء السيرة الذاتية".

لم يكتب سيرته كما يفعل الآخرون. لم يجزئها الى فصول ولم يصنفها حسب مراحل سنين عمره التي تجاوزت التسعين. آثر ألا يرافقنا في جدول عمره الهادئ ظاهراً المفعهم بالثورة داخلاً الذي لا يخلو من منعطفات حادة، بل إنه رغب في تقديم سيرته عبر لوحات، ولنقل قصص قصيرة، وفي بعض الأحيان لا يتجاوز طولها السطرين. عبر مئتي قصة وحوارية لم يقل "أنا" بل قال "هو" ليلقي الضوء على ما قد بقي في ذاكرته أو ما صنعها وما صنع فلسفته وعالمه الروائي. لم يعد يهتم للكلام الزائد عن اللزوم، بل يمكن القول انه لم يعد يهتم بالسلاسل التي تربط الحلقات في ما بينها جاعلاً إياها بلا أي فائدة. أرادنا أن نتعرف على تلك الحلقات معزولة عن سياق عمره ولكنها، في الآن ذاته، ستسلط الضوء على ما كان يقلقه ككاتب وعلى طفولته، وفلسفته عن الزمن والتحول والمصير. هنا يكمن القصد، أن يقدم لنا تأملاته في الزمن الذي عاشه بعد أن أصبح في نهاياته. لا يريد أن يحشو سيرته بالأحداث اليومية الممجوجة أو بوصف بيئته التي عاش فيها كل مراحل حياته فقد سبق وفعل ذلك في رواياته الكثيرة، بل أنه أراد أن يمنحنا لذة تذوق الزبدة التي صنع منها وجباته فائقة الدسم.

في تلك القطعة التي عنونها بـ"المنشود" والتي لم تتجاوز الأربعة أسطر يبدأ بـ"في غمار شيخوخة وعزلة وأفكار يقطر منها ماء الورد" وكأنه يصف بهذه الجملة الشهية حاله حين جلس يكتب سيرته. إنها الشيخوخة إذن، ولكنها أيضاً العزلة المصاحبة لها حيث الأفكار والتأمل في الخلق والزمن وكأن ذلك خلاصة رحيق الأزهار. هذا الرحيق الذي يمثل الحكمة والفلسفة وفهم سر الإنسان والكون. ربما يعبر أيضاً عن الرغبة والتصالح مع الحياة التي تمور في النفوس رافضة السكون فالموت.

لنكمل قطعة "المنشود" فيقول: في غمار شيخوخة وعزلة إلخ: "ترددت أنفاس الوعد المنشود. ودُقّ الجرس على غير توقع وجاءت الجارة مستأذنة، واندمجت فيما أنا مندمج فيه حتى آمنت بأنها الوعد المنشود".

أصداء السيرة هي تأملات في الحياة، تأملات شيخ عجوز سافر في الحياة ولم يكن سفره سياحة وفرجة بل كان سفراً استكشافياً وفي العمق. إنه يجلس الآن يتمعن فيها، يجلس في عزلته بعد أن انحنى ظهره وتقلّص جسده وخبا بصره لتنفتح عليه مصاريع الذاكرة، ولكن، أي ذاكرة.

يقول بطله المزعوم في قطعة أخرى بعد أن عاش تجربة صغيرة لا يمكن أخذها بالبال "ومنذ تلك اللحظة وأنا أحوم بروحي حول سر الحياة" فكل تجربة كانت تقرّبه من فلسفته ولكي نعرف ما يقصده بسر الحياة دعنا نقرأ بعض نصوص أصداء السيرة. في نص "التلقين" يصف لنا كيف أنه جلس في السرادق ينتظر تشييع جنازة ما إلا أن الذكريات قادته الى الزمن الذي مضى حين كان رجال ذلك العهد أشداء وأقوياء. أما الآن فهم شيوخ ضائعون لا يذكرهم أحد. يقول عن خلفائهم أنهم "جاؤوا تنحني الأرض تحت وطأة أقدامهم. تقول نظراتهم الثابتة أنهم ملكوا الأرض والزمن. أخيراً، هلّ النعش فوق الأعناق فتخطى الجميع وذهب".

في نص آخر، يجد صورة تجمع أفراد أسرته وأخرى جامعة للأصدقاء فيجلس يتمعن في الصورتين. يجد أن كل الوجوه مشرقة وتنطق بالحياة. يقول "ولا إشارة ولو خفيفة الى ما يخبئه الغيب، وها هم قد رحلوا جميعاً فلم يبق منهم أحد. فمن يستطيع أن يثبت أن السعادة كانت واقعاً حياً، لا حلماً ولا وهماً".

في الحقيقة يشغله هذا الأمر كثيراً، يشغله الإنسان في تحوله، في قوته وجبروته ومن ثم في ضعفه وانهزامه ومن ثم موته. يتساءل باستمرار عن السعادة والرفاه الذي عاش الإنسان في كنفهما ثم زال كل شيء. فهل كل هذا لم يكن سوى وهم؟ ما فائدة الجبروت إذا كان المتجبر سيهرم ويشيخ وسينساه الناس ثم سيحمل على نعش الى مثواه الأخير؟

ويذكر حادثة أخرى تعود الى أيام الطفولة. مرة، كانوا جماعة من التلاميذ تقف في محطة القطارات محتارين الى أين يمضون. كان هناك قطاران، أحدهما يسافر الى القناطر الخيرية وهي جهة آمنة ومعروفة، بينما القطار الثاني سيسافر الى جهة مجهولة دعاه بقطار المفاجآت. اختلف التلاميذ، هل يسافرون الى المجهول حيث تنتظرهم المفاجآت أم إلى القناطر الخيرية حيث ينتظرهم المعلوم والمعروف والآمن. لم تتفق الجماعة فـ "ذهبت كثرة الى قطار القناطر، وقلة جرت وراء المجهول"، الا أن الانسان عنده حالة فريدة أكثر، فيروي في نص آخر قصته مع أحد أصدقاء الزمن الأول الذين وصلوا الى بر الأمان، ويقصد انه جمع المال الوفير ليرد عنه وعن عائلته وعن أولاد أولاده مذلة السؤال فنصحه أن يخلد الى الراحة في الأيام القليلة الباقية، فسأله صديقه "هل تذكر أيامنا الطاهرة في الزمان الأول؟" فقال صديقه "ذاك زمان قد مضى وانقضى" فقال الصديق بنبرة اعتراف "يا صديقي الوحيد، في عز النصب والرخاء، كثيراً ما بكيت الكرامة الضائعة".

يستمر نجيب محفوظ في اصداء سيرته متأملاً الانسان في مصيره والحياة في غموضها، ومرة أخرى نعثر على احدى مقولاته عن الشيخوخة والتأمل فـ "في عزلة الشيخوخة وعجزها ينتشر التأمل مثل عبير البخور" كما يقول. ينفتح باب الأحلام الأثيرة الى قلبه فلا ننسى ان له مجموعة كاملة نشرها في زمن متأخر (1982) بعنوان ملفت "رأيت فيما يرى النائم".

تتكرر القصص التي يبدأها محفوظ بهذه الكلمات الأثيرة على قلبه "رأيت... في المنام". بالحلم يتمكن من جمع الواقع بغرائبياته دون أن يلمح الى ذلك، ايضاً بالحلم يلتقي بالموتى من أقاربه أو بالناس الذين كان لهم شأن في سيرته. الحلم، الجنون، والموت برع محفوظ في استحضارها لما كان لها من عظيم اثر في تأملاته. في احد هذه النصوص يرى "الست نفوسة" في المنام ـ لاحظوا معي كيف أن الاسم والصفة يختصران عشرات المعاني في هاتين الكلمتين "الست نفوسة" ـ رآها اذن في المنام فقد جاءت اليه بعد سبعين عاماً، تذكر كيف كانت طلعتها بهية وبشرتها نضرة وشعرها غزيراً.. قال يخاطبها "لم يبق من الحلم إلا وجهكِ"، ثم تساءل: ترى أما زالت على قيد الحياة! ويستطرد منهياً قطعته الصغيرة بطريقة مدهشة "أما وقائع الحلم فقد تلاشت بعد استيقاظي مباشرة" ليحول تلك الأسطر الإخبارية القليلة الى قصة.

ولكن الأحلام عند محفوظ قد تتحول الى كابوس مصيري فلسفي، فقد تحدث في لوحة أخرى عن حلم وهو خارج من حمام السلطان وإذ بجارية تتعرض له فتأخذه لكي تهيئه للقاء "كما يملي عليها واجبها" ولكن "التدريب" مع الجارية يشغله عن غايته فكاد ينسى السيدة الجميلة التي جاء من أجلها. وعندما ذهب إليها أخيراً ووقف بين يديها لاحظ أنه كان "منهزماً وقد علاني الصدأ". كان بحاجة، كما قال، الى "معجزة لتشرق الشمس من جديد".

نعود الى جملة نجيب محفوظ الملفتة في أصداء سيرته "في عزلة الشيخوخة وعجزها ينتشر التأمل مثل عبير البخور" ينتشر التأمل في الحياة والموت، في الوجود والعدم، في العشق والخيانة والغدر.

ينتشر التأمل في الزمن ومساره وفي الشيخوخة والعجز. في الإنسان الجبار في زمن قوته ثم الضعيف في زمن يأتي بسرعة البرق. التأمل أيضاً في زمن الوهم والجنون.

(*) روائي سوري

(غداً نجيب محفوظ حلقة ثالثة)

المستقبل اللبنانية في

01.09.2006

 
 

أياديه البيض غمرت السينما المصرية روايات وسيناريوات وحضوراً...

نجيب محفوظ: ... هل ما نراه على الشاشات هو الأدب الحقيقي لصاحب الثلاثية؟

إبراهيم العريس 

ما هو القاسم المشترك، غير الأدبي، الذي يجمع بين أبرز فائزين بجائزة نوبل للآداب عند نهايات القرن العشرين: نجيب محفوظ وغابريال غارسيا ماركيز؟

نعرف طبعاً ان أدب الاثنين هو من أكثر الآداب شعبية، في بلادهما وفي العالم، الى حد كبير بالنسبة الى ماركيز، والى حد لا بأس به بالنسبة الى محفوظ. ونعرف ان الاثنين ينتميان – على عكس معظم فائزي نوبل المعاصرين – الى ما كان يسمى بلدان العالم الثالث. وان الاثنين حكواتيان من الطراز الأول. وان كلاً منهما عاش لأدبه... كما عاش من أدبه. ومع هذا ثمة قاسم مشترك آخر وأساسي يجمع بينهما هو انخراط كل منهما في السينما، مهنياً حتى. فماركيز الذي كتب عن السينما كثيراً، كان خلال زمن رئيس أهم مدرسة سينمائية في كوبا، وكان ابنه من متخرجيها ليصبح مخرجاً بعد ذلك. أما محفوظ فإنه، عدا كتابته السيناريوات السينمائية، وعدا تأثر أدبه بالسينما وفنها البصري، وعدا انكباب أهم مخرجي مصر – والمكسيك لاحقاً – على تحويل نصوصه الى أفلام، كان لفترة رئيس الهيئة المصرية للسينما، كما اشتغل لفترة أيضاً رقيباً على السينما. ولنضف الى هذا انه اذا كانت السينما، في أميركا اللاتينية وفي مصر، قد استفادت كثيراً من وجود الأديبين الكبيرين، كما من أدبهما، فإن في وسعنا ان نقول ان القاسم المشترك الآخر بينهما في هذا المجال هو انه لئن كانت السينما اقتبست بعض أعمال ماركيز ومعظم أعمال محفوظ، فإن الأعمال الأساسية الكبرى لهذا وذاك، ظلت عصية على الفن السابع: لم يتمكن أحد حتى اليوم، على كثرة المشاريع والتطلعات، من تحويل «مئة عام من العزلة» أو «خريف البطريرك» الى فيلم سينمائي، كما ان السينما ظلت بعيدة عن ثلاثة من أعمال محفوظ الأساسية «الثلاثية» و «الحرافيش» و «أولاد حارتنا». نقول هذا طبعاً، ونحن نعرف أن حسن الإمام حاول جهده في ثلاثة أفلام هي «قصر الشوق» و «بين القصرين» و «السكرية» (أجزاء «الثلاثية») كما ان ثمة نصف دزينة، على الأقل من أفلام اقتبست عن فصول «الحرافيش» – بينها تحفة سينمائية هي «الجوع» لعلي بدرخان -، إضافة الى الاستنكاف عن أفلمة «أولاد حارتنا» الذي كان مسألة رقابية – دينية، لا مسألة تقنية. فلم هذا التناقض؟

