كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

وقت للكتابة

نجيب محفوظ.. درس السرد الطويل

قاسم حداد

عن رحيل صاحب نوبل

نجيب محفوظ

   
 
 
 
 

(1)

لم تخلص الأجيال الأدبية العربية المعاصرة، في فن السرد، لتجربة روائية سابقة لها مثلما أخلصت لدرس نجيب محفوظ الروائي، ونادراً ما نصادف روائياً لم يصدر عن هذه التجربة، تجاوزاً أو تعثراً أو تقليداً. ولأن الظروف التاريخية، التي شكل نجيب محفوظ ظاهرة فعالة في تكوينها ورسم ملامحها الثقافية، قد أسهمتْ في صقل مشروع هذا الروائي بعناصر ذات الكاتب من جهة وبموضوع اللحظة التاريخية في سياقها العصري من جهة أخرى. ولعل إخلاص الأجيال اللاحقة لهذه التجربة هو الامتداد الموضوعي لإخلاص، منقطع النظير، مؤسِّس، دأب على تحقيقه نجيب محفوظ نفسه، فهو الذي كرّس حياته كاملة، حتى أيامه الأخيرة (بالمعنى الحرفي لهذا التعبير) وبلا هوادة، للكتابة السردية، والرواية بشكل خاص، وهو إخلاصٌ جديرٌ بالإبداع القادر على الاستمرار في التجارب اللاحقة.

(2)

يبقى أن نرى تجربة نجيب محفوظ، قبل كل شيء، بوصفها النص الذي يكتمل بين أيدينا. يكتمل يوماً بعد يوم، فيما هو يكف عن كونه مستقبلاً.

بهذا المعنى أحب أن أرجع إلى نص نجيب محفوظ. الذي تدربنا في شرفته على النظر إلى المستقبل بطريقتنا، حيث السرد العربي، في نص محفوظ، يتأهب لإنجاز الانعطاف النوعي في السرد العربي منذ الجاحظ ورفاقه الأجلاء. مما يفيد الآن إلى وضوح الرؤية لمن يريد أن يعتبر نص محفوظ تحولاً يختتم طريقة واحدة للسرد، ليس من المنتظر (تاريخيا وإبداعيا) أن تستمر في السرد اللاحق، بنفس شروطها التي وصلت الذروة كمشروع وشيك الاكتمال.

هل كان درس نجيب محفوظ طويلا ومتواصلا، ومهيمناً أكثر من اللازم؟

هل تحولت هذه التجربة، بسبب رحابتها وتغلغلها في البنية الذهنية والفنية والاجتماعية للمجتمع المصري والثقافة المصرية، إلى حكم قيمة مسبق على كل المحاولات الروائية التي جاءت بعد محفوظ، خصوصا وهو الروائي الذي تمكنت أعماله، بدرجات متفاوتة، من حجب أسماء وروايات مهمة عاصرته منذ الخمسينات حتى السبعينات. وهي الأسماء التي سيحتاج المرء بعض الجهد لتذكرها واستعادتها لفرط الهيمنة المحفوظية على مشهد الرواية المصرية.

أقول، هل سيشكل محفوظ حجباً مستمراً لبعض التجارب الروائية اللاحقة التي تلته؟

(3)

لقد اشتغلَ النقد الأدبي، في حقل الرواية، في مصر خصوصاً، على تكريس قيمة نقدية وضعت تجربة محفوظ حدوداً لها، تشبه حدود النفي والإثبات.

الأمر الذي رشح العديد من تجارب الجيل الجديد من الروائيين (في مصر وغيرها) لأن تتهيأ لإخفاق تحقيق أي إنجاز نوعي في حقل السرد الروائي.

وبحكم العادة (التي هي كالعبادة كما يقول المثل العربي) تقمص معظم جيل الروائيين بعد محفوظ، شهوة الإضافة إلى المشهد الروائي العربي، صور (جديدة) من تجربة نجيب محفوظ، خضوعا للوهم الذي عممته وكرسته الفعاليات النقدية على امتداد الثقافة العربية في هذا الحقل، والذي مفاده: انك إذا أردت أن تذهب إلى الرواية سيتحتم عليك عبور هذه البوابة الكبيرة التي اسمها نجيب محفوظ.

وعندما لا نقلل من أهمية تجربة نجيب محفوظ، سوف نشعر بأن كل ذلك التكريس النقدي، الذي صدر معظمه من التقدير الجليل الذي تستحقه تجربة محفوظ، قد أدى، من حيث لا يريد الكثيرون، إلى تحويل نص محفوظ إلى قانون الثبات، فيما نتوقع أن يكون أفقاً لانطلاق السرد الجديد في سياق الكتابة العربية.

(4)

وسوف تأتي جائزة نوبل لتمنح الكثيرين بديهية لدعم افتراض حقيقتهم: (إن ما كنا نقوله عن هذه البوابة قد تأكد لكم الآن. فالرواية هي أن تمر من هنا). فلا يتأخر الكثيرون عن مجابهة ذلك السؤال، (نقضاً أو تقمصا) خصوصا في السرد المصري الراهن، خضوعا للوهم ذاته، في المشهد الروائي على الجانبين:

مدرسة نجيب محفوظ والمعجبين والمتفقين مع أسلوبه، ومدرسة التحديث الروائي وتجديد السرد المختلفين مع أسلوبه.

أخشى أن كلا الاتجاهين قد تعثر بتجربة محفوظ بشكل أو بآخر. مما فوّت على العديد من الفرص الإبداعية التي يمكن أن تحقق بها تجربة محفوظ درساً نوعيا وهي تسعف المواهب الجديدة (لو أنها تحررت) منطلقة إلى الإضافة الخاصة في النص السردي العربي.

الآن، أكثر من أي وقت مضى، يتوجب علينا الانتباه الرصين لبعض تجارب السرد العربي، المتمثل في عدد لا بأس به من الروائيين الجدد، لكي نتأكد بأن الإخلاص للسابق ليس في نسخه وتقليده، ولكن خصوصا في استيعابه والإضافة إلية نوعياً وطرح الصنيع الإبداعي الجدير بتجاوزه.

إن الأساتذة والرواد لا يصبحون كذلك، الا إذا أتيحت لتجاربهم حرية التحقق والتجلي بأساليب وأشكال جديدة ومختلفة وحرة ومغايرة، بحيث لا يكون الدرس السابق حاضراً إلا بوصفه ذاكرة ترصد وترفد الأجيال اللاحقة، وليس بتكريسه حكمَ قيمةٍ وحدوداً لازمةٍ للتجارب الجديدة.

بهذا المعنى، سوف نقترح، فيما نتأكد دائماً، من الفعل والدور التأسيسيين لنجيب محفوظ وهو ينجز أشهر التجارب النوعية في السرد العربي الحديث. فالسرد العربي بعد نجيب محفوظ، لابد له أن يختلف رؤيويا وفنيا بشكل جذري حاسم وصارم، متميزاً بمعرفة ووعي بأن البناء الشاهق الذي شيّـده نجيب محفوظ يستحق التكريم الحقيقي المتمثل في تأسيس جديد لبناء سردي مختلف، لا يضاهي السرد السابق فحسب، ولكن يتجاوزه بالثقة والإبداع الجديرين برؤية كونية يستحقها المبدع العربي وهو يصقل تراث مستقبله بالأحجار الكريمة التي يكتنز بها تراث تاريخه الأدبي الكثيف فناً وفكراً. وظني أن درس السرد الذي اقترحه نجيب محفوظ علينا سوف يبدأ في شرفة الذاكرة العربية، كلما حققت الرواية العربية الانتقال الجذري من الخضوع لوهم الواقعية الطويل، إلى حلم المخيلة النشيطة.

