كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

إنجمار برجمان:

آخر عمالقة السينما العظام في عالمنا

أمير العمري - بي بي سي العربية

عملاقان ميّزا فن السينما ورحلا..

بيرغمان وأنتونيوني

   
 
 
 
 

برحيل المخرج السينمائي السويدي أو بالأحرى، فنان السينما الكبير إنجمار برجمان عن عالمنا يُغلق كتاب كامل في تاريخ الفن السينمائي، بل وفي تاريخ الثقافة والفكر والإبداع.

عاش برجمان لهدف واحد فقط، هو أن يعبر عن أفكاره ومشاعره وتأملاته الذاتية من خلال الصورة وحركة الكاميرا والدراما والموسيقى والضوء، في المسرح والسينما والأوبرا.

وقد ترك برجمان تأثيره الكبير، من خلال أفلامه، على عصره كما لم يفعل فنان سينمائي آخر في عالمنا، فقد أصبحت أفلامه مادة أساسية للتدريس في معاهد السينما في العالم، واحتفت بها المهرجانات والتظاهرات السينمائية العالمية ونوادي السينما ودور عرض أفلام الفن، كما صدرت عنها عشرات الكتب والدراسات والأبحاث والمقالات النقدية.

وقد امتدت تأثيرات برجمان السينمائية إلى عدد من أهم فناني السينما الكبار في العالم مثل تاركوفسكي الروسي، وجودار الفرنسي، وأنطونيوني الإيطالي، وأنجلوبولوس اليوناني، وبونويل الأسباني، وتبدت في الكثير من أعمالهم.

سينما الفكر

سينما برجمان هي سينما الفكر والخيال والفلسفة الإنسانية عندما تتعامل مع وسيط يختلف عن الكلمة المكتوبة، وليس غريبا أن يقال إن برجمان فنان "الكتابة بالضوء".

تناول برجمان في أفلامه تعقيدات الحياة الإنسانية، مغزى الحياة ومعنى الموت وهل يمكن هزيمته، وجود الله، ورسالة الإنسان، وما يدور تحت الجلد الخارجي للإنسان من تناقضات وتمزقات وتساؤلات عميقة، قسوة البشر، والمرأة ككائن أكثر حساسية في علاقتها المعقدة بالرجل، والفجوة بين اتساع وسائل الاتصال والعجز عن التواصل .

ولاشك أن لنشأة برجمان في بلدة نائية (فارو) في السويد، حيث الوحدة والعزلة والوحشة وقسوة العلاقات، مع تمزق العلاقة مبكرا بين والده ووالدته، قد ترك تأثيرا كبيرا على فلسفته ورؤيته وأفكاره كما تبدت في أفلامه.

ولكن لاشك أيضا أن برجمان، ابن المسرح السويدي وأحد أقطابه الكبار، جاء إلى السينما مسلحا بالهموم والهواجس الفكرية عن عالمنا، كمفكر سينمائي يبحث عن إجابات لعشرات الأسئلة الحائرة في داخله.

أخرج برجمان نحو 50 فيلما روائيا طويلا للسينما ربما يمكن اعتبار أكثرها أهمية: "الختم السابع" (1957) و"الفراولة البرية" (1957، و ثلاثيته الشهيرة "من خلال زجاج معتم" (1961) و"ضوء الشتاء" (1962) و"الصمت" (1963)، ثم "برسونا" أو "القناع"(1966)، ثم فيلمه الملون الأول "صرخات وهمسات"(1972).

الختم السابع

في "الختم السابع" يتعامل برجمان مع هم وجودي، من خلال ذلك الفارس المحارب الذي يعود من الحروب الصليبية في القرن السابع عشر إلى بلدته، فيجد وباء الطاعون يفتك بأهلها، ويصبح هو الآخر مطاردا من الموت الذي يتجسد له في هيئة شخص يرتدي الملابس وقلنسوة الرأس السوداء.

ويقرر الفارس أن يتحدى الموت، ويستدرجه لكي يلعب معه الشطرنج على أن يعفيه من الموت إذا ما تفوق عليه في اللعب. ورغم معرفته بنتيجة تلك المراهنة مسبقا، إلا أنه كان يسعى لكسب الوقت، للهو بفكرة الموت بل وبالموت نفسه كأفضل وسيلة لكسب الحياة: أليست الحياة عبارة عن هروب مؤقت من الموت!

تزوج برجمان بعدد من الممثلات

يصطحب الفارس تابعه في رحلة يشاهدان خلالها كيف يتهم القساوسة امرأة بالتهمة الشهيرة أي السحر، ويحملونها مسؤولية انتشار الطاعون، ثم يحكمون عليها بالموت بمباركة رجال الدين، ويرون كيف تحول القساوسة إلى تجار يسعون للاستفادة من الخوف والذعر، واستثمار الطاعون للحصول على منافع دينوية.

التابع يتعامل مع الموت كمزحة، وهو رغم الحاده، يعطف على المحتاج ويتعاطف مع الضحية، أما الفارس فهو مؤمن بإمكانية إنزال الهزيمة بالموت عن طريق الجمع بين فروسيته وشجاعته البدنية، واليقين الروحي عند رجل الدين (القس). وعندما يروي للقس كيف يتحدى الموت ويلعب معه الشطرنج يكتشف أن القس هو نفسه الموت!

يكشف هذا الفيلم، رغم ما يتردد فيه من "تشكك"، عن رغبة برجمان في الوصول إلى اليقين الروحي، وهو ما سيتضح أكثر فأكثر في أفلامه التالية: قصة بحثه الشاق عن الإيمان، وعن جوهر فكرة الله.

رحلة الحياة

في فيلم "الفراولة البرية" نرى عالما في الطب يجمع مذكراته، ويستعد لحضور حفل لتكريمه بعد 50 عاما من العطاء، إلا أنه يقرر أن يتجه إلى موطنه الأصلي.

وخلال الرحلة يراجع البروفيسور العجوز حياته في سلسلة من المشاهد، من الجمال إلى الشر، ومن الرقة إلى العنف، من الطفولة إلى الشباب إلى الشيوخة، وفي نهاية الرحلة التي تمتلئ بالهواجس والكوابيس والرؤى الغريبة، يصبح الرجل أكثر تصالحا مع نفسه وأكثر قبولا لفكرة توديع رحلة الحياة.

تأمل الحياة ومغزاها ومغزى وجودنا فيها تستغرق برجمان في كثير من أعماله التالية، ففي فيلم "ضوء الشتاء" مثلا يعبر عن تشككه في جدوى الحياة عندما يجعل قس يقول لرجل يوشك على الانتحار "إننا يجب أن نعيش" فيرد عليه الرجل متسائلا: ولماذا يجب أن نعيش؟ فلا يجد القس سوى أن يطرق برأسه ويصمت.

والفيلم بأسره رحلة في البحث عن الله إذا جاز التعبير، فهو يطرح الكثير من التساؤلات التي تتعلق بفكرة الله، كما يتصورها القس انطلاقا من مخاوفه الداخلية، ومن آماله وتطلعاته الشخصية. وهنا يتساءل برجمان: هل الله هو ما نعكسه من ذواتنا، من خوفنا، من داخلنا، أم أنه أشمل من هذا وأكبر؟

أغوار النفس

هذه الأفكار المعذبة في البحث عن الله، تمتد للبحث في أغوار النفس في فيلم "برسونا" الذي نرى فيه كيف تتوقف ممثلة وهي على خشبة المسرح فجأة عن الأداء تماما، ثم تتوقف عن الحركة وعن مواصلة حياتها وعن الحديث مع الآخرين وترفض الاستجابة لإعادتها للحياةـ وتكتفي بالتأمل واجترارالماضي.

إنها تتساءل في دخيلة نفسها، عن مغزى هذه الحياة، ألا تتوقف الحياة بأسرها في لحظة ما، وما الذي نفعله بأنفسنا، ما كل هذه الأدوار التي نلعبها: الممثلة، الإبنة، الأم، الزوجة، المرأة.. إلخ ماذا لو قرر الإنسان أن يتخلص من ذلك "القناع" او تلك الأقنعة التي يغيرها بين لحظة وأخرى؟

الأسلوب السينمائي

أفلام برجمان لا تشبه غيرها من الأفلام، ليس فقط فيما تعالجه وتطرحه من تأملات فلسفية، بل أساسا في الأسلوب السينمائي المتميز الذي اعتبر بمثابة سباحة كاملة ضد التيار، ضد تيار الفيلم الأمريكي، الفيلم الذي يبرر ويمنطق ويشرح العالم ويحل كل المشاكل دفعة واحدة من خلال تلك "النهاية السعيدة" التي نعرفها جميعا ونسعد بها.

كان برجمان يقول "السينما عشيقتي والمسرح زوجتي المخلصة"

إن أفلام برجمان - والذين ساروا على دربه- تتعامل مع الصورة، ليس على المستوى الخارجي من خلال تلك "الشفرة" البسيطة المباشرة التي تقوم على السببية، وحيث تنساب الصور وتتراكم لتخلق إيقاعا مثيرا إلى أن تنفرج العقدة، بل هي أفلام ينبع إيقاعها الداخلي الخاص من علاقات أخرى بين الصور واللقطات وما تولده من أفكار وما تنيره وتكشف عنه من تأملات.

لا توجد هنا "عقدة" أو "حبكة" بالمعنى التقليدي، بل يصح القول إننا نصطدم بالعقدة من أول لحظة. وهناك أيضا علاقة أخرى مع الصورة: اللقطات القريبة لليدين والعينين والوجه، والزوايا التي تجعل الممثل داخل المشهد معزولا يتم التلصص عليه من زاوية ما، أو وكأنه يواجه مصيره في وحدة تامة، والإضاءة الخافتة التي تخفي أكثر مما تكشف، ومساحات الظلال الواضحة، والتجسيد الواضح بين الأبيض والأسود (وجه ملاك الموت أبيض شمعي بينما ملابسه داكنة شديدة السواد)، واستخدام اللون الأحمر (بعد تحول برجمان إلى الإخراج بالألوان) كمعادل للروح من الداخل، والأزق للموت.

الاهتمام بالممثلين

ولعل الملمح الأهم في سينما برجمان مساحات الصمت الطويلة في أفلامه، والحركة البطيئة والمحدودة للكاميرا، واهتمامه الكبير بالممثلين الذين كان يعتبرهم شركاء معه في العمل وليسوا مجرد أدوات (على العكس من نظرة فيلليني للممثل كأداة).

ويلاحظ أن برجمان حافظ لسنوات طويلة، من مسيرته السينمائية في العمل مع مجموعة ثابتة من الممثلين على رأسهم بالطبع الممثل الكبير ماكس فون سيدو الذي أصبح يجسد برجمان نفسه، ثم خرج إلى العالم وأصبح من مشاهير السينما الأمريكية أيضا.

وكان برجمان يولي اهتماما خاصا لعمل الممثل، ويترك له حرية التفسير والتجسيد، يتعايش معه ويتبادل معه الأفكار، ويعرف أدق شؤون حياته وما فيها من معاناة ومصاعب. وقد ارتبط بعدد من الممثلات، وتزوج منهن أيضا، بيبي أندرسون وهارييت أندرسون وإنجريد ثولين وليف أولمان (التي تحولت إلى مخرجة فيما بعد) .

واستعان برجمان في فيلم "الصمت" بأربعة منهن في الأدوار الأساسية. هنا نحن أمام امرأة تشرف على الموت بعد أن تمكن السرطان من جسدها، ترعاها شقيقتاها: الأولى شخصية مسيطرة وقمعية، والثانية ضعيفة وحسية، وهي لا تثق سوى في الخادمة.

وتسعى المرأة للتصالح مع شقيقتيها، لكن كل تناقضات الماضي تنبثق، وتندفع الأحقاد القديمة والصراعات الصغيرة والعقد المترسبة، ويحلق الموت على المكان، وتجد المرأة نفسها عاجزة عن تحقيق التصالح بين شقيقتيها، وعن رأب الصدع القديم بينها وبينهن، وتسكت الكلمات التي كان ينبغي أن تقال منذ زمن مضى، وتنبثق صور وخيالات تكرس العزلة أكثر وتجسدها.

هجوم على برجمان

ورغم الاحتفاء الكبير بالفيلم وبأفلام برجمان من الخمسينيات حتى الثمانينيات (أخر أفلامه للسينما هو "فاني وألكسندر" (1982)، فقد ظهر من أخذ يطعنه ويسدد له السهام ويهاجم أفلامه بضراوة.

السينمائي والناقد الفرنسي جان ميتري مثلا اتهم فيلم "الصمت" بأنه "فيلم مضاد للسينما، أدبي، يحتوي على كل ما ينبغي تفاديه في الأفلام".

والمخرج السويدي بوفيدربرج دعا في بيان أصدره عام 1962 اتهم فيه برجمان بالترويج لأنماط ثابتة في أفلامه للشخصية السويدية، إلى سينما سويدية جديدة تتعامل مع القضايا الاجتماعية.

لكن برجمان ظل "أيقونة"، ليس فقط في السينما بل وفي المسرح أيضا. وكان يقول إنه إذا كان يعتبر السينما عشيقته، فهو يعتبر المسرح زوجته المخلصة.

وقد أخرج برجمان 50 فيلما روائيا، و أكثر من 100 مسرحية، و15 عملا دراميا للتليفزيون، وعددا من الأوبرات، كما كتب سيناريوهات عديدة نفذها مخرجون آخرون. وأصدر مذكراته وسيرته الذاتية في كتابين "الفانوس السحري" (1987) و"أحاديث خاصة" (1996).

إنجمار برجمان كان وجوده كعلامة مضيئة دائما في التكوين الشخصي لكاتب هذه السطور وعدد كبير من أنباء جيله من المهتمين والدارسين الذين تحولوا فيما بعد إلى السينما. وهو لا يزال يثير خيال الكثير من شباب الباحثين عن جوهر هذا الفن وليس الانزلاق على سطحه اللامع من الخارج!

موقع الـ BBC العربية في

30.07.2007

 
 

موت بيرغمان آخر رواد السينما العالمية

دلور ميقري من السويد

على أبواب الحلقة التاسعة من عمره، رحل هذا اليوم المخرج السويدي العالمي، إنغمار بيرغمان. إنه واحد من آخر عمالقة القرن العشرين، الذين أسهموا بقوة في ترسيخ المفاهيم الجديدة للسينما والمسرح. وإذا كانت هوليوود قد أحتفت بالعديد من مواطني مخرجنا الراحل، المبدعين ـ كغريتا غاربو وإنغريد بيرغمان وأنيتا إيكبيرغ وماكس فون سيدو، إلا أنّها تفردت بمنح فيلمه " فاني والكسندر " اربع اوسكارات عام 1984( لأفضل ديكور، افضل تصوير، افضل ملابس وأفضل فيلم أجنبي) والفيلم يتناول جانباً من طفولة إنغمار بيرغمان؛ هو المولود في مدينة اوبسالا عام 1918.