تكثيف أو لا تكثيف

ببساطة، لأننا نعرف تماماً أن النجاح الذي يحالف السينمائيين حين يقتبسون أعمالاً أدبية، ثانوية الأهمية وحدثية الخلفية، في مسار أصحابها، لا يمكن أن يكون من نصيبهم حين يتصدون لأعمال كبيرة تركيبية المنحى تغوص بين بعد هندسي في عرض الأحداث والشخصيات، وبين عمق التحليل في دراسة وتقديم الشخصيات ورسم العلاقات في ما بينها. من هنا ما نلاحظه، حتى يومنا هذا، من أن الفن السابع لم يدن من «يوليسيس» جيمس جويس (وإن دنا من قصة «الموتى») ولا من «البحث عن الزمن الضائع» لبروست – كانت هناك محاولات دائمة أخفقت -، ولا من «سفر الى آخر الليل» لسيلين، ولا من «الرجل البلاسمات» لروبرت موتسيل. وفاسبندر حين أراد أن يؤفلم «برلين الكسندر بلاتنر» لألفريد دوبلن، فضل السرد التلفزيوني التبسيطي في حلقات، على التكثيف السينمائي الذي أدرك انه لا يمكن أن يستجيب لعمق الرواية.

وليس ما ذكرنا، سوى نماذج على إخفاقات سينمائية كبيرة في مجال التعاطي مع الأدب الكبير. ولعل في إمكاننا أن نستكمل هذا بالإشارة الى أن ما من فنان سينمائي كبير إلا وفي مساره مشاريع لم تتحقق عناوينها «دون كيشوت» أو «الكوميديا الإلهية» أو «قلب الظلمات» لكونراد أو سوى ذلك. هنا قد يقول قائل: ... مع هذا ثمة أفلام ناجحة أخذت من دوستويفسكي وتولستوي وحتى كافكا («المحاكمة» لأورسون ويلز أو «أميركا» لجان ماري شتروب) بل إن معظم الأدب العالمي أُفلم دائماً. وهذا صحيح. وصحيح كذلك أن ثمة أفلاماً اقتبست من معظم روايات محفوظ، قبل أن تدخل التلفزة على الخط لتعيد الاقتباس أو تقتبس المتبقي. ولكن يبقى السؤال: ماذا بقي من الأعمال الكبيرة حين أفلمت؟ وما الذي «شاهده» الجمهور العريض من محفوظ على الشاشات؟

الشخصيات شوهدت بالتأكيد. والعلاقات حضرت. وخصوصاً حضرت الأحداث. ولكن، في الحقيقة، بعد أن جرد كل هذا من تلك الروح الداخلية التي ما كان يمكن لشيء غير اللغة أن يعبر عنها ويدخل القارئ في ثناياها. والحقيقة ان نجيب محفوظ كان دائماً أكثر من أي شخص آخر واعياً لهذه الحقيقة. فهو إذا كان أدرك باكراً ان «كل ترجمة هي في نهاية الأمر خيانة في شكل أو آخر»، كان في إمكانه أن يطبق بالأحرى هذه القاعدة، على الترجمة من فن الى آخر. ومن هنا، لئن سمح لنفسه بين حين وآخر ان «يخون» نصوص زملاء روائيين بتحويلها بنفسه الى سيناريوات سينمائية، فإنه ما كان في وسعه أبداً ان يخون نفسه بنفسه. ومن هنا كان – دائماً – رفضه القاطع لأن يكتب أي سيناريو في اقتباس عن عمل أدبي له. ودائماً كانت الاغراءات كبيرة جداً، لكنه رفضها. كان من السهل على محفوظ أن يشتغل في اقتباس على «الوسادة الخالية» أو «أنا حرة» أو «النظارة السوداء» (روايات لإحسان عبدالقدوس) بناء على طلب صديقه صلاح أبو سيف أو حسام الدين مصطفى... وكان يدرك طبعاً ان مثل هذه الأعمال تعكس صورة ما للمجتمع وتقدم شخصيات من لحم ودم، لكنه كان يعرف أيضاً ان من المستحيل اعتبارها منتمية الى الأدب الكبير، الأدب الذي يغوص عميقاً في بعده الإنساني والذي تلعب فيه اللغة التحليلية، لا السردية، دوراً أساسياً في إقامة العلاقة بين الحدث وشخصياته وبين القارئ. الأحداث والعلاقات في الأدب البسيط، هي المهمة، إضافة الى وصف الأجواء الاجتماعية والخروج في نهاية الأمر بموقف وعظي فيه من «النهايات السعيدة» ما فيه. من هنا حين كان محفوظ يوافق على أن يشتري أحد حقوق رواية له لاقتباسها، كان يعرف مسبقاً، ان في إمكانه أن يعتبر الاشتغال على هذه الرواية أمراً خارجاً عن اهتماماته. هو تنتهي علاقته بنصّه حين يصل الى القارئ. بعد ذلك حرّ من يشاء «إعادة قراءة العمل» على مزاجه كما يريد. محفوظ يملك الرواية. أما المقتبس فإنه يملك قراءته لها، حتى ولو كانت قراءة خاطئة أو مبتسرة. وفي هذا الإطار تحمل دلالتها هذه الحكاية التي رواها لنا محفوظ بنفسه: «ذات يوم جاءني مخرج صديق يعرض علي رؤيته الإخراجية لرواية لي كان اشترى حقوقها، ورفضت كعادتي الاشتغال على سيناريو لها. في الرواية كان المفروض أن تنتهي الأحداث بالقبض على الشخصية الشريرة – بطل الرواية -، لكن رؤية المخرج اتجهت صوب نهاية سعيدة، وقال لي: في النهاية سنجعله يتوب ويتزوج حبيبته ونجعل ختامها مسك. هنا بعد أن استمعت اليه صرخت بهدوء: مسك إيه؟ ده مسكوه مش مسك».

السينما داخل السينما

تبدو هذه الحكاية، هنا، «نكتة» من تلك التي اعتاد محفوظ أن يرويها بظرف. لكنها تحمل كل دلالاتها، خصوصاً إذا عرفنا أن كاتبنا الكبير ترك للمخرج حرية رسم النهاية كما يشاء. يومها إذ روى هذا، ولاحظ استغراباً على وجوهنا، قال: «حسناً... إنها رؤيته وتفسيره. أما تفسيري فسيظل باقياً بين صفحتي الكتاب».

إذاً، من المؤكد ان من يريد أن يعيش عوالم نجيب محفوظ حقاً، سيكون من الأفضل له أن يعود الى كتبه، لا الى الأفلام التي اقتبست منها. ومع هذا هناك، دائماً، أفلام كبيرة أخذت عن أعمال محفوظية لا تصل في أهميتها الابداعية الأدبية الى شوامخه. ومن أبرزها طبعاً «القاهرة 30» (عن «فضيحة في القاهرة» الاسم الأصلي لـ «القاهرة الجديدة») و «بداية ونهاية» لصلاح أبو سيف، و «الاختيار» ليوسف شاهين، و«قلب الليل» ثم خصوصاً «الكرنك» و «أهل القمة» لعلي بدرخان، علماً أن «أهل القمة» المأخوذ عن قصة قصيرة لمحفوظ، يظل واحداً من أقوى وأجمل الأفلام التي افتتحت ما سمي آخر السبعينات – بداية الثمانينات، من القرن العشرين «الواقعية الجديدة» في السينما المصرية. والحقيقة هي أن معظم بدايات شيء ما... في السينما المصرية ثم في التلفزة – تحمل إما اسم نجيب محفوظ أو بصماته، بدءاً من «مغامرات عنتر وعبلة» حتى مسلسل «حضرة المحترم»... من تسييس التاريخ، الى الواقعية الاجتماعية، الى سينما الجريمة والتشويق (من «لك يوم يا ظالم» الى «الطريق» و «اللص والكلاب»)، الى السينما السياسية العنيفة في انتقادها («ميرامار» و «ثرثرة فوق النيل» بين أعمال أخرى)، الى سينما سيكولوجية التحليل الجنسي («السراب» لأنور الشناوي)، مروراً طبعاً بسينما التأريخ الاجتماعي للشخصية المدينية في مصر («الثلاثية» حتى كما حققها حسن الإمام، و «زقاق المدق» و «خان الخليلي»)... بل يمكننا أن نقول هنا ان الفضل يعود الى محفوظ، حتى، في مجال ولوج السينما المصرية عالم السينما المتحدثة عن السينما وحياتها الخفية («المذنبون» عن قصة قصيرة له، وخصوصاً «الحب تحت المطر»). والحقيقة ان هذا كله يضعنا أمام واقع أساسي هو واقع ارتباط بعض أفضل أعمال أهم مخرجي مصر ليس بأدب محفوظ وحده، بل بإطلالته الواعية على فن السينما. ذلك ان الأفلام التي ذكرنا، والتي لم نذكر حملت دائماً تواقيع شاهين وأبو سيف وسعيد مرزوق وحسين كمال وعاطف الطيب (خصوصاً في التحفة المقتبسة من «الحب فوق هضبة الهرم») وعلي بدرخان، وعشرات غيرهم سواء أكانوا من مبدعي السينما الذين تعاملوا مع محفوظ مباشرة، أو من الذين دخلوا أجواء أعماله في شكل غير واعٍ.

والحال ان هذا كله يدفعنا الى السؤال عن السبب الحقيقي الذي جعل واحداً من أقرب أصدقاء نجيب محفوظ اليه، وهو الفنان توفيق صالح – والذي كان من شلة «الحرافيش» أسوة بأحمد مظهر – يستنكف عن الاشتغال على نص كبير – أو صغير – من نصوص نجيب محفوظ محولاً إياه الى فيلم. ذلك انه كان، دائماً يُسأل – وكاتب هذه السطور طرح عليه، مرة، هذا السؤال وكنا معاً في سيارة توفيق صالح، ومعنا الأستاذ محفوظ يستمع إلينا من دون تعليق – لماذا لم يكن هو من يشتغل على تحويل «الثلاثية» الى ثلاثة أفلام؟ فيضحك ويجيب: أفعل عندما يقبل الأستاذ أن يكتب السيناريو بنفسه! وكان واضحاً ان جواب توفيق صالح تهرب لا أكثر، لأنه – وأكثر من أي شخص آخر – كان يعرف أن الأستاذ لن يفعل! ومع هذا، نعرف ان واحداً من أكثر أفلام توفيق صالح شعبية – وأقلها جودة في الوقت نفسه – كان «درب المهابيل» هو عن قصة وسيناريو لنجيب محفوظ. فلم كان هذا الانتماء السينمائي لمحفوظ من طريق عمل كوميدي خفيف يمكن نسيانه بسهولة، بينما نعرف ان توفيق صالح اقتبس معظم أفلامه من أعمال أدبية، لا سيما «يوميات نائب في الأرياف» لتوفيق الحكيم؟ مهما يكن الأمر يمكن أن نقول دائماً، ان توفيق صالح الذي كان شديد الاقتراب من عالم نجيب محفوظ، كان يرى في أعماقه نفس ما كان يراه هذا الأخير: عجز السينما الكلي عن اختراق عمق هذا العمل... لا أكثر ولا أقل!