الوقت البحرينية في

07.09.2006

 
 

بصمة نجيب محفوظ السينمائية من الحارة الى الطبقة الوسطى وفساد السلطة

هاشم النحاس

قبل أن نتعرض للمواصفات الداخلية لبصمة نجيب السينمائية، يجدر بنا أن نذكر بعض المؤشرات الظاهرية التي تشير إلى عمق هذه البصمة واتساع انتشارها.

في مقدمة هذه المؤشرات، أن نجيب محفوظ هو أول أديب عربي يكتب للسينما مباشرة، فيضفي على مهنة الكتابة للسينما كرامة كانت تفتقدها. (كتب فيلم مغامرات عنتر وعبلة عام 1945 وعرض عام 1948).

وهو أكثر الأدباء المصريين والعرب أعمالاً في السينما (65 فيلماً تقريباً) وأكثرهم تنوعاً في اسهاماته (كتب القصة السينمائية والمعالجة السينمائية والسيناريو، إضافة إلى رواياته وقصصه التي تحولت إلى أفلام).

وتحتل أفلامه مكانة خاصة في تاريخ السينما المصرية والعربية (من أفلامه 23 فيلماً هي من بين أفضل مئة فيلم في تاريخ السينما المصرية، كما جاء في الاستفتاء الواسع الذي قامت به إدارة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي احتفالاً بمئوية السينما 1996).

مخرجون وأفلام

كتب محفوظ أو شارك في كتابة أفضل ما قدمه صلاح أبو سيف في الخمسينات، وبها تميزت شخصية صلاح أبو سيف الفنية، التي حافظ عليها في أعماله التالية ما منحه دوره الريادي في السينما المصرية والعربية، وهي أفلام: «لك يوم ياظالم» (1951)، «ريا وسكينة» (1953)، «الوحش» (1954)، «شباب امرأة» (1955)، «الفتوة» (1957)، «بين السماء والأرض» (1959).

وفي تلك المرحلة كتب محفوظ لعاطف سالم أفلامه المتميزة الأولى: «جعلوني مجرماً» (1954)، «إحنا التلامذة» (1959)، كما كتب لتوفيق صالح رائعته الأولى «درب المهابيل» (1955)، وليوسف شاهين «جميلة الجزائرية» (1959).

وتوالت الأفلام المأخوذة عن رواياته وقصصه بعد ذلك، التي صنعها كبار المخرجين كما صنعتهم، مثل «اللص والكلاب» (1963)، «ميرامار» (1969) إخراج كمال الشيخ، «ثرثرة فوق النيل» (1971)، «الحب تحت المطر» (1975) إخراج حسين كمال، «الكرنك» (1957)، «أهل القمة» (1981)، «الجوع» (1986) إخراج علي بدرخان، «الشيطان يعظ» (1981) إخراج أشرف فهمي، «الحب فوق هضبة الهرم» (1986) و «قلب الليل (1989) إخراج عاطف الطيب.

جميعهم

لقد سألته مرة عن أفضل المخرجين الذين أخرجوا أفلاماً عن أعماله الأدبية فأجاب: «جميعهم». وعندما ذكرت بعضهم أسرع بإضافة: وحسن الإمام أيضاً. وكلنا نعرف أن النقاد لم يعجبهم إخراج إمام للثلاثية، لكنه ركز على أشياء، لم يتردد نجيب في القول إنه يحب، ويعقب على تعليقه هذا بضحكته المعهودة ليؤكد ما توحي به العبارة عن قصده «من هذه الأشياء».

وعلى رغم اختلاف مخرجي الأفلام التي تحمل اسم أستاذنا محفوظ، إلا أن الأفلام في مجملها اتسمت بسمات مميزة أضفت عليها بصمة خاصة، وإن كانت تنتشر فيها بدرجات متفاوتة، وتتمثل هذه البصمة في كل من العوامل التالية: المكان والزمان والشخصيات الحاضرة والقضايا المثارة واسلوب المعالجة.

ولعل أول ما يتبادر إلى الذهن من معالم بصمة نجيب محفوظ السينمائية حضور الحارة، باعتبارها المكان الأكثر شعبية، وفيها تجرىي أحداث بعض أفلامه كما تجرى فيها أحداث بعض أعماله الأدبية، وحملت بعض هذه الأفلام اسماء الحارة، أو الزمان كما حملتها رواياته.

والحارة عند محفوظ ليست مجرد مكان تجرى فيه الأحداث وإنما هي عمارة وتقاليد وقيم وطبقة اجتماعية وشخصيات إنسانية لها سماتها الخاصة. وتكون الحارة ذات طابع واقعي يماثل الواقع المعاش («زقاق المدق» مثلاً)، أو تكون مستمدة من الخيال وإن أخذت الطابع الواقعي كما في أفلام الفتوات («الشيطان يعظ» مثلاً).

أما أفلام مثل «اللص والكلاب» و «الطريق» و «ثرثرة فوق النيل» فقد انتقلت إلى شوارع المدينة المعاصرة، ومن ثم نجد أن أفلام محفوظ تجول في حواري المدينة وشوارعها، (باستثناء فيلم «الوحش» الذي دارت أحداثه في القرية)، والمدينة المقصودة هنا هي القاهرة خصوصاً، فيما عدا فيلمي «السمان والخريف» و «ميرامار» حيث دارت أحداثهما في الاسكندرية.

أما عن علاقة أفلامه بالزمن فقد أخذت المسار نفسه الذي أخذته أعماله الأدبية. وبدأت بمعالجة أحداث تاريخية سابقة في فيلميه الأولين: «المنتقم» و «مغامرات عنتر وعبلة»، ومن ثم انتقلت إلى معالجة أحداث تجرى في زمن ما قبل ثورة 1952، ومنها ما استمد مادته من وقائع بعينها مثل: «ريا وسكينة»، «الفتوة» و «إحنا التلامذة».

ويمكن أن نضم إلى هذه المجموعة، الأفلام المأخوذة عن رواياته وتعالج المرحلة الزمنية نفسها، وإن ظهرت سينمائياً متأخرة فيما بعد مثل: «بداية ونهاية» (1960)، «بين القصرين» (1964)، «خان الخليلي» (1966) و «القاهرة 30» (1966).

ومع بداية الستينات أقدمت السينما المصرية أيضاً على تحويل روايات محفوظ الأحدث، التي تعالج وقائع تجري في الزمن المعاصر لظهورها مثل أفلام: «اللص والكلاب» (1963) و «السمان والخريف» (1968) و «ميرامار» (1969). أما الأفلام المأخوذة عن قصصه القصيرة فكان منها ما يجري في زمن سابق متخيل هو زمن الفتوات مثل «الجوع» (1986) ومنها ما يتناول الزمن المعاصر لانتاجها مثل «أهل القمة» (1981) و «الحب فوق هضبة الهرم» (1986).

