بصمة نجيب محفوظ السينمائية من الحارة الى الطبقة
الوسطى وفساد السلطة
هاشم النحاس
قبل أن
نتعرض للمواصفات الداخلية لبصمة نجيب السينمائية، يجدر بنا أن نذكر بعض
المؤشرات الظاهرية التي تشير إلى عمق هذه البصمة واتساع انتشارها.
في مقدمة
هذه المؤشرات، أن نجيب محفوظ هو أول أديب عربي يكتب للسينما مباشرة، فيضفي
على مهنة الكتابة للسينما كرامة كانت تفتقدها. (كتب فيلم مغامرات عنتر
وعبلة عام 1945 وعرض عام 1948).
وهو أكثر
الأدباء المصريين والعرب أعمالاً في السينما (65 فيلماً تقريباً) وأكثرهم
تنوعاً في اسهاماته (كتب القصة السينمائية والمعالجة السينمائية
والسيناريو، إضافة إلى رواياته وقصصه التي تحولت إلى أفلام).
وتحتل
أفلامه مكانة خاصة في تاريخ السينما المصرية والعربية (من أفلامه 23 فيلماً
هي من بين أفضل مئة فيلم في تاريخ السينما المصرية، كما جاء في الاستفتاء
الواسع الذي قامت به إدارة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي احتفالاً
بمئوية السينما 1996).
مخرجون
وأفلام
كتب محفوظ
أو شارك في كتابة أفضل ما قدمه صلاح أبو سيف في الخمسينات، وبها تميزت
شخصية صلاح أبو سيف الفنية، التي حافظ عليها في أعماله التالية ما منحه
دوره الريادي في السينما المصرية والعربية، وهي أفلام: «لك يوم ياظالم»
(1951)، «ريا وسكينة» (1953)، «الوحش» (1954)، «شباب امرأة» (1955)،
«الفتوة» (1957)، «بين السماء والأرض» (1959).
وفي تلك
المرحلة كتب محفوظ لعاطف سالم أفلامه المتميزة الأولى: «جعلوني مجرماً»
(1954)، «إحنا التلامذة» (1959)، كما كتب لتوفيق صالح رائعته الأولى «درب
المهابيل» (1955)، وليوسف شاهين «جميلة الجزائرية» (1959).
وتوالت
الأفلام المأخوذة عن رواياته وقصصه بعد ذلك، التي صنعها كبار المخرجين كما
صنعتهم، مثل «اللص والكلاب» (1963)، «ميرامار» (1969) إخراج كمال الشيخ،
«ثرثرة فوق النيل» (1971)، «الحب تحت المطر» (1975) إخراج حسين كمال،
«الكرنك» (1957)، «أهل القمة» (1981)، «الجوع» (1986) إخراج علي بدرخان،
«الشيطان يعظ» (1981) إخراج أشرف فهمي، «الحب فوق هضبة الهرم» (1986)
و «قلب الليل (1989) إخراج عاطف الطيب.
جميعهم
لقد سألته
مرة عن أفضل المخرجين الذين أخرجوا أفلاماً عن أعماله الأدبية فأجاب:
«جميعهم». وعندما ذكرت بعضهم أسرع بإضافة: وحسن الإمام أيضاً. وكلنا نعرف
أن النقاد لم يعجبهم إخراج إمام للثلاثية، لكنه ركز على أشياء، لم يتردد
نجيب في القول إنه يحب، ويعقب على تعليقه هذا بضحكته المعهودة ليؤكد ما
توحي به العبارة عن قصده «من هذه الأشياء».
وعلى رغم
اختلاف مخرجي الأفلام التي تحمل اسم أستاذنا محفوظ، إلا أن الأفلام في
مجملها اتسمت بسمات مميزة أضفت عليها بصمة خاصة، وإن كانت تنتشر فيها
بدرجات متفاوتة، وتتمثل هذه البصمة في كل من العوامل التالية: المكان
والزمان والشخصيات الحاضرة والقضايا المثارة واسلوب المعالجة.
ولعل أول
ما يتبادر إلى الذهن من معالم بصمة نجيب محفوظ السينمائية حضور الحارة،
باعتبارها المكان الأكثر شعبية، وفيها تجرىي أحداث بعض أفلامه كما تجرى
فيها أحداث بعض أعماله الأدبية، وحملت بعض هذه الأفلام اسماء الحارة، أو
الزمان كما حملتها رواياته.