إذاً؟ إذاً، يمكننا ان نختم هذا الكلام هنا بالعودة الى تأكيد ان الإنصاف يقتضي ان نقول ان أهل السينما بذلوا دائماً جهوداً كبيرة – تجاوب معها نجيب محفوظ دائماً – لنقل أدبه الى الشاشة، لكن الواقع يدفعنا الى القول ان هذا الأدب لا يزال عصياً على ذلك. وربما في انتظار أن تُخلق لغة سينمائية جديدة نكون أكثر قدرة على التوغل داخل أدب هو، على الورق بين دفات الكتب، واحداً من أعظم الآداب العربية في القرن العشرين، وفي مكانة متقدمة في الأدب الاجتماعي، في العالم كله.

الحياة اللبنانية في

01.09.2006

 
 

«بداية ونهاية» و «زقاق المدق» على الطريقة المكسيكية 

على رغم أن السينما في مختلف البلدان العربية بدت دائماً مفتقرة الى نصوص أدبية جيدة تبني عليها موضوعاتها، لم يدن أي سينمائي عربي من نص لمحفوظ يقتبسه. وربما كان ذلك لأن السينمائيين العرب اعتقدوا بأن أدب محفوظ، في قاهريته المطلقة، أدب محلي يعبر عن مكانه وزمانه المحددين بحيث يصعب نقله الى أماكن أخرى، حتى وإن كان الواقع يقول أموراً مختلفة: يقول خصوصاً ان الحس المديني، وتصوير صعود الطبقة الوسطى وهبوطها، وارتباط المجتمع في واقعيته بالمسائل الأخلاقية والسياسية، والتأزم الجنسي ، والموقف من شؤون الأرض والسماء، والبحث عن تقدم في المجتمعات لا يتنافى مع أصالتها وعمق إيمانها، وهذه كلها من السمات الرئيسة في أدب محفوظ عموماً، إضافة الى تعبيره العقلاني عن قضايا السلطة والدين وقضية المرأة، أمور تجعل أدبه أدباً شاملاً كونياً، وهو ما «اكتشفه»، محكمو جائزة نوبل ذات يوم.

وعلى خطى أهل نوبل، اكتشف هذا كله سينمائي، لكنه آت من بعد ألوف الكيلومترات من العالم العربي، هو المكسيكي أرتورو ربشتاين، الذي حين عثر ذات يوم على ترجمة لرواية «بداية ونهاية» لنجيب محفوظ، صرخ – كما قال لنا مرة – «وجدتها» ثم راح – حتى من دون أن يتصل مسبقاً بالروائي المصري الكبير – يحولها الى فيلم سينمائي بعدما نقل أحداثها الى المكسيك. ربشتاين أبقى للرواية على عنوانها نفسه، ليصبح الفيلم منذ عروضه الأولى – وتحقيقه نجاحات لا بأس بها في المهرجانات العالمية – واحداً من أشهر أفلام ربشتاين، الذي اشتهر دائماً بأفلامه الميلودرامية التي تغوص عميقاً في نفسية الشخصيات وتتحدث خصوصاً عن ذلك الارتباط الوثيق بين الحياة الخارجية والحياة الداخلية للبشر. لقد أبقى ربشتاين على الأحداث نفسها وعلى الشخصيات نفسها ولسوف يقول انه لكثرة ما رأى المكسيك من خلال نص محفوظ لم يجد أي صعوبة في تحويل النص الى سيناريو. نذكر هنا ان المخرج الذي قابل محفوظ في القاهرة بعد ذلك أرسل اليه شريط فيديو للفيلم. وشاهده محفوظ بلهفة لم تكن معتادة لديه. وشاءت المصادفة ان نلتقيه في كازينو «قصر النيل»، حيث كانت لقاءاتنا معه، كلما زرنا القاهرة في ذلك الحين. ويومها، فور اللقاء راح يحدثنا عن الفيلم باستفاضة. صحيح انه بدأ حديثه شاجباً ما وضعه المخرج في الفيلم من «مشاهد إباحية» – بحسب تعبير محفوظ – «ما كانت لتخطر لي في بال»، لكنه استطرد بعد ذلك إذ سألناه عن رأيه في الفيلم، قائلاً ان في كل لحظة من لحظات الفيلم، شعر بذلك «التضافر» – استعمل هذه الكلمة تحديداً – بين المكسيك والقاهرة، وشعر وكأنه هو نفسه كتب الرواية عن... المكسيك. وما لمح اليه محفوظ، من دون أن يقوله صراحة، هو انه – للأسف – وجد ان هذا الفنان المكسيكي، أي ربشتاين فهم أدبه، سينمائياً، أفضل مما فعل أي سينمائي عربي. تهذيب محفوظ الفائق منعه من قول هذا، ولكنه إذ راح يتحدث عن الفيلم مطولاً ويتوقف عند لقطات ومشاهد فيه، كان واضحاً مقارنة بما كان محفوظ يفعله خلال حديثه عن أفلامه الأخرى في مناسبات سابقة، إذ يفضل دائماً عدم الخوض فيها.

لم نعرف بعد ذلك رأي محفوظ في الفيلم الثاني الذي اقتبسته السينما المكسيكية عن رواية «زقاق المدق» هذه المرة (محملة إياه العنوان الذي حملته الترجمات الفرنسية والإسبانية وهو «زقاق المعجزات»)، لكننا علمنا، بالتواتر، ان سروره كان أقل... وفقط لأن مقدار الإباحية في الفيلم الثاني كان أكبر! ومع هذا يمكننا ان نفترض ان الفيلم أشاع الرضى والسرور، لدى محفوظ، لأن «زقاق المعجزات» لم يبد أقل مكسيكية من «بداية ونهاية»، بل إن الحس الاجتماعي هنا كان أكبر، مع تراجع في البعد السيكولوجي لمصلحة البعد الاجتماعي... علماً أن «زقاق المعجزات» لم يقدم تلك الصورة البانورامية التي تسم «زقاق المدق» كرواية، بل اختار بعض اللوحات والنماذج المعبّرة، كما ان الفيلم لم يصور طبقة معدمة، كما حال الرواية، بل فئات قد تكون هامشية، لكن أوضاعها الاقتصادية ليست العامل الحاسم في بناء مصيرها.

«زقاق المعجزات» لم يكن، مثل «بداية ونهاية» من إخراج ارتورو ربشتاين، بل من انتاجه فقط، أما الاخراج فعهد به، هذه المرة، الى خورخي فونس، مع فارق أساسي، هو أن شركة ربشتاين اتصلت هذه المرة مسبقاً بكاتبنا المصري الكبير متفقة معه على انتاج الفيلم وتحويل أحداثه الى أحداث مكسيكية. ولقد قيل يومها ان ربشتاين، كمنتج سأل محفوظ عما إذا كان يود المشاركة في كتابة السيناريو، لكن هذا الأخير رفض، قائلاً ما اعتاد دائماً أن يقوله في كل مرة يُطلب اليه أن يكتب بنفسه سيناريو لعمل له، أي ما يفيد انه يرى دائماً ان كل علاقة له بأي عمل من أعماله، تنتهي ما إن يخط السطر الأخير فيه، منتقلاً الى عمل تال.

إ. ع. 

لمزيد من المعلومات والتحليل حول فيلمي نجيب محفوظ المكسيكيين، يمكن مراجعة كتاب د. حسن عطية «نجيب محفوظ في السينما المكسيكية» الصادر عن مكتبة الاسكندرية في مصر

الحياة اللبنانية في

01.09.2006

 
 

صلاح أبو سيف: هكذا ولد محفوظ السينمائي 

«كان سروري كبيراً حين تعرفت على نجيب محفوظ ذات يوم بعيد الحرب العالمية الثانية، إذ أدركت فوراً ان هذا الرجل سيلعب دوراً كبيراً في تقدم السينما المصرية». كانت هذه الكلمات هي الأولى التي حدثنا بها الراحل صلاح أبو سيف، حين سألناه العام 1992، عن علاقته السينمائية بعميد الرواية العربية. يومها، إذ طلبنا اليه ان يتحدث عن الكيفية التي التقى بها محفوظ وكيف وصل بهما الحديث الى السينما ما أسفر عن تعاون في هذا المجال بينهما دام سنوات، ابتسم أبو سيف مستعيداً شريط الذكريات وقال: «إنني قي الحقيقة أجد في هذا الحديث متعة خاصة. ذلك ان علاقتي مع محفوظ بدأت مع بدايات محفوظ نفسه ككاتب واقعي بعد خروجه من مرحلة الرواية التاريخية. التقيت محفوظ للمرة الأولى في العام 1945 بعدما كنت سمعت باسمه كثيراً من أصدقاء كثر لم يكن الواحد منهم يخفي إعجابه به وبكتاباته. ولقد انضممت بدوري الى نادي المعجبين به حين حصلت على رواياته الأولى وقرأتها. وبعد شهور، حين حدثني الشقيقان الكاتب فؤاد نويرة والموسيقي عبدالحليم نويرة عن ضرورة اللقاء به، تحمست على الفور والتقينا في ذلك العام. منذ لقائنا الأول الذي كان ودياً في شكل مدهش أبلغته إعجابي بأدبه، وقلت له – في طريقي – انني أعتبره فناناً سينمائياً بالسليقة، ذلك لأن كتابته كتابة بصرية بالصور. وسألته فجأة: لماذا لا تكتب للسينما أستاذ نجيب؟ فوجئ الرجل بسؤالي وبدا عليه أن الأمر كله يقف خارج اهتمامه وسألني مستنكراً: كيف أكتب للسينما وأنا لا أفهم شيئاً بالنسبة الى هذه الكتابة؟ قلت له ان مخيلته تبدو وكأنها خلقت للعمل السينمائي. فابتسم وقد اعتقد – كما سيخبرني لاحقاً – بأن الأمر لا يعدو أن يكون حديثاً عابراً. أما أنا فكنت عند كلامي. إذ قررت ألا أترك تلك الإمكانية المتاحة للعثور على كاتب سيناريو حقيقي، تفلت من يدي. وهكذا ما إن التقيت به في المرة الثانية، حتى أعطيته مجموعة من الكتب الأجنبية المتحدثة عن فن كتابة السيناريو».

