رحيل نجيب محفوظ عميد الرواية العربية ومؤسسها ومفتتح
فضاءاتها المعاصرة (1)
تجاوز مجمل التجارب الجديدة.. والآخرون لم يقدموا شيئاً
فَاتَهُ
بيروت:
القسم الثقافي / عمان ـ رام الله: موسى برهومة/ دمشق: عمر كوش /مكتب
القاهرة
رحل
الروائي المصري الكبير نجيب محفوظ عن عمر يناهز الخامسة والتسعين، مخلّفاً
وراءَه معمارية شاهقة من الكتابة الروائية والقصصية، التي أسست للرواية
العربية المعاصرة، وافتتحت، ربما للمرة الأولى، آفاقاً جديدة خصبة لها،
تتنوع في لغتها، وفي سياقها، وفي أمكنتها، وفي كلاسيكيتها ولا سيما في
تجربتها.
رحل صاحب
"الثلاثية" و"أولاد حارتنا" و"الحرافيش" و"خان الخليلي" و"اللص والكلاب"
و"حب تحت المطر" و"زقاق المدق..."، الذي عبّر بعمق وشفافية عن تحولات قرن
كامل في مصر، تحولات سياسية واجتماعية وثقافية...
هنا
شهادات لحوالي 25 كاتباً وناقداً عربياً في حلقات.
ابراهيم
أصلان.. متعة المثل الكبير
لم أكن
مرافقاً دائماً في جلسات نجيب محفوظ وعندما ترك مكانه في مقهى "ريش" تقطعت
الفترات التي أحضر فيها ندوته الأسبوعية. لكنني دائماً كنت أشعر بوشائج
قوية بيني وبينه. وهو أعطاني الإحساس بأنه كان منتبهاً لها. فهو رجل عاش في
بيئة شعبية وبحكم تركيبته ابن بلد. وهذا أحدث نوعاً من الصلة به كإنسان
تتكافئ مع صلتي به ككاتب، خصوصاً أنه في أيامي الأولى عندما نشرت لي قصص
قصيرة سأل عني وقال لي: ضروري تأخذ منحة تفرغ من الدولة. وقتها كان التفرغ
يحتاج الى تزكية من كاتب كبير، وسافرت اليه في الاسكندرية لأحصل منه على
خطاب التزكية فوجدته يجلس مع توفيق الحكيم وقدمني له باعتباري سأكون من
مقدمة الصف الأول. ما زلت أحتفظ بصورة من شهادته تلك، والتي كانت سبباً في
حصولي على تزكية أخرى من الدكتورة لطيفة الزيات ومن صلاح عبد الصبور وحصلت
على منحة التفرغ. كنت وقتها أعتقد أنني مجرد كاتب قصة، لكن من شروط المنحة
أن أكتب رواية فقلت لنفسي: لا مشكلة... نجرب. فكان نجيب محفوظ السبب في
توجهي لكتابة الرواية... وهذا لأنه أبدى إعجاباً بما يكتبه شاب لا يعرفه.
وهو من
نواح متعددة يمثل النموذج بالنسبة لنا. لم نكن نقرأه فقط، لكنه كان نموذجاً
استثنائياً في علاقته بعملية الكتابة، واستمراره حتى الآن يأتي من هذه
العلاقة أساساً. حضور توفيق الحكيم مثلاً ارتبط بتصرفات ذكية تجاه الإعلام،
آخرون يكرسون حضورهم عبر الإلحاح أو الحضور الجسدي. نجيب حضوره دائماً عبر
عملية الكتابة ونتيجة لعمله وكتاباته، ومن هنا قرر من البداية وحتى اليوم
تقنين عملية النشر. كان حريصاً على أن يوجد سنوياً بأعمال، وكأنه موضوعاً
بقوى لا رادع لها، وكأنه يدخر حياته كاملة لتحقيق ما نذر من أجله، أن يكون
من الذين نزلوا ليكونوا لسان حال الدنيا من حولهم. هؤلاء يعملون كأنهم أشبه
بقوى الطبيعة، العواصف والرياح ودورات الفصول، نجيب محفوظ واحد من هؤلاء.
وهكذا
كانت صلته بالآخرين هي ترتيب لحياته نفسها، وليس كما يتصور البعض أنها تضيق
الحركة، بل أعطته فرصة ليعيش بشكل جيد، لم يفقد شيئاً، أعطى لكل شيء نصيبه،
الأصدقاء القدامى كان لهم مساحة، أصدقاء الكتابة أيضاً، وهكذا كل شيء في
حياته كان له مساحة.
على مستوى
آخر... سيظل نجيب محفوظ هو من أسس لرواية عربية، وكل المحاولات قبله ـ إذا
استعرنا لغة المعمار ـ عبارة عن مجسات، وهذه مسألة على قدر كبير من
الأهمية، فهو الذي قام بتأهيل اللغة لكي تكون لغة حكي وجعلها صوت البشر
وهذا لم يتم قبل محفوظ تقريباً.
ولذا سيظل
هو مزاراً لقارئ ما، لدارس الأدب، ولغيره فهو منجم للذين يحسنون الفهم من
علماء النفس والاجتماع، مادته أغنى وأصدق وأكثر ثراء بالقياس الى مواد
أخرى. هناك أيضاً قيمة العمل، وأن تعكف على هذا العمل سنوات طويلة، هذا
يعطي قيمة كبيرة جداً، لأن كل عمل حقيقي وراءه جهد حقيقي يعكس إيماناً بهذا
الكائن... على مستوى الفن والحرفة والعلم ويعبر عن موهبة عظمى، وفي نفس
الوقت احترام للمتلقي باعتباره لا يقل عنك قدرة أو قيمة.
لهذا
عندما أتحدث عن نجيب محفوظ أهتم بالحديث عما يمثله من قيم. ليس هناك الكثير
لم يقل بعد عن أدبه، لكنه على مستوى آخر حقيقة أدبية في حياتنا. وهو حاضر
في لحظة نفتقد فيها المثل الكبير، ودائماً في حياتنا شخصيات هي بحد ذاتها
تتحول الى معانٍ وقيم، معانٍ كبيرة مستقلة عن أصحابها وتؤثر بعيداً عن
أبعادها الشخصية، خصوصاً في زمن عشوائي، كل شيء فيه عشوائي، وليس العمارات
والشوارع فقط، فهذه ليست إلا ترجمة لذهنية عشوائية، ونجيب محفوظ قيمة كبيرة
في مثل هذا الزمن يجب الإلحاح عليها، فحياته تعكس إيماناً بفكرة العمل.
الكاتب من هذا النوع لا تسمح حريته ولا كرامته إلا أن يكد في عمله. وهذه
قيمة تضع نجيب محفوظ في مشهد الكتابة الكبيرة في العالم.
في أدبه،
أنا بداية اعتبر الحرافيش أفضل نص روائي كتب بالعربية، وفي مرة كان يوسف
ادريس غاضباً من يحيى الطاهر عبد الله لأنه في حوار اتهم نجيب محفوظ
بالخيانة لأنه أعلن تأييده لكامب ديفيد، ورغم أن آراء ادريس في العادة
جموحة إلا أنه قال بالنص: "هذا رجل يكفيه أنه كتب رواية اسمها الحرافيش"
وكان يقصد أن هذه الرواية تغفر الذنوب لصاحبها إذا كان له ذنوب.
هناك فرق
أعيه تماماً بيني وبين نجيب محفوظ. ربما لأنني لم أكمل تعليمي، ولم أكن
مرتبطاً بأي من المرجعيات الفكرية الشائعة، كما أنه بطبيعة تكويني لا أصلح
أن أكون فرداً في منظومة تقول رأياً واحداً. عندي إدراك مبكر أن الكتابة هي
وسيلة معرفتي.
بينما
نجيب شأنه شأن كل الكبار من كتاب العالم (مع وجود استثناءات) ولا أريد أن
أقول الكلاسيكيين (لأنه من الذين سعوا لتحطيم القواعد الفنية)... المهم
نجيب أدرك أن عنده رسالة ما، أساس، مفهوم يبدأ به العمل، ومن ثم يأتي العمل
في جوهره سعياً لتأكيد هذا المفهوم.
أنا أنتمي
الى فريق آخر، ربما لأنني جئت في الستينات، وكانت كل المسائل "ملخبطة". ولم
أكن مقتنعاً بشيء، فكانت الكتابة بالنسبة لي سعياً لمفهوم، لمعنى، لرسالة،
وهذا لم يكن معارضة لنجيب محفوظ. ورغم أنني لم أقرأه كله إلا أن قراءته
منحتني المتعة، نعم المتعة.
إدوار
الخراط.. تجاوز الطعنة
كلنا
نعتبر نجيب محفوظ عميد الرواية ومؤسسها وهو الذي أرسى قواعد الرواية
المعاصرة بأعماله الباقية بدءاً من الثلاثية وحتى إصدار السيرة الذاتية.
نجيب
محفوظ يتميز في تناوله للرواية والقصة ما نسميه واقعية النظرة وسطوتها على
المظاهر الخارجية الاجتماعية والحرص على إرجاع هذه المظاهر الى أصولها
النفسية وتكوين سمات وخصائص الشخصية كما نرى في رواية مثل "السراب" أو
غيرها من رواياته.
يمتاز
نجيب محفوظ أيضاً كشخصية مؤثرة ومضيئة بعدة خصائص لعل أهمها الدأب على
الكتابة والإخلاص لها، والمثابرة في تجويدها عبر عشرات السنوات دون كلل
فضلاً عن دماثة خلقية وسعة صدر ورحابة تلقى أعمال المبدعين بأجيالهم التي
جاءت بعده وإن اختلفت مشروعاتهم الأولية اختلافاً أساسياً عن مشروعه،
ومتابعته الدقيقة ليس فقط للأحداث العامة بل أيضاً لهذه الإبداعات.
