سيد قطب يكتب عن نجيب محفوظ ونجيب محفوظ يكتب عن سيد قطب
كان الناقد والأديب والمفكر الإسلامي سيد قطب
(1906-1966) هو أول من تنبه إلي موهبة نجيب محفوظ
كان
الناقد والأديب والمفكر الإسلامي سيد قطب (1906-1966) هو أول من تنبه إلي
موهبة نجيب محفوظ فكتب علي صفحات مجلة الرسالة التي كان يصدرها أحمد حسن
الزيات - مقالاً نقدياً احتفي فيه بروايته «كفاح طيبة» التي صدرت طبعتها
الأولي عن «دار النشر للجامعيين» عام 1944، وهي الثالثة من الروايات التي
تتخذ من التاريخ الفرعوني خلفية لها إذ لم يكن أحد من النقاد قد كتب حرفا
عن روايتي نجيب محفوظ السابقتين عليها وهما «عبث الأقدار» 1939 و«رادوبيس»
1943 أو عن مجموعته القصصية الأولي «همس الجنون» 1938 .
وواصل
«سيد قطب» الذي كان يمر آنذاك بمرحلته الأدبية كشاعر وناقد من المتأثرين
والمنحازين إلي المدرسة التي أسسها «عباس محمود العقاد» - الاهتمام «بنجيب
محفوظ»، فكتب في العام التالي 1945 عن أولي رواياته في المرحلة الواقعية
«القاهرة الجديدة» ثم عن الرواية الثانية «خان الخليلي» 1946 ليكف فيما بعد
عن الاهتمام بأدبه بعد أن تراجعت اهتماماته الأدبية، ليتجه إلي الكتابة في
الفكر الإسلامي ولينضم عام 1951 إلي جماعة الإخوان المسلمين وتحكم عليه
محكمة الشعب عام 1954 بالسجن لمدة خمسة عشر عاما أمضي منها عشرة أعوام ثم
أفرج عنه عام 1964 . وفي كتاب نجيب محفوظ صفحات من مذكراته الذي روي فيه
سيرته الذاتية للناقد الكبير رجاء النقاش يروي نجيب محفوظ قصة علاقته بـ«سيد
قطب» فيقول:
سيد قطب
هو أول ناقد أدبي التفت إلي اعمالي وكتب عنها وكان ذلك في الأربعينيات،
وتعرفت عليه في ذلك الوقت حيث كان يجيء بانتظام للجلوس معنا في كازينو
«أوبرا» وكانت العلاقة التي تربطنا أدبية أكثر منها إنسانية.
ميز سيد
قطب في تلك المرحلة تحرره وذكاؤه وموهبته الأدبية خاصة أنه كان من تلاميذ
العقاد المخلصين، والعقاد علي ما أذكر هو الذي توسط له لدي النقراشي باشا
لإرساله في بعثة دراسية إلي الولايات المتحدة الأمريكية، وكنت أعده لسنوات
طويلة من رواد الاستنارة والفكر الجريء المتحرر، وكان آخر لقاء جمعنا معا
في بيته في حلوان، حيث ذهبت لزيارته بصحبة آل السحار عقب خروجه من السجن
بعفو صحي. ذهبت إليه رغم معرفتي بخطورة هذه الزيارة وبما يمكن أن تسببه لي
من متاعب أمنية، في تلك الزيارة تحدثنا في الأدب ومشاكله ثم تطرق الحديث
إلي الدين والمرأة والحياة، كانت المرة الأولي التي ألمس فيها بعمق مدي
التغيير الكبير الذي طرأ علي شخصية سيد قطب وأفكاره.. لقد رأيت أمامي
إنسانا آخر، حاد الفكر متطرف الرأي، ويري أن المجتمع عاد إلي الجاهلية
الأولي وأنه مجتمع كافر لابد من تقويمه بتطبيق شرع الله انطلاقا من فكرة «الحاكمية»،
وسمعت منه آراءه دون الدخول معه في جدل أو نقاش حولها، فماذا يفيد الجدل مع
رجل وصل إلي تلك المرحلة من الاعتقاد المتعصب، وعرفت منه أنه تلقي عرضا
للعمل في العراق، ورغم اغراءاته المادية ومميزاته الكبيرة فإنه رفضه لأنه
لا يريد أن يترك مصر وبقي فيها لقضائه وقدره.