والحارة
عند محفوظ ليست مجرد مكان تجرى فيه الأحداث وإنما هي عمارة وتقاليد وقيم
وطبقة اجتماعية وشخصيات إنسانية لها سماتها الخاصة. وتكون الحارة ذات طابع
واقعي يماثل الواقع المعاش («زقاق المدق» مثلاً)، أو تكون مستمدة من الخيال
وإن أخذت الطابع الواقعي كما في أفلام الفتوات («الشيطان يعظ» مثلاً).
أما أفلام
مثل «اللص والكلاب» و «الطريق» و «ثرثرة فوق النيل» فقد انتقلت إلى شوارع
المدينة المعاصرة، ومن ثم نجد أن أفلام محفوظ تجول في حواري المدينة
وشوارعها، (باستثناء فيلم «الوحش» الذي دارت أحداثه في القرية)، والمدينة
المقصودة هنا هي القاهرة خصوصاً، فيما عدا فيلمي «السمان والخريف» و «ميرامار»
حيث دارت أحداثهما في الاسكندرية.
أما عن
علاقة أفلامه بالزمن فقد أخذت المسار نفسه الذي أخذته أعماله الأدبية.
وبدأت بمعالجة أحداث تاريخية سابقة في فيلميه الأولين: «المنتقم»
و «مغامرات عنتر وعبلة»، ومن ثم انتقلت إلى معالجة أحداث تجرى في زمن ما
قبل ثورة 1952، ومنها ما استمد مادته من وقائع بعينها مثل: «ريا وسكينة»،
«الفتوة» و «إحنا التلامذة».
ويمكن أن
نضم إلى هذه المجموعة، الأفلام المأخوذة عن رواياته وتعالج المرحلة الزمنية
نفسها، وإن ظهرت سينمائياً متأخرة فيما بعد مثل: «بداية ونهاية» (1960)،
«بين القصرين» (1964)، «خان الخليلي» (1966) و «القاهرة 30» (1966).
ومع بداية
الستينات أقدمت السينما المصرية أيضاً على تحويل روايات محفوظ الأحدث، التي
تعالج وقائع تجري في الزمن المعاصر لظهورها مثل أفلام: «اللص والكلاب»
(1963) و «السمان والخريف» (1968) و «ميرامار» (1969). أما الأفلام
المأخوذة عن قصصه القصيرة فكان منها ما يجري في زمن سابق متخيل هو زمن
الفتوات مثل «الجوع» (1986) ومنها ما يتناول الزمن المعاصر لانتاجها مثل
«أهل القمة» (1981) و «الحب فوق هضبة الهرم» (1986).
غير أن
على رغم اختلاف الأزمنة التي عالجتها هذه الأفلام، ظلت الأفلام في مجملها
على صلة وثيقة بالزمن الحاضر وقت إنتاجها، وما يثار فيه من قضايا يجري
مناقشتها بطريقة مباشرة أو بإسقاط الماضي على ما يجري في الحاضر، ما أضفى
على هذه الأفلام حيويتها، وجعلها في الوقت نفسه بمثابة وثائق تاريخية
(فنية) شاهدة على العصر.
الشخصيات
ومن ناحية
الشخصيات الممثلة في أفلام محفوظ، نجد أن السيادة في أفلام المرحلة الأولى
كانت لشخصية ابن البلد ساكن الحارة من الطبقة المتوسطة الدنيا، بما فيها من
الحرفيين وأصحاب الأملاك أو الأعمال الصغيرة، والباعة والتلامذة والمجرمين.
وفي المرحلة التالية عند الاستعانة بروايات محفوظ ظهرت في الحارة فئات
جديدة مثل فئة صغار الموظفين كما في «بداية ونهاية»، كما ظهرت فئات أكثر
ثراء معبرة عن الطبقة المتوسطة الأعلى من كبار التجار كما في «الثلاثية».
وخارج
نطاق الحارة قدمت أفلام محفوظ شخصيات ابن البلد من صغار الموظفين كما في
«الحب فوق هضبة الهرم»، ومن الطبقة المتوسطة العليا من كبار الموظفين
وأصحاب الأملاك أو المهن المختلفة (الصحافي، المحامي، الممثل، الكاتب) كما
في «ميرامار» و «ثرثرة فوق النيل».