في مسقط رأسه، ذاك، المعدّ أصلاً كمدينة طلابية، أكمل مبدعنا دراسته الإبتدائية والمتوسطة، ثم إنتقل لاحقا لدراسة المسرح في ستوكهولم ـ التي أضحت بالنسبة إليه مدينته الثانية. وقد عمل فيما بعد على الخشبة لعدة أعوام، فصار مديراً لمسرح مدينة " هلسينبورغ "، الجنوبية، وهو بعد في منتصف العشرينات من عمره. ثم عاد إلى عاصمته، الحبيبة، ليصبح مديراً لـ " الدراما " ؛ كبرى مسارحها وأهمها. إلا أنّ السينما بأنوارها المبهرة، الجذابة، سرعان ما جذبته إليها، ليستهل العمل كمخرج منذ أواسط الأربعينات من القرن المنصرم وحتى أواخر حياته، الحافلة.

طوال عقود ثلاثة، ممتدة بين الخمسينات وحتى أوائل الثمانينات، حققت أفلام إنغمار بيرغمان شهرة عالمية، وبرز فيها كمخرج مجدد، متعدد المواهب ؛ هوَ من دأب على كتابة معظم سيناريوهاتها، فضلاً عن عمله مع مجموعة مختارة، أثيرة، من النجوم الذين أسهم بإكنشافهم وتقديمهم لعالم الإبداع والشهرة ـ كايرلند جوزيفسون وهارييت اندرسون وماكس فون سيدو والنرويجية ليف اولمان. المستغرب أنّ نجمة السويد الأشهر، إنغريد بيرغمان، الساطعة في سماء هوليوود، لم تتعاون مع مخرجنا سوى في فيلم واحد حسب، في الخمسينات؟

سينما إنغمار بيرغمان، تراوحت مواضيعها بحسب مسيرة مبدعها. ففي الأربعينات والخمسينات كانت أجواء الحياة السويدية، المتوحدة الكئيبة، هي الغالبة على أفلام تلك الحقبة. ولكن إعتباراً من الستينات، وجدت مشكلات الإنسان ككل، الوجودية والمصيرية، مكاناً راسخاً في أفلامه ؛ كما في " صمت الإله "، " الصمت "، و " اليانور " المتسائلة عن الشك واليقين. ومع دخول الشاشة الصغيرة إلى الحياة المنزلية وصيرورتها كجزء غير منفصم منها، إلتفت مبدعنا إلى المسلسلات الدرامية وقدم مساهمات فيها مهمة ومميزة ؛ مثل " مشاهد من زيجة " و " فاني والكسندر ". هذا الأخير، كما سلف وألمعنا، سبق أن أنتج كفيلم روائي طويل في بداية الثمانينات، وكان من آخر أعماله.

إلتفت بيرغمان، مجدداً، إلى المسرح، وخصوصاً بعيد عودته من منفاه الإختياري، في باريس. إلا أن إهتمامه بالسينما طوال المرحلة الأخيرة من حياته، ما فتر مطلقا ؛ هوَ الذي رفد أفلام تلاميذه وأصدقائه بالسيناريوهات، علاوة على إرشاداته القيمة. وقد خلد مبدعنا للراحة مؤخراً في " فورو " ؛ إحدى بلدات الإقليم الغوتلاندي، الجنوبي، وفيها أغمض عينيه أبداً. وستبقى بدورها، أبداً خالدة، إسهامات هذا الرائد العظيم، في السينما العالمية . لقد كان من عظم تأثير إنغمار بيرغمان على الفن السابع، الغربيّ، أن صدرت عنه بالإنكليزية لوحدها ما يقارب الخمسة آلاف كتاب، تناولت مختلف إبداعاته. أما بالسويدية، فلم يحظ أبداعه سوى إبداعه سوى بعض الكتب هنا وهناك. فبقي مبدعنا ذلك النبيّ المطرود من موطنه، دهراً، حتى إذ إعترف العالم أجمع به، فقد تذكره مواطنوه وأكرموه وإحتفوا به أيما إحنفاء : لقد وقع إنغمار بيرغمان ضحية البيروقراطية في بلده، في بداية السبعينات، على خلفية قضية ضرائب، ونال حكماً متعسفاً بالسجن مع وقف التنفيذ وتسديد غرامة باهظة. كان من تأثر مبدعنا آنذاك بتلك القضية، أنه عقد مؤتمراً صحافياً في باريس، حيث كان يعيش، أعلن فيه تنازله عن جنسيته السويدية. إلا أنه عاد وإستعاد جنسية موطنه، في أواخر حياته، وشاء أن يحيا هنا قرب ذكرياته وطفولته، حتى دنو ساعة الرحيل.

Dilor7@hotmail.com

####

وفاة المخرج السويدي انغمار بيرغمان، احد آخر عمالقة السينما

أ. ف. ب.

ستوكهولم: توفي المخرج السويدي انغمار بيرغمان، احد آخر عمالقة السينما العالمية، الاثنين عن عمر 89 عاما في منزله في جزيرة فارو السويدية حيث صور العديد من افلامه.واعلنت ابنته (اكرر ابنته) ايفا بيرغمان لوكالة الانباء السويدية الاثنين انه توفي "بهدوء".

وذكرت صحيفة "داغنس نيهيتر" كبرى الصحف السويدية ان بيرغمان توفي قرابة الساعة السابعة (الخامسة تغ) صباح الاثنين.

ولد انغمار بيرغمان في 14 تموز/يوليو 1918 في اوبسالا شمال ستوكهولم واخرج اكثر من اربعين فيلما طوال حياته الفنية الطويلة، بينها "صرخات وهمسات" (1972) و"مشاهد من الحياة الزوجية" (1974) و"سوناتة الخريف" (1978) و"فاني والكسندر" (1982) وهو فيلم بمثابة وصية.

وسيوارى الثرى في حضور اصدقائه واقربائه في تاريخ لم يحدد بعد، بحسب وكالة الانباء. ووردت شائعات كثيرة في الاشهر الاخيرة حول تدهور صحة بيرغمان وفي تشرين الاول/اكتوبر خضع لعملية جراحية في الورك لم يتعاف تماما من بعدها.

واختار المخرج في خريف حياته العيش وحيدا ومعزولا عن العالم ومكث غالب الوقت في جزيرة فارو (جزيرة الخراف)، وقد عجز عن تخطي وفاة زوجته الاخيرة انغريد فون روزن عام 1995. ووصف حياته بانها "جحيم يمكن احتماله"، ملمحا في مقابلة اجراها معه التلفزيون السويدي الى انه لا يخشى الموت. وقال في المقابلة "ان الحياة بحد ذاتها ثقيلة. لن ارى انغريد مجددا بعد اليوم". وكتب في سيرته الذاتية بعنوان "لاتيرنا ماجيكا" "فارو كانت حبي السري"، راويا ولعه التلقائي في الستينات بهذه الجزيرة المسطحة التي تمتزج في افقها السماء بالبحر.

وشيد في هذه الجزيرة المنزل الذي توفي فيه وجعله في الوقت نفسه استديو صور فيه عددا من روائعه ومنها "كما في مرآة" و"الصمت".

وبموازاة الاخراج السينمائي، شمل ابداع بيرغمان المسرح ايضا وقد اخرج العديد من المسرحيات ولا سيما مسرحيات لاوغوست ستريندبرغ، مثاله الاعلى في شبابه. بدأ عمله المسرحي في الاربعينات بدورة في الاخراج المسرحي في اوبرا ستوكهولم وفي 1960 انضم كمخرج الى المسرح الملكي للفن المسرحي "دراماتن".وفي 1945، استخلص ان الوسيلة الحديثة الوحيدة للتعبير عن الافكار هي السينما وقال بهذا الصدد "ان اخراج الافلام هو بالنسبة لي غريزة، حاجة مثل الحاجة الى الاكل والشرب والحب".

وغطى نتاجه السينمائي كل النصف الثاني من القرن العشرين وكان من معاصري فيديريكو فيليني ولويس بونويل واكيرا كوروساوا. كما كان من كبار محبي السينما وكان يهوى السينما الاميركية في حقبة الاربعينات والسينما الفرنسية في الثلاثينات والاربعينات. وطبع نتاجه اجيالا متعاقبة من هواة السينما والمخرجين وفي طليعتهم المخرج الاميركي وودي آلن المولع بافلامه.

وشهد العام 1955 اول نجاح دولي لبيرغمان من خلال فيلمه "بسمات ليلة صيفية" الهزلي، غير ان افلامه ازدادت سوداوية اعتبارا من نهاية الخمسينات وقد عالج فيها بارهاف كبير صعوبة العلاقة بين الرجل والمرأة وتساؤلات الانسان عن وجود الله ومواجهة الموت، كما تغنى بسحر الحياة وتفاصليها الصغيرة.

وكانت المرأة طاغية في افلامه، وقد قدم لنجمات امثال ماي بريت نيلسون وهارييت اندرسون وايفا دالبيك واولا جاكوبسون وليف اولمان اجمل ادوارهن.وربطته علاقات غرامية بالعديد من ممثلاته وقد تزوج خمس مرات ورزق تسعة اولاد مع اعترافه بانه لم يشعر باحساس ابوي قوي جدا.

وازاء جدية المواضيع التي تطرق اليها بيرغمان في افلامه، تاخر في تشكيل جمهور له في بلده حيث لم يتم الاعتراف به كاحد كبار المخرجين في العالم الا حديثا وتخصص حاليا جائزة تحمل اسمه لتشجيع المواهب السينمائية الشابة، ضمن توزيع الجوائز السينمائية السويدية.

ويغيب بيرغمان اليوم تاركا فراغا كبيرا في السويد وقالت المديرة السابقة لدار السينما السويدية آسي كليفلاند الاثنين "لم يحقق اي فنان سويدي آخر في اي مجال هذا القدر من الاعتراف والنجاح". واعتبرت وكالة الانباء السويدية ان السينما والمسرح السويديين فقدا "اسطع نجومهما عبر التاريخ".

موقع "إيلاف" في

30.07.2007

 
 

السبات العميق يرغمه على الاعتزال النهائي بعد تردد طويل...

انغمار برغمان: أفلام أوصلت السينما إلى عالم الفلسفة والفن الكبير

بيروت - ابراهيم العريس

هذه المرة لا يمكن القرار إلا ان يكون نهائياً... لا أمل بالرجوع عنه. في المرات الماضية، ومنذ سنين كما منذ افلام كثيرة، كان انغمار برغمان يقول دائماً انه سيعتزل الإخراج السينمائي، لكنه كان يعود عن قراره... وهو عاد في المرة الأخيرة وإن كانت عودته تأخرت... عشرين سنة. ونعرف تفاصيل الحكاية: عاد قبل سنوات قليلة ليحقق فيلم «ساراباند» الذي تصور فيه لقاء بعد جيل بكامله، بين زوجي فيلمه الشهير «مشاهد من الحياة الزوجية». بعد «ساراباند»، سُئل مخرج السويد الكبير هل يعتزل هذه المرة نهائياً. ابتسم موهناً، وقال: «هذه المرة اعتزالي جدي تماماً»... وكان صادقاً، لأن الموت دهمه صباح امس في بيته في جزيرة فارو، وهو بالكاد بدأ عامه التسعين. فانغمار برغمان ولد يوم 14 تموز (يوليو) 1918، ليموت في الثلاثين من الشهر ذاته بعد تسع وثمانين علما.

ولكن، هل يمكن حقاً ان نقول عن مبدع كبير من مبدعي القرن العشرين، خلّف أكثر من ثلاثين عملاً سينمائياً كبيراً، الى جانب عشرات الأعمال المسرحية وبضعة كتب رائعة المعنى والمبنى، انه مات؟ تقول الأغنية الفرنسية ان الشعراء لا يموتون. وبرغمان كان بكل المقاييس شاعراً. كان، ولا يزال، واحداً من الذين حوّلوا السينما من الترفيه و»الفنون الجماهيرية» الى الفنون الكبرى. في هذا الإطار، لم يكن عبثاً ان يعلن برغمان دائماً انه تلميذ تشيكوف وسترندبرغ وشكسبير وكيركغارد في آن. ذلك ان سينماه حملت مسرح هؤلاء وأفكارهم الفلسفية وأسئلة القلق الإنساني الوجودي الكبرى، تماماً كما حملت هموم العيش العادي للناس البسطاء.

من هذا المزيج السحري والساحر، صنع برغمان سينماه التي وضعت بلده «السويد» على الخريطة السينمائية في العالم في صورة مدهشة، بعدما كان أسلاف له (موريس ستيلر، ماي زيترلنغ وآخرون) وضعوا هذا البلد في قلب سينما العالم في شكل خجول. مع أفلام برغمان تبدل الوضع كلياً. وباكراً منذ العام 1946 اشار فيلمه الأول «أزمة» الى ولادة سينمائي كبير، قبل ان يعرف الناس ان هذا السينمائي هو مخرج مسرحي كبير ايضاً وأنه كاتب من طراز رفيع. منذ ذلك الحين صار اسم برغمان في الصدارة، الى جانب أسماء فيلليني وهتشكوك وجون فورد وأورسن ويلز. كما أن اسمه المسرحي عُرِف على نطاق واسع ايضاً. هو، في كل الأحوال، راح يقول ان المسرح زوجته والسينما عشيقته. ومع هذا لم يكن الرجل في حاجة الى تعدد الإناث في حياته الفنية، أكثر مما هن متعددات في حياته الفعلية. فهو تزوج او ارتبط بمعظم البطلات اللواتي مثّلن تحت إشرافه، وكن يحضرن اثنتين اثنتين احياناً في الفيلم الواحد (بيبي اندرسون وليف أولمان معاً في «برسونا»، وغونيل لندبلوم وأنغريد تولين معاً في «الصمت»... مثلاً). كان محباً أبدياً للنساء... من هنا طغى الحضور الأنثوي على أفلامه. وطغت معالجة قضايا المرأة والثنائي على هذه الأفلام، ولكن بين جمهرة من مواضيع تراوح بين الموت والشيخوخة والطفولة والعلاقة مع الغيب والعائلة والفن.