غير أن على رغم اختلاف الأزمنة التي عالجتها هذه الأفلام، ظلت الأفلام في مجملها على صلة وثيقة بالزمن الحاضر وقت إنتاجها، وما يثار فيه من قضايا يجري مناقشتها بطريقة مباشرة أو بإسقاط الماضي على ما يجري في الحاضر، ما أضفى على هذه الأفلام حيويتها، وجعلها في الوقت نفسه بمثابة وثائق تاريخية (فنية) شاهدة على العصر.

الشخصيات

ومن ناحية الشخصيات الممثلة في أفلام محفوظ، نجد أن السيادة في أفلام المرحلة الأولى كانت لشخصية ابن البلد ساكن الحارة من الطبقة المتوسطة الدنيا، بما فيها من الحرفيين وأصحاب الأملاك أو الأعمال الصغيرة، والباعة والتلامذة والمجرمين. وفي المرحلة التالية عند الاستعانة بروايات محفوظ ظهرت في الحارة فئات جديدة مثل فئة صغار الموظفين كما في «بداية ونهاية»، كما ظهرت فئات أكثر ثراء معبرة عن الطبقة المتوسطة الأعلى من كبار التجار كما في «الثلاثية».

وخارج نطاق الحارة قدمت أفلام محفوظ شخصيات ابن البلد من صغار الموظفين كما في «الحب فوق هضبة الهرم»، ومن الطبقة المتوسطة العليا من كبار الموظفين وأصحاب الأملاك أو المهن المختلفة (الصحافي، المحامي، الممثل، الكاتب) كما في «ميرامار» و «ثرثرة فوق النيل».

وهكذا شملت الأفلام قطاعاً عريضاً من شخصيات الطبقة الوسطى، لكنها ظلت محصورة داخلها، بعيداً من العمال والفلاحين، وهو ما التزم به أصلاً نجيب محفوظ في أدبه، حتى أطلق عليه يوماً: أديب الطبقة الوسطى المصرية.

وإزاء هذه الاختيارات المكانية والزمانية والشخصيات، كان طبيعياً أن تكون القضايا الأثيرة والمثارة داخل هذه الأفلام، من قبيل: الفساد الاجتماعي قبل ثورة 52، والانتهازية والفساد السياسي بعد الثورة، وصعود اللصوص إلى القمة في عصر الانفتاح. وهو ما يمكن أن نجمله في عبارة واحدة: كان نجيب محفوظ في أعماله السينمائية كما الأدبية بمثابة ضمير الأمة، الذي ينبهنا في كل مرحلة من مراحل تاريخها إلى مواطن القصور حتى نلتفت إليها ونعالجها، وهو ما حاولت أن أعبر عنه في فيلمي التسجيلي الذي حمل عنوان «نجيب محفوظ ضمير عصره» 1989.

الأسلوب

غير أن موضوع الفيلم (أو قضيته)، ليس كافياً لتحديد قيمة الفيلم أو تحديد بصمته المميزة، والشأن في ذلك شأن بقية العوامل السابقة منفردة، وهنا يأتي دور الأسلوب في تحديد البصمة واستكمال عناصرها.

وتعتبر الواقعية التي اتسمت بها أعمال نجيب محفوظ «باعتبارها اكتشاف تركيبات العلل والمعلولات في المجتمع» على حد قول بريخت، من أهم سمات بصمة نجيب على السينما المصرية إن لم تكن أهمها. ذلك أن السينما المصرية قبله كانت أقرب إلى سينما غرائبية، لم تكن في غالبيتها الساحقة تبالي بالواقع وإنما تتوخى كل ما هو غريب وشاذ بقصد إثارة المتفرج وتسليته. لذلك غلب عليها الميلودراما الزاعقة و «الفارس» والأفلام التاريخية أو شبه التاريخية وأفلام الأغاني المغرقة في الرومانسية.

ولكن مع توالي الأفلام التي شارك نجيبمحفوظ في إبداعها مباشرة أو عن طريق أعماله الأدبية، ترسخت قواعد الواقعية التي انتقلت إلى أفلام أخرى لمبدعين غيره. وتحقق من جراء ذلك نقلة نوعية للسينما المصرية.

ويشار إلى أهمية دور المخرجين الذين توافقت أفكارهم واتجاهاتهم مع اتجاهات محفوظ الواقعية وشكلوا بالأفلام التي أخرجوها عن أعمال نجيب محفوظ وأعمال غيره في ما بعد، المدرسة الواقعية المصرية التي وصلت إلى ذروتها في الثمانينات على يد مجموعة من المخرجين من أبناء صلاح أبو سيف أمثال: علي بدرخان وعاطف الطيب ومحمد خان ورأفت الميهي وخيري بشارة وداود عبد السيد.

ولعل النماذج الناضجة من أفلام هذه المدرسة الواقعية المصرية الجديدة، هي ما يمكن أن يمثل إضافة مصرية حقيقية إلى السينما العالمية، وهو ما تشير إليه التقديرات الأدبية التي حصلت عليها أفلام هذه المدرسة في المهرجانات الدولية.

ومن ثم إذا كان وضع الأدب العربي أصبح مختلفاً بما أضافه محفوظ، كذلك أصبح وضع السينما مختلفاً بما أخذته عن محفوظ، من خلال بصمته التي أصبحت علامة مميزة أخذت تسري في أفلامها وبها حققت ذاتها واكتسبت هويتها.

لمزيد من التفاصيل يمكن مراجعة كتاب «نجيب محفوظ على الشاشة» لهاشم النحاس، طبعات عدة، القاهرة

الحياة اللبنانية في

08.09.2006

 
 

ملامح نسائية من سينما نجيب محفوظ:

الدراما انحازت للصورة السلبية من أجل شباك التذاكر

القاهرة ـ كمال القاضي 

احتلت المرأة موقع الصدارة في أدب نجيب محفوظ وبرزت كعنصر مؤثر في تحريك الأحداث علي المستويين الأدبي والدرامي ولكونها منافسا قويا لشخصية الرجل فانها ظلت في بؤرة اهتمامه علي امتداد مسيرته الإبداعية قرابة سبعين عاما وتشكلت بتأثيراتها الحسية والوجدانية والنفسية مئات المواقف، لذا بات محفوظ مضطلعا بتقديمها في أطر متعددة وسياقات مختلفة حيث تباينت أدوارها وطبائعها في السينما كما في الأدب وأخذت ملامح متميزة سواء في خصائصها الايجابية او السلبية، خاصة فيما اضافته رؤي كتاب السيناريو الذين أبدوا عناية بصفاتها العارضة ومقوماتها الأنثوية دون بقية الصفات الجوهرية كالاخلاص والطاعة والتفاني، غير أن الاستثناء الوحيد الذي احترم تلك الخصائص الأصيلة تبلور في الثلاثية التي تحولت الي ثلاثة أفلام هي السكرية وبين القصرين وقصر الشوق، إذ جعل من الشخصية الرئيسية أمينة محورا أساسيا للأحداث مسبغا عليها آيات الرضا وحسن الخلق، الأمر الذي يوحي بقناعات ايجابية لدي الكاتب في التكوين الفطري للمرأة التي لم تخالط المجتمع المدني أو تنخرط فيه، ومن هنا تتبدي وجهة النظر المتوارية عند نجيب محفوظ والخاصة بتأثير الثقافة الاجتماعية علي سلوك المرأة ودورها في تلونها بألوان مختلفة قد تخرج قليلا وكثيرا عن المألوف والمعتاد، مثلما هو الحال في نموذج زبيدة العالمة، المضاد لأمينة من حيث الشكل والمضمون والذي ركز عليه المخرج حسن الإمام في أفلامه الثلاثة لأسباب تجارية فأحدث نوعا من التشويش علي رؤية صاحب الرواية الذي لم يكن قد أفرد كل هذه المساحة لزبيدة العالمة في سياق الأحداث انما قصد إحداث نوع من التباين في سلوك نموذجين من النساء ليقيم عليهما المقارنة بين أسلوب السيد أحمد عبدالجواد مع زوجته الساذجة بوصفها مصدر السعادة ومكملة للجانب المفتقد والناقص في شخصيته، ولو تأملنا شخصية أم يس في الثلاثية ايضا سنلحظ بعض التحفظات من جانب الكاتب علي سلوكها الاخلاقي وتشدده في رفضها وعدم الاتصال بها، وهذا يعكس نظرة قيمية ما ربما تكون وردت عابرة في الرؤية السينمائية لحسين الإمام لأنه لم يشأ أن يتوقف كثيرا امامها، باعتبارها تفصيلة صغيرة من وجهة نظره بينما هي تمثل في الواقع نموذجا ثالثا للمرأة فهي تقف علي تخوم الانحراف دون أن تنزلق فيه كلية وهي بذلك تختلف عن أمينة المغــــالية في الانضباط وزبيدة العالمة المفــــرطة في الانحلال وهناك ايضا نوعان آخران ينتميان الي فصيل مغاير لفكــــــرة الانحراف وعدمها يتمثلان في شخصيتي مريم حبيبة كمال الابن الرومانسي وشخصية زنوبة صبية العالمة وتلميذتها في الكار، فالأولي تمارس الدلال والإغراء بمفهومه الانساني لإشباع رغبتها العاطــــــفية وجذب كمال اليها دون تجاوز يحسب عليها أو يمكن تصنيفه علي انه انحراف، أما الثانية وهي زنوبة فتلك تتمتع بمواهب أنثوية تؤهلها لأن تكون فتاة لعوبا، وبالفعل تمارس هذا الدور ولكنها لا تستجيب للغواية إلا في حدود معينة وهي بذلك تقــــدم مغريات الرذيلة دون أن تمنح الرغبة، وتعد هذه الحيلة هي فلسفة التسويق والعرض ذات الطريقة التي اتبعها حسن الامام في تقديم الاغراء والمتاجرة به مستخدما اسلوب الايهام في اشعار المشاهد بالتواصل مع البطلة التي يشتهيها في حين ان العلاقة بينهما ليست إلا ضربا من خيال!

في فيلم الشحات يبدو التضاد اكثر وضوحا بين الزوجة الهادئة الرقيقة وتلك المرأة الاخري التي تحتل موقع العشيقة شويكار في حياة عمر الحمزاوي محمود مرسي الرجل المضطرب المتشكك الهارب من جحيم الشك إلي جنة اللذة بين أحضان العشيقات، وربما لم يكن نجيب محفوظ معنيا كثيرا بالمقارنة بين الانماط النسائية قدر عنايته بفلسفة الجنس كمسكن لحالات التوهان والشرود وعاصما واهيا من الجنون فهو يؤكد علي عرض اللذة الجنسية وإن طال أمدها فيما يظل السكن الحقيقي في الحياة الزوجية والعائلية، وأن أي محاولة لخرق ناموس الكون والنفاذ الي العالم الميتافيزيقي مآله السقوط والهدم بمعناه المجازي والحقيقي سواء كان ذلك متعلقا بهدم الأسرة أو هدم الــروح التي هي جزء من ملكية الله في الانسان وسر من أسراره الإلهية التي لا يمكن ادراكها بالعقل البشري، ببساطة شديدة ينتقل بنا فيلسوف الرواية من المعاني الصغري الي المعاني الكبري وبذات البساطة ينطوي الحدث الدرامي المتعلق بحيرة عمـــر الحمزاوي داخل الفيلم متعدد المستـويات الي آفاق الابداع السينمائي المتجاوز لمفردات المتعة المعهودة من صورة وحوار وديكور وموسيقي وخلافه لنجد أنفسـنا أمام جمال مجرد يصعب رده الي أي من تلك العناصر منفردة أو مجتمعة، غير حقيقة وجود اله وانحياز الانسان الفطري للخير والاستقامة والحياة الطبيعية الآمنة التي تمثلت في الزوجة والابنة، وأتصور أن هذه هي وجهة نظر نجيب محفوظ نفسه الذي تلبسته حالة البطل فظل ردحا من الزمن يبحث عن اليقين ليوحد بين وجدانه وعقله.

من النماذج السوية التي تستأهل الوقوف أمامها وتعكس رأيا ايجابيا في المرأة شخصية زهرة في فيلم ميرامار المأخوذ عن الرواية التي تحمل نفس الاسم، حيث تعاطف محفوظ مع الفتاة المنتمية للطبقة الكادحة ناقلا تعاطف الثورة وسعيها الي محو الأمية والقضاء علي الجهل تمهيدا لبناء مجتمع جديد، وإن كان محفوظ قد انتقد انتهازية الأفراد من بعض اعضاء الاتحاد الاشتراكي مثل سرحان البحيري الذي غرر بزهرة وخدعها إلا أنه في نفس الوقت لم ينكر دور الثورة في تسييد مبدأ تكافؤ الفرص وإقرار الاشتراكية كمنهج اجتماعي يعمل علي تلاشي الحواجز الطبقية، مما أدي الي تمكن البطلة زهرة من نزول ميدان العمل وقيامها علي تعليم نفسها بنفسها متحدية ظروفها الصعبة وممارسات القهر من الطامعين والخونة، في اشارة رمزية لمصر التي تخلصت من أعدائها الرجعيين بعد استقرار السلطة في يد الزعيم جمال عبدالناصر عام 54، وفي الحقيقة ان السيناريو الذي قدمه ممدوح الليثي نقلا عن الرواية الأصلية كان متعسفا في التعبير عن الواقع السياسي والاجتماعي في تلك الفترة وأكثر مغالاة وتزايدا من نجيب محفوظ الذي أعمل الحاسة النقدية فيما يتعلق بالسلبيات دونما انكار للايجابيات وتجريح، فمحفوظ كان يريد ان يؤكد علي ان مصر المتمثلة في زهرة لم ينل منها الطاعون والأفاقون وأنها صمدت امام المحنة وتجاوزت أزمتها في عهد عبدالناصر وليس في أي عهد آخر، والمعني مختلف هنا عنه عند ممدوح الليثي الذي صاحب النزعة الساداتية المائلة الي تشويه كل انجازت ناصر وأمجاده!!

في زقاق المدق اختلفت صورة المرأة نسبيا عنها في ميرامار فالبطلة حميدة ـ شادية ـ وهي ذاتها التي جسدت دور زهرة كانت تتسم بالوصولية والتطلع وترغب في الانسلاخ عن طبقتها الشعبية الفقيرة ومن ثم اعتمدت علي أنوثتها كمقوم أساسي لانتقالها الي طبقة الاثرياء مخلفة وراءها طابورا من الضحايا وشهداء الحب والغرام، وقد تعمد نجيب محفوظ ان يرصد التأثيرات الطبقية علي نفسية سكان الحارة التي ولدت فيها حميدة وشبت كوردة يانعة، ولكن للأسف لم تكن السينما علي قدر وعي الرواية فلم تهتم إلا بالشكل الخارجي للشخصية وتعاملت معها كامرأة لعوب تغوي الرجال وتستعذب هزيمتهم، وفقا للمعني الذي استخلصه المخرج حسن الإمام وتاجر به في شباك التذاكر معتمدا علي قدرات شادية في استعراض دلال الشخصية ومفاتنها فكانت النتيجة أن نجح الفيلم تجاريا وهبط بلغة الأدب الي مستوي التعامل الغريزي والحسي مع البطلة كأنها ممثلة بورنو تجردت من مشاعر الاحساس المرهف وصارت تؤدي وظيفتها بشكل آلي دون الالتفات لما وراء الصورة المغرية!