كانت تلك إذاً، وبرواية صلاح أبو سيف نفسه – والتي أكدها لنا نجيب محفوظ غير مرة بعد ذلك في حوارات كان المخرج الكبير توفيق صالح، شاهداً على معظمها – بداية علاقة نجيب محفوظ بالسينما. بل ان محفوظ ضحك مرة قائلاً لنا، إذ أتينا على ذكر هذا الأمر، انه «اكتشف» منذ تلك اللحظة انه سينمائي» فقط على طريقة المسيو جوردان في «المثري النبيل» لموليير، إذ اكتشف انه يتكلم نثراً. يومها، إذ قال محفوظ هذا أردف: على أي حال إذا كان «عملي» في السينما لا يعجبكم عليكم أن تلقوا اللوم على صلاح أبو سيف. اللوم؟ هنا علينا أن نتذكر ان بعض أهم الأفلام في تاريخ السينما المصرية قد حمل توقيع نجيب محفوظ، كصاحب القصة، أو كاتب السيناريو والحوار، أو غير ذلك... كما نرى في مكان آخر من هذه الصفحة.

المهم هنا مواصلة حكاية صلاح أبو سيف مع «اكتشافه» الجديد الذي كان عنوانه نجيب محفوظ سينمائياً. وأبو سيف يواصل الحكاية بنفسه: «خلال الشهور التالية راح نجيب محفوظ يقرأ الكتب التي أعطيته إياها بنهم، كما ازداد ارتياده الصالات السينمائية». وهو ما أكده لنا محفوظ دائماً متحدثاً بفرح عن تلك الثقافة الجديدة التي اكتسبها بفضل أبو سيف. غير أن المسألة لم تقف عند ذلك البعد النظري، كما نعرف، ذلك ان أبو سيف سرعان ما انتقل لـ «يورط» محفوظ في العمل السينمائي فكان أول تعاون بينهما، انضم اليه الراحل سيد بدير، في فيلم «مغامرات عنتر وعبلة»، الذي صور بين 1945 و1947، لكنه لم يعرض إلا في العام 1948. ويقول ابو سيف عن هذا الفيلم انه يبدو له محملاً بالأبعاد السياسية باكراً، وجعلته المصادفة يعرض في عام ضياع فلسطين «ومن هنا كان يحمل رسالة سياسية، خصوصاً أنه، على رغم كونه يروي حكاية غرام تاريخية، نادت حوارات كثيرة فيه بالشعارات نفسها التي ستنادي بها ثورة تموز (يوليو) بعد سنوات، مثل «نسالم من يسالمنا نعادي من يعادينا». كما انه من الطريف انا وضعنا لشخصية اليهودي في الفيلم عصبة سوداء على عينه، قبل سنوات من ظهور موشي دايان وعصبة عينه السوداء التي سرعان ما تحولت رمزاً...».

هكذا، إذاً، بدأ التعاون السينمائي بين محفوظ وأبو سيف، وهو تعاون سيتواصل عقوداً طويلة تالية من السنين، إذ لو قلبنا في فيلموغرافيا أبو سيف، سنجد عدداً كبيراً من الأفلام يحمل توقيع محفوظ، أما ككاتب السيناريو والحوار، أو كصاحب رواية اقتبسها أبو سيف للسينما، أو كأفكار تشارك محفوظ وأبو سيف في التقاطها ومن ثم تحويلها الى أفلام (مثل «بين السماء والأرض» و «مجرم في إجازة»)، وإما كاقتباس من الأدب العالمي (مثل «لك يوم يا ظالم» عن إميل زولا)، أو اقتباس عن أحداث واقعية (كما في «الوحش» و «ريا وسكينة») أو كإعادة اشتغال على أفكار لآخرين (كما الحال مع «شباب امرأة» التي كانت فكرة أمين يوسف غراب، فاقتبسها محفوظ للسينما ليعود غراب بعد ذلك ويحولها رواية مطبوعة).

هنا، لا بد من إشارة الى أمر في غاية الأهمية وهو أن التعاون السينمائي بين محفوظ وأبو سيف، توقف تماماً منذ اللحظة التي قرر فيها أبو سيف اقتباس رواية لمحفوظ في فيلم. قبل ذلك كان العمل بينهما متواصلاً من حول أفكار ونصوص لآخرين. ولكن في العام 1961، أعلن أبو سيف لصديقه نيته أفلمة «بداية ونهاية». على الفور وافق محفوظ لكنه رفض رفضاً قاطعاً كتابة السيناريو لها بنفسه. ومنذ ذلك الحين، وكان محفوظ قد أضحى متورطاً أكثر وأكثر في العمل السينمائي لم يكتب أي سيناريو لا لأبو سيف ولا لغيره، على رغم ان عشرات النصوص لمحفوظ حولت أفلاماً على يد أبو سيف كما على يد غيره. واللافت هنا هو ما يرويه أبو سيف عن أنه، أصلاً، ومنذ العام 1946 كان يريد تحويل «القاهرة الجديدة» (وكان اسمها «فضيحة في القاهرة») الى فيلم لكن الرقابة رفضتها، وظلت ترفضها بعد الثورة، مرات ومرات. بل في إحدى هذه المرات كان محفوظ نفسه رئيساً للرقابة، فرفضها رفضاً قاطعاً! طبعاً نعرف انها تحققت بعد ذلك، ولكن فقط بعد أن صار عنوان الفيلم «القاهرة 30»!

إ. ع. 

لتفاصيل أكثر حول علاقة محفوظ بأبو سيف، يمكن مراجعة الفصل المخصص لهذا الأخير في كتاب إبراهيم العريس «سينما الإنسان» الصادر عن «المؤسسة العامة للسينما» في سورية

الحياة اللبنانية في

01.09.2006

 
 

الفضائيات وعلم من أعلام الدراما المرئية

وداعا أيها النجيب لعلنا نحفظ قدرك

كتب عماد النويري: 

الكتابة عن نجيب محفوظ لم ولن تنتهي، ليس لأن نجيب محفوظ هو اول روائي عربي حاز نوبل، ولكن لأنه ومن خلال ادبه ورواياته وقصصه القصيرة التى تحولت اغلبها الى افلام ومسلسلات استطاع ان يعيش في وجدان الكبير والصغير، واستطاع ايضا ان يكون دائما على حالة تماس مع اعماق النفس البشرية مظهرا ضعفها وقوتها، مؤكدا دائما كل القيم النبيلة.

ومثل شكسبير ودستويفسكي وهمنغواي وارثر ميللر وغيرهم من كتاب الدراما العظام، استطاع نجيب محفوظ ان يتواصل مع نفسه، ومن ثم نجح فى التواصل مع الاخرين.

عوالم محفوظ الفنية

كانت الستينيات والسبعينيات تشكلان المرحلة الذهبية لتحويل أعمال محفوظ إلى السينما. وهناك سلسلة طويلة من الاعمال المحفوظية التى جرى تحويلها الى السينما لعل اشهرها على الاطلاق الثلاثية التي تتضمن 'بين القصرين'، و'قصر الشوق' و'السكرية'، وكلنا يذكر الكثير من الاعمال التي يتواصل عرضها على الشاشات الفضائية كل يوم ومن هذة الاعمال الخالدة 'ميرامار' و'ثرثرة فوق النيل'، و'السمان والخريف'، و'الشحاذ'، و'السراب'، و'الكرنك'، و'اهل القمة'، و'الحب فوق هضبة الهرم'، و'قلب الليل'.

ومع بداية التسعينيات انتبه التلفزيون، بعد فترة غياب طويلة، لقيمة اعمال محفوظ وثراء شخصياتها، وتحولت بعض الاعمال الروائية الى مسلسلات لم تنجح اغلبها فى نقل عوالم محفوظ بكل ابعادها الزمانية والمكانية، ونذكر من هذة الاعمال 'قشتمر'، و'بين القصرين'. ويمكن ذكر اكثر من خمسين عملا جرت معالجتها سينمائيا وتلفزيونيا عن روايات نجيب محفوظ.

هموم الناس

في مجمل اعماله التي تحولت الى افلام والى مسلسلات تلفزيونية كانت اهتماماته موجهة الى البسطاء وجسد هموم الناس واحلامهم، وصور حياة الاسرة المصرية البسيطة، ، كان يعتبر ان الطبقة المتوسطة هي حجر الاساس للمجتمع المصري، فهي الاكثر تأثيرا وتأثرا بكل ما يحدث من تقلبات اجتماعية وسياسية واقتصادية، وخلال مشروعه الادبي لم يكتب الا عن الطبقة المتوسطة.

وقد ظهرت موهبة محفوظ في ثلاثيته الشهيرة 'بين القصرين، قصر الشوق، والسكرية'، التي انتهى من كتابتها عام 52 ولم يستطع نشرها قبل عام 56 لضخامة حجمها، ولا نبالغ اذا قلنا انها أعظم عمل ادبي قام به محفوظ في الادب العربي في العصر الحديث، فقد ابدع في تصوير حياة ثلاثة أجيال، وهي جيل ما قبل ثورة 1919، وجيل الثورة، وجيل ما بعد الثورة، في الثلاثية نقل محفوظ الصورة الحقيقية لافكار هذة الاجيال ومواقفها من المرأة والعدالة الاجتماعية والقضايا الوطنية.

مثل هاملت وماكبث والملك لير يمكن تذكر الكثير من شخصيات نجيب محفوظ مثل كمال عبد الجواد في 'قصر الشوق'، وسيد الرحيمي في 'الطريق'، وسعيد الدباغ فى 'السمان والخريف'، وكامل رؤبه لاظ فى 'السراب' وسعيد مهران في 'اللص والكلاب'، وخالد صفوان في 'الكرنك'.

انعكاسات عصر

ويكمن السر في ذلك في قدرة محفوظ على ابداع الشخصية وكانها منحوتة قابلة للحياة، وفي كل شخصية ستجد انعكاسات لعصر بأكمله، فكمال عبد الجواد كان يمثل في جانب منه صورة المثقف المنفتح على تيارات فكرية وسياسية بدأت غزو الشرق العربي مع بداية عصر النهضة، وسعيد الدباغ كان يجسد صورة الموظف الانتهازي الاناني الذي اراد ان يلعب على الحبال، وسعيد مهران اراد ان يكشف المثقفين الانتهازيين الذين تسلقوا شعارات الثورة وتحولوا الى لصوص كبار من وراء ستار الاشتراكية.

ولا تكمن قدرة محفوظ على رسمه للشخصيات الرئيسية فقط، وانما تكمن عبقريته في القدرة على رسم عشرات الشخصيات المساندة من موظفين وامهات ومخبرين ومعلمي قهاوي ومدمني مخدرات وساقطات وصانعي عاهات. كل هذة الشخصيات حازت اهتمامه وتعاطفه، واستطاعت ان تعكس طبقات المجتمع وتناقضاته.

وككل الكتاب الكبار لم يتعامل محفوظ مع شخصياته بقسوة ولم يتعمد في يوم من الايام ادانه شخصية من خلال اصدار احكام مسبقة. في كل اعماله يترك محفوظ الحكم على الشخصية للقارىء وحده وهي سمة من سمات الادب البعيد عن الخطابة والاملاء.

عشق المكان

ومن خلال عشقه للمكان وتوظيفه لكي يلعب دورا دراميا مهما في احداث الرواية استطاع محفوظ ان يخلد الكثير من الامكنة التي شهدت ولادة الشخصيات والاحداث ونذكر هنا 'زقاق المدق' و'بين القصرين' وغيرها.

في دراما نجيب محفوظ سواء المكتوبة او المرئية كان دائما وابدا على تماس بعوالم تموج بالبشر والاحداث بالتاريخ والجغرافيا بالزمان والمكان، وفي هذة العوالم يغوص نجيب محفوظ بفكره الثري وبخبرته المجربة لينهل من بحر الحياة تلك الصور التي طالما اسعدتنا وقدمت لنا العبرة والموعظة في اعمال فنية خالدة.