كل هذه المواضيع عالجها برغمان بريشة فنان وعقل فيلسوف وقلب عاشق كبير. وهو كما جدد في المواضيع السينمائية، جدد ايضاً في لغة السينما، رابطاً إياهما بالمسرح، ليحقق دينامية للصورة استثنائية، ومعبّراً عن ازدواجية معنى الوجود الإنساني في هذا الكون بلغة بصرية بلغت اوجها في «برسونا» و»الختم السابع» و «الفريز البري» ، ولاحقاً في بعض أجمل افلامه الملونة (مثل «همس وصراخ» و»فاني وألكسندر»)، قبل اكتشافه قدرة الدراما التلفزيونية على ايصال ما يريد قوله، ويحقق للشاشة الصغيرة افلاماً رائعة مثل «مشاهد من الحياة الزوجية».

كل هذا أبدع حضور ابن القس البروتستانتي الآتي من اوبسالا، والذي عشق لاحقاً جزيرة فارو، فأبدع عنها افلاماً، ليموت فيها بعدما عاش ردحاً طويلاً من عمره هناك، هو الذي نادراً ما بارح السويد، إلا مرة في السبعينات حين اضطرته مصلحة الضرائب في بلاده الى سلوك دروب المنفى، غاضباً، ليحقق بين ألمانيا وبريطانيا افلاماً اعتبر النقاد إنها ليست جديرة بتاريخه.

مهما يكن، عاد برغمان يومها من المنفى أكثر قوة، محملاً بالتقدير العالمي والجوائز، ليحقق في السويد آخر أفلامه، وربما أقواها... معلناً في كل مرة انه سيعتزل، حتى قهر الموت، اخيراً، اعتزاله.

الحياة اللندنية في

31.07.2007

 
 

إنغمار برغمان وراء المرآة

بيار أبي صعب

ساحر السينما أفلت من لعنة الوجود أخيراً

المعلّم السويدي الذي رحل عن ٨٩ عاماً، هو أحد عمالقة القرن العشرين. اعتمد لغة متقشفة، صارمة، تلغي الحدود بين السينما والمسرح. وأفلامه التي غيّرت مجرى الفنّ السابع، تبدأ دائماً من لحظة الأزمة، وتوغل في مناطق مظلمة من الذات البشرية، لتقول موت الله والسعادة المستحيلة والفشل المحتم

هاجس الموت كثيراً ما رافق إنغمار برغمان. وطيفه يكاد يخيّم على معظم أفلام المعلّم السويدي الذي انطفأ أمس، على عتبة التسعين، محَصَّناً بعزلته الأليفة في جزيرة فارو (غوتلاند). هذه الجزيرة النائية، المسطحة، على ضفاف بحر البلطيق (١٠٢ كلم٢، ٦٠٨ نسمة بمن فيهم برغمان، على بعد ساعة بالطائرة من استوكهولم ثم عشر دقائق بالمركب)، اكتشفها الكاتب والمسرحي والسينمائي السويدي عام ١٩٦٠، حين كان يبحث عن مكان قليل الكلفة لتصوير فيلمه «عبر المرآة»... وكان أن اصطفاها خلوة وملاذاً. هنا شيّد بيته، وصوّر بعض أشهر أفلامه. الصخور التي نحتتها عناصر الطبيعة احتضنت قصّة حبّه العاصفة والقصيرة مع ممثلته ليف أولمان عام ١٩٦٥. وفي فارو التي خصها بصفحات مؤثرة في مذكراته Laterna Magica (الفانوس السحري ــــ١٩٨٧)، بقي وحيداً مع طيف زوجته الأخيرة، عازفة البيانو إنغريد فون روزن التي لم يشف من رحيلها منذ ١٩٩٥.

والعزلة هي أحد المفاتيح الأساسيّة للإحاطة بعالم برغمان، وللتسلل إلى هذا المسرح الذي شرّح عليه الروح البشرية، بدقّة وبساطة، بكثير من التقشف والعنف الداخلي... حتّى بات أكبر سينمائيي القرن العشرين، إذا لم يكن أكبرهم على الإطلاق. لقد ترك بصماته على عصر كامل، وسينمائيين من مدارس مختلفة: من أشقياء الموجة الجديدة في فرنسا إذ وجدوا مرجعاً أساسياً لهم في فيلمه «ابتسامات ليلة صيف» (١٩٥٥) الذي أطلق شهرة صاحبه عالمياً، لدى عرضه في «مهرجان كان» العام التالي... إلى السينمائي الأميركي وودي آلن الذي يعتبر برغمان معلمه المطلق، ولا ينفك يستحضره في أفلامه.

لم يحظ برغمان باعتراف مواطنيه إلا متأخراً جداً، بل إنه واجه كثيراً من الانتقادات واللوم، لكون أفلامه تعطي صورة مضخمة ومشوهة عن السويديين، بصفتهم شعباً يختزن كل أشكال العصاب والأمراض النفسية. ومع ذلك، فهو لم يصوّر إلا في السويد (باستثناء فيلمين من أصل ٤٧ فيلماً هي خلاصة نتاجه للشاشة الكبيرة والصغيرة على امتداد ستين عاماً)، رافضاً إغراءات هوليوود... ذلك أن أعماله تستمدّ زخمها الإنساني، قوتها وعمقها، مرارتها وسوداويتها، وأحياناً نشوتها المضيئة، من هذا البلد، من ناسه ولاوعيه الجماعي وطبيعته وتاريخه ومناخاته الثقافية والنفسية... وضوئه أيضاً. «إن ضوء السويد في منتهى الأفقيّة ــــ يلفت المهندس سفير فيهن ــــ لذا تراه لا يقول كلّ الحكاية. هناك دائماً أشياء غامضة تختبئ بين الظلال». والضوء هو أيضاً من العناصر الجوهرية التي تقوم عليها سينما إنغمار برغمان.

هذه السينما تختصر مجموعة من الأسئلة الفلسفية والوجودية، وتنهل من الأدب والمسرح والموسيقى كما تستوحي علم النفس التحليلي، بجماليات وتقنيات فريدة. اعتمد برغمان منذ فيلمه الأوّل «أزمة» (١٩٤٥) لغة بعيدة عن الزخرفة الخارجيّة، تعمل على الإيغال في مناطق مظلمة من الذات البشرية. أعماله تقول الخوف، من الوحدة والموت ولعنة الوجود. وتعالج علاقة الفرد مع ذاته ومع الآخر، مع أعباء الماضي، مع الكون والطبيعة والمطلق، مع الزمن والموت، مع الغيب والعدم. تنطلق أعماله من قناعة راسخة بعدم وجود الله، هي مصدر كل السوداوية والتشاؤم، والنظرة اليائسة إلى الوجود.

وحدها المرأة ــــ سيدة السينما البرغمانية، من هارييت أندرسون إلى ليف أولمان ـــــ قد تلطف بعض الشيء شظف العيش ولعنة الوجود، وتقربنا من الحب. لكن هذا المطلق، بدوره، محكوم عليه بالانهيار والتبدّد والتفتت والاستحالة. فالعلاقة بين الرجل والمرأة علاقة تمزق وصراع مصيرها الفشل المحتوم. وقد رصد برغمان برهافة ودقة كل تفاصيلها من «العطش» (١٩٤٩) إلى «مشاهد من الحياة الزوجيّة» (١٩٧٣).

ابن القس البروتستانتي، المحافظ والصارم، سيعيش عمره في تروما الطفولة وعذاباتها. فنّه يحمل ندوب البدايات، وأسئلتها الميتافيزيقية المتأرجحة بين شك ويقين... أعماله تتمحور حول لحظة الأزمة، وهي مسكونة بهاجس الركض المرضي وراء السعادة، والاسترجاع الدائم للماضي وجراحه التي لم تندمل. من هنا اللعب على الحلم كوسيلة انفلات، أو تحرر، أو تكثيف للأزمنة. ومن هنا أيضاً دور المرايا، هذا الرمز المحسوس للعبور من عالم إلى آخر، من حقيقة إلى أخرى وسط لعبة التناقضات والثنائيات التي لا حصر لها.

متجاوزاً الممنوعات الدينية، والصمت البورجوازي، سيغوص السينمائي في الروح البشرية، يستنجد بالذكريات، يستحضر «الصمت» (١٩٦٢) و«العار» (١٩٦٨) والندم في «الفراولة البريّة» (١٩٥٧)، والمرض في «صراخ وهمس» (١٩٧٣) حيث تعود المحتضرة بعد موتها لتكشف الأقنعة، والأنانية في «سوناتة الخريف» (١٩٧٨)، والكذب والفشل في «حياة الدمى» (١٩٨٠)... من دون أن ننسى تصويره لصعود الفاشيّة في «بيضة الثعبان» (١٩٧٧). وذلك التصادم بين العالم الخارجي ودواخل الشخصية البرغمانية، يبلغ ذروته في أحد أروع أفلامه Persona (١٩٦٥)، إذ يحيل بشكل مباشر إلى منهج كارل غوستاف يونغ التحليلي الذي يقوم عليه عالم برغمان بشكل أساسي.

ارتبط برغمان بالمسرح ارتباطاً وثيقاً، واعتبره الحب الأوّل فيما السينما مغامرة مع عشيقة. في الأربعينات أخرج ستريندبرغ وشكسبير على الخشبة، ما فتح له مجال الإيغال في بلورة لغته ومشاغله الفلسفية. المسرح لن يفارقه أبداً، فهو مسرحي بقدر ما هو سينمائي، وهو كاتب درامي (أو دراماتورج) في سيناريوهاته التي كتب بنفسه سوادها الأعظم. أفلامه الأولى يخيم عليها طيف سارتر وبيرنديللو وآنوي وماريفو وموسيه وشكسبير... كما يمّم شطر موزار في إعادة قراءته لأوبرا «الناي المسحور» (١٩٧٥). أما مواطنه ستريندبرغ، فسيرافقه عن كثب في كل أفلامه، وهو يؤدي له تحية خاصة في «بعد التمارين» (١٩٨٤) من خلال استعارة جماليات «مسرح الغرفة» لاحتضان قصة الحب بين المخرج العجوز وممثلته الشابة التي تعود إليه في الحلم.

ويجوز تصنيف أفلام برغمان في خانة «سينما الغرفة»؟ هو الذي يحصر شخصياته دائماً في حيز ضيق، مغلق، في سجن الهواء الطلق أحياناً (الجزيرة إياها!). يعزلهم ــــ كما في فيلم «وجهاً لوجه» (١٩٧٦) مثلاً ــــ عبر مشاهد الكاميرا الثابتة، اللقطات القريبة للوجوه، الحوارات المضبوطة بعناية مسرحيّة، الضوء الذي يستعير من المسرح أكثر مما يستعير من استوديوهات الفن السابع... تحت إشراف مدير التصوير سفين نيكفست الذي رافقه طوال مشواره (توفي العام الماضي). وهناك دائماً تلك الحركة الداخليّة، البطيئة، التي يقوم عليها ايقاع الفيلم، كما تقوم فلسفة إدارة الممثل. والممثل الذي يمكن اعتباره حجر الأساس في سينما ببرغمان، إنّه الوسيط الذي يجسّد خوفنا ويأسنا وحدادنا الوجودي بعد موت الله.

في «فاني وألكسندر» (١٩٨٢) فيلم الأوسكارات الأربعة، عاد السينمائي الكبير إلى طفولته، وحبّه للمسرح، ليقدم عمله الوصيّة... ثم عاد ليقف خلف الكاميرا مرة أخيرة مع «ساراباند» (٢٠٠٣)، ليدير ممثليه المفضلين: ليف أولمان وإيرلاند جوزفسون، في مواجهة أخيرة بين حبيبين سابقين على أبواب الشيخوخة. أما المسرح فودّعه العام ٢٠٠٤، بعد إخراج نصّ ابسن الشهير «أطياف عائدة».

برغمان هذا الساحر الحقيقي سيبقى مهيمناً على مخيلة الأجيال القادمة، كسيد مطلق للفن السابع. أفلامه تجعلنا نخوض تجربة الحداد، إذ تتعامل مع الوجود كجرح لا شفاء منه... لذا يصبح الفن تلك الأداة السحرية التي تساعد على التجاوز، وتختبر إمكانات الاستمرار في هذا الوادي الشاسع من الدموع. أرأيتم؟ إن والده القس ليس بعيداً!

الأخبار اللبنانية في

31.07.2007

 
 

{المصباح السحري} في المكتبة العربية

محمد شعير  

كان الجميع يتوقّع رحيله بعد ساعات قليلة من ولادته: الطبيب صرخ عندما رآه بعد يومين من الولادة: «إنه يموت من سوء التغذية». غرقت والدته في غيبوبة عميقة بعد ولادته مباشرة وكان قلبها ضعيفاً لم يتحمّل الحمل ولا الولادة. جدّته هي الوحيدة التي آمنت بأنه سيعيش وسيكبر، فخرجت به من المستشفى وراحت تطعمه كعكاً منقوعاً بالماء.. لكن هذا أيضاً لم ينجح في تحسين حالته، وأخيراً تدخلت ممرضة من قرية مجاورة وصفها بأنّها «نديّة الوجه وجميلة الشعر» فأنقذت حياته، وإن ظلّت الأمراض المجهولة تعذّبه دائماً وتطارده!

إنه انغمار برغمان الذي ولد في كنف عائلة متدينة، رشّحته ليصبح واعظاً في الكنيسة، لكنه اختار المعبد الآخر، الفنّ الأكثر التصاقاً بالحياة... عندما اكتشف السينما، كان وقتها ما زال طفلاً لم يتجاوز السادسة حين ذهب إلى السينما لأول مرة في حياته: «كان فيلماً عن حياة حصان، ربما كان اسمه «الأسود الجميل»، وهو مقتبس من كتاب مشهور». بعد ذلك، أصابته الحمى التي لم يشف منها قط. ففي السينما «ظلال صامتة تلتفت إليّ، فأرى وجوهها الشاحبة، وأسمع أصواتاً غير واضحة تخاطب أكثر أحاسيسي عمقاً وسرية. لقد مضت ستون عاماً ولم يتغير شيء، فالحمى لا تزال هي نفسها». هكذا يعترف برغمان في مذكّراته البديعة «المصباح السحري» التي ترجمها إلى العربية باسل الخطيب وصدرت ضمن «سلسلة الفن السابع» عن المؤسسة العامة للسينما في دمشق. وفي العام نفسه أيضاً، كانت المفاجأة التي لم يتوقعها: «جاء سائق عربة عمتي الثرية في عيد الميلاد محمّلة بالهدايا التي وضعت في الخزانة المخصصة لهدايا العيد» وكان بينها رزمة آثارت اهتمامه على نحو خاص: «كانت بنّية اللون وتحمل صورة هامنغاتن الذي لم يكن يبيع آلات التصوير الفوتغرافي فحسب، بل أيضاً كاميرات سينمائية حقيقية».