وعندما
تعرض نجيب محفوظ لطعنة السكين الغادرة التي سددتها يد الجهل والتعصب وضيق
الأفق أحسسنا جميعاً أن الطعنة في صدورنا ولعل مقدرته على تجاوز آثار هذا
الغدر بسماحته المعهودة وصبره... يعتبر قدوة لنا جميعاً.
علاء
الديب.. كأنه يكتب موسيقى باخ..!!
بعد تخرجي
من الحقوق لم أحصل على درجات كافية للالتحاق بالنيابة... وكنت عرفت الطريق
الى الصحافة والترجمة مرة عبر الوكالات الصحفية ومرة عبر الترجمة، كنت
وقتها بدأت انسحابي من الدنيا... والحياة في مكتبة جامعة القاهرة... في هذه
الفترة عرفت الأدب بمعناه الحقيقي. وعرفت من مروري بالتجربة الماركسية أنه
إذا لم يكن للأدب دور اجتماعي يصبح عبثاً مطلقاً.
وفي "روز
اليوسف" عرفت أيضاً العلاقة بين الأدب والناس من خلال الصحافة واحسان عبد
القدوس وخاصة فتحي غانم... وقتها كان الموقف من نجيب محفوظ هو الموقف من
الرواية التقليدية. وقتها كانت الثلاثية و"خان الخليلي" و"زقاق المدق" هي
أقصى ذروة وصلت لها الرواية الكلاسيكية. وكل ما هنالك بالنسبة لكاتب مثلي
أن أتعلم منها و"أمشي" بمعنى آخر أعربها أتجاوزها كما يقولون في تعبيرات
النقد الأدبي.
الآن
عندما أنظر إليه، الى نجيب محفوظ أجده هو الذي عبر أو "تجاوز" كل التجارب
الجديدة والآخرون لم يقدموا شيئاً فاته. هو الذي دخل مغامرات مثل "اللص
والكلاب" و"ثرثرة فوق النيل"... وكلها تجارب في الشكل الروائي جديدة وخاصة
جداً. لا هي شرقية ولا غربية، أي ليست مستوردة أو مقلدة من الغرب ولا
مستوحاة من التراث والثقافة القديمة، هي له وحده، تخصه، تجارب وصلت مداها
لغاية ما استوى على "أصداء السيرة الذاتية" التي اعتقد أنها قمة عالية في
الكتابة العربية وهي كتابة صرفة، مثلما موسيقى باخ موسيقى صرفة، جمالها في
التوافقات فقط... وليس في المعاني والايحاءات...
هذه
الكتابة الصرفة هي التي وصل إليها نجيب محفوظ بعد هذه الرحلة المثيرة مع
تجارب تضعه في مصاف تصل بالشخص الذي يتعاطى الأدب الى أن يرى بقعة نور في
الظلام الذي بين اللحظة والأخرى.
توفيق
صالح.. إيقاع نجيب وصلاح أبو سيف
لا أريد
أن أتعرض لأدب نجيب محفوظ وسأتكلم فقط عن علاقته بالسينما وإن كان كلامي عن
السينما سيصب بأي حال في أدبه.
السينما
المصرية في نهاية الأربعينات كانت تعتمد في سرد الفيلم على الحدوتة، وعندما
بدأ نجيب محفوظ العمل مع صلاح أبو سيف أدخل الى كتابة السيناريو البناء،
ومع ممارسته لكتابة السيناريو أصبح قادراً على تكثيف المعاني المطلوبة أو
الموقف المطلوب وعلى بناء سيناريو بناء محكماً، وهو ما أثر على كل كتاب
السيناريو في السينما بعد ذلك، وبالطبع نظرة نجيب محفوظ الواقعية أثرت على
كل الأفلام فواقعية صلاح أبو سيف بدأت بتأثير وكتابة نجيب محفوظ فتعلم منه
وعمل.
ركز نجيب
محفوظ على كتابة سيناريو من 4 ـ 5 سنوات رغم أنه عمل فيها ما بين 10 الى 12
سنة فتأثر أدبه بالايقاع السينمائي ومن "اللص والكلاب" وما بعدها سنجد أن
إيقاع كتابته مختلف عن الثلاثية فأصبحت السمة الأساسية في أدبه هي كثافة
المشاهد والحوار. فقد استلهم إيقاع السينما.
صنع الله
ابراهيم.. مهنة عمر
بالنسبة
لي ككاتب نجيب محفوظ أضاف قيمتين أساسيتين لم تكونا موجودتين قبله. الأولى
قيمة الإخلاص للكتابة والاعتزاز بمهنة الروائي.. وانها مهنة جدية تتطلب
التفاني التام لها، وإعلاء شأنها.
قبل نجيب
محفوظ كانت كتابة الرواية أو القصة هي نشاط جانبي للكاتب الصحافي مثلاً.
إحسان عبدالقدوس يكتب مقالات وتحقيقات صحافية وبجانبها يكتب الروايات. يوسف
السباعي له حياته المهنية كضابط ثم صحافي وبجانبها يكتب الروايات.
نجيب
محفوظ على الرغم من تمسكه بالوظيفة حتى آخر لحظة كان يعطي الكتابة المكانة
الأولى في حياته.
ارتبط هذا
بفكرة التنظيم. فقد كانت الفكرة السائدة أن الكتابة عملية عشوائية تتوقف
على الإلهام. كان نموذج الفنان: بوهيمي. يسهر. يسكر. يجري. يكتب في لحظات
من الإلهام المفاجئة. وكان الشعر وقتها أن القلم هو الذي يكتب.
أعتقد أن
نجيب محفوظ هو أول شخص (باستثناء يحيى حقي) يرى أن الكتاب ليست إلهاماً
بقدر ما هي مهنة تتطلب الانتظام في العمل والدراسة والبحث وتطوّر ومواكبة.
وتحتاج الى قواعد وبرنامج ومخطط. هي مهنة عمر.
هذا ما
أضافه نجيب محفوظ الى وعي الكتاب والجمهور.
على مستوى
آخر كانت نظرتي الى أعماله في البداية نظرة استخفاف باعتبار أن ليس بها
جديد. وهي نظرة تغيّرت تماماً مع ملحمة الثلاثية التي جعلتني أتوقف أمام
أعماله باهتمام كبير، خصوصاً أنه بعد ذلك تزعم حركة التجريب في الرواية في
الوقت الذي كنا فيه نعلن تمردنا في الستينات ونسعى الى استكشاف مناطق
جديدة.. هذا الاستكشاف هو ميزة جيل الستينات لكن نجيب محفوظ كان قائد هذه
العملية لأن أعماله في الستينات كانت بحثاً عن طرق جديدة عبر المونولوج
الداخلي واستخدام لغات مختلفة مثل اللغة الصوفية كما في عدد من الروايات
على رأسها "حضرة المحترم". المهم هذا السعي كان إضافة مهمة وفتح عالم جديد
وريادة.
نجيب
محفوظ استطاع أن يقدم في أعماله الشخصية المصرية. وهو نفسه يمثلها بشكل
كبير، أقصد الشخصية المنتمية الى الطبقة الوسطى بشريحتها المتقدمة المتنورة
بمعنى أنها بحكم مصريتها وتاريخها السيكولوجي شخصية محافظة في عمقها. تتطلع
وتفهم.. وفي الوقت نفسه مكبلة في سلوكها اليومي بقيود المحافظة والاحتفاء
أو احترام السلطة.
وفي رواية
"حضرة المحترم" شخص علاقته بالوظيفة والسلطة تصل الى درجة التقديس. يعبر عن
ذلك بعبارات صوفية أو دينية. وفي النهاية يشعر البطل بالقرب من الموت وهو
يرى أنه خسر حياته. ففي بحثه عن المطلق أو المثال كان مكبلاً بقيود الوظيفة
أي الإخلاص للمجتمع البرجوازي. للطبقة المتوسطة المصرية المرتبطة بتاريخ
شعب معتمد على مياه النهر التي تنظم توزيعه سلطة مركزية. وهذا ما يفسر
التناقضات الموجودة في حياته. ففي الوقت الذي كان موظفاً تقليدياً سلوكه
الحياتي يخضع لهذا التوصيف، كتاباته كلها ضد أو تتمرد على هذه الصورة، أقصد
الكتابات الروائية بالتحديد، لأن له شكلاً آخر من المقالات والتعليقات
الصحافية (كان له عمود في الأهرام أسبوعياً يكتب فيه مقالات أقرب الى
موضوعات الإنشاء في المدارس وتدور حول مفاهيم عامة ولا تتضمن نقداً
للسلطة.. هذا قبل الحوارات التي نشرها محمد سلماوي). وهذه الكتابات تخضع
لجانبه الوظيفي الملتزم.
هذه
الشخصية تفسر موقفه من ثورة تموز (يوليو) وحنينه الى الماضي الليبرالي
الوفدي بل ومواقفه من الصراع العربي الإسرائيلي. وبشكل عام مثلاً كان يؤيد
السادات لكنه في رواية "يوم قتل الزعيم" يقول على لسان أحد شخصياته أنه (أي
السادات) كان خلطة من هتلر وشارلي شابلن. هذا التناقض هو ربما أحد أسرار
شخصيته.
الإضافة
الثانية هي لغته العربية التي استطاع نجيب محفوظ على مدى سنوات طويلة نحتها
بأسلوب خاص.. فهي سليمة على قواعد اللغة وفي الوقت نفسه عصرية. وهو في هذه
النقطة قدم حلولاً عبقرية لمشكلة الكلمات العامية في الحوار وهي مشكلة
خطيرة ليس فقط بالنسبة لنا بل لكتاب الرواية عموماً وقد تحدث ماركيز عن
هروبه منها واللجوء لفكرة الحوار. لكن نجيب محفوظ حاول أن يجعل الحوار
بسيطاً وفي الوقت نفسه يكون وفقاً للقواعد الكلاسيكية. في "ثرثرة.." يتكلم
البواب بفصحى تبررها الطريقة الصوفية.