ومن خلال الصور كنا دائما نتعرف على ايقاع العصر وانشغالاته وهمومه ومشاكله وقضاياه الاخلاقية والفلسفية، كل ذلك بعيدا عن التجريب الفارغ والتنظير والموضات الادبية.

وفي كل اعماله كان هناك ارتباط وثيق بتراث الامة وتاريخها في تمازج محسوس بقضايا العالم المعاصر من دون الدخول في حسابات ضيقة مع التيارات الفكرية والسياسية المتطرفة.

كاتب البسطاء والمثقفين

يمكن القول ومن دون مبالغة ان عالمية نجيب محفوظ وعبقريته تكمنان في نجاحه ان يكون كاتبا لكل المثقفين ولكل القراء ولكل البسطاء ولكل الطبقات من دون اعتبار للحواجز التقليدية التي تفصل بين البشر. يكمن نجاح محفوظ انه كان قادرا على رسم الصور وما ورائها بريشة فنان مبدع يرغب في ان تكون الحياة اجمل وافضل.

رحل نجيب محفوظ وبرحيله تفقد الحياة الثقافية العربية المقروءة والمرئية والمسموعة واحدا من الكتاب العظام الذين اثروا الوجدان العربي على مدى عقود طويلة.

وداعا ايها النجيب لعلنا نحفظ قدرك.

القبس الكويتية في

01.09.2006

 
 

رحيل نجيب محفوظ عميد الرواية العربية ومؤسسها ومفتتح فضاءاتها المعاصرة (3)

سر الاحتضان السينمائي غير المسبوق لأدب نجيب محفوظ

ريما المسمار

نادراً ما استطاع كاتب او أديب أن يمهر الصورة بخصوصيته حتى إذا رأى المشاهد اليها جزم بأنها خارجة من عوالمه وإن اقتصرت معرفته بتلك العوالم على ما عكسته السينما منها. فإذا سئل انسان عادي عن نجيب محفوظ، اندفع الى سرد عناوينه الادبية من "خان الخليلي" و"زقاق المدق" الى "اللص والكلاب" و"ميرامار" مروراً بثلاثية "بين القصرين" و"قصر الشوق" و"السكرية". ولو أمكن رصد الصور الدافقة في رأسه لحظة استجلاب تلك العناوين لتراءت مشاهد بصرية بأمها تختال خلفها شادية وشكري سرحان ويحيى شاهين وعماد حمدي الى آخر قائمة نجوم أفلامه. على ذلك المنوال، تتشكل العلاقة بين نجيب محفوظ والسينما مستندة الى خصوصية ربما لم تعرفها في أماكن أخرى من العالم حيث التزاوج بين الادب والسينما لا يصل في الغالب الى درجة التماهي تلك. فسواء أكان المشاهد قارئاً سابقاً لمحفوظ او لم يكن، وسواء أكان القارئ مشاهداً لأعمال محفوظ في السينما أو لم يكن، فإن ذلك الميل الى استحضار ذاكرة بصرية لكتاباته لا يلين. فقارئه للمرة الاولى لا شك يدرك ان معظم أعماله اقتبست في السينما مما يحول القراءة الاولى عملية تنقيب عن ملامح الشخصية الوهمية يرافقها البحث عما يطابقها او ينسجم معها في نجوم التمثيل السينمائي. مهمة لم تفتأ تلح علي خلال قراءة "بين القصرين" وتابعيها التي أمضيت ذات صيف من مراهقتي في استكشاف عوالمها اللذيذة. لم أكن قد شاهدت الفيلم الذي أخرجه حسن الامام. ولكن صورة يحيى شاهين ارتسمت بسهولة كمن يقوم بترجمة فورية وحرفية من الادب الى السينما لشخصية "أحمد عبد الجواد". بعد فترة وجيزة من انهاء الرواية، تناهى الى سمعي من شاشة التلفزيون التي لم أكن أنظر اليها كلمات قليلة "ياسين..ياسين..قوم يا ابني". التفت الى الشاشة ليطالعني وجه هدى سلطان متلبساً طيبة "أمينة" وخنوعها وهيئة صلاح السعدني وقد اختفت وراء كسل "ياسين" وملله من سلطة الأب وتوقه الى حياة يعيشها بالطول والعرض من دون حسيب ولا رقيب. كلمات أربع كانت كافية لأدرك أنني امام صورة متسللة من عالم نجيب محفوظ ولكن هذه المرة في اقتباس تلفزيوني لم أعد أذكر اسم مخرجه.
ما سر هذا التلاحم بين أدب نجيب محفوظ والسينما؟ الجواب البديهي هو وفرة الاقتباسات السينمائية لأدبه. فثمة نحو من عشرين رواية من رواياته اقتبست في قرابة سبعة وعشرين فيلماً سينمائياً (من بينها سبعة افلام اقتبست عن "الحرافيش" واثنان عن "الطريق") الى نحو تسعة أفلام مأخوذة عن قصصه الصغيرة. واذا أضفنا اليها ما يزيد على خمسة وعشرين فيلماً كتب ـ او شارك في كتابة ـ السيناريو له او/و القصة السينمائية، فإننا نكتشف المساهمة الفعلية لمحفوظ الاديب والسينمائي الحرفي في تاريخ صناعة السينما المصرية. ولكن ذلك لا يجيب عن سؤال: لماذا؟ لماذا هذا الاحتضان غير المسبوق من السينما لأدب محفوظ؟ لعل الاجابة عن هذا تتطلب الالتفات الى بعض مزايا ادب محفوظ ومعاينة الاجواء السينمائية السائدة قبيل دخوله السينما وربما الاستنتاج ـ المسبق ـ بأن الكسل، كسل صناع الافلام، لعب دوره ليس فقط في احتضان أدب محفوظ وانما ايضاً في تجميده داخل حالته الابداعية الاولية.

المرحلة الاولى: محفوظ السينمائي

يتفق الملمون بتاريخ السينما المصرية على ان علاقة نجيب محفوظ بالسينما تنقسم الى مرحلتين: الاولى مساهمته الكتابية في الافلام السينمائية والثانية مساهمته الادبية من خلال رواياته التي اقتبستها السينما. وهاتان المرحلتان لم تلتقيا قط. اي ان محفوظ الكاتب السينمائي لم يُقدم على اقتباس اي من رواياته للسينما. فما كتبه للأدب ظل للأدب وما كتبه للسينما لم ينشره في كتب. على ان المرحلتين تداخلتا زمنياً. أي ان محفوظ كان انطلق في مسيرته الادبية عندما خاض غمار التجربة السينمائية منذ منتصف الأربعينات. والحكاية التي تؤرخ لتلك البداية من دون ان تكشف خباياها ترجع الفضل الى المخرج صلاح ابو سيف عندما كان مازال ناقداً سينمائياً منتصف الثلاثينات، ينظّر مع زملائه لسينما مصرية ذات مقومات فنية وموضوعية جديدة عجز "تمصير" الموضوعات الاجنبية عن تحقيقها. طرح هؤلاء فكرة انفتاح السينما على الرواية المصرية بالتزامن مع طلوع نجيب محفوظ الادبي بروايته الاولى "عبث الاقدار" اواخر الثلاثينات. مع تحول ابي سيف الى الاخراج السينمائي، حمل الدعوة التي أطلقها وزملاؤه النقاد الى محفوظ الاديب الناشئ وحثه على مشاركته كتابة سيناريو فيلم "المنتقم" عام 1946. استندت مقاربة ابي سيف لمحفوظ الى اعجاب الاول بكتابات الثاني التي كان ما ظهر منها الى ذلك الحين يقتصر على الروايات الثلاث الاولى التي تروي تاريخ مصر الفرعونية. ولئن يظن كثيرون ان بداية محفوظ في السيناريو عائدة الى كون تلك الروايات الاولى كانت ذات طابع تاريخي، الا ان تحول الكاتب مصدراً ادبياً للسينما تأخر الى ما بعد صدور رواياته الواقعية اذا جاز الوصف بسنوات ولم يتحقق حتى بداية الستينات وصدور أكثر من عشر روايات له. تابع محفوظ كتابته للسينما فشارك في سيناريوات أخرى لأفلام أخرجها ابو سيف: "عنتر وعبلة" 1948، "لك يوم يا ظالم" 1951، "ريا وسكينة" 1953، "الوحش" 1954، "شباب إمرأة" 1956، "الفتوة" 1957، "مجرم في اجازة" 1958,. وفي هذه المرحلة التي لربما تحتفظ بالاهمية القصوى لجهة علاقة محفوظ بالسينما، شارك الكاتب كتاباً آخرين بارزين في تأليف السيناريوات بما يشير الى ان تلك المرحلة شهدت اهتماماً عاماً من الكتاب الروائيين بالسينما. ربما لأن حتى ذلك الوقت اي بداية مساهمات محفوظ في السينما والتفات الاخيرة الى مؤلفات احسان عبد القدوس ويوسف السباعي وغيرهما اوائل الخمسينات، لم تكن للسينما المصرية علاقة بالادب او بالادباء في مصر في ما خلا فيلم "زينب" الصامت الذي أخرجه محمد كريم عام 1930 مقتبساً عن رواية بالعنوان نفسه لمحمد حسنين هيكل صدرت عام 1914. شكلت السينما تجربة حسية لأولئك الكتاب ومغامرة انصهرت فيها مقومات عدة من رغبة صناع تلك السينما منحها خاصية محلية من جهة وتوفرها حقلاً للتجريب والاختبار للكتاب من جهة ثانية اتاح لهم رصداً فورياً لتأثير اعمالهم في جمهور واسع. هكذا ظهر اسم محفوظ على سيناريوات كثيرة الى جانب اسماء من طراز امين يوسف غراب (شباب امرأة) ومحمود صبحي (النمرود 1956) والسيد بدير (الفتوة وجعلوني مجرماً 1954) وعبد الحميد جودة السحار (درب المهابيل 1955) وعلي الزرقاني وعبد الرحمن الشرقاوي (جميلة بوحيرد 1959). واقتبس لاحسان عبد القدوس "الطريق المسدود" عام 1958. ولكن لا بد من اشارة في معرض الحديث عن مساهمات محفوظ السينمائية الى الالتباس في توصيف تلك الاسهامات. فبين صاحب القصة السينمائية أو المعالجة أو السيناريو أو الحوار، يصعب التمييز بين مهامه في تلك الافلام. وثمة عدد غير منظور من الافلام التي كانت له مشاركات فيها انما من دون اشارة اليها في المصادر التي تتناول اعماله ومنها على سبيل المثال لا الحصر "شيء من العذاب" لصلاح ابو سيف الذي يدرج اسمه في مقدمة العناوين في مهمة "معالجة السيناريو".