عندما
سمعت بخبر اشتراك سيد قطب في مؤامرة قلب نظام الحكم وصدور حكم الإعدام عليه
لم أتوقع أبدا تنفيذ الحكم، وظننت أن مكانته ستشفع له، وإن لم يصدر عفو عنه
فعلي الأقل سيخفف الحكم الصادر ضده إلي السجن المؤبد علي الأكثر ثم يخرج من
السجن بعد بضع سنوات، وخاب ظني ونفذ حكم الإعدام بسرعة غير معهوده أصابتني
بصدمة شديدة وهزة عنيفة، فرغم الخلاف الفكري بيني وبين سيد قطب فإنني كنت
اعتبره حتي اليوم الأخير من عمره صديقا وناقدا أدبيا كبيرا كان له فضل
السبق في الكتابة عني ولفت الأنظار إلي في وقت تجاهلني فيه النقاد الآخرون.
ولتأثري بشخصية سيد قطب وضعتها ضمن الشخصيات المحورية التي تدور حولها
رواية «المرايا» مع إجراء بعض التعديلات البسيطة، ولكن الناقد المدقق
يستطيع أن يدرك أن تلك الشخصية فيها ملامح كثيرة من سيد قطب.
وعلي هذه
الصفحة ننشر ما كتبه «سيد قطب» عن رواية نجيب محفوظ «القاهرة الجديدة» وما
كتبه نجيب محفوظ عن شخصية «سيد قطب» الذي اختار له في روايته «المرايا» اسم
«عبدالوهاب إسماعيل»
عبد
الوهاب إسماعيل
إنه اليوم
أسطورة وكالأسطورة تختلف فيه التفاسير وبالرغم من أنني لم ألق منه إلا
معاملة كريمة أخوية إلا أنني لم أرتاح أبدا لسحنته ولا لنظرة عينيه
الجاحظتين الجادتين، وقد عرفته في صالون الدكتور ماهر عبدالكريم في أثناء
الحرب العظمي الثانية، كان في الثلاثين من عمره يعمل مدرسا للغة العربية في
إحدي المدارس الثانوية، وينشر أحيانا فصولا في النقد في المجالات الأدبية
أو قصائد من الشعر التقليدي، كان أزهريا لا علم له بلغة أجنبية ومع ذلك
آثار اهتمامي واحترامي بقوة منطقه وهو يناقش اشخاصا من المعروفين بثقافتهم
الواسعة وإطلاعهم العميق علي اللغات الأجنبية مثل الدكتور إبراهيم عقل
وسالم جبر وزهير كامل، وأمتاز بهدوء الأعصاب وأدب الحديث فما أحتد مرة أو
انفعل ولا حاد عن الموضوعية، ولا بدا في مستوي دون مستوياتهم الرفيعة،
فكأنه ند لهم بكل معني الكلمة فاقتنعت بحدة ذكائه ومقدرته الجدلية وإطلاعه
الواسع رغم اعتماده الكلي علي التراث والكتب المترجمة، ولم يداخلني شك في
أنه أذكي من إبراهيم عقل وسالم جبر وزهير كامل جميعا، وحتي نقده للكتب
العصرية لم يتسم بالهزال أو السطحية بالقياس إلي نقد المتخصصين من حملة
المؤهلات الباريسية واللندنية وإن كان ثمة فارق دقيق لم يكن لينكشف إلا
لعين العارف المدقق.
قال لي
عنه يوما الدكتور ماهر عبدالكريم: إنه شاب موهوب ومن المؤسف أنه لم يرسل في
بعثة.