هذا
ساعدني أنا شخصياً على اكتشاف إمكانية التجاوز بأن يكون هناك حوار بفصحى
بسيطة وكلمات عامية بسيطة في إطار بناء كلاسيكي.
ابراهيم
نصرالله.. مواقفه من القضية الفلسطينية
يظل نجيب
محفوظ حالة أكبر من أن نحيط بها، لأنه ظاهرة استثنائية في العطاء الروائي،
ولا يوجد اليوم في عالمنا العربي من عاصر وعاش كل تلك المراحل والتغيرات
التي عاشها نجيب محفوظ وكتب عنها، كما لا يوجد هناك من بين الروائيين من
تنوّع داخل تجربته إلى هذا الحد فنياً.
قد لا
يكون نجيب محفوظ من الذين أثروا كثيراً في تجربتي على صعيد كتاب الرواية،
لأن بدايتي لكتابة الرواية كانت في فترة شهدت منطقتنا العربية فيها
انفتاحاً هائلاً، لا مثيل له على الرواية في العالم، ولكنه كان لصيقاً
بحياتي في مرحلة القراءات الأولى مثله مثل بعض الكلاسيكيين الكبار: إميل
زولا وتشارلز ديكنز، ولذلك قد تكون بعض أعمال الروائييين والقصاصين
المصريين أكثر قرباً إلي من كثير من أعمال نجيب محفوظ، لكن ذلك لا يجعله
أقل تأثيراً في حياتي، لأنه وضع معايير أدبية جديدة ومتنوعة لم يستطع غيره
أن يحققها بهذا الزخم الكبير، بدءاً بالثلاثية ومروراً بـ (ثرثرة فوق
النيل) و(الحرافيش) و(أولاد حارتنا) وكثير من مجموعاته القصصية فائقة
الأصالة في تجديدها.
بصورة أو
بأخرى أجده مثالاً من الصعب تحققه، ونموذجاً فذاً، اذ يكفي ان نتذكر أنه
استطاع ان يكتب كل هذه الأعمال المتنوعة عن مصر وشعبها، ويكفي أن نتذكر حجم
إخلاصه للكتابة والتزامه بها خيار حياة، ويكفي أن ندرك أنه كان يعمل بكل ما
لديه غير منتظر شيئاً مقابل عمله سوى عمله نفسه، هذا العمل الفني الذي إن
لم يوجد فلا شيء سيوجد، لأنه الدليل الوحيد على وجود الكاتب، يكفي أن نتذكر
ذلك كله لندرك أننا أمام حالة استثنائية.
لكن الشيء
الذي يعذب حبي وتقديري لهذه الشخصية الفذة، أنها، وهي التي أدركت أدق وأعمق
ما في تاريخ مصر، وكان صاحبة رؤى عظيمة وهي تقرأ هذا التاريخ، يعذب هذا
الحب وهذا التقدير أن رؤاه ظلت تتعثر كلما أدلى بدلوه في أخطر قضايا العرب،
وأعني قضية فلسطين، التي لم يعاصرها أحد مثله، ورغم كونها قضية كبرى فهمها
كثير من كتاب العالم الشرفاء، البعيدين عن هذه المنطقة جغرافياً وثقافياً،
من هم بمستوى نجيب محفوظ، ومن هم أقل منه سطوعاً، إلا أن مواقفه الوجِلة،
لم تكن تليق بكاتب مثله، فمواقف كهذه يمكن أن يمارسها رجل من الطبقة الوسطى
في احدى رواياته خوفاً على مصدر رزقه مثلاً.
أما على
مستوى الكتابة فقد قدم لي الدرس الأكبر، فلكي تكون كاتباً عليك أن تعطي
الكتابة وأن تلتزم بمواعيدها، ولذلك تحولت دقته هنا إلى طريق أسلكه منذ
أكثر من عشرين عاماً والتزم به، فللكتابة وقتها المقدس الذي تحتاجه ولا
تستطيع أن تخلص لها بنصف قلبك أو بربع هذا القلب.
سيرة
وأعمال
·
ولد نجيب محفوظ في 11 ديسمبر 1911
·
حصل على ليسانس الآداب قسم الفلسفة عام 1934
·
أمضى طفولته في حي الجمالية حيث ولد، ثم انتقل الى العباسية والحسين
والغورية، وهي أحياء القاهرة القديمة التي أثارت اهتمامه في أعماله الأدبية
وفي حياته الخاصة.
·
حصل على إجازة في الفلسفة عام 1934 وأثناء إعداده لرسالة الماجستير وقع
فريسة لصراع حاد بين متابعة دراسة الفلسفة وميله الى الأدب الذي نمى في
السنوات الأخيرة لتخصصه بعد قراءة العقاد وطه حسين.
·
تقلد منذ عام 1959 حتى إحالته على المعاش عام 1971 عدة مناصب حيث عمل
مديراً للرقابة على المصنفات الفنية ثم مديراً "لمؤسسة دعم السينما ورئيساً
لمجلس إدارتها ثم رئيساً لمؤسسة السينما ثم مستشاراً لوزير الثقافة لشؤون
السينما.
·
بدأ كتابة القصة القصيرة عام 1936. وانصرف
الى العمل الأدبي بصورة شبه دائمة بعد التحاقه في الوظيفة العامة.
·
عمل في عدد من الوظائف الرسمية، ونشر رواياته الأولى عن التاريخ الفرعوني.
ولكن موهبته ستتجلى في ثلاثيته الشهيرة: "بين القصرين"، "وقصر الشوق"،
و"السكرية" التي انتهى من كتابتها عام 1952 ولم يتسنى له نشرها قبل العام
1956 نظراً لضخامة حجمها.
·
هو عضو المجلس الأعلى للثقافة والمجلس الفومي
للثقافة، نال وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى، ونال جائزة نوبل للأدب سنة
1989.
·
نقل نجيب محفوظ في أعماله حياة الطبقة المتوسطة في أحياء القاهرة، فعبر عن
همومها وأحلامها، وعكس قلقها وتوجساتها حيال القضايا المصيرية. كما صوّر
حياة الأسرة المصرية في علاقاتها الداخلية وامتداد هذه العلاقات في
المجتمع. ولكن هذه الأعمال التي اتسمت بالواقعية الحية لم تلبث أن اتخذت
طابعاً رمزياً كما في رواياته "أولاد حارتنا" و"الحرافيش" و"رحلة ابن فطومة".
·
بين عامي 1952 و1959 كتب عدداً من السيناريوهات للسينما. ولم تكن هذه
السيناريوهات تتصل بأعماله الروائية التي سيتحول عدد منها الى الشاشة في
فترة متأخرة. ومن هذه الأعمال "بداية ونهاية" و"الثلاثية" و"ثرثرة فوق
النيل" و"اللص والكلاب" و"الطريق".
·
صدر له ما يقارب الخمسين مؤلفاً من الروايات
والمجموعات القصصية.
·
ترجمت
معظم أعماله الى 33 لغة في العالم. منها على سبيل المثال لا الحصر:
1.
"عبث الأقدار"، 1939
2.
"رادوبيس"، 1943
3.
"كفاح طيبة"، 1944
4.
"القاهرة الجديدة"، 1945
5.
"خان الخليلي"، 1946
6.
"زقاق المدق" 1947
7.
"همس الجنون"، 1947
8.
"بداية ونهاية"، 1950
9.
"بين القصرين" 1956
10.
"قصر الشوق" 1956
11.
"السكرية" 1957
12.
"اللص والكلاب"، 1961
13.
"السمان والخريف"، 1962
14.
"دنيا الله"، 1962
15.
"الطريق"، 1964
16.
"الشحاذ"، 1965
17.
"بيت سيئ السمعة" 1965
18.
"ثرثرة فوق النيل"، 1966
19.
"أولاد حارتنا" (1959)
20.
"ميرامار"، 1968
21.
"تحت المظلة"، 1969
22.
"خمارة القط الأسود"، 1969
23.
"حكاية بلا بداية ونهاية"، 1971
24.
"شهر العسل"، 1971
25.
"المرايا"، 1972
26.
"الحب تحت المطر" 1973
27.
"الجريمة" 1973
28.
"الكرنك" 1974
29.
"حكايات حارتنا" 1975
30.
"قلب الليل" 1975
31.
"حضرة المحترم" 1975
32.
"ملحمة الحرافيش"، 1977
33.
"الشيطان"... 1979
34.
" اصداء السيرة الذاتية"، 1996
35.
"حديث الصباح والمساء"، 1987
36.
"الفجر الكاذب" 1989
37.
"قشتمر" 1988
·
تم اقتباس أكثر من 46 رواية وقصة له الى السينما والتلفزيون منها على سبيل
المثال: "الوحش" (1954)، "درب المهابيل" (1955)، "بين السماء والأرض"
(1959)، "زقاق المدق" (1963)، "الطريق"، (1964)، "ثرثرة فوق النيل" (1971)،
"الكرنك" (1975)، "وكالة البلح" (1982)، "الحب فوق هضبة الهرم" (1986)،
"نور العيون"، (1991) وغيرها من الأفلام...
·
عام 1994، تعرض الى محاولة اغتيال على يد أحد المتشددين الإسلاميين الذين
أغضبتهم فكرة إعادة طباعة كتابه "أولاد حارتنا" التي صور فيها محفوظ الله
في إطار انتقادي. وعلى اثر المحاولة، اصيب بشلل في يده اليمنى واستلزمه
الأمر شهوراً طويلة ليعود الى استخدام القلم والكتابة من جديد.
