كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

المخرج الراحل يحتل المكانة الخاصة بين عمالقة السينما

انغمار بيرغمن هو الذي اختزل دون سواه من السينمائيين

ريما المسمار

عملاقان ميّزا فن السينما ورحلا..

بيرغمان وأنتونيوني

   
 
 
 
 

معنى القلق الوجودي وتحويل الأحساس أو الهاجس الى صورة

"أبقيت على قنوات مفتوحة مع طفولتي. أحياناً في الليل عندما أكون على الحافة بين اليقظة والنوم، أدخل من باب إلى طفولتي وهناك أجد كل شيء تماماً كما تركته: الاضواء والاصوات والناس..أذكر الشوارع الساكنة حيث كانت تسكن جدتي، والعدائية المفاجئة لعالم الكبار والخوف من المجهول والرعب من التوتر المستمر بين امي وابي."..... انغمار بيرغمن

في السينما كما في الفنون الأخرى وكما في الأدب والشعر، تختصر أسماء قليلة المسيرة والتاريخ. يُقال عنها انها أسماء "علّمت" أي تركت أثراً ويتنوع أصحابها بين مؤسسين ورواد وفارضي تحولات. يجتمعون في سلة واحدة من دون ان يجمعهم بالضرورة شيء سوى أنهم برزوا في هذا المجال او ذاك. أسماء يسهل استحضارها في معرض الحديث عن الكبار وفقاً لخارطة ذهنية تراعي شروط الجغرافيا والزمن والتنوع. وهناك دائماً كلمة "وآخرين" التي تجنبنا الوقوع في فخ النسيان او التجاهل. ولكن كما ان التاريخ بتفاصيله وليس بعناوينه، كذلك هي السينما. بعيداً من أن ذلك الاختصار، اي اختصار مسيرة السينما بحفنة أسماء، هي عملية بعيدة من الدقة تماماً، هناك أيضاً ما يمكن ان يُسمى بإزالة الفوارق او تجاهلها. فبين تلك الاسماء التي تحضر سلة واحدة، ثمة فوارق وخصوصيات. من أسهم بشكل اكثر فعالية مثلاً في تاريخ السينما: فيلليني أم بريسون؟ حتماً ستتفاوت الاجابات بحسب الثقافة والمعرفة السينمائيتين والذائقة الشخصية وغيرها.. ولكن المهم هنا هو الذهاب أبعد من الاجابة الجاهزة وأبعد من التصنيف وأعمق من التعميم. في المحصلة، ما يصح اليوم عن سينمائي قد لا يصح بعد مرور عشرين سنة حيث ان السينما هي أكثر الفنون اتصالاً بالزمن في وصف الأخير الحاكم والحكم. في هذه العملية التي تحاول الغوص على ما هو أبعد من الاحكام، يتبدى السينمائي انغمار بيرغمن الذي رحل قبل أيام مثالاً وأساساً. اذا قلنا سينما، يحضر اسمه مع آخرين ممن أثّروا في وأثروا السينما. كأنها لازمة لا فكاك منها ان نقول فيلليني اذا قلنا بيرغمن وان نضيف غودار من الاحياء وانتونيوني الذي بات في عداد الراحلين (غاب عن الحياة في نفس يوم وفاة بيرغمن) وبونويل وغيرهم ـ والأخيرة هي من ضمن اللازمة ايضاً. ولكن ما الفرق بين هذا وذاك؟ هل يتساوون في ارثهم وتأثيرهم؟ هل يمكن المقارنة؟ هل نستطيع ان نصل إلى استنتاج دقيق في ما يخص اسهاماتهم ومدى تأثيرها؟ في حالة بيرغمن، يبدو الأمر أسهل لأن ثمة جهداً يوفره ذلك الاحساس الراسخ لدى كثيرين من النقاد والمؤرخين وحتى هواة السينما بأن للرجل مكانة مختلفة عن كل الآخرين. ثمة "سطوة" مغايرة لبيرغمن يُعتقد انها المثال الاكثر تجسداً في افلامه مقارنة مع عمالقة السينما الآخرين. او لنقل ان بيرغمن استطاع أكثر من الآخرين ان يحول افلامه تجسيداً لمواصفات العظمة التي يتحلى بها الآخرون. فإذا كانت الاستقلالية والذاتية والابتكار والابداع والتحديث هي من المواصفات الاساسية لعظماء السينما، فإن بيرغمن جعل أفلامه مرادفاً لكل ذلك والاهم انه فعل ذلك بشكل تصاعدي. ربما من هنا يكتسب وصف "البرغمانية" معناه لأنه في جوهره يعني تطابق الصفة والموصوف. فكما ان الله في عرف المؤمنين هو العدالة اي انه تجسيد للقيمة نفسها، كذلك هو بيرغمن تجسيد لقيمة سينمائية اكتسبت أهميتها المطلقة من أفلامه. بهذا المعنى، غدت سينماه مرادفاً لموضوعاتها والعكس صحيح. العزلة والعلاقات الانسانية والعصرانية ومعنى الايمان والعلاقة مع الله والعصرانية... هي ما رواه بيرغمن في افلامه او الأحرى جسده. فالقول انه حكى عن ذلك او رواه قد يعني أحياناً تحول الشيء حجة او وسيلة. مع بيرغمن الأمر مختلف لأنه ألغى الوسيط بين السينما وهواجسه. هذا الوسيط الذي قد يكون حكاية او سرداً او وهماً سينمائياً او استثماراً لمفهوم او تقليداً ثابتاً او تواطؤاً مع المشاهد... كل ذلك رماه بيرغمن خارج عالمه السينمائي لتتحول السينما الوسيط وليس الوسيلة. العلاقة بين افلام بيرغمن وهواجسه وموضوعاته عضوية لا افتعال فيها. انها كعلاقة العين بالوجه. لعل التفكير بصوت عالٍ هو الذي يقود إلى تفكيك لغز بيرغمن. ومن ذلك ان نتساءل: أليس هناك غير بيرغمن من تناول العلاقات الانسانية والعصرانية والعزلة والايمان؟ بالطبع هناك الملايين ولكن هذا تحديداً ما يميز بيرغمن: بين الملايين هو الذي اختزل بسينماه معنى القلق الوجودي.