حقّقت العمة بهديتها حلم برغمان، يا لها من صدفة باهرة.. يقول: «زرت صديقي الذي يملك آلة عرض سينمائي ومجموعةً من الأفلام، فوضع لي ولصديقتي تبيان فيلماً، وسمح لي أن أدير الجهاز بيدي، فيما أخذ هو يعانق تبيان ويقبلها»!

الأخبار اللبنانية في

31.07.2007

 
 

رحيل المخرج السويدي إنغمار برغمان

حوّل الإبداع إلى لغة عيش ودفعه إلى حافة الوجود

نديم جرجورة

شكّلت حياته صدمات متتالية للمؤسّسات الاجتماعية والإنسانية، كالزواج والعائلة والعلاقة بالله والتفاصيل اليومية، تماماً كما شكّل رحيله يوم أمس صدمة لمن وجد في نتاجه مرآة حيّة لنبض الحياة والمجتمعات، ولمعنى الفرد وموقعه في الجماعة. ذلك أن تمرّده الحياتي والإبداعي منحه قوة العيش على التخوم الواهية للسنين الطويلة من المماحكة والغضب، في حين أن وفاته عن تسعة وثمانين عاماً في عزلته عن العالم بدت رسالة واضحة عن معنى الحياة والموت. وكما فضّل أن يخرج من العالم (عاش أعواماً طويلة في الجزيرة المنعزلة «فارو» في «غوتلند») كي يواجهه بأقسى ما لديه من جنون وجمال ومخيّلة بديعة مستلّة من الواقع والمحيطين الاجتماعي والإنساني؛ جعل السينما (بل الصنيع الإبداعي) أداة فاعلة للتنقيب عن الخلل والارتباك في الحياة اليومية للفرد، وحوّل الإبداع إلى لغة عيش وبحث دائم عن المعاني المضمرة في القدر والمقبل من الأيام، وفي الأمس الصانع هذين الآنيّ والمستقبل.

بين المسرح والسينما

تبدو الكتابة عن السينمائي السويدي إنغمار برغمان في مناسبة رحيله منقوصة، لأن عدم مشاهدة نتاجه المسرحي (أولى اهتماماً كبيراً بالمسرح) تجعل النصّ «الرثائي» (هل هو رثائي حقاً؟) عاجزاً عن استكمال الحبكة الدرامية لهذا المسار الطويل من المواجهة والتحدّي. ألم يقل ذات مرّة إنه قادرٌ على العيش من دون أن يصنع أفلاماً، لكنه لا يستطيع أن يكون موجوداً من دون أن يُنتج مسرحاً؟ أليس المسرح صورة أقرب إلى الحياة وأحاسيسها ومتاهاتها، بسبب انعدام أي حاجز بينها وبين الفضاء الإنساني؛ من السينما التي تخترق الممنوعات والحواجز كي تبلغ مرتبة عالية من تشريح كل ما يحيط بالفرد من مناخات؟ لستُ في وارد التنظير النقدي حول الفرق بين ما تُقدّمه الكاميرا وما تصنعه الخشبة. غير أن هذا الكلام الذي قاله سينمائي عريق في اختباراته الفنية المتنوّعة يثير حشرية البحث عن المعنى المضمر في رأي يجد المسرح أرقى وأجمل من السينما التي قدّم فيها ولها ما لا يقلّ عن أربعين عملاً سجالياً ومؤثّراً ومحرّضاً على طرح الأسئلة كلّها. كأن المسرح أوضح من السينما، وإن لم تكن السينما أقلّ قدرة عن التعرية والتحريض؛ أو كأن السينما، بجعلها الشاشة حياة نابضة بالمعرفة والوعي والانكسار والخيبات، تظلّ أرحم من المسرح في تشريح الحياة والفرد والأفكار الكبيرة التي يجد المرء نفسه في خضمّ إحباطاتها وخللها وجمالها. لم أشاهد الصنيع المسرحي لإنغمار برغمان، لكنّي أرى في أفلامه (هل يُمكن القول إنها متأثّرة بلغة مسرحية ما في تنقيبها الدائم في أسئلة الفرد عن الوجود والقدر والعلاقات والثنائيات والجسد والخطأ والخطيئة والعقاب الإلهي ووجود الله وعدمه!) شيئاً من عبثية المسرح المستلّة مضامينه من عبثية الحياة وجنونها. لم اقرأ أدباً لإنغمار برغمان (كتب نصوصاً قصصية وروائية متفرّقة)، من دون أن أغوص بفضلها في لعبة الصراع اليومي بين العبث والفوضى وسلطة القدر وأشياء الحياة التي تحيل اليوميّ إلى إحساس بالغبن والقهر، والتي تصنع من رماد العيون، التي تشاهد وتنقل وتحفظ، أسساً حيّة لاستكمال مشروع العيش على الحافة الأخيرة.

الأب والله

أثّرت التربية الدينية المحافظة والصارمة، التي تلقّاها برغمان منذ ولادته في الرابع عشر من تموز 1918 (في مدينة أبسلا شمال استوكهولم)، في نمط تفكيره وفي إثارة رغبته في طرح الأسئلة المصيرية عن الحياة والسلطة الأبوية والتزمّت وقدرة القدر على التحكّم بالفرد وحياته وموته وعيشه. ظلّ، في الغالبية الساحقة من أفلامه وأدبه القصصي والروائي، يصارع تلك الفكرة القاتلة عن سلطة الأب والثنائي (الأب الأم) والدين والله. طرح، في أعماله تلك، أسئلة عدّة متعلّقة بعناوين كثيرة: ثنائي ممزّق (في أكثر من فيلم أو قصّة، طرح إنغمار برغمان مسألة العلاقة الثنائية بين الزوجين أو الحبيبين أو الصديقين، محاولاً البحث في جذورها ومأزقها ووجعها وتمزّقاتها ومصائرها المجهولة)؛ مواجهة الموت (هل يعني هذا أن برغمان ظلّ يطرح على نفسه سؤال الحياة وما بعدها، أو سؤال الموت وما قبله؟)؛ غياب الله (لا شكّ في أن طارح سؤال سلطة القدر والمصير المجهول للإنسان والصراع الدائم الذي يعتمل في ذات الفرد حول العلاقة الخفيّة أو المبطّنة بين الخلق وانعدام العيش، يجد نفسه في موقع البحث في المعاني المستترة للمصير الغامض ولفكرة الله ووجوده) والسؤال الأبدي في الدين والعيش والتمرّد؛ لكن أيضاً (أي في مقابل أسئلة الوجود والقدر هذه)، أدرك برغمان أن هناك شيئاً ما في الحياة يصنع «سحر الحياة»، أو بالأحرى هناك من عثر في نتاجه الإبداعي على معنى أن تكون الحياة (هل أقول السينما) سحراً قائماً بحدّ ذاته: ذلك أن برغمان «خلق» نتاجاً ذا ثراء انفعالي/عاطفي سلّط الضوء على مأساة الشرط الإنساني، أي الحياة والموت والقدر والحرية الفردية والعلاقة بين الخالق والمخلوق.

من المسرح، إلى السينما. ومن العزلة التي جعلها حيّزاً إبداعياً لأفكاره والتزاماته وجنونه الإبداعي الجميل، إلى الانفتاح الأقصى على الجماليات الإنسانية التي تستمدّ روحها من البؤس والانكسار والخيبات والأوجاع والجنون. أعتقد أن برغمان هو هذا، أقلّه بالنسبة إليّ. لكني أعرف أني استخدمت التعابير نفسها مئات المرّات؛ ولم أستطع التحرّر من وطأة الصدمة التي صنعها رحيل السينمائي إنغمار برغمان. ظننت أني قادرٌ على الكتابة عنه وعن صنيعه الإبداعي. شعرتُ بأن مشاهدتي فيلمه التلفزيوني الأخير «ساراباند» مثلاً، ستُعينني على مقاربة نقدية أو تحليلية أو إنسانية لمجمل ما قدّمه من أفلام وأعمال أدبية (ومسرحية، لو تسنّت لي مشاهدتها، إذ اشتغل على كتابات إبسن وشكسبير وسترندبيرغ). ظننت أني قادرٌ على الكتابة عن إنغمار برغمان، أصلاً، بما يعنيه هذا الرجل من عالم إبداعي مستقلّ في السينما والمسرح والأدب. ذلك أن ما يجذب في النتاجين الأدبي والسينمائي اللذين وضعهما برغمان على مدى سني حياته الطويلة، كامنٌ في قدرته على أن يدفع المرء إلى البحث عن (أو ربما في) معنى الحياة والموت: قلق الفرد وألمه الذاتيّ وقلقه الوجوديّ إزاء الموت ومعنى فرحه ووحدته وحزنه السوداوي اللامتناهي إزاء عالم «من دون إله (أو من دون الله)».

غير أن المفارقة الأخرى في النتاج الإبداعي لبرغمان كامنةٌ في علاقته بالمرأة (بالنساء): صوّر مشاعرهنّ، وعشق حضورهنّ في نتاجه، وقدّم لهنّ أرق الحضور وأجمل الحيّز الفني والإنسانيّ. فقد لعبت العلاقة الملتبسة بينه وبين المرأة، منذ وعيه الأول لوجودها، دوراً في تحريضه على التنقيب الإنساني في شؤون تلك العلاقة وشجونها. لكن الأهمّ من ذلك كلّه كامنٌ في أنه اشتغل على الجانبين الفني والتقني بالقوة الإبداعية نفسها لاشتغاله على الجانبين الدرامي والجمالي في علاقته بهما: ذلك أن برغمان اهتمّ كثيراً بالوجوه واعتنى (بشكل كبير) بالضوء، بفضل علاقته بمدير تصوير اشتغل معه طويلاً، هو سفن نيغفيست الذي توفيّ في العام الفائت؛ وتعاون مع مبدعات لعلّ أبرزهنّ ليف أولمان، من دون تناسي إنغريد ثولن وماج بريت نيلسن وهارييت أندرسن وإيفا دهاليبك وأولا جاكوبسون والأبرز بينهنّ عالمياً ليف أولمان.

السفير اللبنانية في

31.07.2007

 
 

رحيل

بيرغمان وأنطونيوني وسينما الإنسان

عماد النويري

عن عمر يناهز ال 94 عاما توفي المخرج الإيطالي الشهير مايكل انجلو انطونيوني في منزله بروما وكان المخرج السويدي العالمي انجمار بيرغمان قد توفي في اليوم ذاته. ويعني ذلك ان الأوساط السينمائية العالمية وكل المهتمين بالفن السابع فقدوا امس الأول اثنين من اشهر وأهم مخرجي السينما في العالم. ولا يذكر تاريخ السينما المعاصرة الا بذكر الأفلام والنجاحات التي قدماها لفن السينما على مدى اكثر من ستين عاما.

اقتحم بيرغمان عالم السينما عام 1955 بفيلم 'ابتسامات صيف' وهي كوميديا اجتماعية تدور أحداثها في مطلع القرن فى السويد ومع فيلم 'الختم السابع' حصل بيرغمان على شهرة عالمية وتتابعت أفلام بيرغمان وقدم إلى السينما مجموعة من الأعمال ستبقى الى سنوات طويلة من أهم الأعمال التي قدمت لسينما الالفية الثانية على الاطلاق. ومنها 'الفروالة البرية' و'صرخات وهمسات' و'مشاهد من الحياة الزوجية' و'سوناتا الخريف' و'فاني والكسندر' ولم تقتصر اعمال بيرغمان على السينما، انما قدم العديد من الأعمال ككاتب مسرحي ومخرج يمكن وضعه في مصاف بروك وبريشت وغروتفسكي لكن كانت لبيرغمان وجهه نظره الخاصة في اللعبة المسرحية التي تجسد في روحها لعبة الحياة بكل عذاباتها.

واذا كان عام 1955 قد شهد اول نجاح دولي لبيرغمان من خلال فيلمه 'نسمات ليلة صيفية' فإن انطونيوني حقق نجاحا كبيرا عام 1966 عندما قدم فيلمه الشهير 'بلو أب' او 'انفجار' حيث يلقي أنطونيوني في هذا الفيلم، نظرة ثاقبة على الخيط الرفيع الفاصل بين الواقع والخيال، في قصة مصور يعتقد أنه شاهد جريمة ترتكب. ويزخر هذا الفيلم بالتحولات السيكولوجية، والمعاني المتداخلة والصور الرمزية المعقدة. يستخدم المخرج أنطونيوني، صورا نابضة بالحيوية كوسيلة لتصوير المراحل العاطفية لقصة الفيلم، بأسلوب واضح ومقنع وحساس، مستخدما تلك الصور كروابط تستغني عن الكلمات. وقد هذا الفيلم 'بجائزة الرابطة القومية للنقاد الأميركيين لأفضل فيلم وأفضل مخرج'، كما رشح مخرجه وكاتبه، لاثنتين من جوائز الأوسكار.

الإطلاق

ويعتبر المخرج الإيطالي مايكل أنجلو أنطونيوني، من عمالقة الإخراج في السينما العالمية، بل إن العبقري تاركوفسكي اعتبره أعظم مخرج في تاريخ السينما على الإطلاق.

في رسالة مفتوحة إلى أنطونيوني تحمل عنوان 'حكمة الفنان'، يوجه المفكر الفرنسي رولان بارت تحيه لهذا الفنان الكبير، ضمنها الناقد برهان شاوي كتابه 'سحر السينما'.. 'عزيزي أنتونيوني.. يفرق نيتشه في حديثه عن الأنماط البشرية بين شخصين هما: الواعظ والفنان، وفيما يخص شخصية الواعظ فلدينا اليوم من الوعاظ أكثر مما ينبغي، لكن الفنان يثير الدهشة والإعجاب، إذ إن نظرته نقدية لكنه لا يشكو أو يتهم أحدا، لأنه لا يبحث عن الانتقام، ولأنك فنان فإن أعمالك تقف في المقابل من الزمن مفتوحة الآفاق'.