·
"توفي نجيب محفوظ الأربعاء 30 آب فجراً في
احد مستشفيات القاهرة عن عمر يناهز 95 عاماً.
|
رحيل نجيب محفوظ عميد الرواية العربية ومؤسسها ومفتتح فضاءاتها المعاصرة
(2)
تقمص معظم جيل الروائيين بعده شهوة الإضافة إلى المشهد
الروائي العربي
بيروت:
القسم الثقافي /عمان ـ رام الله: موسى برهومة ـ دمشق: عمر كوش /مكتب
القاهرة
رحل
الروائي المصري الكبير نجيب محفوظ عن عمر يناهز الخامسة والتسعين، مخلّفاً
وراءَه معمارية شاهقة من الكتابة الروائية والقصصية، التي أسست للرواية
العربية المعاصرة، وافتتحت، ربما للمرة الأولى، آفاقاً جديدة خصبة لها،
تتنوع في لغتها، وفي سياقها، وفي أمكنتها، وفي كلاسيكيتها ولا سيما في
تجربتها.
رحل صاحب "الثلاثية" و"أولاد حارتنا" و"زقاق المدق" و"الحرافيش" و"خان
الخليلي" و"اللص والكلاب" و"حب تحت المطر" ، الذي عبّر بعمق وشفافية عن
تحولات قرن كامل في مصر، تحولات سياسية واجتماعية وثقافية...
هنا
شهادات لحوالي 25 كاتباً وناقداً عربياً في حلقات.
نشرنا أمس
مجموعة من الشهادات والآراء، وهنا مجموعة أخرى من العالم العربي
قاسم حداد:
درس السرد السابق
يبقى أن
نرى الى تجربة نجيب محفوظ، قبل كل شيء، بصفتها النص الذي يكتمل بين أيدينا،
يكتمل يوماً بعد يوم، فيما يكف عن كونه مستقبلاً.
بهذا
المعنى أحب أن أرجع الى نص نجيب محفوظ، الذي تدربنا في شرفته على النظر الى
المستقبل بطريقتنا، حيث السرد العربي، في نص محفوظ، يتأهب لإنجاز الانعطاف
النوعي في السرد العربي منذ الجاحظ ورفاقه الأجلاء. مما يفيد الآن الى وضوح
الرؤية لمن يريد أن يعتبر نص محفوظ تحولاً يختتم طريقة واحدة للسرد، ليس من
المنتظر (تاريخياً وإبداعياً) أن تستمر في السرد اللاحق، بنفس شروطها التي
وصلت الذروة كمشروع (يكتمل قبل حين).
في منتصف
السبعينات، كتب الناقد المصري عبد الرحمن أبو عوف، إذا لم تخذلني الذاكرة
الخائنة، في كتاب نقدي له عن نجيب محفوظ طرح فيه سؤالاً جوهرياً، وفتح
الأفق أمام الجواب عليه.
كان يسأل
ما إذا كانت تجربة نجيب محفوظ الروائية قد شكلت حجر عثرة في طريق العديد من
الروائيين المصريين. بسبب الهيمنة الفنية التي حققتها التجربة. وما إذا
كانت هذه التجربة قد تحولت، بسبب رحابتها وتغلغلها في البنية الذهنية
والفنية والاجتماعية للمجتمع المصري والثقافة المصرية، الى حكم قيمة مسبق
على كل المحاولات الروائية التي جاءت بعد محفوظ، خصوصاً وهو الروائي الذي
تمكنت أعماله، بدرجات متفاوتة، من حجب أسماء وروايات مهمة عاصرته منذ
الخمسينات حتى السبعينيات. وهي الأسماء التي سيحتاج المرء بعض الجهد
لتذكرها واستعادتها لفرط الهيمنة المحفوظية على مشهد الرواية المصرية.
أقول، هل
سيشكل محفوظ، (استطراداً لسؤال عبد الرحمن أبو عوف) حجباً إضافياً مستمراً
لبعض التجارب الروائية اللاحقة من جيل التسينات حتى اليوم، بسبب يختلف في
النوع دون أن يختلف في الدرجة، عن لحظة الجيل السابق؟
لقد اشتغل
النقد الأدبي، في حقل الرواية، في مصر خصوصاً، على تكريس قيمة نقدية وضعت
تجربة محفوظ حدوداً لها، تشبه حدود النفي والإثبات.
الأمر
الذي رشح العديد من تجارب الجيل الجديد من الروائيين (في مصر وغيرها) لأن
تتهيأ لإخفاق تحقيق أي إنجاز نوعي في حقل السرد الروائي.
وبحكم
العادة (التي هي كالعبادة كما يقول المثل العربي) تقمص معظم جيل الروائيين
بعد محفوظ، شهوة الإضافة الى المشهد الروائي العربي، صور (جديدة) من تجربة
نجيب محفوظ، خضوعاً للوهم الذي عممته وكرسته الفعاليات النقدية على امتداد
الثقافة العربية في هذا الحقل، والذي مفاده: أنك إذا أردت أن تذهب الى
الرواية سيتحتم عليك عبور هذه البوابة الكبيرة التي اسمها نجيب محفوظ.
وعندما لا
نقلل من أهمية تجربة نجيب محفوظ، سوف نشعر بأن كل ذلك التكريس النقدي الذي
صدر معظمه من التقدير الجليل الذي تستحقه تجربة محفوظ، قد أدى، من حيث لا
يريد الكثيرون، الى تحويل نص محفوظ الى قانون الثبات، فيما نتوقع أن يكون
افقاً لانطلاق السرد الجديد في سياق الكتابة العربية.
وسوف تأتي
جائزة نوبل لتضم أمام الجميع حقيقة أن ما كنا نقوله عن هذه البوابة قد تأكد
لكم الآن. فالرواية هي أن تمر من هنا.
ولا يتأخر
الكثيرون عن مجابهة سؤال عبد الرحمن عوف القديم، (نقضاً أو تقمصا) خصوصاً
في السرد المصري الراهن، خضوعاً للوهم ذاته، في المشهد الروائي على
الجانبين: مدرسة نجيب محفوظ والمعجبين والمتفقين مع أسلوبه.
ومدرسة
التحديث الروائي وتجديد السرد المختلفين مع أسلوبه.
أخشى أن
كلا الاتجاهين قد تعثر بتجربة محفوظ بشكل أو بآخر. مما فوت على العديد من
الفرص الإبداعية التي يمكن أن تحقق بها تجربة محفوظ درساً نوعياً وهي تسعف
المواهب الجديدة (لو أنها تحررت) كمنطلقة الى الإضافة الخاصة في النص
السردي العربي. الا ما الذي يفسر لنا ظاهرتين نصادفها ونحن في لحظة الرواية
الراهنة:
الأولى:
ندرة النص الروائي العربي اللافت والجديد.
الثانية:
النزوع القوي لدينا للرواية الواردة من الكتابة غير العربية.
إن
الأساتذة والرواد لا يصبحون كذلك، الا إذا اتيحت لتجاربهم حرية التحقق
والتجلي بأساليب وأشكال جديدة ومختلفة وحرة ومغايرة، بحيث لا يكون الدرس
السابق حاضراً الا بصفته ذاكرة ترصد وترفد الأجيال اللاحقة، وليس بتكريسها
حكم قيمة وحدود لازمة للتجارب الجديدة.
بهذا
المعنى، سوف نقترح، (فيما نتأكد دائماً، من الفعل والدور التأسيسيين لتجربة
محفوظ وهي تنجز أول أهم التحولات النوعية للسرد العربي منذ قرون النثر
العربي الأولى)، أن السرد العربي بعد نجيب محفوظ، لا بد له أن يختلف
رؤيوياً وفنياً بشكل جذري حاسم وصارم، متميزاً بوعي ومعرفة عميقين بأن
البناء الشاهق الذي شيده نجيب محفوظ يستحق التكريم الحقيقي المتمثل في
تأسيس جديد لبناء سردي مختلف، لا يضاهي السرد السابق فحسب، ولكن بتجاوزه
بالثقة والإبداعي الجديرين برؤية كونية يستحقها المبدع العربي وهو يصقل
تراث مستقبله بالأحجار الكريمة التي يكتنز بها تراث تاريخه الأدبي الكثيف
فناً وفكراً.
وظني أن
درس السرد الذي اقترحه نجيب محفوظ علينا سوف يبدأ في التجلي، عندما تتمكن
الرواية العربية من الانتقال الجذري من الخضوع لوهم الواقعية الطويلة، الى
حلم المخيلة النشيطة.
ومهما يكن
الأمر، فان نجيب محفوظ عبقرية عربية اسلامية عالمية.. يقدرها العالمون
قدرها، ويقع دون ذلك ا لجاهلون.
رشاد
أبو شاور: المؤسس الحقيقي للرواية العربية
هو
الروائي العربي الأكبر، والأهم، والأعظم حتى يومنا.
قرأت
ثلاثيته في وقت مبكر، فتعلقت به، وصرت مواطناً في (حارته) الفسيحة جداً،
والتي تبدأ من القاهرة، ولا تنتهي في مكان، لأنها حارة الإنسان، بكل جوانب
حياته، وتعقيداتها... هو مؤسس الرواية العربية الحديثة، ومطورها، ورافع
مداميكها، ولذا أحسب أن روائياً في عصرنا لا يشبهه، ذلك أن الرواية وجدت،
وتطورت في أوروبا عبر زمن ممتد، بينما عندنا نحن العرب، ما يزال مؤسسها
الحقيقي، ومطورها المغامر فاتح الآفاق.. حياً يرزق!... منذ (تاريخياته)
مروراً (بواقعياته) و(رمزياته)، ومن ثم روايته الشرقية الروح، والبناء
المعماري (الحرافيش، ليالي ألف ليلة، رحلة ابن فطومة...) وهو لا يكف عن
التجديد، والإبداع حتى صار وحده مراحل أدبية اختصرت في مبدع واحد.
جمعتني به
سهرة في مقهى (ريش)، وكنا ثلاثة أصدقاء: الشاعر أمل دنقل، والشاعر أحمد
دحبور، وأنا، ثم وفد آخرون...
دار نقاش
حول أعماله، وأذكر أننا تطرقنا الى كتاب الناقد جورج طرابيشي (الله في رحلة
نجيب محفوظ).