يغيب عن الكتابات الشائعة عن هذه المرحلة (على حد ما يعلم كاتب هذه السطور) في حياة نجيب محفوظ توثيق ما كانت تعنيه له الكتابة السينمائية كفعل ابداعي وبالمقارنة مع الكتابة الادبية. اشار الراحل صلاح ابو سيف غير مرة في حواراته الى تردد محفوظ في خوض التجربة السينمائية معللاً ذلك بعدم معرفته بالكتابة السينمائية مستعيداً ما قاله هو لمحفوظ من ان ما يكتبه هو السينما بعينها. ولكن حتى مع وجود أسئلة عالقة عن علاقة الكاتب بالسينما، لا يصعب على المتابع للافلام التي كتبها او شارك في كتابتها وبحسب تسلسلها الزمني، لا يصعب عليه ان يلحظ كيف تطورت تلك الافلام في اتجاه تصاعدي لتتداخل في مناخات محفوظ الادبية. بمعنى آخر، تقود المقارنة بين مسيرتي محفوظ السينمائية والاخرى الادبية حتى العام 1959، تاريخ آخر مشاركاته في كتابة السيناريو (قام بمشاركتين عام 1971 في القصة السينمائية لفيلم الاختيار ليوسف شاهين وعام 1978 في سيناريو فيلم المجرم لصلاح ابو سيف)، الى اكتشاف ان النبرة الواقعية الآخذة في التبلور مع روايات مثل "القاهرة الجديدة" و"خان الخليلي" و"زقاق المدق" والثلاثية بدأت تلقي بظلالها على الافلام التي شارك في كتابتها. ويتضح ذلك التأثير من طبيعة تلك الافلام التي مالت بمعظمها الى تصوير البيئة الشعبية وتقديم شخصيات واقعية والطرح الاجتماعي النقدي ودقة السرد وتفصيل الاحداث..بما هي عناصر كانت آخذة في تشكيل أدب محفوظ على خط مواز. ولعل دراسة تلك الافلام التي سبقت الاقتباسات السينمائية لرواياته من شأنها ان تقود الى معرفة كبرى بمحفوظ السينمائي وتأثيره في السينما بمنأى عن ادبه.

المرحلة الثانية: محفوظ أديب السينما

اذاً فقد سبق احسان عبد القدوس ويوسف السباعي ويوسف ادريس نجيب محفوظ الى السينما من خلال اقتباس أعمالهم في افلام منذ اوائل الخمسينات. اما أدب محفوظ فتأخر دخوله السينما الى العام 1960 مع "بداية ونهاية" لصلاح ابو سيف اي بعد مرور عشر سنوات على صدور الرواية ليعزز به مسيرة السينما الواقعية التي كان قد بدأها. منذ ذلك التاريخ، بدأت علاقة جديدة بين السينما ومحفوظ قامت على النهل من رواياته وقصصه والقصيرة فكان ان زخر عقد الستينات بأكثر من عشرة أفلام مقتبسة من ادب محفوظ كأنها تعوض عما فاتها منه خلال الأربعينات والخمسينات. فإلى "بداية ونهاية"، ظهرت على الشاشة عناوين "اللص والكلاب" و"زقاق المدق" و"الطريق" و"بين القصرين" و"القاهرة 30" (عن رواية القاهرة الجديدة) و"خان الخليلي" و"السمان والخريف" و"قصر الشوق" و"ميرامار" و"ثلاث قصص" المقتبس عن مجموعته القصصية "دنيا الله". وأكملت السبعينات في استلحاق روايات الاديب فأُنتج عدد كبير ايضاً من الافلام عن مؤلفاته ليكون بذلك عقدا الستينات والسبعينات الأغنى لجهة تقديم ادب محفوظ في السينما. في اطار انتاجات السبعينات نذكر: "السراب"، "ثرثرة فوق النيل"، "السكرية"، "الشحات"، "الحب تحت المطر"، "الكرنك".

لقد انصبت معظم اقتباسات الستينات والسبعينات لمحفوظ على رواياته السياسية التي عبرت عن وجهة نظره في التاريخ السياسي لمصر. فهناك الثلاثية التي ربطت تاريخ مصر من ثورة 1919 في "بين القصرين" الى ما بعد الحرب العالمية الثانية في "السكرية" و"القاهرة 30" الذي تناول الغليان السياسي والاجتماعي في مصر بين الحربين العالميتين و"خان الخليلي" الذي يرصد قاهرة الاربعينات ابان الحرب الثانية و"السمان والخريف" الذي تناول فيها الكاتب ثورة يوليو 1952 بعد عشر سنوات من قيامها. ولكن اللافت في تلك الافلام وغيرها تحويرها بما يتناسب مع المرحلة السياسية القائمة. فالافلام الاربعة المذكورة أُنجزت قبل حرب 1967 وأنتجها القطاع العام. وتالياً فإن اقتباسات تلك الافلام تماشت مع الساسة الرسمية للمرحلة. فالنقد الذي نجده في "السمان" للثورة من خلال شخصية "عيسى الدباغ" الرافض لها يتحول الى نقد لعدم قدرة "عيسى" والجيل الذي يمثله على الالتحام بالثورة. وفي "القاهرة 30" يتحول الغليان السياسي والاجتماعي الذي تمثله محفوظ بين اربع شخصيات الى صراع بين الايجابية والسلبية في الفيلم ينتصر للاول. وبتغيير العنوان من "القاهرة الجديدة" الى "القاهرة 30"، برّأ الفيلم مرحلة الستينيات من النماذج الانسانية التي تعرضها الرواية والتي قد تُعد نقداً للمرحلة.

بعد حرب 1967 وبعد رحيل عبدالناصر، انقلبت الامور وأصبح صوت الكاتب اداة صناع الافلام لنقد فترة الحكم الناصري في افلام انتجها القطاع الخاص. وقد ظهر ذلك على نحو خاص في اقتباس "ميرامار" السينمائي عام 1969 مديناً النظام الناصري من خلال قصص خمسة رجال يقطنون في بنسيون تديره سيدة يونانية وتخدمهم فيه ابنة الريف "زهرة". في العام 1971، ظهر فيلم "ثرثرة فوق النيل" من اخراج حسين كمال. وفي حين كتب محفوظ الرواية عام 1965 عن مجموعة مثقفين يدخنون الحشيش ويتصيدون النساء في عوامة على النيل فيما اعتبره منظرون نبوءة لهزيمة 1967، ينقل الفيلم احداثها الى مطلع السبعينات ليجعلها تعبيراً عن الواقع المعيش. وفي "السكرية" آخر افلام الثلاثية والوحيد الذي انتج بعد 1967، يترك ممدوح الليثي كاتب السيناريو النهاية المفتوحة التي ختم بها محفوظ روايته مؤرخاً لصعود الطبقة الوسطى في مصر ومتسائلاً اي طريق ستختار البلاد عنذ مفترق الطرق، يترك سيناريو الفيلم ذلك جانباً من اجل نهاية مفتعلة فولكلورية تشيد بـ"الوحدة الوطنية".

في العام 1975، عُرض فيلمان مقتبسان عن محفوظ "حب تحت المطر" لحسين كمال و"الكرنك" لعلي بدرخان. أطلق شريط بدرخان موجة من الافلام سُميت بـ"افلام مراكز القوى" اي التي تؤيد حركة التصحيح الساداتية عام 1971. يتناول الفيلم ممارسات القمع التي سادت في المرحلة بين 1963 و1969 وكما في "ميرامار" تتقاسم السرد اربع شخصيات. على الرغم من موقف محفوظ الواضح من ثورة 1952 الذي يظهر من ضمن ما يظهر في قوله "يقولون اننا نعيش ثورة يستوجب مسارها تلك الاستثناءات وانه لا بد من التضحية بالحرية والقانون ولو الى حين. ولكن مضى على الثورة ثلاثة عشر عاماً او يزيد، فآن لها ان تستقر على نظام ثابت." ولكن الفيلم لا يكتفي بنظرة محفوظ الناقدة ليس للحكم الناصري فقط وانما لكل انحراف في السياسة، بل انه اي الفيلم لا يتوانى عن التهليل للحكم الساداتي من خلال مجموعة عناصر ليس اقلها إقحام "حرب اوكتوبر" في المقدمة والنهاية وحشر صور لعبد الناصر في غير مشهد للتأكيد على ان ما يحدث انما في عهده وهو ما لا اثر له في الرواية الاصلية.

أدب محفوظ في السينما.. السينما في أدب محفوظ

يحلو لبعضهم مناقشة العلاقة بين محفوظ والسينما من زاوية المقومات السينمائية التي ابرزها ادبه من دون ان يكون مكتوباً للسينما. فإذا سلمنا جدلاً بأن توجه السينما الى ادب محفوظ تزامن مع صعود التيار الواقعي في السينما المصرية، سنجد ان تلك السينما عثرت على الكثير من عناصرها في روايات محفوظ ومعالجاته بدءاً بموضوعاته التي تمحورت حول الظلم الاجتماعي والتمرد الفردي وعلاقة الحاكم بالمحكوم وصراع الاجيال بما هي موضوعات نابعة من الحياة اليومية للمجتمع والفرد. ولكن أبعد من ذلك، حملت كتابات محفوظ العنصر المرئي ان لجهة وصفه الدقيق والتفصيلي للمكان أوتوصيفهه البصري للمكان والشخصيات. ففي وصفه لجزء من "زقاق المدق" يقول: "تقع الفرن فيما يلي قهوة كرشة، لصق بيت الست سنية عفيفي، بناء مربع على وجه التقريب، غير منتظم الاضلاع، تحتل الفرن جانبه الايسر، وتشغل الرفوف جدرانه، وتقوم مصطبة فيما بين الفرن والمدخل..."، ويصف سعيد مهران في رواية "اللص والكلاب" بالقول: "شاب في الثلاثين من عمره، ذو قامة نحيلة ومفتولة، متوسطة الطول، يتمتع جسده بالقوة والمهارة والسرعة والخفة والمرونة، مفلفل الشعر، معروق اليدين، غليظ الصوت، له وجه مستطيل وانف قان طويل وعينان لوزيتان...".

ينسحب العنصر المرئي على نواحٍ اخرى في الرواية. فمحفوظ لا يترك تفصيلاً يمر من دون تصويره سواء في الانفعالات والملامح النفسية للشخصية. ولكن اسهامه الابرز يتلخص في قدرته الكتابية على الايحاء بأحداث الرواية وفقاً لصور ومشاهد متسلسلة ثرية التفاصيل الداخلية محددة الاطار الخارجي. بمعنى آخر، اذا كانت دقة محفوظ في وصف المكان والشخصية وانفعالاتها هو ما يحتاج اليه السينمائي لملء الكادر او المشهد، فإن محفوظ يتخطى ذلك الى تحديد زاوية النظر ـ الكاميرا واقترابها من المشهد بحسب ما يصفه. فحين يصف رحلة "حسنين" الى طنطا في "بداية ونهاية" يكتب قائلاً: "يرسل بصره الى الحقول تترامى حتى الافق والخضرة اليانعة ناضرة بهيجة..وهناك فلاحون وثيران تلوح كالدمى تكاد تبتلعها الارض، وسوائم ترعى، وفوق هذا كله سماء الخريف مكتظة ببياض شاحب...". لقد حدد محفوظ المشهد باللقطة الواسعة المسافرة. وفي مكان آخر في مشهد من "خان الخليلي"، يكتب المشهد لكأنه لقطة مكبرة قائلاً: "لم يكن أحمد عاطف قد رأى من الفتاة سوى عينيها اللتين بدتا لغزارة اهدابها مكحلتين تقطران جاذبية وخفة." ويضيف الكاتب الى تلك التحديدات زاوية النظر في كثير من الاحيان كأن يقول في "القاهرة الجديدة": "يسترق محجوب النظر الى امه وهي تجلس مطرقة تحت قدميه." بل ان ادوات محفوظ السينمائية الكامنة تستخدم تقنية الكاميرا المتنقلة وتقطيع المشاهد والايحاء بمرور الزمن بما يعني المونتاج الى توصيفه الاضاءة بشكل مسهب والعناية بالاصوات كأنه سينمائي يؤلف بمحاذاة الصورة شريط الصوت.