'هكذا هي أفلامك، خاصة فيما بعد الحرب الباردة مباشرة، خطوة بعد خطوة ضاعفت الاهتمام بالعالم المحيط بك واهتممت بنفسك أيضا، فكل فيلم من أفلامك هو على الصعيد الشخصي تجربة تاريخية بالنسبة إليك، أي الخروج من مشكلة قديمة والدخول في محاولة صياغة سؤال جديد، وهذا يعني بالنسبة إلي أنك ومنذ أكثر من ثلاثين عاما كنت تعيش مع هذه 'المشاعر الجميلة' ولم تستخدمها كانعكاس فني أو كتوجيه أيديولوجي وإنما كجوهر، كمغناطيس يجذبك من عمل فني إلى آخر باعتبار أن المضمون والشكل يمتلكان الأهمية التاريخية نفسها لديك'.

هكذا كانت افلام انطونيوني وهكذا كانت افلام بيرغمان ايضا تجارب انسانية لها تاريخ او ربما تجارب تاريخية تحتفي دائما بالانسان.

خلال الايام القليلة الماضية رحل اثنان من عمالقة الاخراج في العام لكن دائما نقول ترحل الاجساد وتبقى الاعمال والصور شواهد اثبات لحيوات كانت مليئة بالمعاناة والعذاب لكنها كانت دائما تنتصر لانسانية الانسان .

i madnouwairy@hotmail.com

القبس الكويتية في

01.08.2007

 
 

أنطونيوني بعد بيرغمان رحيـل الأسـاطيـر

نديم جرجورة

لا شكّ في أن زمناً سينمائياً متكاملاً بدأ يتهاوى. ذلك أن موت الكبار ـ الذين تحوّلوا إلى ما يشبه الأساطير الحيّة في الوجدان الفردي والجماعي، والذين جعلوا الكاميرا مرايا حقيقية تُشرّح المبطّن والمخفيّ كي تفضح الظاهر، جاعلةً منه مدخلاً إلى فهم الحياة والموت، أو بالأحرى إلى محاولة فهمهما ـ في زمن الانهيارات الحضارية والتحوّلات الثقافية التي يعانيها العالم الحديث، يعني أن فصلاً مستقلاً بحدّ ذاته بدأ مرحلة الأفول. فبعد ساعات قليلة على رحيل السينمائي السويدي إنغمار برغمان، توفيّ الإيطالي مايكلأنجلو أنتونيوني ملتحقاً به إلى العالم الآخر. ساعات قليلة فصلت بينهما، ومعهما الممثل الفرنسي ميشال سيرو. كأنهم جميعهم على موعد ملحّ، أو كأنهم، لثقل الأيام واتّساع لغتها الإبداعية التي صاغوها بأعمالهم وهواجسهم وجنونهم الفني البديع، أرادوا راحةً أو شيئاً من الانعتاق النهائي من قيد العيش وحصار الحياة. وإذا بدا برغمان عنيفاً في تشريحه معالم الحياة والعيش على التخوم الضائعة بين القسوة والغضب؛ وإذا جعل سيرو حضوره التمثيلي مرآة للسينمائي وأحوال تفكيره، عاملاً على اجتهاد ذهني وانفعالي كي تلتقي الشخصيةُ الصورةَ الموضوعة لها في عقل السينمائي؛ فإن أنتونيوني، الذي أعلنت وفاته أمس الثلاثاء عن أربعة وتسعين عاماً، شكّل اللحظة الإنسانية المفتوحة على أفق التأمل في شجون الدنيا وأحوال الناس، بلغة هادئة وإيقاع بطيء تتيح للمُشاهد أن يغلق أبواب العالم الخارجي على نفسه، كي يتمتّع بدفق الصُّوَر العاكسة مأساة الحياة وفجيعة العيش: «مثّل أنتونيوني وبرغمان معاً القلق الإنساني والوجودي المعاصر، والمتاهات العاطفية لعالم ما بعد الحرب»، كما قال أحد المتخصّصين بالسينما الإيطالية آلدو تاسّوني، إثر شيوع نبأ رحيل مخرج «بلو آب».

لم يقف أنتونيوني مكتوف اليدين أمام ما حلّ بجسده، إثر تعرّضه لأزمة صحيّة خطرة قبل اثنين وعشرين عاماً. ففي العام ,1985 أصيب بشلل نصفي أقعده عن الحركة، ودفعه إلى مزيد من التأمل والصمت والتحليل السوي، من دون أن يُبعده عن الكاميرا التي جعلها تلتقط له أدقّ التفاصيل الإنسانية المستلّة من يوميات الفرد ومأساته وآلامه وخيباته وعزلته وانكساراته. لم يستطع الشلل النصفي أن يقف حائلاً دون استكماله مشروعه السينمائي، الذي وصفه نقّاد بأنه ارتكز على الدعوة إلى التأمّل الهادئ (أو بالأحرى إلى العيش بهدوء، لأن قعر الدنيا والتفاصيل المخفية تكشف قذارة المآسي وقسوتها)، وإلى تفتيت أسس العيش لإعادة صوغ المشهد الحياتي من خلال البحث في أعمق أعماق المرء وروحه. ولعلّ إصابته بالشلل النصفي ساهمت في توطيد علاقته الحميمة بالكاميرا وبمواضيعه الأقرب إلى روحه، إذ إنه تعالى على «بُطء» حركته الجسدية، مستعيناً بخبرته الطويلة في مماحكة الدنيا، كي يقف على قدميه خلف الكاميرا بمساعدة سينمائيين ينتمون إلى أجيال أصغر سنّاً وإلى مدارس مختلفة، كي يقول معنى أن يواجه المرء قدره. وعلى الرغم من أن الشلل النصفي أفقده القدرة على الكلام، إلاّ أن براعته في التعبير الصامت عن رغباته وحاجاته السينمائية قرّبت سينمائيين إليه، أدركوا ما يريد، فعاونوه على إنجاز تحف سينمائية لا تقلّ جمالاً عن أفلامه السابقة. فبمساعدة فيم فاندرز، أنجز في العام 1995 (أي بعد عشرة أعوام على إصابته هذه) «ما وراء الغيوم»؛ وفي العام ,2005 وجد أنتونيوني نفسه محاطاً بسينمائيَّين آخرَين هما ستيفن سودربيرغ وونغ كار ـ واي، أخرجا معه فيلماً متوسط الطول بعنوان «إيروس».

السفير اللبنانية في

01.08.2007

 
 

ميكلانجلو أنطونيوني ciao maestro!

شاعر الصمت والتواصل الصعب، سينمائي الأزمنة الحديثة

بيار أبي صعب

برحيل المخرج ميكلانجلو أنطونيوني بعد اعتكاف طويل في الصمت، ينطوي فصل كامل في تاريخ الفن السابع الذي كان من آخر علامات عصره الذهبي. اخترع الراحل لغة سينمائيّة خاصة، قائمة على البطء والموضوعية، وخرج من عباءته جيل من المبدعين في أميركا وأوروبا

يوم واحد غيّب المعلمين. الأول، برغمان، انطفأ صباح الاثنين في خلوة جزيرته السويدية، والثاني ميكلانجلو أنطونيوني، رحل بهدوء في مقعده المعتاد، مساء الاثنين، وإلى جانبه زوجته إنريكا فيكو التي تصغره بـ41 عاماً، وسط سكينة منزلهما في روما. كأن فصلاً كاملاً من تاريخ الفنّ السابع ينطوي. إنّها النهاية الرسمية (فالنهاية الفعلية بدأت منذ ثمانينات القرن الماضي)، لعصر ذهبي في تاريخ الفن السابع، صنعه سينمائيّون كبار، جدّدوا في القوالب: اللغة والشكل والأدوات، كما جددوا في المضمون، في النظرة إلى العالم، لأنّهم كانوا ـــــ قبل كلّ شيء ـــــ «فلاسفة» مشغولين بحل ألغاز الوجود الانساني، كنهه وحدوده وتناقضاته وأسراره. والمخرج الايطالي الذي قضى أول من أمس في الرابعة والتسعين، بعد معاناة طويلة مع المرض، غيّر طريقتنا في النظر إلى الواقع، إلى الأجساد والوجوه والغيوم، وأخرج من عباءته جيلاً من السينمائيين المجددين في أميركا وأوروبا على السواء.

أنطونيوني الذي كان أقل عزارة من قرينه السويدي (16 عملاً طويلاً بينها واحد وثائقي عن صين العمّ ماو، مقابل 47 لبرغمان، على امتداد الحقبة نفسها: قرابة ستين عاماً، يضاف إليها القدر نفسه من الأفلام الوثائقية القصيرة)، ينتمي إلى سلالة عريقة في تاريخ الفن السابع. إنّه ابن السينما الايطالية التي أنجبت فيسكونتي وبازوليني، روسيليني وفلليني، وبين آخر مكملي تقاليدها العريقة اليوم إيتوري سكولا، وبرناردو برتولوتشي و... ناني موريتي. لقد نقل السينما إلى مكان غير متوقع، إذ جعلها تتخلص من قيود وعادات مستنفدة، لتكتشف بعداً جديداً، هو في جوهره تأملي وموضوعي وبارد، يقحمها في التباسات الحداثة القلقة... في رحلة البحث عن المعنى.

أنطونيوني يدير جان مورو خلال تصوير مشهد من “الليل”إنه سينمائي مسكون بالرغبة إلى درجة الهوس. تحركه حاجة ماسة إلى البحث عن تلك الرغبة، ورصدها، والتقاطها في أقرب نقطة ممكنة من الأجساد. كان يحاول باستمرار أن يحيط بالبعد المستعصي من الواقع، أن يفهم مثلاً هذا الحدث الغامض الذي يجعل امرأة ورجلاً يلتقيان أو يفترقان... كما في فيلم «تعرّف إلى امرأة» (1982). واعتبر الباحثون أنه أحد أكثر السينمائيين قدرة على التعبير عن المشاعر الأنثويّة. وقد ختم مسيرته السينمائية بهذا الهاجس نفسه، من خلال مساهمته في أحد الأجزاء الثلاثة لفيلم Eros (2004) مع ونغ كار واي وستيفن سودربرغ.

عاصر صاحب «لافنتورا»، ولادة «الواقعيّة الجديدة» التي أعلنت القطيعة مع إيطاليا الفاشيّة وموروثاتها الجمالية والأخلاقيّة. لكنّه سرعان ما استقل بأسلوبه وعوالمه ومواضيعه، محوّلاً تعاليم تلك المدرسة الراديكاليّة والنقديّة، إلى وقود ذاتي، داخلي، لفنّه. لقد استبطن بعض مبادئها المتعلّقة بالسرد غير الخطي للحكاية، وبطريقة تصوير الواقع من زوايا نظر مغايرة للسائد. لكن المايسترو حلّق في سماوات أخرى، صوفيّة في جوهرها، حميمة وخاصة في مفرداتها وجمالياتها. تاركاً لنا بعض روائع الفن السابع، من رباعيته مع مونيكا فيتي ملهمته وبطلته وحبيبته في الستينيات، إلى «من خلال الغيوم» الفيلم الذي حققه عام 1995 بعد سنوات المرض، بمساعدة السينمائي الألماني فيم فندرز مع صوفي مارسو وجون مالكوفيتش وجيريمي أيرونز وإيران جاكوب وفاني أردان... مروراً طبعاً بـ«المهنة مخبر» (1974) الذي صوّره في الولايات المتحدة مع جاك نيكلسون وماريا شنايدر، ولم يحقق نجاحاً تجارياً بسبب لقطاته الطويلة وإيقاعه البطيء، فيما اعتبره هواة السينما ومحترفوها مرجعهم المطلق. وقال عنه المخرج الأميركي مارتن سكورسيزي: «إنّه شاعر يحمل كاميرا».

هذا الشاعر الباحث عن الجمال المنسي تحت سطح الأشياء، وعن ألغاز الوجود، بنظرة باردة ظاهرياً، بدأ ناقداً سينمائياً في بلدته الشمالية فيراري التي يعود إليها جثمانه غداً الخميس، بعد دراسة جامعية في مجال العلوم الاقتصاديّة. ثم «نزل» إلى روما، إلى «معهد السينما التجريبي» ليحقق أول شريط وثائقي عن «سكان سهل Po» متأثراً بمبادئ الواقعية الجديدة بلا شك. أمضى في تصوير الفيلم أربع سنوات، وأضاع معظم المادة المصوّرة قبل أن يعرض منها عام 1947 تسع دقائق. ثم عمل في باريس مساعداً لمارسيل كارنيه في باريس (زوار المساء)، وكتب سيناريوهات مع روسيليني وفيلليني. من يتصوّر أن «الشيخ الأبيض» لهذا الأخير كانت نواته سيناريو من توقيع شاب اسمه ميكلانجلو أنطونيوني؟

ثاني أفلامه الوثائقية (NU 1948)، عن عمال التنظيفات في روما، لم يكن بدوره بعيداً عن النفَس الواقعي والاجتماعي لجماعة الواقعية الجديدة. لكنه لن يطيل الاقامة في دائرة تأثير تلك المدرسة، سيحتفظ منها بتلك القطيعة مع اليلودراما السائدة، منحرفاً إلى نوع من الغرائبية والفانتازيا. من فيلمه الروائي الأوّل «يوميات حب» (1950) إلى «الصرخة» (1957) شكل هذا الفنان فناً يعشش في صمت العالم، ويستسلم لدوامة المشاعر... واضعاً أساسات سينما سيختزل النقد محاورها إلى التواصل الصعب، والكبت والحرمان على أشكالهما، والعلاقات الإنسانية الشائكة، والوحدة وما الى ذلك... في الحقيقة ما يشغل أنطونيوني هو عجز الصورة عن الإحاطة بالواقع، والتعبير عن المشاعر المعقدة... إنّه مفتون بهذا الجانب الهارب من التجربة المعيشة الذي يفلت منا باستمرار.

فيلمه الأول يعكس تأثيراً بالأدب الأميركي، والسينما السوداء الآتية من الضفة الأخرى للأطلسي. الزوجة والعشيق يحاولان التخلص من الزوج. لكن نواة أسلوب أنطونيوني موجودة هنا: المشهد المكوّن من لقطة واحدة الذي سيصنع فرادة لغته السينمائية. بعدها يأتي فيلم «الغادة البلا كاميليا» (1953) في الاتجاه نفسه ليحكي عن مهنة السينمائي في إيطاليا ذلك العصر. ولا بد من الاشارة إلى مساهمته في فيلم جماعي بعنوان «الحب في المدينة» في العام نفسه، من خلال «محاولة انتحار» يخترع فيه نوعاً من «السينما المباشرة» إذ يذهب لمحاورة نساء حاولن الانتحار... هذه التجربة سنجد بعض ملامحها في «نساء في ما بينهن» (1955) المأخوذ عن قصّة لمواطنه سيزاري بافيزي، فيه يعود الى المشهد ـــــ اللقطة، مصوراً علاقات الصداقة والكره والتنافس وسط مجموعة نساء من الطبقة البورجوازية في مدينة تورينو. وبعد أن تتركه زوجته الأولى ليتيسيا يأتي فيلم «الصرخة» ليروي قصة عامل يهيم على وجهه في سهل بو بعد أن هجرته زوجته.