سألته إن
كان قد سمع بما كتبه عنه الصديق محمود موعد، فأجاب بأنه قرأ تلك الرسالة ـ
هي رسالة دكتوراه من جامعة السوربون ـ بفرنسيته المتواضعة!.
كان يصغي
بلطف، وتواضع، ويرسم ابتسامة رضى.
نعم، كنت
أشعر بالرهبة في حضرته، وهو لشدة فطنته شجعني على الحديث، وطرح أفكاري...
بعد دقائق
من جلوسنا معه، أنا وأحمد ـ أمل تربطه به علاقة حميمة ـ اندمجنا في (الجو)،
وتبادلنا معه الطرائف، وكان يضحك ضحكات ابن بلد أصيل، ببساطة، وتلقائية.
متى كان
ذلك بالضبط؟!
لا أدري،
ولكنني لا أنسى تلك الجلسة، وسعدت لأن الأستاذ نجيب محفوظ افتقدني في اليوم
التالي عندما التقيت بأحمد وأمل، وكنت قد انشغلت في زيارة بعض الأصدقاء.
أذكر أننا
ذات يوم، وأنا وأحمد دحبور كنا نتسكع في شارع (سليمان)، متجهين الى مكتبة (مدبولي)
في ميدان طلعت حرب، فرأينا الأستاذ نجيب يقف على ناصية الشارع، وهو يتأمل
حركة الناس، وملامحهم...
توقفنا،
وأخذنا نتأمله دون أن ينتبه. أذكر أنني قلت لأحمد بلهجتنا المحلية جداً نحن
أبناء قرى الخليل:
يا أحمد،
(والله غير يلدعها)، أراهنك...
ذات يوم
ونحن في تونس، وفي وقت مبكر جداً اتصل بي أحمد دحبور، وجاءني صوته على
الهاتف:
ـ نجيب
محفوظ...
ولم يكمل،
فحصت فزعاً:
ـ يا
لطيف!...
هدهد
مخاوفي:
ـ أين ذهب
فكرك؟ نجيب محفوظ لدعها!..
ـ لدعها؟
تساءلت
فأبدى
دهشته، وفاجأني:
ـ ألم
تتنبأ بأنه سيلدعها.. لقد لدع (نوبل) يا رشاد!
نعم فرحت،
ولم أخف فرحي، فهو أكبر من كثيرين منحت لهم (نوبل). صحيح أن ظروفاً سياسية
تدخلت، ولكن ألم تكن الظروف الموانع السياسية هي التي حالت دون منحها لها،
ولبعض العرب الكبار؟!.
لما كتب
(الكرنك) لم أنتقده، رغم ناصريتي، فأنا أرى بأن الكتابة هي نقد، وتغيير،
ومنافحة عن كرامة الإنسان.
لم تتغير
نظرتي لنجيب محفوظ عندما كتب أمام العرش وقلل فيها من شأن القائد جمال عبد
الناصر، فذلك عمل فني متواضع، وليس له مكان بين أعماله الكبيرة.
ولأنه
مبدع ناقد فقد كتب (يوم قتل الزعيم) التي هجا فيها زمن الانفتاح، وكل ما
جلبه السادات وعصره على مصر..
نجيب
محفوظ قاص كبير، وهو كتب القصة الطويلة والقصة القصيرة، والقصة المركزة
القصيرة جداً والتي بالكاد تبلغ المائة كلمة.
نجيب
محفوظ!...
كيف أحيط
بعالمه المترامي، الرائي، والقصصي.. بجمل قليلة؟!...
إنه
الأقرب الأكبر، والأعظم، وإنني كروائي، وقاص.. أشكره على كل ما قدم، وخلافي
معه في السياسة لا يقلل أبداً من قيمته في نظري.
فاروق
عبد القادر: العاجز عن التوقف
نتكلم
اليوم عن نجيب محفوظ عبد العزيز ابراهيم احمد الباشا.. السبيلجي!!
اسمه
الرسمي يقف عند الباشا. والاسم المعروف في حواري الجمالية والعباسية هو:
السبيلجي أي ناظر السبيل. ولو عدت الى رواية "حديث الصباح والمساء" ستجدها
تبدأ بأخين: داود وعزيز يلعبان في حواري الغورية. أو عندما أتى عسكر محمد
علي الكبير ليقتنصوا الصبيان من الشوارع ليدخلوا المدارس أمسكوا بواحد هو
داوود الذي تعلم الطب وأصبح باشا.. وهرب عزيز ليصبح هو "سبيلجي" بين
القصرين. وأرجح أنه جد نجيب محفوظ.
في نفس
الرواية اعتقد أن "راضية" هي الأقرب الى أم نجيب محفوظ التي عاشت حتى سن
المئة. ولعبت دوراً مؤكداً في تكوين شخصيته. فبالرغم من انها كانت أمية،
كانت مخزناً لكل عناصر الثقافة الشعبية التي من الممكن ان تتضمن السحر
والاولياء والقديسين. وكانت تأخذ نجيب لزيارة الكنائس والمساجد والمتحف
المصري. ثلاثة عناصر كونت ثقافة نجيب. وهذه السيدة الأمية هي التي فتحت
أمامه العناصر الثلاثة.
هذا
ناحية.. لكن ما يهمني بالنسبة لنجيب هو علاقته بعملية الكتابة. لا بد هنا
ان نشير الى عملية تحديد مواعيد صارمة للقراءة والكتابة. وهي مسألة لم
أعرفها عند كتاب آخرين. كان من المعروف عنه انه منذ توظف أولاً في مكتبة
جامعة القاهرة بعد توسط قريب له فقد كانت أيام بطالة... وحتى فترة الوظيفة
الأساسية في وزارة الأوقاف التي عينه فيها استاذه مصطفى عبد الرازق وظل
يعمل بها حتى 1952.
اذن هو
موظف حكومي في مصلحة حكومية عليه أن يؤدي عمله فيها.. وشهادة ممن زاملوه
تقطع أنه موظف نموذجي يحضر قبل الموعد ويغادر بعد انتهاء الدوام. وفي الوقت
نفسه لم يكن معنياً بما يعنى به الموظفون في العادة (الترقي ـ الدرجات ـ
الخ) لكنه كان ملتزماً شروط الوظيفة حتى ينتهي منها عند نهاية ساعة العمل.
وأظن انه قال إن الوظيفة حمتني من الضياع. لأنه لم يكن في اعتباره انه
سيكسب أي شيء من كتابته.. فعليه ان يكتفي في حياته بمرتبه من العمل
الحكومي. ولم يكن هناك مصدر للحياة الا دخل العمل الحكومي. وهذا سر التزامه
به هذا الالتزام الملفت.
نأتي بعد
ذلك الى ما بين الخامسة بعد الظهر الى العاشرة مساء وهذا هو الموعد المحدد
للقراءة والكتابة. حافظ على هذا النظام الصارم 5 ساعات في اليوم 5 أيام في
الأسبوع 8 أشهر في السنة (الاستثناء هي شهور الصيف التي كان يمتنع فيها عن
القراءة بسبب حساسية عينيه). هكذا كانت علاقته بالكتابة لا تقوم على انتظار
وحي او الهام يأتي في وقت من الأوقات. لكنه جهد ارادي. اتكلم عن عملية
الكتابة نفسها. فالملفت مثلاً ان نجيب في مذكراته يتكلم عن علاقته
بالمخدرات وبشكل خاص الحشيش وقال انه كان طوال الوقت صديق المصريين يعينهم
على احتمال مشقات حياتهم ويعطي لهم لحظات من السعادة والانتشاء.
هذه
العلاقة كانت صارمة لأنه فور أن يجلس على المكتب لا يتعامل مع أي شيء حتى
القهوة والشاي. فالكتابة بالنسبة له عملية احتشاد بوعي كامل.
وكانت هي
بالفعل معنى حياته. أو المعنى الذي اختاره لحياته أو الدليل الذي لا يمكن
نقضه هي أنه رغم كل ما يلقى من عناء غير انساني بعد حادثة تعرضه للاغتيال
(1994) وحتى الآن وعندما عجزت يده اليمنى عن الكتابة اصر على العلاج
الطبيعي حتى يعود الى الكتابة رغم انه تقريباً أصبح عاجزاً عن قراءة ما
يكتبه.. لماذا هذا الحرص والكتابة لن تضيف اليه شيئاً؟! لماذا يصر علي
الكتابة وقد أصيبت حواسه جميعاً على هذا النحو؟
ببساطة
الكتابة هي معنى حياته. لا تنفصل عنه. وبالتالي ليست سلعة موجودة خارجة
يسعى لبيعها. وهذا معناه انه لا يكتب تحقيقا لهدف آني. ولا يتعامل مع
اعماله باعتبارها سلعاً في سوق. هي حقيقته. هي تعيينه لنفسه.
تأسيساً
على هذا وأنا كواحد من متابعيه لا ألقي بالاً لما يكتبه خارج الشكل الفني.
كل كتابة خارج الشكل الابداعي لا تعنيني كثيراً في تقييم نجيب محفوظ. هذا
معنى الكتابة في عالمه. وبالتالي انا متعاطف بعمق مع عجزه عن التوقف. ولأنه
حدد ذاته في الكتابة فالنظرة من أعلى للابداع العربي تؤكد شموخ ما انجزه
نجيب محفوظ. بدون تردد ولا مبالغة. كل من يستعرض الابداع الفني يخرج بنتيجة
واحدة وهي ان نجيب محفوظ أسس الرواية العربية. وان كل الروائيين التاليين
عليه مدينون له بشكل أو بآخر. وأنا لا أنسى ما قاله عبد الرحمن منيف. لم
يكن ممكناً ان أكتب ما كتبت لولا سبق نجيب محفوظ. وما يقوله منيف يقوله
آخرون.
ونجيب منذ
المرحلة التالية لمحاولته كتابة التاريخ المصري بالرواية.. ومنذ "القاهرة
الجديدة" كان ينشر في كل عام رواية.. كان فيها متابعاً لتحولات الواقع.