بهذا المعنى وجد السينمائيون في روايات محفوظ ما يمكن ان نطلق عليه "ستوري بورد" (لْفُق ٌَُُّّّْ) او رسماً متسلسلاً للمشاهد يحتوي على دقائق تفاصيل الكادر. ولهذا نعثر في معظم الافلام على ترجمة حرفية لنص محفوظ كأنها اقتفاء لأثر النص الادبي. واما البصمة الفردية فظهرت في معظم الاحيان من خلال تحوير بعض التفاصيل ليوافق الموقف السياسي السائد. هل يجوز، بهذا المعنى، ان نسأل الى اي حد أغلق محفوظ بأدواته السينمائية المذكورة الباب على اجتهادات سينمائية كان يمكن ان تطاول أعماله وتنطلق بها الى افق آخر؟ فحتى السبعينات، تواصلت أعمال محفوظ الادبية مع اقتباساتها السينمائية في اطار زمني متقارب. ولكن في الثمانينات مع تبدل تركيبة المجتمع المصري وضمور الانتاج السينمائي النوعي وتغير الجمهور السينمائي، اتخذت الاقتباسات السينمائية لأعماله اتجاهاً آخر لا يذكر تماماً به. أفلام مثل "وكالة البلح" و"شهد الملكة" و"الخادمة" و"الشريدة" (وتنضم اليها من التسعينات افلام مثل نور العيون وسماره الامير) المقتبسة من اعماله أفرغت المصدر الادبي من خصوصيته ليتماشى مع زمن الفيلم ومع الانتاج السائد وبقيت محاولات قليلة نوعية مثل "أهل القمة" عام 1981. كذلك ابتعد الجيل الجديد من السينمائيين (باستثناء عاطف الطيب الذي أخرج من كتاباته الحب فوق هضبة الهرم عام 1986 وقلب الليل بعدها بثلاث سنوات) من نتاج الكاتب فبقي اسير مرحلة الابيض والاسود الحرفية او الثمانينات التي لم تحاول تطوير النص ليكون ابن زمانه. فهل ان القراءة السينمائية المعاصرة لادب محفوظ مازالت غائبة الى يومنا هذا؟ على ان الطعنة التي تلقاها بسكين اسلامي متطرف في العام 1994 لا تني تذكر بوقع كتاباته وموقعها في مواجهة اشكال القمع والتطرف الفكريين حتى بعد مرور عقود عليها.

اذا كان ادب محفوظ قد أثرى السينما المصرية ـ وبشكل محدود االاجنبية من خلال اقتباسين يتيمين لروايتي "زقاق المدق" و"بداية ونهاية" في السينما المكسيكية بينما ولغرابة الامور لم تقربه السينما العربية ـ فإن الأخيرة لم تنصفه تماماً لجهة تحوير مواقفه السياسية في رواياته في كثير من الاحيان وتقاعسها عن الذهاب ابعد في استكشاف ابعادها المختلفة. ولئن بدا محفوظ في تلك الكتابات حرفياً ماهراً في صوغ اطار الحكاية وتثبيته بإمعان حتى لتبدو كتاباته حصناً منيعاً امام اية مغامرة تغييرية، فإن اليوم وبعد مرور قرابة نصف قرن على مشاهداته يبدو الوقت الانسب لمحاولة تفجير نصوصه وانتظار ما يمكن ان تقود اليه.

المستقبل اللبنانية في

02.09.2006

 
 

انتقل بفن الرواية من مرحلة المراهقة إلي النضج

نجيب محفوظ‏..‏ عاشق الحياة والموت

عزمي عبدالوهاب 

في الساعة الثامنة وخمس دقائق من صباح الأربعاء الماضي توقف قلب مصر‏..‏ توقف قلب نجيب محفوظ عن النبض‏,‏ لكن يوم الخميس‏13‏ أكتوبر‏1988‏ كان يوما فاصلا في حياة مصر والعالم العربي‏,‏ لا في حياة محفوظ فحسب‏,‏ في هذا اليوم استيقظ رجل الساعة في موعده‏,‏ وذهب كعادته إلي جريدة الأهرام‏,‏ وجلس مع أصدقائه وزملائه‏,‏ وتحدث الجميع في موضوعات شتي‏,‏ كان من بينها جائزة نوبل المنتظر إعلانها في ذلك اليوم‏.‏

قال محفوظ‏:‏ سوف نقرأ في الصفحة الأولي من الأهرام يوم غد الجمعة خبرا صغيرا عنها كالمعتاد‏,‏ ونعرف من فاز بها‏,‏ لكن بعض صحف الغد العالمي كان يتصدرها هذا العنوان‏:‏ نجيب محفوظ‏..‏ من هو؟‏..‏ هل تعرفونه؟ وكان بعضها الآخر يعد عنه موضوعات من خلال الترجمات التي تواترت لرواياته‏.‏

عاد محفوظ إلي بيته‏,‏ وتناول الغداء‏,‏ ودخل غرفة نومه‏,‏ ولم تمض دقائق حتي وجد زوجته توقظه من النوم في لهفة قوم‏..‏ قوم‏..‏ الأهرام اتصلوا بك وبيقولوا إنك أخذت جائزة نوبل‏,‏ ولم يصدق محفوظ أنه صاحب نوبل إلا عندما طرق باب بيته السفير السويدي في القاهرة وحرمه‏.‏

منذ تلك اللحظة انقلبت حياة نجيب محفوظ رأسا علي عقب‏,‏ خرجت قليلا عن انتظامها الدقيق‏,‏ الذي ظل يراكمه لسنوات‏,‏ لعلها بدأت منذ اللحظة الأولي لميلاده يوم الإثنين في الحادي عشر من ديسمبر‏1911‏ إلي أن تعرض لمحاولة اغتيال آثمة يوم الجمعة‏14‏ أكتوبر‏1994,‏ وكأن القتلة أرادوا أن يحتفلوا بمرور ست سنوات علي إحرازه جائزة نوبل بطريقتهم الدموية‏,‏ حين اقترب منه أحدهم‏,‏ وطعنه في رقبته‏,‏ لينجو من الموت بمعجزة‏.‏

كشف الحادث الأثيم عن ذاكرة محفوظ الفولاذية‏,‏ فبينما كان ينقله صديقه البيطري فتحي هاشم إلي مستشفي الشرطة بالعجوزة‏,‏ قال له‏:‏ لا تنس أن تخبر الأطباء بأنني مريض بالسكر‏,‏ وهي الذاكرة القوية التي استعادها محفوظ حين كان يجلس لساعات طويلة مع الناقد الكبير رجاء النقاش‏,‏ الذي قدم للمكتبة العربية كتابا من أهم الكتب التي تعرضت لمذكرات نجيب محفوظ‏,‏ إن لم يكن أهمها علي الإطلاق‏.‏

وبرغم الأمكنة التي تنقل بينها وعاش فيها محفوظ‏,‏ ظل حي الحسين الذي ولد فيه هو المكان الأثير لديه‏,‏ وكان يصاحبه شعور دائم بالحنين إليه‏,‏ ولم يهدأ هذا الحنين المؤلم‏-‏ كما يصفه‏-‏ إلا بالكتابة عن هذا الحي‏,‏ حتي عندما اضطرته الظروف للانتقال إلي العباسية كانت متعته الروحية لا تكتمل إلا بالذهاب لزيارة الحسين‏,‏ لذلك أوصي قبل موته بأن يصلي عليه ركعتان في الحسين قبل دفنه‏.‏

هذا العشق انتقل لمحفوظ من أمه‏,‏ تلك السيدة الأمية التي كانت تصحبه معها لزيارة الحسين يوميا‏,‏ وهي شخصية كان لها عظيم الأثر في محفوظ‏,‏ فمنها انتقل إليه‏,‏ حب الآثار الفرعونية‏,‏ حيث كانت دائمة التردد علي المتحف المصري‏,‏ وتقضي أغلب أوقاتها في حجرة المومياوات‏,‏وإضافة إلي زيارتها للآثار الإسلامية كانت تذهب لزيارة الآثار القبطية وعلي وجه الخصوص دير مارجرجس‏,‏ ولاشك أن هذا التسامح تسرب إلي الطفل نجيب محفوظ‏,‏ وكبر معه‏.‏

أما الأب عبدالعزيز إبراهيم أحمد الباشا‏,‏ فكان شديد الالتزام والتنظيم‏,‏ يعود إلي بيته بعد انتهاء العمل‏,‏ ويمضي وقته بين الصلاة وقراءة القرآن والجلوس في صمت لساعات طويلة‏,‏ ولم يتدخل في حياة محفوظ علي وجه الإطلاق‏,‏ حتي عندما التحق بكلية الآداب‏,‏ علي غير رغبة الأب في الالتحاق بكلية الحقوق أو الطب‏,‏ وتحولت العلاقة بينهما إلي ما يشبه الصداقة عندما التحق محفوظ بالجامعة‏,‏ ومات الأب من غير أن يطلع علي أولي روايات ابنه عبث الأقدار لكنه قرأ له بعض القصص المنشورة في الصحف‏,‏ وكان يشعر بسعادة غامرة عندما يقرأ اسمه‏,‏ وفي سنوات الدراسة الابتدائية قرأ محفوظ لكبار الأدباء في ذلك الوقت وحاول تقليد أسلوبهم‏,‏ ومنهم مصطفي لطفي المنفلوطي‏,‏ كما حاول تقليد طه حسين حين كتب قصة حياته وأسماها الأعوام علي غرار الأيام‏,‏ وفي تلك الأثناء كتب الشعر‏,‏ لكن افتقاده لملكة الحفظ‏,‏ جعله يتراجع عن كتابته كما يقول وإن كان استفاد من ذلك كثيرا‏,‏ حين ضمن روايته الحرافيش نصوصا كاملة من ديوان حافظ الشيرازي بالفارسية‏,‏ إضافة إلي إيمانه بأن الشعر هو روح الأدب‏,‏ لذلك تمتع عدد من رواياته بلغة شعرية عالية‏,‏ لذلك أيضا طالب المجلس الأعلي للثقافة بإقامة مؤتمر شعري بالتناوب مع مؤتمر الإبداع الروائي الذي يقيمه المجلس كل عامين‏,‏ وهو ما سيتحقق لأول مرة بداية العام المقبل‏.‏

قضي محفوظ‏-37‏ سنة‏-‏ من حياته موظفا‏,‏ وكانت الوظيفة بالنسبة له نظام حياة وطريقة لكسب الرزق‏,‏ وإن كان يري في ذلك ظلما كبيرا له رغم أن الوظيفة أمدته بنماذج بشرية استغلها في رواياته‏,‏ حيث عمل في وزارة الأوقاف ومجلس النواب وإدارة الجامعة‏,‏ وفي كل الأحوال كان يصطدم بنماذج بشرية تصلح لأعمال روائية ضخمة‏,‏ واستغل ذلك بالفعل في القاهرة الجديدة‏,‏ وخان الخليلي‏,‏ والكرنك‏,‏ والسراب‏.‏