وبتنوع الرؤي والأساليب والثقافات وبرغم التباين والمغايرة بين الرؤية والرواية بقيت السينما رافدا مهما لاستقاء الأدب وتوثيق رأي الكاتب الكبير في المرأة علي اختلاف ميولها وتوجهاتها وطباعها ودورها في الحياة بكافة تشكيلاتها الساكنة والمتحركة، فالمرأة عند نجيب محفوظ ليست نمطا ولا لغزا وانما هي عالم يتسع لملايين الترجمات ومئات الصور والأفلام.

القدس العربي في

16.09.2006

 
 

وداع نجيب محفوظ .. وإرث إدوارد سعيد .. فى أخبار الأدب

شريف عبد الله  

قدمت صحيفة "أخبار الأدب" الأسبوعية المصرية ــ التى يرأس تحريرها الأديب جمال الغيطانى ــ ملفاً كبيراً حمل "تحية الوداع" لأديب نوبل الراحل نجيب محفوظ، وذلك فى أحدث أعدادها الصادر فى العاشر من سبتمبر.

اشتمل الملف على العديد من المقالات والرثائيات فى حب وتوديع محفوظ بأقلام نخبة من كبار المبدعين العرب.

بعنوان "مؤسس الرواية ومجددها" كتب الشاعر الفلسطينى محمود درويش، مشيراً إلى أن نجيب محفوظ ــ أمس واليوم وغداً ــ هو أحد معالم مصر الكبري، حى وشامخ فى وجه الزمن، ودع جسده النحيل، أما روحه المتجلية فى إبداعه الكبير فتبقى حية فى ذاكرة الأدب العربى الذى أوصله محفوظ إلى العالمية، فبفضله اعترف لنا العالم بدور ما فى الإبداع الإنساني. وقال درويش فى مقاله: نحن لا نستطيع الكلام الجدى عن الرواية العربية قبل نجيب محفوظ. كانت هناك محاولات وبدايات بارزة، لكن محفوظ هو المؤسس النوعى للرواية العربية بمعناها الحديث. وكان فى الوقت ذاته مجددها ومطورها. نادراً ما يكون المؤسس الرائد هو المجدد، لكن نجيب محفوظ كان ذلك النادر. لم يتوقف عن تطوير أساليبه وأشكاله الروائية، فلم يقع فى نمط روائى واحد، إذ كان شديد الإصغاء إلى حركة الزمن المتغير، فكتب ملحمته الروائية بفصولها المتعددة، من الكلاسيكية إلى الحداثة، وصار سيد الكتابة الروائية العربية، ومؤرخ التحولات الاجتماعية والسياسية فى تاريخ مصر المعاصر .

وأشار محمود درويش إلى أن نجيب محفوظ أعاد ــ من أحياء القاهرة القديمة بطبقتها الوسطى وبعض فئاتها الشعبية ــ خلق عالم أغناه عن السفر إلى العالم، عالم مزدحم بكل أسئلة الحياة اليومية والوجودية، وبرهن للجميع على أن عالمية الأدب تبدأ من المحلي، من حارة مغمورة، وأن مفهوم الأدب العالمى لا يتحدد بمركزية ما، بل هو مجمل نتاج الكتابة الإنسانية وتعددية ما يكتبه البشر فى كل مكان. وقال درويش: أحببت فى أدبه نظرته العبثية إلى فكر التاريخ، وما يفعله التاريخ والقدر بالبشر. وأحببت لغته السردية المتخففة من البلاغة الشعرية التى أغرت بعض الروائيين أن يكونوا شعراء فى الرواية. وأدهشتنى فيه طريقته فى إدارة الموهبة، فهو يعرف أن عبقريته لن تتحقق إلا بإخضاعها لنظام عمل النمل الصارم، لذلك كان دقيقاً فى كل المواعيد، وبخاصة فى العلاقة بين الإلهام والكتابة، إذا كان ثمة إلهام فعلى الكاتب أن يكون شديد الوفاء فى التعاون المنضبط معه، وعليه أن يعمل على استحضاره. ويتساءل الكثيرون: كيف استطاع الموظف البيروقراطى نجيب محفوظ أن يكون ذلك المبدع الكبير نجيب محفوظ؟ الجواب يكون فى الكيفية التى احترم بها الوقت، وقت للعمل الوظيفي، وقت للعبث والسهر، وقت للحرافيش، وقت للمقهي، ووقت مقدس للكتابة. وإذا كنا لا نستطيع الكلام عن رواية عربية حديثة قبل نجيب محفوظ، فإننا وبفضل دوره الكبير فى تأسيسها وتطويرها وتوسيع ضفافها نستطيع أن نتكلم عن الرواية العربية بعد نجيب محفوظ، وما بين ما قبله وما بعده يبقى هو المعلم الأكبر .

وبعنوان "رجل فى الوسط" كتب الطاهر بن جلون يقول: كان نجيب محفوظ، وهو جالس إلى منضدته المعتادة فى مقهاه المعتاد، فى موعده اليومى الذى لا يلغيه إلا فى حالة مرضه، يتابع جموع الناس الذين لا يعرفهم، وتعج بهم شوارع المدينة بعين متسامحة وإنسانية، ساخرة أو ماكرة أحياناً، ولكنها ليست شريرة على الإطلاق. لقد كان صوت وذاكرة حياة أولئك الناس، سواء كانت معقدة أو صغيرة أو عظيمة أو باهرة أو متواضعة، بدءا من الطلبة الذين جاءوا ليستشيروه وانتهاء بالنادلين الذين كانوا يقدمون له قهوته المعتادة. وقد قال بلزاك إن الروائى الحقيقى يجب أن يكون قادرا على الغوص فى أعماق المجتمع، وذلك لأن الرواية هى التاريخ الخاص للأمم. ومحفوظ ينطبق عليه هذا الوصف تماماً، إذ لا يمكن أن تفهم مصر بدون محفوظ، بدون شخوصه الذين يمكن لأى قارئ ــ سواء كان عربياً أم لم يكن ــ أن يتماهى معها. وفى الأيام التى انقضت منذ مماته، لاحظ كثيرون كيف ساعد محفوظ القراء الغربيين على فهم العالم العربي، لكن ربما كان الأهم من ذلك أنه ساعد العالم العربى على أن يفهم ذاته. فقبل محفوظ لم تكن الرواية كشكل من أشكال الأدب جزءا من الثقافة العربية، بل إن العرب لم يكتبوا الرواية حتى بداية القرن العشرين، وذلك يرجع إلى حد كبير إلى عدم اعتراف المجتمع العربى بالفرد. ففى عام 1914 فقط ظهرت أول رواية عربية حقيقية، هى رواية "زينب" لهيكل، التى نشرت كسلسلة. ولم تظهر حقاً الرواية العربية كنوع رئيسى من أنواع الأدب إلا فى خمسينيات القرن العشرين، مع صدور ثلاثية القاهرة التى كتبها محفوظ. وفى تلك الثلاثية ــ بين القصرين وقصر الشوق والسكرية ــ وصف محفوظ حياة ثلاثة أجيال من أسرة ترمز إلى بلد يشهد تحولا ملحمياً خاصاً به، من التراث والتقاليد إلى شكل متعثر من الحداثة .