وكان
الدكتور ماهر عبدالكريم ممن يزنون أقوالهم بميزان دقيق، وبالرغم من أن
عبدالوهاب إسماعيل لم يكن يتكلم في الدين، وبالرغم من تظاهره بالعصرية في
أفكاره وملبسه وأخذه بالأساليب الأفرنجية في الطعام وارتياد دور السينما،
إلا أن تأثره بالدين وإيمانه بل وتعصبه لم تخف عليّ، أذكر أن كاتبا قبطيا
شابا أهداه كتابا له يحوي مقالات في النقد والاجتماع فحدثني عنه ذات يوم في
مقهي الفيشاوي فقال: - إنه ذكي مطلع حسا وذو أصالة في الأسلوب والتفكير.
·
فسألته ببراءة وكنت مغرما بالكاتب: متي تكتب
عنه؟
فابتسم
ابتسامة غامضة وقال: انتظر وليطولن انتظارك!
ماذا
تعني؟
فقال
بحزم: لن اشترك في بناء قلم سيعمل غدا علي تجريح تراثنا الإسلامي بكافة
السبل الملتوية.
·
فتساءلت بامتعاض: أأفهم من ذلك أنك متعصب؟
فقال
باستهانة: لا تهددني بالأكليشهات فإنها لا تهزني.
يؤسفني
موقفك
لا فائدة
من مناقشة وفدي في هذا الموضوع وقد كنت وفديا ذات يوم ولكني أصارحك بأنه لا
ثقة لي في اتباع الأديان الأخري!
وقد كان
حقا وفديا ثم أنشق علي الوفد وراء الدكتور أحمد ماهر وكان عظيم الإعجاب به،
ورقي في عهد السعديين إلي وظيفة مفتش وكم تخلي عنه حلمه بسبب مصرع الدكتور
أحمد ماهر، كأنما أصيب بنفس الرصاصة التي أودت بحياة الرجل وقال لي بحزن
بالغ: ضاع أعظم رجل في الوطن. وكان يشكو صحته كلما سنحت مناسبة وبها يتعلل
في إفطار رمضان ولكنه لم يصرح بحقيقة مرضه لأحد، كما أنه لم يهتم في حياته
بالنساء ولم يتزوج وعرف في تلك الناحية بالاستقامة الكاملة، وعلي جدية
أخلاقه وحملاته الصادقة علي المنحرفين، تكشف لي جانبا منه لم أكن لأصدقه لو
لم أخبره بنفسي، ذلك أنه كان يوجد كاتب صاحب مجلة ومطبعة تصدر سلسلة شهرية
من الكتب وكان عبدالوهاب يحتقره ويقول عنه: لولا مجلته لما وجد مجلة تقبل
أن تنشر له كلمة.
وكم
أدهشني أن أطالع له مقالة في الرسالة عن صاحب المجلة رفعه فيها إلي السماء!
حرت في تفسير ذلك حتي علمت بأنه اتفق معه علي نشر كتاب له في سلسلاته
الشهرية نظير أجر ممتاز لم يظفر بمثله كاتب آخر! وتذكرت في الحال موقفه
الأعمي من الكاتب القبطي فأعجبني جدا اكتشاف ذلك الجانب الانتهازي في
شخصيته وساورني شك من ناحية صدقه وأمانته واستقر في نفسي - رغم صداقتنا-
نفور دائم منه وظل يعمل مفتشا وكاتبا حتي ولي الوفد الحكم عام 1950، فلم
يرتح إلي معاملة الوزير الوفدي له فقدم استقالته وتفرغ للعمل في الصحافة -
وعرف في تلك الفترة بهجومه المتواصل علي حكومة الوفد وفي نفس الوقت شرع
يكتب كتبا عصرية عن الدين الإسلامي لاقت نجاحا منعدم النظير، وقامت ثورة
يوليو 1952 وهو منغمس في محاربة الوفد والدفاع عن الدين الإسلامي وكان مر
عامان علي الأقل لم نلتق فيهما أبدا وانقطعت عني أخباره الخاصة، ويوما كنت
في زيارة للأستاذ سالم جبر فقال لي: الظاهر أن نجم عبدالوهاب إسماعيل سيلمع
قريبا.