لأنه كان يعيش وسط الناس. لكنه منذ نهاية الثمانينات والتسعينات وحتى الآن
تلخصها جملها قالها احد ابطال روايته "صباح الورد": ".. الذاكرة هي النعمة
الباقية.." فعندما عجزت حواس نجيب عن الاستمرار في معرفة تفاصيل الواقع
كمادة لإبداعه، استعاض عنها بالذاكرة. وأعماله الأخيرة تتحرك من داخل الذات
بعد أن أصبحت العلاقة بالواقع الخارجي شديدة الوهن. واقتصرت على ما يبلغه
من المحيطين به. وانتفت منها المعرفة المباشرة. وبالضرورة ما يبلغه ناقص
وغير محايد. وبالتالي يأخذ من مخزون الذاكرة صوراً وشخصيات، واحلاماً ورؤى.
وهذا قوام عمله حتى الآن بعد مجموعة "القرار الأخير" (1996) وقبلها "اصداء
السيرة الذاتية" بعدها ليس الا احلام فترة النقاهة وهو ما يؤكد ان الداخل
هو الذي أصبح مصدر الابداع.
مرة أخيرة
انا متعاطف مع عجز نجيب محفوظ عن التوقف عن الكتابة.
نهاد
سيريس(*) أصداء السيرة الذاتية
لم يكن
نجيب محفوظ غريباً عني حين وعيت الى عالم الكتب فكأن القراءة يجب أن تبدأ
بالضرورة بقراءة نجيب محفوظ، وكأن الطريق الى سحر الرواية يبدأ من رواياته.
بالاقتراب منه تعرفت على عالم الرواية الواسع وقد كانت "بداية ونهاية"
الكتاب الأول لنجيب محفوظ وكذلك الرواية الأولى التي وضعتني على طريق
الأدب، أما آخر كتاب قرأته له فقد كان "أصداء السيرة الذاتية".
مثل أي
قارئ كنت أبحث في ثنايا رواياته عن سيرته، فكما يقولون، يضع الروائي سيرته
الذاتية في أعماله ولكنه يسعى في الوقت نفسه الى تمويهها، خصوصاً إذا ما
كان ذا خيال غني مثله. لقد كتب الرواية الكلاسيكية المسترسلة وأثر في أجيال
من الروائيين، إلا أنه سرعان ما انفك من أسر ذلك النوع من الكتابة الروائية
ليبدأ رحلة مدهشة في صناعة الرواية عبر التجريب وبالضبط عبر الاقتصاد في
اللغة.
أصبحت
جملته مختصرة ومكثفة وجمله الحوارية قصيرة، وكان قد انتقل الى الترميز ليضع
"أولاد حارتنا" و"ملحمة الحرافيش" ولكنه جمع الترميز بالاقتصاد اللغوي حين
كتب سيرته فكانت "أصداء السيرة الذاتية".
لم يكتب
سيرته كما يفعل الآخرون. لم يجزئها الى فصول ولم يصنفها حسب مراحل سنين
عمره التي تجاوزت التسعين. آثر ألا يرافقنا في جدول عمره الهادئ ظاهراً
المفعهم بالثورة داخلاً الذي لا يخلو من منعطفات حادة، بل إنه رغب في تقديم
سيرته عبر لوحات، ولنقل قصص قصيرة، وفي بعض الأحيان لا يتجاوز طولها
السطرين. عبر مئتي قصة وحوارية لم يقل "أنا" بل قال "هو" ليلقي الضوء على
ما قد بقي في ذاكرته أو ما صنعها وما صنع فلسفته وعالمه الروائي. لم يعد
يهتم للكلام الزائد عن اللزوم، بل يمكن القول انه لم يعد يهتم بالسلاسل
التي تربط الحلقات في ما بينها جاعلاً إياها بلا أي فائدة. أرادنا أن نتعرف
على تلك الحلقات معزولة عن سياق عمره ولكنها، في الآن ذاته، ستسلط الضوء
على ما كان يقلقه ككاتب وعلى طفولته، وفلسفته عن الزمن والتحول والمصير.
هنا يكمن القصد، أن يقدم لنا تأملاته في الزمن الذي عاشه بعد أن أصبح في
نهاياته. لا يريد أن يحشو سيرته بالأحداث اليومية الممجوجة أو بوصف بيئته
التي عاش فيها كل مراحل حياته فقد سبق وفعل ذلك في رواياته الكثيرة، بل أنه
أراد أن يمنحنا لذة تذوق الزبدة التي صنع منها وجباته فائقة الدسم.
في تلك
القطعة التي عنونها بـ"المنشود" والتي لم تتجاوز الأربعة أسطر يبدأ بـ"في
غمار شيخوخة وعزلة وأفكار يقطر منها ماء الورد" وكأنه يصف بهذه الجملة
الشهية حاله حين جلس يكتب سيرته. إنها الشيخوخة إذن، ولكنها أيضاً العزلة
المصاحبة لها حيث الأفكار والتأمل في الخلق والزمن وكأن ذلك خلاصة رحيق
الأزهار. هذا الرحيق الذي يمثل الحكمة والفلسفة وفهم سر الإنسان والكون.
ربما يعبر أيضاً عن الرغبة والتصالح مع الحياة التي تمور في النفوس رافضة
السكون فالموت.
لنكمل
قطعة "المنشود" فيقول: في غمار شيخوخة وعزلة إلخ: "ترددت أنفاس الوعد
المنشود. ودُقّ الجرس على غير توقع وجاءت الجارة مستأذنة، واندمجت فيما أنا
مندمج فيه حتى آمنت بأنها الوعد المنشود".
أصداء
السيرة هي تأملات في الحياة، تأملات شيخ عجوز سافر في الحياة ولم يكن سفره
سياحة وفرجة بل كان سفراً استكشافياً وفي العمق. إنه يجلس الآن يتمعن فيها،
يجلس في عزلته بعد أن انحنى ظهره وتقلّص جسده وخبا بصره لتنفتح عليه مصاريع
الذاكرة، ولكن، أي ذاكرة.
يقول بطله
المزعوم في قطعة أخرى بعد أن عاش تجربة صغيرة لا يمكن أخذها بالبال "ومنذ
تلك اللحظة وأنا أحوم بروحي حول سر الحياة" فكل تجربة كانت تقرّبه من
فلسفته ولكي نعرف ما يقصده بسر الحياة دعنا نقرأ بعض نصوص أصداء السيرة. في
نص "التلقين" يصف لنا كيف أنه جلس في السرادق ينتظر تشييع جنازة ما إلا أن
الذكريات قادته الى الزمن الذي مضى حين كان رجال ذلك العهد أشداء وأقوياء.
أما الآن فهم شيوخ ضائعون لا يذكرهم أحد. يقول عن خلفائهم أنهم "جاؤوا
تنحني الأرض تحت وطأة أقدامهم. تقول نظراتهم الثابتة أنهم ملكوا الأرض
والزمن. أخيراً، هلّ النعش فوق الأعناق فتخطى الجميع وذهب".
في نص
آخر، يجد صورة تجمع أفراد أسرته وأخرى جامعة للأصدقاء فيجلس يتمعن في
الصورتين. يجد أن كل الوجوه مشرقة وتنطق بالحياة. يقول "ولا إشارة ولو
خفيفة الى ما يخبئه الغيب، وها هم قد رحلوا جميعاً فلم يبق منهم أحد. فمن
يستطيع أن يثبت أن السعادة كانت واقعاً حياً، لا حلماً ولا وهماً".
في
الحقيقة يشغله هذا الأمر كثيراً، يشغله الإنسان في تحوله، في قوته وجبروته
ومن ثم في ضعفه وانهزامه ومن ثم موته. يتساءل باستمرار عن السعادة والرفاه
الذي عاش الإنسان في كنفهما ثم زال كل شيء. فهل كل هذا لم يكن سوى وهم؟ ما
فائدة الجبروت إذا كان المتجبر سيهرم ويشيخ وسينساه الناس ثم سيحمل على نعش
الى مثواه الأخير؟
ويذكر
حادثة أخرى تعود الى أيام الطفولة. مرة، كانوا جماعة من التلاميذ تقف في
محطة القطارات محتارين الى أين يمضون. كان هناك قطاران، أحدهما يسافر الى
القناطر الخيرية وهي جهة آمنة ومعروفة، بينما القطار الثاني سيسافر الى جهة
مجهولة دعاه بقطار المفاجآت. اختلف التلاميذ، هل يسافرون الى المجهول حيث
تنتظرهم المفاجآت أم إلى القناطر الخيرية حيث ينتظرهم المعلوم والمعروف
والآمن. لم تتفق الجماعة فـ "ذهبت كثرة الى قطار القناطر، وقلة جرت وراء
المجهول"، الا أن الانسان عنده حالة فريدة أكثر، فيروي في نص آخر قصته مع
أحد أصدقاء الزمن الأول الذين وصلوا الى بر الأمان، ويقصد انه جمع المال
الوفير ليرد عنه وعن عائلته وعن أولاد أولاده مذلة السؤال فنصحه أن يخلد
الى الراحة في الأيام القليلة الباقية، فسأله صديقه "هل تذكر أيامنا
الطاهرة في الزمان الأول؟" فقال صديقه "ذاك زمان قد مضى وانقضى" فقال
الصديق بنبرة اعتراف "يا صديقي الوحيد، في عز النصب والرخاء، كثيراً ما
بكيت الكرامة الضائعة".
يستمر
نجيب محفوظ في اصداء سيرته متأملاً الانسان في مصيره والحياة في غموضها،
ومرة أخرى نعثر على احدى مقولاته عن الشيخوخة والتأمل فـ "في عزلة الشيخوخة
وعجزها ينتشر التأمل مثل عبير البخور" كما يقول. ينفتح باب الأحلام الأثيرة
الى قلبه فلا ننسى ان له مجموعة كاملة نشرها في زمن متأخر (1982) بعنوان
ملفت "رأيت فيما يرى النائم".