ويوضح الطاهر بن جلون أن محفوظ قد حاول كل أساليب الكتابة، ومن بينها أسلوب الرواية التجريبية، وكان هذا أمراً ممتعاً بالنسبة له. فلغته، التى كانت تقليدية ومحافظة فى البداية، أصبحت أكثر ابتكاراً، وصارت تتضمن ما كان يسمعه فى حيه الذى لم يبرحه قط. فهو لم يسافر، ويقال إنه غادر مصر مرة أو مرتين لا أكثر. ولكنه كان رحالة بغير حراك، مستكشفاً للروح الإنسانية وهو قابع فى مقهي.

وقيل أيضاً إن محفوظ كان روائياً واقعياً، وهذا ليس صحيحاً ــ يضيف الطاهر بن جلون ــ فالواقعية لا وجود لها، وذلك لأن الحياة، خصوصاً الحياة فى القاهرة، هى نفسها خيال، لا يمكن سبر أغواره، ولا يمكن أن ينضب، حياة تختلط فيها المأساة بالملهاة، وتنهمر فيها الدموع من المتعة أو من الأسي. ولم يكن محفوظ بحاجة إلى اختراع مواقف أو شخوص، فقد كان يكفيه أن يراقب الناس من حوله. وفى "السكرية" يشار إلى وفاة الشخصية الرئيسية ببضع كلمات فقط: لقد ترك السيد البيت ، وهذه الكلمات تنطبق اليوم على رحيل نجيب محفوظ "سيد الرواية العربية".

أما الطاهر وطار فقد كتب بعنوان "سيظل بيننا" مشيراً إلى أن نجيب محفوظ استغل ملكته وقدراته ومواهبه، حتى آخر لحظة من حياته، وبصمت وبتواضع وباستقامة ضحى من أجل الجميع. ويقول وطار: لقد أسس محفوظ فناً حديثاً فى الأدب العربي، وفى رأيى أنه أسس مدرسة أخلاقية فى تعاطى الإبداع، ولقد رفع رأسنا بين الأمم، وإنى لفخور بأنى أول من رشحه لجائزة نوبل. الناس يداعبون كل ما يداعب من متاع الدنيا، ونجيب يداعب الأفكار والصور والخيالات، وأبطاله وهم يتحايلون عليه ويتحايل عليهم. عاش كذلك إلى أن أطال خطوته، فلحقهم فى عالم الغيب .

وبمناسبة الذكرى الثالثة لرحيل المفكر العربى إدوارد سعيد كتب محمد شعير بعنوان "إرث إدوارد سعيد"، مشيراً إلى أنه رغم مرور ثلاث سنوات على غيابه الجسدي، فإن إدوارد سعيد ما زال فاعلاً ومثيراً للجدل، وما زالت أفكاره تحظى بالعشرات من الأبحاث للدرس والتحليل، فهو قامة عملاقة فى الفكر الإنساني، وشخصية فذة، نفتقده اليوم حقاً لكن إنتاجاته الفكرية تؤكد أنه سيبقى حاضراً دائماً بيننا، لأن عطاء الكبار لا يذهب مع موت المبدعين.

العرب أنلاين في

18.09.2006

 
 

مجموعة من الحوارات مع الأديب الكبير

"هكذا تكلم نجيب محفوظ".. فى السياسة والأدب والحياة

عيد عبد الحليم  

عن الهيئة العامة لقصور الثقافة صدر كتاب "هكذا تكلم نجيب محفوظ" وهو عبارة عن مجموعة من الحوارات التى اجراها الكاتب عبد العال الحمامصى معه على مدار ثلاثين عاما.

حيث يؤكد المؤلف فى مقدمته ان "سر عظمة هذا الفنان الخلاق الذى توجته الدنيا بجائزة نوبل.. يكمن فى مصريته، سلوكا وخلقا.. إبداعا وفنا او من خلال ــ ايضا ــ التوافق والتناغم الرائع بين الإنسان والفنان.. بين الخلق والفن، كما تحقق فى هذا المصري: نجيب محفوظ.. تواضع المصرى الذى يحقق الخوارق ولا تدفعه الى الصدارة الا أذرع المنصفين".

ويرى الحمامصى ان هناك دوراً هاما لعبه محفوظ وتغافل عنه النقاد وهو دوره فى تطوير فن القصة القصيرة فى مصر والعالم العربي، من خلال القيم الفنية والابداعية التى اكدتها مجموعاته القصصية الثلاث عشرة منذ "همس الجنون" حتى "صباح الورد" والتى لا تقل أهمية عن عطائه فى مجال الرواية، فقد جود وجدد وطور بما يجعله واحدا من أهم بُناتها..

وهناك ــ على حد تعبير الحمامصى ــ تشابه كبير بين وليم فوكنر الكاتب الامريكى الاشهر وبين نجيب محفوظ فكلاهما ظل يكتب ويكدح فى صبر دون سعى الى جائزة او هالة.. لم يغادر فوكنر قريته.. ولم يغادر نجيب قاهرته.. ولكن العالم هو الذى جاء يطرق باب كل منهما، ومعنى هذا ان "ما ينفع الناس سوف يمكث فى الارض".

أكثر من اتجاه

وتضرب حوارات الحمامصى مع محفوظ فى اتجاهات كثيرة فى السياسة والادب والفن والحياة ففى سؤال عن كيف يكتب نجيب محفوظ نراه يجيب: "ألاحظ عن نفسى اننى لا اكتب الا من موضع قلق، هذا القلق اساسه الاجتماعى قضية العدالة الاجتماعية.. كانت كتابتى عادة عن المقهورين.. وحتى اذا تجاوزت الكتابة هذه الحدود الى ما يمكن ان نسميه التأملات العامة.. فهى تدور ايضا حول قضية العدالة بمعناها الكوني.. الإنسان فى مواجهة المصير.. أمام القضاء والموت".

وعن علاقته بالسينما يقول نجيب محفوظ: "الواقع ان السينما عرفتنى قبل ان اعرفها.. كان ذلك عام 1947 على ما اعتقد.. كنت كتبت "عبث الاقدار"، و"رادوبيس"، و"كفاح طيبة"، و"خان الخليلي"، و"زقاق المدق" وكانت عبث الاقدار هى التى رشحتنى للسينما، فقد قرأها صلاح ابو سيف واكتشف ان كاتبها يمكن ان يكون سيناريست.. وجاءنى يعرض على ان اكتب سيناريو فيلم "مغامرات عنتر وعبلة" ولم اكن وقتها اعرف حرفا واحدا عن السيناريو فتعلمت على يد صلاح خطوة خطوة كما يتعلم التلميذ حروف الهجاء.. وبعد ان انتهيت أهدانى مكتبة من السيناريو لأتعلم لغة السينما عملياً.. وظللت مدة طويلة اشتغل بكتابة السيناريو حتى عام 7591 وكان للسيناريو فضل كبير على كأديب.. فقد عصمنى من العسر المادى الذى كنت اعانيه وكان الأدب وقتها رخيص السعر يباع بقروش.. فأسعفتنى السينما بفلوسها".