هنا يأتي لقاء السينمائي الصاعد بملهمته مونيكا فيتي، ليمهد لمرحلة جديدة، تدور حول تلك الممثلة، وتحكي عن «فقدان التواصل»، وضياع الإنسان الذي تصطدم مشاعره ورغباته بحواجز أخلاقية تجاوزتها حركة تطور العالم: «لافنتورا» (المغامرة ـــــ 1959) الذي سيثير فضيحة في «مهرجان كان»، لا نوتي» (الليل ـــــ 1960)، «الكسوف» (1962)، و»الصحراء الحمراء» (1964). عالم سينمائي تربطه أواصر قربى بالأدب والفكر، من خلال بافيزي أولاً، لكن أيضاً فيتزجيرالد وموتزيل و... أدورنو. والمراجع الجمالية عديدة، ليس آخرها الإحالة إلى عالم شيروكو الفني في المشهد الاخير من «الكسوف».

مع «بلو جوب» (اللقطة المبكرة ـــــ 1966، صور بالانكليزية في بريطانيا)، سينتقل أنطونيوني إلى مرحلة جديدة مختلفة، من خلال حكاية مصوّر الموضة الذي يلتقط من دون علمه مشهد جريمة قتل، في لندن الستينيات الراقصة. نجاح الفيلم تجارياً كان جديداً على السينمائي الايطالي (عشرة أضعاف موازنة إنتاجه)... ما فتح له أبواب الولايات المتحدة حيث صوّر «زابريسكي بوينت» (1970)، ثم «بروفيشن ريبورتر» (المهنة مخبر ـــــ 1975) لكن أياً من العملين لم يحقق الإقبال المتوقع. والكلام نفسه ينطبق على قصة الحب التي صورها مع مونيكا فيتي بتقنية الفيديو المنقولة إلى السينما «سر أوبروالد» (عن نص لجان كوكتو ـــــ 1980).

الصمت الذي طالما اشتغل عليه أنطونيوني في أفلامه، حتى لقّب بـ«سينمائي الضجر»، هو الملاذ الذي تقوقع فيه منذ إصابته بجلطة في الدماغ العام 1985. المعلم الذي رسم عالماً داخلياً من الأحاسيس المنسية والذكريات الضائعة، لم يعد ينبس ببنت شفة، لكنّه استعاض عن الكلمات بالألوان، هو الذي عرف كفنان تلويني في السينما، والذي قال يوماً إنّه لو لم يكن سينمائياً لكان معمارياً أو رساماً. راح يرسم ويرسم في محترفه، وعرضت أعماله العام الماضي في روما تحت عنوان «صمت الألوان». كما حقق عام 2004 فيلماً تسجيلياً بعنوان «نظرة ميكلانجلو» عن النحات الايطالي الكبير.

تتميّز سينما أنطونيوني بالشغل على الزمن الميت، ذلك الوقت الكافي للتأمل الذي يتميز بإيقاع بطيء يجنح إلى الصمت... لكن سينما أنطونيوني التي تلاحقها مصطلحات اختزالية من نوع «العزلة» «استحالة التواصل» و«استحالة الحب»، كمميزات تقول بؤس العالم الحديث، هي في الحقيقة كما يلاحظ الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، تعبير عن صراع آخر أكثر تعقيداً. عن حالة «التمزق بين عقل يستوعب التطور ويعيش التحولات الكبرى، وجسد خائف بقي أسير الماضي وقيمه، يختزن الأساطير التي لم يعد أحد يصدقها، ولا يجد للتحرر منها سوى الايروسية والعصاب». إنها سينما تقول، باختصار، عجزنا عن الالتحاق بالأزمنة الحديثة.

الأخبار اللبنانية في

01.08.2007

 
 

بعد ساعات من رحيل برغمان...

صاحب «المغامرة» يستسلم بدوره أمام الموت ... ميكائيل أنجلو أنطونيوني: بداوة سينمائية للغوص في قلق البشر

ابراهيم العريس

ميكائيل انجلو انطونيوني، الراحل أول من أمس عن عالمنا بعد ساعات قليلة من رحيل عملاق الفن السابع الآخر انغمار برغمان، عاش طوال العقد الأخير من حياته خارج العالم تقريباً، لا يسمع، وبالكاد يرى، ويستعصي عليه التعبير بأي كلام، ومع هذا ظل ثاقب البصيرة قادراً على ان يحقق افلاماً عدة انطلاقاً من ان السينما هي ملكوت تعبيره، حين يخونه أي ملكوت تعبير آخر.

الذين يعرفون سينما انطونيوني جيداً ورافقوها منذ زمن مبكر، أو على الأقل منذ اول فيلم وضعه في ساحة الفن السابع وفي مقدم شاغلي تلك الساحة، أي «تاريخ حب» (1950)، يعرفون ان انطونيوني ما كان ابداً في حاجة الى كلام كثير ليقول ما عنده. كانت الصورة والحركة وسيلتي التعبير المثاليتين لديه، بحيث ان الكلام والحوارات كادت تبدو في احيان كثيرة زينة لا أكثر. ويمكننا ان نقول في هذا السياق ان اعظم لحظات افلامه كانت دائماً لحظات صامتة. نتذكر طبعاً مشهد المهندس، بطل «المغامرة»، وهو يسكب الحبر على أوراق الرسام الشاب. ومشهد جاك نيكلسون في نافذة الفندق الصيفي في «المهنة مخبر»، ومشهد مونيكا فيتي تتجول وحيدة في «الصحراء الحمراء»، ومشهد حلم تفجير المجتمع الاستهلاكي في «زابريسكي بوينت»، وفوق هذا كله صمت الحديقة حيث الجثة في «بلو آب»... لحظات رائعة من تاريخ سينما انطونيوني، بل من تاريخ الفن السابع.

أنطونيوني الذي ولد العام 1912، بدأ حياته صحافياً وكاتباً، قبل ان يتوجه الى روما ثم الى باريس حيث عمل مساعداً لمارسيل كارنيه في «زوار المساء». وإثر عودته الى روما، قرر ان يتحول الى الإخراج السينمائي ليحقق افلاماً تسجيلية، لعل أهمها في ذلك الحين «سكان البو» الذي حكى عن حياة الصيادين الفقراء، ما أعطى المخرج سمة رافقته طويلاً ثم عمل جاهداً حتى يتخلص منها: صفة «الواقعي الجديد». وليتخذ أنطونيوني لنفسه سمات اكثر فرادة ومنطقية، كان عليه ان يمر في مطهر بعض السينما الواقعية، حتى تحقيقه «تاريخ حب». غير ان الذروة التي أوصلته الى مكانته الكبرى كواحد من كبار مبدعي الفن السينمائي، ستحمل اسم «المغامرة» العمل الرائع الذي لا يزال يعتبر أحد أفضل عشرة أفلام في تاريخ السينما، مع انه هوجم ورجم حين عرض للمرة الأولى في مهرجان «كان» العام 1960. يومها اضطر سينمائيون كبار الى إصدار عريضة للدفاع عنه. ومنذ ذلك الحين راحت افلام انطونيوني تتتالى، ليشكل كل واحد منها حدثاً. لكن تلك الأفلام لم تبق إيطالية فقط، إذ بعد تحقيقه «الصحراء الحمراء» (1964) كتتويج لسلسلة افلامه الإيطالية، ومنها «المهزومون» و «الصرخة» و «الليل» و «الكسوف» (وكل منها يشكل علامة في تاريخ السينما)، توجه انطونيوني الى لندن ليصور «بلو آب» عن قصة لخوليو كورتاثار، ثم الى الولايات المتحدة حيث حقق «زابريسكي بوينت» (1970)، ثم الى الصين ليحقق واحداً من افضل ما حقق عنها من افلام وثائقية، وثنّى على ذلك بـ «المهنة مخبر» الذي صور بين إسبانيا والمغرب، ثم «سر أوبروالد» و «التعرف على امرأة» الذي كان آخر أفلامه الكبرى قبل إصابته بالجلطة التي أفقدته معظم حواسه، ولكن ليس «حاسة السينما» كما كان يقول لزميله الشاب فيم فندرز الذي عاونه في تحقيق «ما وراء الغيوم»...

بموته وهو يقترب من سن المئة، تنطوي مرحلة كبيرة من تاريخ السينما الإيطالية والعالمية، مرحلة من المؤكد ان البداوة كانت رائدتها، وهمّ الوجود الإنساني وقلق البشر موضوعها. فأنطونيوني كان، خلال النصف الثاني من حياته، واحداً من الكبار الذين أدركوا انه اذا كانت ثمة عولمة حقيقية في هذا العالم فإن الفن السابع هو مرآتها، وأنه إذا كان ثمة من فن يعكس القلق الوجودي حقاً، فإن هذا الفن هو فن السينما بامتياز.

الحياة اللندنية في

01.08.2007

 
 

هكذا تكلم برغمان 

ابراهيم العريس

لقد أردت دائماً أن أكون واحداً من أولئك الذين ساهموا في بناء الكاتدرائيات في مناطق ذات مساحات شاسعة. أردت أن أجعل من الحجر رأس تنين، ملاكاً أو شيطاناً، أو قديساً... لا فرق. لا فرق طالما انني في الأحوال كافة سأشعر بالسعادة، سواء كنت مؤمناً أو غير مؤمن، مسيحياً أو كافراً... كل ما يهمني هو أن أشتغل مع الناس جميعاً في بناء الكاتدرائية لأنني فنان وحرفي، ولأنني تعلمت كيف أستخلص من الصخر الجامد وجوهاً وأطراف أجساد... ولا أشعر أن عليّ أن أقلق في صدد حكم المعاصرين أو المقبلين، عليّ. فاسمي وكنيتي لن يحفرا في أي مكان. أحس أنهما سيختفيان تماماً باختفائي. لكن جزءاً صغيراً مني سيبقى وسط شمولية منتصرة لا اسم لها. وهذا الجزء سيكون على صورة تنين أو شيطان وربما قديس... لا يهم!

> «الختم السابع» هو واحد من أفلامي العزيزة على قلبي. لكنني لا أدري، بالضبط، لماذا. انه ليس، طبعاً، عملاً خالياً من الأخطاء... بل هو ملطخ بأنواع الجنون كافة... كما ان في إمكان المشاهد أن يكتشف أنه أنجز في سرعة قصوى. ومع هذا أجده مفعماً بالحيوية والحركة منعتقاً من كل أنواع العصاب. وأضف الى ذلك كله أن أجزاءه تبدو مترابطة في ما بينها بقدر لا بأس به من الشغف والمتعة.

> أن أكون دائماً مثيراً للاهتمام معناه أن الجمهور الذي يشاهد أفلامي ويمكّنني بمساهمته هذه من أن أبقى حياً أرزق، من حقه أن يطالبني بعمل يرفه عنه، بشعور ما، بسرور معين أو بحيوية جديدة. وأنا من واجبي أن أعطيه ما يتوقعه مني. ولكن من أجل تفادي أن يتحول الفنان الى مومس تتاجر بموهبتها، يتعين على هذا الفنان أن يتصرف دائماً انطلاقاً من ضميره كفنان: ومن المؤكد ان هذه الوصية ليست يسيرة المنال. ذلك أن الفنان – إن اتبعها – سيجد نفسه على حبل مشدود مضطراً الى افتعال توازنه افتعالاً... لأنه، في كل لحظة من لحظات وجوده وعمله يجازف بأن يقع ويدق عنقه. ولكن... في المقابل، أفلا يجدر بنا أن نقول إن طريق المخاطر هي الطريق التي تبدو الأكثر قابلية لأن تُسلك؟ ان الشر والدوخان، في هذا السياق، هما قطبا إلهامنا اللازمان المتلازمان.

> الحقيقة انني عندما أمعن التفكير في سنوات حياتي الأولى يستحوذ عليّ شيء من التوق والفضول. لقد غذت تلك السنوات خيالي وحواسي بحيث انني لا أذكر أبداً انني شعرت خلالها بأي ضجر. بل كنت أحس، على العكس من ذلك، أن الأيام والساعات تتفجر تحت ضغط أمور شديدة الغرابة ومشاهد غير متوقعة، ولحظات عابقة بالسحر. أنا حتى اليوم لا أزال قادراً على التجوال في أحضان الطبيعة نفسها، مستعيداً ضياءها وعطورها وصور الناس والأماكن واللحظات والحركات والنبرات والأشياء شاعراً بها بقوة. ومع هذا فإنني نادراً ما أعثر في خضم ذلك كله على أحداث تروى. كل ما أعثر عليه هو أجزاء من أفلام، طويلة أو قصيرة، صورت غالباً من دون هدف.

> ان ما تمتاز به الطفولة إنما هو القدرة على التنقل في حرية تامة بين السحر والشوفان. بين الرعب الخالص والفرح الفتاك. والحقيقة اننا إذا استثنينا ما يمتلئ به زمن الطفولة من أوامر ونواهٍ لا تتناهى، لكنها في النهاية ليست سوى ظلال، لا نجد غالباً أي تفسير لها، سنجد أن ليس ثمة أمام الطفولة من حدود. وفي هذا السياق أعرف مثلاً اليوم انني أبداً ما كنت أستطيع فهم مسألة الالتزام بحدود الوقت: «عليك أن تتعلم الوصول في الوقت المحدد»، «أعطيناك ساعة وعلمناك قراءة الوقت بها»... مع ذلك لم يكن للوقت وجود بالنسبة إلي. كنت أصل الى المدرسة متأخراً. وكنت أصل الى موعد وجبات الطعام متأخراً. كنت، من دون أدنى مبالاة، أتنزه في حدائق المستشفى. أدوّن. أحلم... وأعرف ان الوقت ما عاد له بالنسبة إلي وجود. غير الوقت كان ذلك الشيء الذي يذكرني بأن عليّ أن أشعر بالجوع...