تتكرر
القصص التي يبدأها محفوظ بهذه الكلمات الأثيرة على قلبه "رأيت... في
المنام". بالحلم يتمكن من جمع الواقع بغرائبياته دون أن يلمح الى ذلك،
ايضاً بالحلم يلتقي بالموتى من أقاربه أو بالناس الذين كان لهم شأن في
سيرته. الحلم، الجنون، والموت برع محفوظ في استحضارها لما كان لها من عظيم
اثر في تأملاته. في احد هذه النصوص يرى "الست نفوسة" في المنام ـ لاحظوا
معي كيف أن الاسم والصفة يختصران عشرات المعاني في هاتين الكلمتين "الست
نفوسة" ـ رآها اذن في المنام فقد جاءت اليه بعد سبعين عاماً، تذكر كيف كانت
طلعتها بهية وبشرتها نضرة وشعرها غزيراً.. قال يخاطبها "لم يبق من الحلم
إلا وجهكِ"، ثم تساءل: ترى أما زالت على قيد الحياة! ويستطرد منهياً قطعته
الصغيرة بطريقة مدهشة "أما وقائع الحلم فقد تلاشت بعد استيقاظي مباشرة"
ليحول تلك الأسطر الإخبارية القليلة الى قصة.
ولكن
الأحلام عند محفوظ قد تتحول الى كابوس مصيري فلسفي، فقد تحدث في لوحة أخرى
عن حلم وهو خارج من حمام السلطان وإذ بجارية تتعرض له فتأخذه لكي تهيئه
للقاء "كما يملي عليها واجبها" ولكن "التدريب" مع الجارية يشغله عن غايته
فكاد ينسى السيدة الجميلة التي جاء من أجلها. وعندما ذهب إليها أخيراً ووقف
بين يديها لاحظ أنه كان "منهزماً وقد علاني الصدأ". كان بحاجة، كما قال،
الى "معجزة لتشرق الشمس من جديد".
نعود الى
جملة نجيب محفوظ الملفتة في أصداء سيرته "في عزلة الشيخوخة وعجزها ينتشر
التأمل مثل عبير البخور" ينتشر التأمل في الحياة والموت، في الوجود والعدم،
في العشق والخيانة والغدر.
ينتشر
التأمل في الزمن ومساره وفي الشيخوخة والعجز. في الإنسان الجبار في زمن
قوته ثم الضعيف في زمن يأتي بسرعة البرق. التأمل أيضاً في زمن الوهم
والجنون.
(*) روائي
سوري
(غداً
نجيب محفوظ حلقة ثالثة)
|
انتقل بفن
الرواية من مرحلة المراهقة إلي النضج
نجيب محفوظ.. عاشق الحياة والموت
عزمي
عبدالوهاب
في الساعة
الثامنة وخمس دقائق من صباح الأربعاء الماضي توقف قلب مصر.. توقف قلب
نجيب محفوظ عن النبض, لكن يوم الخميس13 أكتوبر1988 كان يوما فاصلا في
حياة مصر والعالم العربي, لا في حياة محفوظ فحسب, في هذا اليوم استيقظ
رجل الساعة في موعده, وذهب كعادته إلي جريدة الأهرام, وجلس مع أصدقائه
وزملائه, وتحدث الجميع في موضوعات شتي, كان من بينها جائزة نوبل
المنتظر إعلانها في ذلك اليوم.
قال
محفوظ: سوف نقرأ في الصفحة الأولي من الأهرام يوم غد الجمعة خبرا صغيرا
عنها كالمعتاد, ونعرف من فاز بها, لكن بعض صحف الغد العالمي كان
يتصدرها هذا العنوان: نجيب محفوظ.. من هو؟.. هل تعرفونه؟ وكان بعضها
الآخر يعد عنه موضوعات من خلال الترجمات التي تواترت لرواياته.
عاد محفوظ
إلي بيته, وتناول الغداء, ودخل غرفة نومه, ولم تمض دقائق حتي وجد
زوجته توقظه من النوم في لهفة قوم.. قوم.. الأهرام اتصلوا بك وبيقولوا
إنك أخذت جائزة نوبل, ولم يصدق محفوظ أنه صاحب نوبل إلا عندما طرق باب
بيته السفير السويدي في القاهرة وحرمه.
منذ تلك
اللحظة انقلبت حياة نجيب محفوظ رأسا علي عقب, خرجت قليلا عن انتظامها
الدقيق, الذي ظل يراكمه لسنوات, لعلها بدأت منذ اللحظة الأولي لميلاده
يوم الإثنين في الحادي عشر من ديسمبر1911 إلي أن تعرض لمحاولة اغتيال
آثمة يوم الجمعة14 أكتوبر1994, وكأن القتلة أرادوا أن يحتفلوا بمرور ست
سنوات علي إحرازه جائزة نوبل بطريقتهم الدموية, حين اقترب منه أحدهم,
وطعنه في رقبته, لينجو من الموت بمعجزة.
كشف
الحادث الأثيم عن ذاكرة محفوظ الفولاذية, فبينما كان ينقله صديقه البيطري
فتحي هاشم إلي مستشفي الشرطة بالعجوزة, قال له: لا تنس أن تخبر الأطباء
بأنني مريض بالسكر, وهي الذاكرة القوية التي استعادها محفوظ حين كان يجلس
لساعات طويلة مع الناقد الكبير رجاء النقاش, الذي قدم للمكتبة العربية
كتابا من أهم الكتب التي تعرضت لمذكرات نجيب محفوظ, إن لم يكن أهمها علي
الإطلاق.
وبرغم
الأمكنة التي تنقل بينها وعاش فيها محفوظ, ظل حي الحسين الذي ولد فيه هو
المكان الأثير لديه, وكان يصاحبه شعور دائم بالحنين إليه, ولم يهدأ هذا
الحنين المؤلم- كما يصفه- إلا بالكتابة عن هذا الحي, حتي عندما
اضطرته الظروف للانتقال إلي العباسية كانت متعته الروحية لا تكتمل إلا
بالذهاب لزيارة الحسين, لذلك أوصي قبل موته بأن يصلي عليه ركعتان في
الحسين قبل دفنه.
هذا العشق
انتقل لمحفوظ من أمه, تلك السيدة الأمية التي كانت تصحبه معها لزيارة
الحسين يوميا, وهي شخصية كان لها عظيم الأثر في محفوظ, فمنها انتقل
إليه, حب الآثار الفرعونية, حيث كانت دائمة التردد علي المتحف
المصري, وتقضي أغلب أوقاتها في حجرة المومياوات,وإضافة إلي زيارتها
للآثار الإسلامية كانت تذهب لزيارة الآثار القبطية وعلي وجه الخصوص دير
مارجرجس, ولاشك أن هذا التسامح تسرب إلي الطفل نجيب محفوظ, وكبر معه.
أما الأب
عبدالعزيز إبراهيم أحمد الباشا, فكان شديد الالتزام والتنظيم, يعود إلي
بيته بعد انتهاء العمل, ويمضي وقته بين الصلاة وقراءة القرآن والجلوس في
صمت لساعات طويلة, ولم يتدخل في حياة محفوظ علي وجه الإطلاق, حتي عندما
التحق بكلية الآداب, علي غير رغبة الأب في الالتحاق بكلية الحقوق أو
الطب, وتحولت العلاقة بينهما إلي ما يشبه الصداقة عندما التحق محفوظ
بالجامعة, ومات الأب من غير أن يطلع علي أولي روايات ابنه عبث الأقدار
لكنه قرأ له بعض القصص المنشورة في الصحف, وكان يشعر بسعادة غامرة عندما
يقرأ اسمه, وفي سنوات الدراسة الابتدائية قرأ محفوظ لكبار الأدباء في ذلك
الوقت وحاول تقليد أسلوبهم, ومنهم مصطفي لطفي المنفلوطي, كما حاول
تقليد طه حسين حين كتب قصة حياته وأسماها الأعوام علي غرار الأيام, وفي
تلك الأثناء كتب الشعر, لكن افتقاده لملكة الحفظ, جعله يتراجع عن
كتابته كما يقول وإن كان استفاد من ذلك كثيرا, حين ضمن روايته الحرافيش
نصوصا كاملة من ديوان حافظ الشيرازي بالفارسية, إضافة إلي إيمانه بأن
الشعر هو روح الأدب, لذلك تمتع عدد من رواياته بلغة شعرية عالية, لذلك
أيضا طالب المجلس الأعلي للثقافة بإقامة مؤتمر شعري بالتناوب مع مؤتمر
الإبداع الروائي الذي يقيمه المجلس كل عامين, وهو ما سيتحقق لأول مرة
بداية العام المقبل.
قضي
محفوظ-37 سنة- من حياته موظفا, وكانت الوظيفة بالنسبة له نظام حياة
وطريقة لكسب الرزق, وإن كان يري في ذلك ظلما كبيرا له رغم أن الوظيفة
أمدته بنماذج بشرية استغلها في رواياته, حيث عمل في وزارة الأوقاف ومجلس
النواب وإدارة الجامعة, وفي كل الأحوال كان يصطدم بنماذج بشرية تصلح
لأعمال روائية ضخمة, واستغل ذلك بالفعل في القاهرة الجديدة, وخان
الخليلي, والكرنك, والسراب.
وكان
مقدرا له أن يكتب الرواية التاريخية فأنجز ثلاث روايات: عبث الأقدار-
كفاح طيبة- رادوبيس, لكن الحماس مات بداخله عندما تعمق في قراءة الأدب
الحديث, وأدرك أن الرواية يمكن أن يكون لها دور مؤثر في معالجة قضايا
المجتمع والتعبير عن هموم الناس ومشاكلهم.