علاقته باللغة

واذا كان نجيب محفوظ لم يتخل عن التعبير فى رواياته عن اللغة الفصحى، فإنه كان يستخدم الفصحى التى ترتبط بالواقع الاجتماعى فلم يلجأ الى التعسف اللغوى أو التعنت فى المجيء بالفاظ لاتتوافق مع الحس الشعبى الذى يكتب عنه، ونراه فى حواراته هذه يقول عن هذه الاشكالية: "اكبر معركة خضتها كانت مع اللغة، فقد بدأت وأنا أظنها كما تعلمناها فى المدارس مجرد قوالب مقدسة نضعها على موضوع فتسير.. لهذا تجدنى فى الروايات الفرعونية متأثرا بأسلوب القرآن وتعبيراته وانا أكتب عن الفراعنة، وعندما بدأت اكتب الرواية الواقعية اصطدمت بالواقع.. وبطريقة لا شعورية وجدتنى أدخل فى معركة كيف اطور هذه اللغة لتلائم الموضوع وهى معركة طويلة.. اعتقد انه لم تخل رواية من رواياتى من التوفيق والفشل المتعاقبين فيها.. ثم تم لى قدر من السيطرة فى اواخر العمر.

وربما كانت معاناتى مع اللغة هى التى دعت احد النقاد الاجانب وهو يتابع عملية اللغة عندى ان يكتب عن اللغة عندي.. بأنه يجدها ناجحة روائيا فى صفحة ما، وفى الصفحة التالية تكاد تكون لغة محفوظات.. الى حد انه اصبح لا يدرى ان كانت اللغة التى يقرأها عامية او فصيحة.. ولكنه يرى اننى بلغت قمة التوازن بين الاسلوب الانشائى والاسلوب الروائى فى الثلاثية.. ثم بلغت قمة الانتصار بعد ذلك".

المقاومة اولاً

وعن المقاومة الفلسطينية يقول محفوظ فى حواراته: "أما المقاومة الفلسطينية فإنى اقر لها بالشجاعة والبسالة والنبل.. وانها واجهت الموقف بما يشرف كل عربى رغم تخلى جميع العرب عنهم فى الميدان، وللمرة الخامسة أناشد المقاومة ان تعيد النظر فى موقفها بصفة نهائية، غير منخدعة بوعود من يعدون ثم يديرون ظهورهم ويصمون آذانهم ساعة الحسم".

وفى إجابته عن سؤال حول إمكانية ان يلعب الأدب دوراً فى إعادة العقل العربى الى ساحة الفعالية وشروط ذلك، يقول محفوظ: " بالتأكيد يستطيع الأدب ان يفعل ذلك.. بل لعل وظيفته الأولى فى اى عصر هى ان يفعل ذلك.. إن وظيفة الأدب الدائمة هى نقد الحياة والمجتمع.. أى مناهضة كل المعوقات التى تقف فى سبيل النمو الروحى والمادى للإنسان فدور الأدب فى التحرير لم يعد من يمارس فيه والأدب عندما يكون احتجاجا واستشرافا بواسطة الادوات المتمكنة، فلا شك ان العقل يجد فيه ما يساعده على ان تكون رؤيته نافذة وسديدة، ولكن باستثناء واستبعاد الادب السلطوى ــ ان صح التعبير ــ وأعنى به الادب المسخر لخدمة أهداف السلطة. طبعاً، لكى يتاح للأدب ان يؤدى هذا الدور فلا بد من إطلاق حرية التعبير بلا حواجز وان تحجم الرقابة، باختصار ان تكون الديمقراطية سيدة الموقف، غير ان الأدب يستطيع ان يعمل تحت كل الظروف بوسائله الخاصة".

مستقبل الرواية

وحول رؤيته لمستقبل الرواية العربية يقول نجيب محفوظ: "مستقبل اى شكل ادبى لا يمكن ان يتقرر هكذا بشكل نهائى قاطع، فالعلم دائما يتغير والاحتمالات دائما مطروحة.. وسيطرة شكل أدبى ما هى أيضا غير نهائية وفى نطاق الادب اعتقد ان الرواية الآن هى اقربها واحبها الى القراء.. وأنا اعنى هنا الرواية الصغيرة الحجم المركزة الرؤية الفنية.. لأن المطولات الروائية لم تعد مناسبة وما عاد يحتملها القارئ لا من حيث الوقت ولا من حيث الذوق.. أما القصة القصيرة فلم تعد وجبة مشبعة يمكن ان تغنى الناس عن غيرها.. ولهذا أزعم ان الرواية الصغيرة هى التى تفرض الآن سيطرتها".

وهكذا رأينا نجيب محفوظ يتحدث عن مناطق مختلفة من الرؤى، محفوظ الذى تؤكد أعماله دائما ان مهمة الفن هى تبصير الوعى بحقيقة الحياة.

العرب أنلاين المصرية في

27.09.2006

 
 

نجيب محفوظ ومأزق السينما المصرية

د. ناجى فوزي

القارئ الجيد لأعمال نجيب محفوظ الأدبية، لابد له أن يلاحظ أن الثراء الفنى لمعظمها يعود فى جزء غير قليل منه إلى براعة هذا الأديب فى وصف المرئيات، سواء كانت هذه المرئيات تتصل بالأمكنة التى تدور فيها أحداث أعماله الأدبية، أو شخصياته الروائية ذاتها فضلا عن بقية العناصر الأخرى بما فيها من كائنات حية، وجمادات،.... إلخ، والحقيقة أن مثل هذه الملاحظة الجديرة بالاهتمام تصدق بالأكثر على رواياته وقصصه الطويلة، بينما يمكن أن تتوارى فى قصصه القصيرة إلى حد كبير.

وإذا كنا نرى أن أدب نجيب محفوظ ذاته هو نوع من الأدب الزاخر بوصف المرئيات إلى حد كبير، على نحو ما أسلفنا، فإن هذه الملاحظة تشكل ظاهرة نرى أنها تتصل بأمرين من المرجح أن لكل منهما أثره، كما أنه من المرجح أنهما أمران متكاملان أيضا؛ ذلك أننا يمكن أن نلاحظ أن بدايات نجيب محفوظ المبكرة فى كتابة نصوص الأفلام سيناريوهات منذ عام 1947، لها تأثيرها، أيا كان حجم هذا التأثير، فى تكوين هذا النوع من الثراء فى وصف المرئيات داخل مجمل هذا الأدب ذاته، ولعل ذلك هو الأمر الذى دفع المخرج السينمائى المصرى صلاح أبو سيف، ليطلب من محفوظ أن يكتب نصوصا سينمائية، قبل أن تتحول نصوصه الأدبية ذاتها إلى أعمال سينمائية بدءا من عام 1960.. ومن جهة أخرى فإن الثراء فى وصف المرئيات، الذى يتسم به أدب نجيب محفوظ، من شأنه أن يحفز الفنان السينمائى، الذى يعمل فى فيلم سينمائى مأخوذ عن أحد أعماله الأدبية الطويلة، على تجسيد هذه المرئيات بأقصى طاقة بصرية ممكنة؛ وذلك من خلال الصورة السينمائية بمعناها الشامل، وهو ما نعنى به المكونات المرئية جميعها الظاهرة داخل إطار شاشة العرض السينمائى، سواء كانت تتصل بعناصر تقنيات التصوير السينمائى المعروفة مثل: الإضاءة، حركة آلة التصوير، العدسات،..... إلخ أولا تتصل بها مثل: الديكور، أداء الممثل، الأشياء الحية والأشياء الجامدة،..... إلخ.