وهكذا
شملت الأفلام قطاعاً عريضاً من شخصيات الطبقة الوسطى، لكنها ظلت محصورة
داخلها، بعيداً من العمال والفلاحين، وهو ما التزم به أصلاً نجيب محفوظ في
أدبه، حتى أطلق عليه يوماً: أديب الطبقة الوسطى المصرية.
وإزاء هذه
الاختيارات المكانية والزمانية والشخصيات، كان طبيعياً أن تكون القضايا
الأثيرة والمثارة داخل هذه الأفلام، من قبيل: الفساد الاجتماعي قبل ثورة
52، والانتهازية والفساد السياسي بعد الثورة، وصعود اللصوص إلى القمة في
عصر الانفتاح. وهو ما يمكن أن نجمله في عبارة واحدة: كان نجيب محفوظ في
أعماله السينمائية كما الأدبية بمثابة ضمير الأمة، الذي ينبهنا في كل مرحلة
من مراحل تاريخها إلى مواطن القصور حتى نلتفت إليها ونعالجها، وهو ما حاولت
أن أعبر عنه في فيلمي التسجيلي الذي حمل عنوان «نجيب محفوظ ضمير عصره»
1989.
الأسلوب
غير أن
موضوع الفيلم (أو قضيته)، ليس كافياً لتحديد قيمة الفيلم أو تحديد بصمته
المميزة، والشأن في ذلك شأن بقية العوامل السابقة منفردة، وهنا يأتي دور
الأسلوب في تحديد البصمة واستكمال عناصرها.
وتعتبر
الواقعية التي اتسمت بها أعمال نجيب محفوظ «باعتبارها اكتشاف تركيبات العلل
والمعلولات في المجتمع» على حد قول بريخت، من أهم سمات بصمة نجيب على
السينما المصرية إن لم تكن أهمها. ذلك أن السينما المصرية قبله كانت أقرب
إلى سينما غرائبية، لم تكن في غالبيتها الساحقة تبالي بالواقع وإنما تتوخى
كل ما هو غريب وشاذ بقصد إثارة المتفرج وتسليته. لذلك غلب عليها
الميلودراما الزاعقة و «الفارس» والأفلام التاريخية أو شبه التاريخية
وأفلام الأغاني المغرقة في الرومانسية.
ولكن مع
توالي الأفلام التي شارك نجيبمحفوظ في إبداعها مباشرة أو عن طريق أعماله
الأدبية، ترسخت قواعد الواقعية التي انتقلت إلى أفلام أخرى لمبدعين غيره.
وتحقق من جراء ذلك نقلة نوعية للسينما المصرية.
ويشار إلى
أهمية دور المخرجين الذين توافقت أفكارهم واتجاهاتهم مع اتجاهات محفوظ
الواقعية وشكلوا بالأفلام التي أخرجوها عن أعمال نجيب محفوظ وأعمال غيره في
ما بعد، المدرسة الواقعية المصرية التي وصلت إلى ذروتها في الثمانينات على
يد مجموعة من المخرجين من أبناء صلاح أبو سيف أمثال: علي بدرخان وعاطف
الطيب ومحمد خان ورأفت الميهي وخيري بشارة وداود عبد السيد.
ولعل
النماذج الناضجة من أفلام هذه المدرسة الواقعية المصرية الجديدة، هي ما
يمكن أن يمثل إضافة مصرية حقيقية إلى السينما العالمية، وهو ما تشير إليه
التقديرات الأدبية التي حصلت عليها أفلام هذه المدرسة في المهرجانات
الدولية.
ومن ثم
إذا كان وضع الأدب العربي أصبح مختلفاً بما أضافه محفوظ، كذلك أصبح وضع
السينما مختلفاً بما أخذته عن محفوظ، من خلال بصمته التي أصبحت علامة مميزة
أخذت تسري في أفلامها وبها حققت ذاتها واكتسبت هويتها.
لمزيد من
التفاصيل يمكن مراجعة كتاب «نجيب محفوظ على الشاشة» لهاشم النحاس، طبعات
عدة، القاهرة
|