وفي تلك
الفترة كان يجلس في المقاهي يتابع تفاصيل الحياة اليومية وحكايات الناس,
واستغرقته الواقعية حتي قيام ثورة يوليو1952, التي فاجأته بواقع وقضايا
جديدة تختلف عما كان سائدا من قبل, فصمت عن الكتابة لمدة خمس سنوات,
وكان العمل الأول الذي كتبه بعد الثورة هو أولاد حارتنا, وتعرض أيضا لنفس
الحالة قبل حصوله علي نوبل بعام, لكنه أنجز فيما بعد أصداء السيرة
الذاتية, وأحلام فترة النقاهة ومن بين الأساتذة الذين يعترف محفوظ بفضلهم
عليه, يبقي سلامة موسي, أحد أهم هؤلاء, فكان محفوظ يتابع مجلته
المجلة الجديدة, وهو في المرحلة الثانوية ويرسل إليه كتاباته عن طريق
البريد, وكانت عبارة عن مقالات فلسفية, لم يتوقف سلامة عن نشرها, إلي
أن التقيا, فأصابته الدهشة, إذ كان يظن أن محفوظ أكبر من مجرد تلميذ في
المرحلة الثانوية.
أصدر
سلامة موسي أول طبعة من رواية محفوظ عبث الأقدار عن دار المجلة الجديدة,
وكان أجره من التأليف500 نسخة من الرواية, بعدها طبع عنده كتاب مصر
القديمة وكان محفوظ يجرب الترجمة عن الإنجليزية في هذا الكتاب, ثم ظهرت
رواية زقاق المدق عن الدار ذاتها, وكان اسمه قد بدأ في الانتشار.
ولم يكتب
سلامة موسي عن محفوظ إلا عند صدور روايته بين القصرين في جريدة الأخبار
عام1957, وذلك قبل رحيله بعام واحد, وبعد هذه السنوات يعترف محفوظ بأن
تأثير سلامة موسي حي في نفسه.
ورغم ولاء
محفوظ للفكرة الليبرالية طوال حياته, وعشقه لحزب الوفد, إلا أنه لم
ينضم إلي حزب أو تنظيم سياسي, لا قبل الثورة ولا بعدها, وحافظ علي
مسافة كبيرة بينه وبين السلطة, وظل مخلصا لفكرة الديمقراطية, وكانت
انتقاداته لثورة يوليو نابعة من قناعات خاصة بهذه النقطة, فلم يكن من
خصوم الثورة, التي أعلن تأييده للكثير من قراراتها, وحصل علي جائزة
الدولة في الآداب عام1957, ومنحه الرئيس عبدالناصر وسام الاستحقاق من
الدرجة الأولي, ولم يكن علي وئام مع نظام يوليو, فقد كان باستمرار علي
حافة الهاوية, ففي إحدي المرات نشر قصة بعنوان سائق القطار, وسري همس
في أوساط المثقفين بأنه يقصد عبدالناصر, كانت القصة تدور حول سائق قطار
يفقد صوابه ويتسبب في حادث تصادم مروع, وكان التفسير آنذاك أن محفوظ يشير
إلي أن عبدالناصر يقود مصر إلي كارثة.
ولم ينقذه
من تلك الورطة إلا مقال كتبه محمد فريد أبوحديد, توصل فيه إلي أن كاتب
القصة يرمز للصراع بين الشرق والغرب, وكيف أن هذا الصراع قد يتسبب في
تدمير الكرة الأرضية, لكنه وقع في ورطة ثانية عندما أصدر رواية ثرثرة فوق
النيل, إذ هدد المشير عبدالحكيم عامر بإنزال العقاب بمحفوظ بسبب النقد
العنيف في الرواية.
واستدعي
عبدالناصر ثروت عكاشة وطلب منه قراءة الرواية وإبداء رأيه فيها, وكان رأي
عكاشة أن محفوظ ينبه إلي أخطاء موجودة في المجتمع وليس لديه سوء نية في
مهاجمة النظام, وأنه من الضروري أن يتوافر للأدب قدر من الحرية, لينقل
صورة واقعية عن المجتمع, وإذا لم يجد الأدب هذا القدر من الحرية مات.
وهكذا
تراجع المشير عامر عن تهديده بعد تدخل عبدالناصر, لتدخل متاعب محفوظ مع
السلطة في اتجاه آخر, فقد رفض محمد حسنين هيكل نشر رواية ميرامار لينشرها
رجاء النقاش في مجلة الإذاعة والتليفزيون وامتنع أحمد بهاء الدين عندما كان
رئيسا لتحرير الأهرام عن نشر الحب تحت المطر ونشرها رجاء النقاش أيضا في
مجلة الشباب بعد أن حذفت الرقابة منها أشياء كثيرة.
وتبقي
المشكلة الأكبر مع رواية الكرنك التي رفض هيكل نشرها أيضا, فدفع بها
محفوظ إلي مكتبة مصر لتصدر بعد حذف فقرات كثيرة منها عن طريق الرقابة,
وبعد طباعة الرواية يكتشف كاتبنا الكبير أنه تم تشويهها, لتكون الكرنك,
والحب تحت المطر هما الروايتان اللتان نشرتا بصورة مختلفة عن الأصل, الذي
لم يعد له أثر عند محفوظ.
وطوال هذه
الأزمات لم يتعرض محفوظ للسجن أو الاعتقال, وإن استدعته المخابرات بشكل
غير مباشر, عندما كان يعمل في فيلم عن المخابرات المصرية, وطلب منه
ثروت عكاشة الذهاب إلي مبني المخابرات لاستطلاع رأيهم في السيناريو, وعند
دخوله مكتب نائب رئيس المخابرات لاحظ شخصا يحدق فيه, سائلا عن رواية
أولاد حارتنا والمشكلات التي ثارت حولها, ومدي صحة ما يقال عن تجاوزات
دينية بها, وكان هذا هو المقصود من الزيارة.
بعد هذا
اللقاء بأشهر شاهد محفوظ صورة في الصفحة الأولي بجريدة الأهرام للرئيس
عبدالناصر في إحدي جولاته الإفريقية, وكان خلف عبدالناصر ذات الشخص الذي
التقاه في مبني المخابرات, واندهش كثيرا حين عرف أنه صلاح نصر, رئيس
المخابرات, وإن بقيت لديه أسئلة لا يعرف لها إجابات حول ما حدث.
وكان أصعب
متاعب محفوظ مع السلطة, ما حدث مع بدايات عصر السادات, حين وقع علي
البيان الذي كتبه توفيق الحكيم, اعتراضا علي حالة اللا سلم واللا حرب
التي كانت تعاني منها مصر, كان ذلك في أوائل عام1973 وصدر قرار بعزل
الموقعين علي البيان, ومنعهم من الكتابة, لكن محفوظ عوقب بمنعه من
الحديث في الإذاعة والتليفزيون, ومنعت أفلامه من العرض, وشن عليه عدد
من الكتاب هجوما حادا.
وتبقي
أزمة الأزمات, تلك المرتبطة برواية أولاد حارتنا, والتي انتهي من
كتابتها في شهر إبريل سن1958 ونشرت حلقاتها في الأهرام بلا مشاكل, إلي
أن نشرت الجمهورية خبرا يلفت فيه كاتبه النظر إلي أن الرواية فيها تعريض
بالأنبياء, بعد هذا الخبر بدأ البعض, ومن بينهم أدباء, في إرسال
شكاوي إلي النيابة العامة ومشيخة الأزهر ورئاسة الجمهورية يطالبون فيها
بوقف نشر الرواية وتقديم محفوظ إلي المحاكمة.
وبعد
انتهاء نشر الرواية مسلسلة في الأهرام التقي محفوظ الممثل الشخصي للرئيس
عبدالناصر, واتفقا علي أن تنشر الرواية خارج مصر, لأنه في حال صدورها
هنا ستحدث مشكلة مع الأزهر, وباءت كل محاولات نشر الرواية في مصر
بالفشل, وكان آخرها عندما سعت دار الهلال لإصدارها, فهددت دار الشروق
برفع دعاوي قضائية ضدها, لأنها كانت بصدد إصدار الرواية بمقدمة كتبها
أحمد كمال أبو المجد, لكن يبدو أن شرط موافقة الأزهر, كما حدده
محفوظ, لم يتحقق, فلم تنشر الرواية داخل مصر.
وتفجرت
الأزمة مرة أخري مع حصوله علي جائزة نوبل, إذ كتب أنور الجندي في
الاعتصام ـ مجلة الإخوان المسلمين ـ إن أدب محفوظ كله فسق وكفر وأن فن
القصة فن استعماري مخالف للإسلام بعد ذلك أفتي الشيخ عمر عبدالرحمن في حديث
صحفي نشرته جريدة الأنباء الكويتية, قائلا: إننا لو كنا قتلنا نجيب
محفوظ عندما نشر رواية أولاد حارتنا, لماظهر إلي الوجود سلمان رشدي.
وعرضت
الداخلية تزويد محفوظ بحراسة خاصة, خشية تعرضه للاغتيال, لكنه رفض ذلك
رفضا قاطعا إلي أن وقعت جريمة الاعتداء عليه يوم الجمعة14 أكتوبر1994
بينما كان يتجه إلي ندوته الأسبوعية في كازينو قصر النيل وتبين أن الجناة
ينتمون إلي تنظيم الجماعة الإسلامية التي أجرت أخيرا مراجعات فكرية تعيد
النظر في كل فتاوي التكفير التي أهدرت دم عدد كبير من الشخصيات العامة.
ومن بين
هؤلاء والذين يتحملون جزءا من وزر إهدار دم محفوظ الكاتب فهمي هويدي,
الذي هاجم صاحب نوبل, وحاول تشويه كلامه بشأن فتوي الخميني بإهدار دم
سلمان رشدي, رغم معرفته هويدي بتعديل محفوظ رأيه في رواية آيات شيطانية
الذي انتهي إلي أنها تدخل تحت بند السب والقذف وطالب رشدي بأن يتوب.
|