والحقيقة أن قارئ أعمال نجيب محفوظ الأدبية خاصة رواياته يمكنه أن يكتشف بسهولة إلى أى مدى يبدع هذا الأديب فى وصف المرئيات داخل نصوصه الأدبية، ولكن الذى لا يعرفه الكثيرون أن فنانى السينما المصرية كثيرا ما لا يستطيعون مجاراة الأديب فى وصف المرئيات داخل نصوصه الأدبية التى ينقلونها إلى الشاشة الفضية، مهما جاهدوا فى محاولات تجسيد هذه المرئيات.

ولعل تناول جانب من جوانب أول أعمال محفوظ الأدبية التى نقلتها السينما المصرية إلى شاشتها، يوضح إلى أى مدى يمكن أن يتجاوز الأديب نجيب محفوظ، هؤلاء الفنانين السينمائيين الكبار فى وصف المرئيات فإذا كنا نزعم أن فيلم بداية ونهاية إخراج صلاح أبو سيف، مصر، 1960 هو مأساة سينمائية حفرت لذاتها اسما خالدا متميزا بذاته فى قائمة الروائع المدرسية الكلاسيكيات التى أنتجتها السينما المصرية، زاعمين - تحديدا - أنه عمل سينمائى فذ، يصلح أن يكون نموذجا مدرسيا لمرئيات التراجيديا السينمائية المحكمة الصنع، التى تدور بين الفيلم والنص الأدبى المأخوذ عنه، فإن هذا الفيلم ذاته يضم عددا من الأمثلة التى توضح إلى أى مدى يتجاوز الأديب نجيب محفوظ الفنان السينمائى فى وصف المرئيات، على الرغم من أن الأخيرة أى وصف المرئيات هى الحرفة الأولى للفنان السينمائى، سواء كان مخرجا أو مديرا للتصوير أو مصمما للمناظر،... إلخ.

فعلى سبيل المثال، عندما تنتقل أسرة المرحوم كامل على إلى مسكن جديد متسع، بعد أن يتخرج الابن الأصغر حسنين عمر الشريف ضابطا من المدرسة الحربية، فإننا لا نستطيع كمشاهدين أن نحدد مصادر الضوء المستخدمة فى المشاهد التى يتم تصويرها داخل ديكور هذا المسكن، إلا أن السياق العام للسرد الفيلمى ينبئنا بأن مشهد زيارة أسرة فريد أفندى صهر حسنين لهذا المسكن تتم نهارا، أثناء إعداد الشقة للسكنى، ولكننا لا نرى مصدرا محددا لضوء النهار نافذة، شرفة،... إلخ. وبقية المشاهد التى تدور فى ديكور هذا المسكن يتضح من سياقها الدرامى أنها تقع ليلا، ويظهر تأثيرها المرئى أنها مضاءة كهربائيا، والحقيقة أننا نلاحظ أن الحل الإضائى فى الفيلم للمشاهد الليلية، فى هذا المسكن الجديد، يختلف عما يرد من وصف مرئى لهذه الإضاءة فى النص الأدبى لرواية محفوظ، الذى يشير إلى إشعال المصباح الغازى كيروسين لعدم وصل الكهرباء بعد نجيب محفوظ: بداية ونهاية، القاهرة، مكتبة مصر 1976، ص316 لذلك فإننا نرى أن فنان الفيلم وهو يتجاهل الوصف المرئى لإضاءة المسكن الجديد ليلا، كما يكتبه محفوظ فإن هذا السينمائى يتنازل عن - بل يهدر - الكثير من الإمكانيات التعبيرية المرئية التى يتيحها هذا الوصف الأدبى، ذلك أن الناتج الطبيعى لإضاءة مصباح الكيروسين من شأنه أن يكون أكثر تعبيرا عما يدور داخل هذا المسكن ليلا من أحداث درامية قاسية تتسم بالطابع المأساوى، ففيها يلجأ الابن الأكبر حسن فريد شوقى الخارج على القانون إلى مسكن الأسرة، هربا من مطاردة الشرطة وهو يعانى من جروحه وإصاباته التى نالته من المطاردة، وينتهى أمره بأن يقضى نحبه بين أمه أمينة رزق وأخيه الأوسط حسين كمال حسين، وفى هذه المشاهد الليلية، يفاجأ حسنين عمر الشريف بطلب رئيس نقطة شرطة السكاكينى للحضو لأمر مهم، فيخرج من هذا المسكن للمرة الأخيرة بلا عودة، ومن الواضح أن شقيقته نفيسة سناء جميل كانت قد سبقته فى الخروج، وبلا عودة هى الأخرى أيضا.

وعندما نطالع النص الأدبى لرواية بداية ونهاية يلفت نظرنا أن الأديب نجيب محفوظ يقدم وصفا لواحدة من المفردات المرئية التى نرى أنها تحمل الكثير من المعانى والإيحاءات المهمة لموضوع الرواية، ولا ندرى سببا لتجاهل فنان الفيلم لها، على الرغم مما نعتقده بأنها واحدة من المفردات المرئية ذات القيمة التعبيرية العالية تذكر الرواية أن الضابط حسنين عمر الشريف يغادر مقر نقطة السكاكينى وبصحبته أخته نفيسة سناء جميل، ويصف الروائى الأديب هذا الموقف فى نصه الأدبى بقوله عن الشخصيتين: وسارا مع قضبان الترام، ولم يكن حسنين يدرى أين ينتهى به المسير، لأنه لم يسبق له المجيء إلى هذا الحى نص الرواية السابق ص368، ولا ندرى كيف يفوت على فنان الفيلم الاستفادة من فكرة قضبان الترام، ويناظرها فى تأثيرها المرئى قضبان القطارات إن أهم الخصائص التى تميز هذه القضبان هى آن كلا من قضيبى شريط الترام أو القطار يسيران فى اتجاه واحد ولكنهما لا يلتقيان أبدا، إن كلا من القضيبين يتزاملان معا، يبدآن من نفس النقطة معا، ثم يصلان معا إلى نهاية واحدة، ولكنهما فى نفس الوقت لا يلتقيان على الإطلاق، إن لهما مصيرا واحدا بدون أن يكون بينهما أى لقاء، ألا ينطبق ذلك كله على شخصى الشقيقين حسنين ونفيسة؟ يبدآن معا من محطة الفقر، ويتزاملان فى رحلة السقوط الحقيقى على الرغم من وهم الصعود الظاهرى ويصلان معا إلى نهاية مأساوية واحدة الانتحار غرقا دون أن يلتقيا أبدا خلال هذه الرحلة المصيرية البائسة اليائسة.

إن المثالين السابقين وغيرهما كثير يوضحان طبيعة أدب نجيب محفوظ، الزاخر بوصف المرئيات إلى حد كبير، وأنه على الرغم من الأثر المتبادل بين هذا الأدب وفنان السينما المصرية بسبب هذه الخاصية إلا أن أدب محفوظ لا يزال يتجاوز - بوصفه للمرئيات - حدود قدرات الفنان السينمائى فى مصر.       

الأهالي المصرية في

04.10.2006

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2016)