> كل فيلم هو فيلمي الأخير. كان من عادة حكماء القرون الوسطى ان يناموا داخل توابيتهم، وذلك لئلا ينسوا أهمية كل لحظة، وكل سمة من سمات الحياة العابرة. وأنا، من دون اللجوء الى إجراء على مثل هذا التطرف ولا يريح أبداً، أحمي نفسي دائماً ضد اللاجدوى البيّنة، وضد مساوئ هذه المهنة القاسية التي نمارسها، عبر إقناع نفسي، في أعماق ذاتي، بأن كل فيلم من أفلامي سيكون فيلمي الأخير.

> في فيلمي «الفريز البري» أتحرك، في شكل طبيعي ومن دون بذل أي جهد مبالغ فيه، بين مستويات مختلفة: بين الزمان/ المكان، وبين الحلم/ الواقع. لا أستطيع أن أتذكر ما إذا كان الانتقال في حد ذاته، قد شكل لي بعض الصعوبات التقنية في حينه. لكنني أعرف انه قد تسبب لي لاحقاً – ولا سيما حين حققت «وجهاً لوجه» – مشاكل لم يكن في الإمكان تخطيها(...). مهما يكن فإن القوة المحركة في «الفريز البري» كانت المحاولة البائسة التي سعيت الى القيام بها لتبرير ذاتي في مواجهة أبوين مضخمين في شكل أسطوري يديران لي ظهرهما. وكنت أعرف طبعاً أن الفشل هو مآل تلك المحاولة. أما أبي وأمي فإنهما لم يتحولا، بالنسبة إليّ، الى كائنين بالحجم الطبيعي إلا بعد ذلك بسنوات، فكان ان اضمحل حقدي الطفولي العارم عليهما، حتى زال تماماً... والتقينا عندئذ وسط جو من الحنان والتفاهم تبادل.

الحياة اللندنية المصرية في

02.08.2007

 
 

وفاة «برجمان» فيلسوف السينما وأحد كبار مبدعي القرن العشرين

بقلم  سمير فريد

غاب عن عالمنا يوم الاثنين الماضي «انجمار برجمان» بعد ١٥ يومًا من عيد ميلاده الـ ٨٩ في ١٤ يوليو، وهو من كبار مبدعي العالم في القرن العشرين الميلادي، وليس فقط في بلده السويد، أو في أوروبا.

كان كبار فناني السينما في شمال أوروبا قد ساهموا مساهمة رئيسية في التعبير عن إمكانيات اللغة الجديدة (لغة السينما) كلغة تملك القدرة علي تجاوز الواقعية إلي الحلم وما بعد الواقع، وذلك منذ السينما الصامتة، ومن هذه السينما العريقة جاء برجمان عام ١٩٤٦ عندما أخرج أول أفلامه، ووصل بهذا الاتجاه إلي ذروته في السينما الناطقة ثم في السينما المصورة بالألوان، واستحق عن جدارة أن يلقب بـ «فيلسوف السينما».

بدأ برجمان حياته الفنية مع فرق الطلبة المسرحية، ثم عمل كاتبًا للسيناريو، وأخرج للمسرح والسينما والراديو والتليفزيون، أما أفلامه فقد بلغ عددها ٤٧ فيلمًا منها ٤٣ فيلمًا روائيًا طويلاً وأربعة أفلام تسجيلية ومن أهم أفلامه «ابتسامات ليلة صيف» ١٩٥٥، و«الختم السابع» و«الفراولة البرية» ١٩٥٧، وثلاثية «عبر زجاج معتم» و«ضوء الشتاء» و«الصمت» (١٩٦١- ١٩٦٣)، و«برسونا» ١٩٦٦، و«ساعة الذئب» و«عار» ١٩٦٨.

 ومن تحفة الألوان «صرخات وهمسات» ١٩٧٣، و«وجهًا لوجه» ١٩٧٦، و«فاني والكسندر» ١٩٨٢. وفي المرحلة الأخيرة من ١٩٨٤ إلي ٢٠٠٣ قدم ما يمكن اعتباره «ثلاثية الموت» في «بعد البروفة» و«لتكن الضوضاء وليقم الأحمق بدوره» ١٩٩٨، ثم «ساراباند».

فاز برجمان بالعديد من الجوائز في المهرجانات الكبري للسينما ولكن ذكر هذه الجوائز مهما كانت يبدو تقليلاً من قيمته ونحن نتحدث في وداعه، وإنما الأفضل أن نذكر أن عدد الكتب التي صدرت عنه بمختلف اللغات كبير إلي درجة ربما لا يفوقها إلا عدد الكتب التي صدرت عن شارلي شابلن، وفي المكتبة العربية أربعة كتب هي سيناريو «ابتسامات ليلة صيف» الذي ترجمه الكاتب الكبير علاء الديب وصدر عن روزاليوسف عام ١٩٧٢، و«برجمان» تأليف دينيس ماريون وترجمة هنرييت عبود عن دار الطليعة في بيروت ١٩٨١، وعن وزارة الثقافة في دمشق صدر «المصباح السحري» ترجمة باسل الخطيب ١٩٩٤، و«صور» ترجمة زياد خاشوق ٢٠٠٣.

المصري اليوم في

02.08.2007

 
 

هامشيون غيّروا مفاهيم الفن السابع ورحلوا معزولين (2)...

انغمار برغمان: أسئلة ابن القسيس على شاشة حديثة قلقة

إبراهيم العريس

نعرف منذ زمن بعيد أن انغمار برغمان هو، في الحسابات كلها، كبير الهامشيين في السينما العالمية، ولكن لم في أن نشمله في هذه السلسلة. فهي سلسلة التي التخطيط لها أن تتحدث عن مخرجين كبار، يخرجون عن السياق السائد، ورحلوا عن عالمنا بعدما أسست هامشيتهم (أي عبقريتهم) كل جديد في مسار السينما العالمية وتاريخه. وإذ فاجأنا انغمار برغمان بموته قبل أيام، كان من الطبيعي أن يتخذ مكانه، بسرعة في هذه السلسلة. وهكذا بعدما بدأنا بالبرازيلي غلاوبر روشا وتأسيسه لتيار «سينما نونو»، ننتقل الى برغمان، أحد كبار المبدعين في تاريخ الفن السابع... وأيضاً أحد كبار الهامشيين في تاريخ هذا الفن، من أولئك الذين، حتى لمناسبة رحيلهم، كما هي حال برغمان هذه الأيام، لن يجدوا ما يشفع بعرض أفلامهم على القنوات التلفزيونية المتراكمة في الأجهزة في البيوت تبث على مدار الساعات والأيام النوعية نفسها من أفلام الهزل والمغامرة والعنف التي لا تشبه إلا بعضها بعضاً في نهاية الأمر. وهذه القنوات لا تعرف، طبعاً، شيئاً عن مبدعي السينما هؤلاء، من الذين لا تخلو الموسوعات من ذكرهم والمكتبات من عشرات الكتب والدراسات عنهم، إذ يشكلون معاً ذلك الجزء المضيء من تاريخ السينما الجادة أو البديلة في العالم. إذاً... ها هو الرحيل المباغت لأحد كبار الكبار في فنون القرن العشرين وافكاره يضعه في مقدمة لائحة الهامشيين.

< باكراً منذ العام 1955، كتب جان – لوك غودار يقول في معرض حديثه عن انغمار برغمان أن هناك، في تاريخ الفن السابع خمسة أو ستة أفلام حين يشاهد المرء أحدها يصرخ قائلاً: «إن هذا الفيلم هو أجمل الأفلام»!... و «يا إلهي... هذه هي السينما!»... وإذ عدد غودار يومها أفلاماً لأورسون ويلز وروسليني وفلاهرتي، وجد نفسه منساقاً لأن يضع فيلماً لبرغمان كان عرض في ذلك الحين، في عداد هذه الأفلام. ذلك الفيلم كان «ابتسامة ليلة صيف». بعد ذلك، وعلى رغم حماسة غودار كلها، لم يعد «ابتسامة ليلة صيف» يحتل سوى مكانة ثانوية في لائحة أفلام ذلك المخرج السويدي الذي كان يبدو طالعاً من العدم. ليس لأن النظرة الى الفيلم خفت حماستها، بل تحديداً لأن برغمان حقق من بعده تحفاً سينمائية كبرى وأساسية طلعت من الهامش، لتفرض حضورها في تاريخ الفن السابع ككل. أفلاماً توضع عناوينها اليوم الى جانب أعظم تحف الفن الإنساني على مدى التاريخ، من مسرحيات شكسبير وتشيخوف وبريخت، الى لوحات دافنشي وفان غوغ وبيكاسو، مروراً بالروايات الكبرى وبأعظم النصوص الفلسفية. نقول هذا ونفكر طبعاً بـ «الختم السابع» و «الفريز البري» و «برسونا» و «ساعة الذئب» و «همس وصراخ» وصولاً الى «فاني وألكسندر» و «الصمت» و «عبر المرآة». طبعاً لن نكمل هنا اللائحة كلها. إنما أعطينا بعض الإشارات التي ستقول لنا بسرعة كم ان الفن السابع العالمي خسر بموت انغمار برغمان قبل أيام، بل بصمته الذي تواصل أكثر من عقدين قبل موته، ولم يقطعه سوى عمل أو عملين أتيا أشبه بنزوة.

طفل يعاني

يوضع عادة اسم برغمان الى جانب أسماء فلليني، وفسكونتي وهتشكوك وأنطونيوني (الراحل بعد ساعات من رحيل المعلم السويدي الكبير)، بوصف هؤلاء جميعاً، المعلمين الكبار الذين جعلوا لفن السينما مكانة أساسية في فنون القرن العشرين وافكاره أيضاً. وليس في هذا أي مبالغة على الإطلاق. ولكن إذا كان الثلاثي الإيطالي (فلليني وفسكونتي وأنطونيوني) قد عاش في قلب أضواء السينما وعومل أحياناً حتى كظواهر اجتماعية، وإذا كان سيدا السينما الأميركية (هتشكوك وفورد) كانا أيضاً من نجوم هوليوود، فإن برغمان في سويده النائية، كما في مواضيعه ولغته السينمائية، ظل في معظم حياته وأعماله، هامشياً، حتى وإن كان اسمه لمع دائماً، هو الذي يمكننا ان نجازف بالقول إن الذين عرفوا اسمه وملامحه، لم يعرفوا أفلامه فإن شاهدوها لفضول ما، ظلوا خارجها. ذلك ان سينما برغمان، في معظم أفلامها، كانت ولا تزال سينما على حدة: شديدة الخصوصية، تزاوج بين الفكر والعاطفة، تطرح مشكلات الوجود الإنساني والعلاقات البشرية ومعضلات حياة المرأة، ومسائل مثل الدين والأخلاق، طرحاً ينبع مباشرة من تأملات برغمان في الحياة منذ كان مجرد صبي يطرح على نفسه أسئلة قلقة وهو يعاني ما يعاني من تشدد وتزمت والده القس البروتستانتي ولا يجد ملاذاً له إلا لدى جدته. هذه الخلفية قالها برغمان في معظم أفلامه، ولكن أيضاً في عدد من الكتب والنصوص التي أتت لاحقاً لتكشف أن كل المتن البرغماني، صوراً كان أو نصوصاً مكتوبة، إنما كان متناً في السيرة الذاتية. ولكأن برغمان استحوذ لحسابه على عبارة آلن روب غرييه المشهورة: «في النهاية أنا لم أحك إلا عن نفسي».

شمولية وهامش

ولكن هنا يبقى سؤال أساسي: كيف تمكن برغمان من أن يجد مواضيع وحكايات يملأ بها نحو ثلاث دزينات من أفلام حققها خلال ما يقرب من نصف قرن، ويمكننا اعتبارها اليوم جزءاً من «سيرة حياته»؟ للوهلة الأولى قد يبدو السؤال عسيراً على الإجابة... غير ان تفرساً عميقاً في سينما صاحب «الصمت» و«فاني وألكسندر» سيقول لنا إن السيرة الذاتية لديه إنما هي السيرة الفكرية نفسها. فبرغمان الذي أولع بالفلسفة والمسرح والأوبرا باكراً، سرعان ما جعل كل ما يقرأه ويعرفه ويعيشه فكرياً ووجدانياً يتجمع في بوتقة واحدة هي بوتقة الإبداع لديه. فبرغمان عرف منذ وقت مبكر من حياته – وهو روى هذا في واحد من أجمل كتبه «المصباح السحري» – عرف أن كل تجربة في حياة المرء، سواء كانت حياتية أو فكرية، إنما تشكل جزءاً أساسياً من وجوده. ومن هذه المعرفة، التي قد تبدو لنا اليوم بديهية، تكون كل ذلك المتن البرغماني، السينمائي والكتابي، ناهيك بالتقنين/ الفكري أيضاً – ونشير هنا بالطبع الى عشرات المسرحيات التي أخرجها برغمان في بلده السويد حيث اعتبر دائماً سيداً كبيراً من سادة المسرح، وقدم بشغف كبير أعمال ستريندبرغ (أستاذه الأكبر) وتشيخوف وإبسن الذين لن يفوتنا أن نلاحظ تأثيرهم على أفلامه ومواضيعها، بحيث يصبح التمازج تاماً بينه وبينهم.