·
فسألته باهتمام: ماذا تعني؟
- أصبح من
المقربين.
·
ككاتب سياسي أم ككاتب ديني؟
-
باعتباره من الإخوان المسلمين.
فهتفت
بدهشة.
·
الإخوان؟ .. لكنني عرفته سعديا متطرفا.
فقال
متهكما.
سبحان
الذي يغير ولا يتغير!
وقابلته
بعد ذاك بعام أو نحوه أمام بار الأنجلو فتصافحنا بحرارة وسرنا معا نتحادث
حتي جاء ذكر الثورة فقال بتحفظ: > ثورة مباركة ولكن من العسير أن تعرف ماذا
يريدون.. ولمست في حديثه مرارة لم أقف علي سرها ولم يبح به.. كانت له قدرة
علي الاحتفاظ بأسراره ليست إلا لقلة نادرة من المصريين .. وقلت له:
·
بلغني أنك انضممت إلي الإخوان المسلمين؟
فابتسم
ابتسامة غامضة وقال: أي مسلم عرضة لذلك!
·
من المؤسف حقا أنك نبذت النقد الأدبي
فضحك
قائلا: يالها من ثمنيات جاهلية؟
وافترقنا
وأنا أشعر بأننا لن نلتقي مستقبلا إلا مصادفة في الشوارع وعند أول صدام بين
الثورة والإخوان قبض عليه فيمن قبض عليهم من أعضاء الجماعة، وقدم للمحاكمة
فحكم عليه بعشرة أعوام سجن وغادر السجن عام 1956 فرأيت أن أزوره مهنئا،
فذهبت إلي مسكنه بشارع خيرت.. والحق أنه لم يتغير كثيراً شاب شعر رأسه كما
يتوقع لرجل في السابعة أو الثامنة والخمسين من عمره وزاد وزنه حتي خيل إلي
أن صحته تحسنت عما كانت عليه، وتبادلنا الأسئلة عن الظروف والأحوال، وكان
يحافظ علي رزانته المعهودة وبرودة أعصابه الفذة وخاض دون مقدمات في المسائل
العامة فأدلي بآرائه بكل ثقة.
يجب أن
يحل القرآن مكان كافة القوانين المستوردة.
وقال عن
المرأة: علي المرأة أن تعود إلي البيت لا بأس من أن تتعلم ولكن لحساب البيت
لا الوظيفة ولا بأس من أن تضمن لها الدولة معاشا في حال الطلاق أو فقد
العائل.
وقال
بقوة: الاشتراكية والوطنية والحضارة الأوروبية خبائث علينا أن نجتثها من
نفوسنا.
وحمل علي
العلم حملة شعواء حتي ذهلت فسألته حتي العلم؟!
نعم لن
نتميز به نحن مسبوقون فيه وسنظل مسبوقين مهما بذلنا.. لا رسالة علمية لنا
نقدمها للعالم، ولكن لدينا رسالة الإسلام وعبادة الله وحده لا رأس المال
ولا المادية الجدلية.
استمعت
إليه طويلا ضاغطا علي انفعالاتي حتي لا أخل بواجب المجاملة ثم قمت للانصراف
وأنا أسأله: ماذا عن المستقبل
·
هل لديك اقتراح؟
- لدي
اقتراح ولكني أخشي أن يكون جاهليا هو أن تعود إلي النقد الأدبي!
فقال
بهدوء: تلقيت دعوة للعمل في الخارج
·
وعلام عولت؟
- إني
أفكر .. وودعته وانصرفت وبعد انقضاء عام علي المقابلة طلعت علينا الصحف
بأنباء مؤامرة جديدة للإخوان ولم أعرف وقتها شيئا عن مصير عبدالوهاب
إسماعيل الذي رجحت أنه غادر الوطن للعمل في الخارج، غير أن الصديق قدري رزق
أكد لي أنه كان ضمن المؤامرة وأنه قاوم القوة التي ذهبت للقبض عليه حتي
أصيب بطلقة قاتلة فسقط جثة هامدة.
|