وكان مقدرا له أن يكتب الرواية التاريخية فأنجز ثلاث روايات‏:‏ عبث الأقدار‏-‏ كفاح طيبة‏-‏ رادوبيس‏,‏ لكن الحماس مات بداخله عندما تعمق في قراءة الأدب الحديث‏,‏ وأدرك أن الرواية يمكن أن يكون لها دور مؤثر في معالجة قضايا المجتمع والتعبير عن هموم الناس ومشاكلهم‏.‏

وفي تلك الفترة كان يجلس في المقاهي يتابع تفاصيل الحياة اليومية وحكايات الناس‏,‏ واستغرقته الواقعية حتي قيام ثورة يوليو‏1952,‏ التي فاجأته بواقع وقضايا جديدة تختلف عما كان سائدا من قبل‏,‏ فصمت عن الكتابة لمدة خمس سنوات‏,‏ وكان العمل الأول الذي كتبه بعد الثورة هو أولاد حارتنا‏,‏ وتعرض أيضا لنفس الحالة قبل حصوله علي نوبل بعام‏,‏ لكنه أنجز فيما بعد أصداء السيرة الذاتية‏,‏ وأحلام فترة النقاهة ومن بين الأساتذة الذين يعترف محفوظ بفضلهم عليه‏,‏ يبقي سلامة موسي‏,‏ أحد أهم هؤلاء‏,‏ فكان محفوظ يتابع مجلته المجلة الجديدة‏,‏ وهو في المرحلة الثانوية ويرسل إليه كتاباته عن طريق البريد‏,‏ وكانت عبارة عن مقالات فلسفية‏,‏ لم يتوقف سلامة عن نشرها‏,‏ إلي أن التقيا‏,‏ فأصابته الدهشة‏,‏ إذ كان يظن أن محفوظ أكبر من مجرد تلميذ في المرحلة الثانوية‏.‏

أصدر سلامة موسي أول طبعة من رواية محفوظ عبث الأقدار عن دار المجلة الجديدة‏,‏ وكان أجره من التأليف‏500‏ نسخة من الرواية‏,‏ بعدها طبع عنده كتاب مصر القديمة وكان محفوظ يجرب الترجمة عن الإنجليزية في هذا الكتاب‏,‏ ثم ظهرت رواية زقاق المدق عن الدار ذاتها‏,‏ وكان اسمه قد بدأ في الانتشار‏.‏

ولم يكتب سلامة موسي عن محفوظ إلا عند صدور روايته بين القصرين في جريدة الأخبار عام‏1957,‏ وذلك قبل رحيله بعام واحد‏,‏ وبعد هذه السنوات يعترف محفوظ بأن تأثير سلامة موسي حي في نفسه‏.‏

ورغم ولاء محفوظ للفكرة الليبرالية طوال حياته‏,‏ وعشقه لحزب الوفد‏,‏ إلا أنه لم ينضم إلي حزب أو تنظيم سياسي‏,‏ لا قبل الثورة ولا بعدها‏,‏ وحافظ علي مسافة كبيرة بينه وبين السلطة‏,‏ وظل مخلصا لفكرة الديمقراطية‏,‏ وكانت انتقاداته لثورة يوليو نابعة من قناعات خاصة بهذه النقطة‏,‏ فلم يكن من خصوم الثورة‏,‏ التي أعلن تأييده للكثير من قراراتها‏,‏ وحصل علي جائزة الدولة في الآداب عام‏1957,‏ ومنحه الرئيس عبدالناصر وسام الاستحقاق من الدرجة الأولي‏,‏ ولم يكن علي وئام مع نظام يوليو‏,‏ فقد كان باستمرار علي حافة الهاوية‏,‏ ففي إحدي المرات نشر قصة بعنوان سائق القطار‏,‏ وسري همس في أوساط المثقفين بأنه يقصد عبدالناصر‏,‏ كانت القصة تدور حول سائق قطار يفقد صوابه ويتسبب في حادث تصادم مروع‏,‏ وكان التفسير آنذاك أن محفوظ يشير إلي أن عبدالناصر يقود مصر إلي كارثة‏.‏

ولم ينقذه من تلك الورطة إلا مقال كتبه محمد فريد أبوحديد‏,‏ توصل فيه إلي أن كاتب القصة يرمز للصراع بين الشرق والغرب‏,‏ وكيف أن هذا الصراع قد يتسبب في تدمير الكرة الأرضية‏,‏ لكنه وقع في ورطة ثانية عندما أصدر رواية ثرثرة فوق النيل‏,‏ إذ هدد المشير عبدالحكيم عامر بإنزال العقاب بمحفوظ بسبب النقد العنيف في الرواية‏.‏

واستدعي عبدالناصر ثروت عكاشة وطلب منه قراءة الرواية وإبداء رأيه فيها‏,‏ وكان رأي عكاشة أن محفوظ ينبه إلي أخطاء موجودة في المجتمع وليس لديه سوء نية في مهاجمة النظام‏,‏ وأنه من الضروري أن يتوافر للأدب قدر من الحرية‏,‏ لينقل صورة واقعية عن المجتمع‏,‏ وإذا لم يجد الأدب هذا القدر من الحرية مات‏.‏

وهكذا تراجع المشير عامر عن تهديده بعد تدخل عبدالناصر‏,‏ لتدخل متاعب محفوظ مع السلطة في اتجاه آخر‏,‏ فقد رفض محمد حسنين هيكل نشر رواية ميرامار لينشرها رجاء النقاش في مجلة الإذاعة والتليفزيون وامتنع أحمد بهاء الدين عندما كان رئيسا لتحرير الأهرام عن نشر الحب تحت المطر ونشرها رجاء النقاش أيضا في مجلة الشباب بعد أن حذفت الرقابة منها أشياء كثيرة‏.‏

وتبقي المشكلة الأكبر مع رواية الكرنك التي رفض هيكل نشرها أيضا‏,‏ فدفع بها محفوظ إلي مكتبة مصر لتصدر بعد حذف فقرات كثيرة منها عن طريق الرقابة‏,‏ وبعد طباعة الرواية يكتشف كاتبنا الكبير أنه تم تشويهها‏,‏ لتكون الكرنك‏,‏ والحب تحت المطر هما الروايتان اللتان نشرتا بصورة مختلفة عن الأصل‏,‏ الذي لم يعد له أثر عند محفوظ‏.‏

وطوال هذه الأزمات لم يتعرض محفوظ للسجن أو الاعتقال‏,‏ وإن استدعته المخابرات بشكل غير مباشر‏,‏ عندما كان يعمل في فيلم عن المخابرات المصرية‏,‏ وطلب منه ثروت عكاشة الذهاب إلي مبني المخابرات لاستطلاع رأيهم في السيناريو‏,‏ وعند دخوله مكتب نائب رئيس المخابرات لاحظ شخصا يحدق فيه‏,‏ سائلا عن رواية أولاد حارتنا والمشكلات التي ثارت حولها‏,‏ ومدي صحة ما يقال عن تجاوزات دينية بها‏,‏ وكان هذا هو المقصود من الزيارة‏.‏

بعد هذا اللقاء بأشهر شاهد محفوظ صورة في الصفحة الأولي بجريدة الأهرام للرئيس عبدالناصر في إحدي جولاته الإفريقية‏,‏ وكان خلف عبدالناصر ذات الشخص الذي التقاه في مبني المخابرات‏,‏ واندهش كثيرا حين عرف أنه صلاح نصر‏,‏ رئيس المخابرات‏,‏ وإن بقيت لديه أسئلة لا يعرف لها إجابات حول ما حدث‏.‏

وكان أصعب متاعب محفوظ مع السلطة‏,‏ ما حدث مع بدايات عصر السادات‏,‏ حين وقع علي البيان الذي كتبه توفيق الحكيم‏,‏ اعتراضا علي حالة اللا سلم واللا حرب التي كانت تعاني منها مصر‏,‏ كان ذلك في أوائل عام‏1973‏ وصدر قرار بعزل الموقعين علي البيان‏,‏ ومنعهم من الكتابة‏,‏ لكن محفوظ عوقب بمنعه من الحديث في الإذاعة والتليفزيون‏,‏ ومنعت أفلامه من العرض‏,‏ وشن عليه عدد من الكتاب هجوما حادا‏.‏

وتبقي أزمة الأزمات‏,‏ تلك المرتبطة برواية أولاد حارتنا‏,‏ والتي انتهي من كتابتها في شهر إبريل سن‏1958‏ ونشرت حلقاتها في الأهرام بلا مشاكل‏,‏ إلي أن نشرت الجمهورية خبرا يلفت فيه كاتبه النظر إلي أن الرواية فيها تعريض بالأنبياء‏,‏ بعد هذا الخبر بدأ البعض‏,‏ ومن بينهم أدباء‏,‏ في إرسال شكاوي إلي النيابة العامة ومشيخة الأزهر ورئاسة الجمهورية يطالبون فيها بوقف نشر الرواية وتقديم محفوظ إلي المحاكمة‏.‏

وبعد انتهاء نشر الرواية مسلسلة في الأهرام التقي محفوظ الممثل الشخصي للرئيس عبدالناصر‏,‏ واتفقا علي أن تنشر الرواية خارج مصر‏,‏ لأنه في حال صدورها هنا ستحدث مشكلة مع الأزهر‏,‏ وباءت كل محاولات نشر الرواية في مصر بالفشل‏,‏ وكان آخرها عندما سعت دار الهلال لإصدارها‏,‏ فهددت دار الشروق برفع دعاوي قضائية ضدها‏,‏ لأنها كانت بصدد إصدار الرواية بمقدمة كتبها أحمد كمال أبو المجد‏,‏ لكن يبدو أن شرط موافقة الأزهر‏,‏ كما حدده محفوظ‏,‏ لم يتحقق‏,‏ فلم تنشر الرواية داخل مصر‏.‏

وتفجرت الأزمة مرة أخري مع حصوله علي جائزة نوبل‏,‏ إذ كتب أنور الجندي في الاعتصام ـ مجلة الإخوان المسلمين ـ إن أدب محفوظ كله فسق وكفر وأن فن القصة فن استعماري مخالف للإسلام بعد ذلك أفتي الشيخ عمر عبدالرحمن في حديث صحفي نشرته جريدة الأنباء الكويتية‏,‏ قائلا‏:‏ إننا لو كنا قتلنا نجيب محفوظ عندما نشر رواية أولاد حارتنا‏,‏ لماظهر إلي الوجود سلمان رشدي‏.‏

وعرضت الداخلية تزويد محفوظ بحراسة خاصة‏,‏ خشية تعرضه للاغتيال‏,‏ لكنه رفض ذلك رفضا قاطعا إلي أن وقعت جريمة الاعتداء عليه يوم الجمعة‏14‏ أكتوبر‏1994‏ بينما كان يتجه إلي ندوته الأسبوعية في كازينو قصر النيل وتبين أن الجناة ينتمون إلي تنظيم الجماعة الإسلامية التي أجرت أخيرا مراجعات فكرية تعيد النظر في كل فتاوي التكفير التي أهدرت دم عدد كبير من الشخصيات العامة‏.‏

ومن بين هؤلاء والذين يتحملون جزءا من وزر إهدار دم محفوظ الكاتب فهمي هويدي‏,‏ الذي هاجم صاحب نوبل‏,‏ وحاول تشويه كلامه بشأن فتوي الخميني بإهدار دم سلمان رشدي‏,‏ رغم معرفته هويدي بتعديل محفوظ رأيه في رواية آيات شيطانية الذي انتهي إلي أنها تدخل تحت بند السب والقذف وطالب رشدي بأن يتوب‏.‏

الأهرام العربي في

02.09.2006

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2016)