وفي يقيننا هنا أن هذه الشمولية هي، بالتحديد، ما شكل هامشية انغمار برغمان، ولو انطلاقاً من فكرة بسيطة، بات لا بد لنا من الاعتراف أخيراً ببديهيتها: فكرة أن كل فن كبير إنما هو بالضرورة فن هامشي، لا تستقيم عظمته ومفعوله اللاحق بالتالي، إلا انطلاقاً من هذه الهامشية. وهذه هي، في الحقيقة، نظرية الهامش في قلب العالم. بالنسبة الى برغمان هذه هي الهامشية، أي التجديد اللامتوقع دائماً في المواضيع والأساليب، التي وحدها القادرة على تغيير الفن، وعلاقة الإنسان بالفن... ومن ثم الكون وعلاقة الإنسان بالكون. ولكأن هذا يتناسق تماماً مع ما توصل اليه الفيلسوف الألماني هربرت ماركوزه، في كتابه «نحو التحرر» من أننا بعد كل الخيبات الثوروية والتغييرية، وبعد خيبات الطبقة العاملة وقصور حركات الشبيبة لم يبق لنا من أمل في التحرر إلا من طريق الفن. غير اننا، في مقابل هذا، سنكون مخطئين تماماً إن افترضنا هنا ان برغمان حقق أفلامه وهو مغمور برغبة في تغيير العالم وتثويره. أبداً... هو حقق تلك الأفلام أساساً، ليطرد من داخله شياطينه وهواجسه. ليطرح أسئلة وجودية على نفسه قبل الآخرين. ليتساءل عن جدوى العلاقات البشرية وعن العلاقة مع الآخرين، مع الوجود، مع الموت، مع الشيخوخة والمرض والطفولة. والحقيقة أن من يقرأ العبارات السابقة ستقفز في ذهنه مباشرة مشاهد وحوارات ومواقف من بعض أكثر أفلام برغمان شهرة: «الختم السابع» حيث الحوار مع الموت على خلفية أحداث تنتمي الى القرون الوسطى، و «الصمت» حيث نشاهد مأساة اللاتواصل بين البشر، من خلال أختين تقومان برحلة العودة الى الوطن وتتوقفان في مدينة غريبة. نقول هنا: نشاهد، ونعني اننا نشاهد هذا من خلال عيني طفل يطرح أسئلته باكراً على الكون والحياة. و«همس وصراخ» حيث يجابهنا المرض والموت مدمرين لأي إمكان لبروز العواطف بين البشر. و«فاني وألكسندر» حيث يستقي برغمان من طفولته مباشرة. و «الفريز البري» حيث مجابهة الإنسان مع شيخوخته. وطبعاً نحن لم نذكر هنا ســـوى أمثلة ضئيلة من تعبير برغمان عن قلق الروح. برغمان الذي لن يكون من المبالغة، في الوقت نفســـه، أن تقول ان المرأة شكلت هاجساً أساسياً مـــن هواجس حياته وفكره. في أفلامه، كما في الحياة التي عاشها والتي امتلأت بالزوجات المتتاليات. وبالعشيقات اللواتي سرعان ما يتحولن بطلات يمثلن في أفلامه، ثم شخصيات حقيقية في حبكات تلك الأفلام. وأحياناً شخصيات مرعبة، متداخلة (كما في «برسونا» و«ساعة الذئب» و«مونيكا»).

في معظم أفلام برغمان تبدو المرأة مثيرة لاهتمامه – الى درجة صار يحسب معها مخرج الإحساس الأنثوي بامتياز، شأنه في ذلك شأن ميزوغوشي في اليابان، وجورج كيوكر في هوليوود بين آخرين -، ولكن ليس فقط انطلاقاً من وضعية ترى الى قضية المرأة من زاوية «نضالها» النسوي ضد الرجل، بل من وضعية تنظر إليها في حساسيتها وخصوصيتها كمعبر عن الشرط الإنساني ككل. ومن هنا لا يعود من المنطقي الاكتفاء بالقول ان سينما برغمان – في معظم أفلامها – أتت لتعبر عن قضية المرأة، بل الأصح انها عبرت عن الإنسان... كل إنسان، من خلال المرأة.

فالإنسان، قلق الإنسان، وجود الإنسان وأسئلة هذا الوجود، كان هذا ما شغل بال ابن القسيس الصارم طوال حياته، وصبّه في أفلامه أسئلة وحيرة... ولكن لغة فنية ولا أروع أيضاً.

####

محطات في مسيرة زاوجت بين الفن والحياة 

ولد انغمار برغمان في الرابع عشر من تموز (يوليو) 1918، في المدينة الجامعية السويدية العريقة أوبسالا التي تقع على بعد 60 كلم الى الشمال من استوكهولم. وكان أبوه قسيساً (وهو أمر قيل ويقال وسيقال دائماً، لأن عمل الأب مارس تأثيراً مهماً بالنسبة الى تربية انغمار الفتى). منذ فتوته كان انغمار برغمان يحب أن يتأمل الحياة ويحلم وهو ممدد على سجادة الصالون في بيت جدته القائم في ظل احدى الكاتدرائيات. هناك كان يصغي الى صوت الأجراس التي كانت أحياناً توحي له بصفاء ومتعة وأحياناً بجو كئيب، وذلك تبعاً لمزاجه الخاص في كل لحظة من اللحظات. في بعض الأحيان كانت اللوحات المعلقة الى الجدار – ولا سيما لوحة تمثل مدينة البندقية – تعطيه انطباعاً بأن ما في اللوحة يتحرك. أما الظلال الليلية فكانت ترسم أشكالاً غريبة على سقف غرفته. وهو عاد والتقى بسحر هذه الخيالات كلها في الهالة الضوئية التي كان يطلقها مصباح سحري أهدي اليه ذات يوم.

عدا عن هذا كان انغمار غالباً ما يصحبه أبوه في جولاته الرعوية التي كان هذا الأخير يقوم بها في المناطق الريفية المجاورة. فكان يحضر حفلات عمادة، وحفلات زواج وجنازات، بحيث انه اكتشف باكراً، وعبر كل تلك المظاهر والتظاهرات، ما يشبه الخلاصة الحية للحياة البشرية في لحظاتها الأكثر تشابكاً. لكن العظات التي كان يصغي اليها أخذت تبدو له مع مرور الوقت رتيبة للغاية. وأخذ يشعر وكأنها ليست أكثر من صراخ في الصحراء.

لكنه، مع هذا كان يشعر باحترام غريب إزاء «صانع أيامه». وكان يكن تقديراً كبيراً لتفانيه الذي لا يكل. لكنه توصل قليلاً فقليلاً الى الاستنتاج بأنه ربما كانت هناك وسائل أخرى، أكثر مباشرة وواقعية، لمحاولة البرهنة على تضامن المرء مع الآخرين وتعاطفه معهم. خلال القداديس كان لا يكف عن تفحّص الرسوم القروسطية العتيقة نصف الممحية والتي كانت تزين جدران بعض الكنائس الريفية. ومن ذلك الخليط المؤلف من مناخ ديني وشكّ وملاحظات جمالية ونفسانية، تولدت عند برغمان ببطء ذهنية ووعي حادان وعميقان بصورة استثنائية.

بذهنية المتسامح، وهي ذهنية دائمة الوجود لدى الكثيرين من الأساقفة البروتستانت في أوروبا الشمالية، عمد الراعي الى نقل مفاهيمه الأخلاقية الى ابنه، لكنه ترك له حريته التامة في تطبيقها تبعاً لما تميل اليه شخصيته الخاصة.

في ما بعد عيّن الأب راعياً لأبرشية هدفيغ – إليونورا في استوكهولم، ثم قسيساً في البلاط الملكي. وهكذا اذ انتقل انغمار برغمان بدوره الى عاصمة السويد شرع على الفور بممارسة نمط حياة مستقل كل الاستقلال. فانتمى الى الجامعة وخالط الأوساط المثقفة، وأولع بمسرحيات شكسبير وسترندبرغ، وشاهد بعض الأفلام «الواقعية» من اخراج دوفيغييه وكارنيه، وهي أفلام كانت في تلك الآونة تحمل الى العالم كله نوعاً من حس الاقتلاع بالغ الإثارة.

في العام 1932 صار برغمان، كهاوٍ وليس كمحترف، مخرجاً في مسرح «ماستر أولوف – غاردن». وهناك مارس العمل من العام 1938، ثم مارس هذا العمل نفسه خلال العامين 1941 و 1942 في مسرح «مدبورغار هوست» ثم في العامين 1943 – 1944 في «دراماتيكن ستوديون» في الوقت نفسه الذي ظل يخرج فيه بين الحين والآخر مسرحيات مختلفة لحساب مسرح الطلاب. ومن بين الأعمال التي أخرجها كانت هناك مسرحيات لشكسبير وسترندبرغ، وكذلك مسرحيات لأبسن وغيره من الكتّاب الاسكندينافيين والانغلو – سكسونيين المعاصرين.

في تلك الآونة كانت الحرب العالمية الثانية قد وصلت الى ذروة بربريتها وحدّتها. وكما لو كان في الأمر معجزة حدثت للسويد الصغيرة فأفلتت من براثن الحرب، لكن «الأمم الشقيقة» كالدانمارك والنروج، وقعت تحت ربقة النير الهتلري، فيما كانت فنلندا تقاوم ببطولة طوفان الحديد والنار. والسويديون اذ أحزنهم هذا العود الى مناهج العصور البربرية، واذ أدركوا عجزهم عن إيقاف الطوفان، شعروا انهم كالمشلول الذي يشهد عملية التحضير لجريمة وهو جالس في مقعده من دون حراك. يومها كانوا يستقبلون في واحتهم المسالمة الكثير من اللاجئين الواصلين في المراكب من أوسلو وكوبنهاغن، أو المجتازين الحدود النروجية هلعاً ازاء تقدم الجيش النازي. كان السويديون يبعثون بسيارات الإسعاف وبالأطباء والممرضات لمعاونة الجنود الفنلنديين المتساقطين أمام قوى تفوقهم عدداً وعدة. غير ان هذا الوضع السلبي نسبياً أثار لدى السويديين انطباعاً عصابياً حاداً.

مسرح – سينما

عهد ذاك كانت الانتليجنسيا الاستوكهولمية تجتمع في حي غاملاستان العريق، وفي ذهنها شعور واحد هو شعور «الألم». وهي قبل سنوات من انبثاق وجودية السان جرمان – دي – بري الباريسية، كانت تندد بعبثية العالم، وتجد ملاذها في «وجودية» كركغارد. وكان صوت بار لاغركفيست يعرب عن رعبه بقوة. كما كانت الحيرة تطبع أعمال ستغ داغرمان (الذي كان في طريقه للانتحار بعد فترة) وأعمال الكاتبة بريغيت تنغروث. وبرغمان الذي اختلط بدوامة هذه «الحياة الشبيهة بالكابوس»، كتب في العام 1942 مسرحيته «موت غاسبار»، ثم كتب في العام 1944 مجموعته القصصية القصيرة «قصص غاسبار»، التي نشرتها مجلة «40 – تال».

وسيكتب لاحقاً مسرحيات سيتولى إخراجها بنفسه: «تيفولت» (1943)، «راشل وبواب السينما» (1945)، «النهار ينتهي بسرعة» (1947)، «إنني خائف» (1947) – والمسرحيات الثلاث الأخيرة نشرت لاحقاً في كتاب واحد عنوانه «أخلاقيات» – و «من دون نتيجة» (1948)، و «هواجس» (1948)، و «مقتلة في باريارنا» (1952)، و «رسم على الخشب» (وهي مسرحية في فصل واحد كتبت في العام 1955). كذلك وضع برغمان مسرحية أخرى عنوانها «جاك بين الممثلين» (1947) ستنشر فقط لكنها لن تمثل على المسرح.

في العام 1944 رقي برغمان الى رتبة مخرج محترف وتابع نشاطاته المسرحية:

- بين 1944 و 1946، اشتغل في المسرح البلدي في هالسنبورغ.

- في العام 1946، اشتغل مع «بلانشن تياترن» في استوكهولم.

- بين 1946 و 1950 اشتغل في المسرح البلدي في غوتبرغ.

- في العام 1950 اشتغل في «انتيما تياترن» في استوكهولم.

- في العام 1951 اشتغل في المسارح البلدية في توركوبنك ولينكوبنك، ثم في المسرح الدرامي الملكي في استوكهولم.

- وبين 1952 و 1960 اشتغل في مسرح الدولة في مالمو.

وأخيراً في العام 1961 اشتغل في أوبرا استوكهولم، ثم عيّن في العام 1963 مديراً لمسرح «درامتن» في المدينة نفسها.

لكنه منذ العام 1944 بدأ يدخل استوديوات السينما. فاشتغل أولاً مساعداً بالمصادفة في أحد الاستعراضات الطالبية. ثم حضه مدير صناعة السينما السويدية كارل اندرس دبلينغ على كتابة سيناريو يخرجه أُلف سيوبرغ. وكان فيلم «هيتس» الذي سيتحول لاحقاً الى مسرحية. وفي هذا الفيلم نرى أستاذاً، أطلق عليه لقب «كاليغولا» يعذب تلاميذه ذهنياً ويعرف إزاءهم كطاغية حقيقي – والموضوع كله عبارة عن إشارة بالكاد مقنعة الى الأحداث التعسفية والعنيفة التي كانت تهز جزءاً كبيراً من أوروبا آنذاك. وقد جعل سيوبرغ الموضوع أكثر حدة جراء استخدامه تقنية الظل والضوء وبعض تقنيات السينما التعبيرية الأخرى. وفي ذلك الفيلم قام الممثلون بأدوار لا يمكن نسيانها.

خلال التصوير كان برغمان غالباً ما يحضر في أماكن ذلك التصوير، فتآلف تدريجاً مع تقنية الفن السابع. لكنه كان أكثر فردانية من أن يتحمل ضجة التصوير السينمائي خلال الفترة الطويلة التي يتطلبها ادراك متكامل لإجراءات التصوير، ومع هذا منذ العام التالي تحول بدوره الى الإخراج. وكانت تلك فرصته الكبرى على الأرجح. ذلك أنه إذ توغل خفيض الرأس في ميدان بالكاد يعرفه، عمد قليلاً فقليلاً الى «إعادة ابتكار» كل الإمكانات التي سيستخدمها، تماماً كما يفعل البدائيون. كان تأقلمه بطيئاً ومعقداً، وهكذا ارتكب هفوات عدة ولم يصل الى الكمال بين ليلة وضحاها. ولكن اذ انقذته كثافة إلهامه وتنوعيته، واذ انقذته ضروب حدسه غير العادية واكتشافاته الطريفة غالباً، انتهى به الأمر الى اعطاء شباب جديد لـ «وسيلة التعبير تلك» التي كانت بدأت تغرق جدياً في السبات والتفاهة والرتابة. كان حضوره حضوراً حقيقياً مستقلاً وقوياً ومخلصاً ومعادياً للديماغوجية. كان حضوراً يشق الطريق نحو تجديد للسينما هو في آن معاً أكثر جسدية وذهنية. وعلى هذا شق برغمان طريقه نحو أحد أماكن الصف الأول في مجمع كبار عظماء الفن السابع.

منذ البداية صاغ برغمان توجهه على الشكل الآتي «المسرح هو زوجتي والسينما هي عشيقتي». ومنذ ذلك الحين كرس نفسه للمهمتين في آن معاً. وهو اعتاد في شكل عام أن يكرس نفسه لـ «زوجته خلال الشتاء»، أما «العشيقة» فحقها عليه في الأشهر الأساسية، أي أشهر الصيف والربيع. وبرغمان في خط عرف الصعود والهبوط، عرف النجاح والفشل، عرف كيف يصوغ «عالماً» سينمائياً بأسره، عالماً منوعاً هو في آن معاً رائع بصرياً، و «مسكون» في أعماقه.

(من مقدمة سيناريو «الصمت» الصادر في ترجمته العربية عن «مؤسسة السينما السورية» – ترجمة وتقديم ابراهيم العريس).

الحياة اللندنية في

03.08.2007

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2016)