لا يكفي ذلك لايضاح الفكرة. لا بد من اضافة اساسية تتمثل في ان هذا الاختزال لا يتم على مستوى الموضوع فقط. السينما صورة فكيف يمكن الصورة ان تجسد القلق الوجودي؟ هنا تكمن عبقرية بيرغمن: تحويل الاحساس والهاجس صورة.

بهذا المعنى، ربما يكون المدخل الاوحد إلى افلامه الصورة. فالأساس أن سينماه امتلكت من النضج ما مكنها من اثارة المشاهد­وفي معظم الاحيان استفزازه­ وتوريطه بشكل حميم بمجموعة أحاسيس معظمها مقلق، تبثها الشاشة وتتشاركها الشخصيات معه. يحدث هذا التفاعل وجهاً لوجه بالمعنى الحرفي للكلمة ليتبدى بيرغمن سينمائياً شديد التعقيد. ففي وجه الرمزية التي وسمت عدداً كبيراً من أفلامه، يبسط العلاقة بين المشاهد والسينما. التركيب والتعقيد سمتان لمواضيعه ومعالجتها اما الاسلوب فهو مباشر اذ يفتح الشاشة امام تفاعل مباشر بين الشخصيات والمشاهد وربما بشكل أدق بين الممثلين والمشاهد. وفي هذا ينشق بيرغمن عن معظم السينمائيين الكبار لأن لعبته لم تكن السينما نفسها بقدر ما كانت تلك الثمرة الجديدة التي ولدت من مزجه الاثنين: السينما والموضوع. وليس مبالغاً القول ان سينماه كانت سينما الموضوع والاحاسيس بالدرجة الاولى من دون ان ينتقص ذلك من قدراته السينمائية. فالصراع السائد بين الشكل والمضمون والذي كان السمة الابرز لـ"سينما المؤلف" لا نعثر عليه في افلام بيرغمن لأنه ببساطة تعامل مع السينما كوسيط لنقل هواجس الانسان وأزمته الوجودية بما يفوق قدرة الكلام والنثر على فعل ذلك. الأساس لدى بيرغمن كانت إزمة الانسان وكيفية تجسيدها فكان ان اوجد لذلك مفردات خاصة في قلب الفن السينمائي ذاهباً به إلى حدود غير مطروقة. حتى ذلك لم يكن بمثابة الفتح لأن الأخير يعني تحول اسلوبه واكتشافاته مشاعاً لمن سيأتي بعده. ولكن الواقع ان أحداً لا يستطيع نسخ بيرغمن لأن منهجه ليس سينمائياً بحتاً بل انساني ذاتي شديد الخصوصية.

بالعودة إلى التفاعل وجهاً لوجه بين المشاهد والعمل، يحضر شريطه Persona أو "قناع" مثالاً اساسياً. الجدير ذكره ان العنوان الاصلي للفيلم كان Cinematography وهو عنوان كالحالي يلائم طبيعة العمل الذي يجعل السينما في قلب الموضوع والعكس. اللقطة المقربة للوجه سمة اساسية في سينما بيرغمن وهي ما وصفها المؤرخ والمحلل السينمائي جيل دولوز بأنها اي تلك اللقطة "التحام بين الوجه الانساني والفراغ". خلال تلك اللقطات القريبة للوجوه التي تطول وتطول إلى حد ازعاج المتفرج، يتسنى للأخير ان يفكر ويشعر ويرى هذا الوجود الانساني الذي يستحيل على الشاشة لحماً وعظاماً وشعراً وعيوناً وفماً... هكذا يفترق المعنيان: الوجه كوسيلة تعبير وتواصل والوجه كجسد محسوس ومادي. وفي ثنائية المادية والروحانية تتشكل سينما بيرغمن وتثمر. ولكن لهذه اللقطة أبعاد أخرى. فنحن نرى في persona الكاميرا تقترب من الوجه وتتحرك كأنها تبحث عن مدخل للنفاذ إلى داخل الوجه وإلى ما بعده إلى أن يملأ الوجه الشاشة وتستنفد عدسة الكاميرا قدراتها القصوى في التقاطه وتصويره والنفاذ اليه. يؤسر الوجه بين أربع حدود فلا يجد من افق ينظر اليه الا عدسة الكاميرا التي تصله بالعالم الخارجي. تتلاقى عيون الشخصية وعيون المتفرج في تلك اللحظة. يصبح كلاهما شريكاً في تلك الصورة كأن كلاً منهما من جهته يشعر باختلاط الامر عليه بين الواقع والسينما. كل منهما ينفذ إلى الآخر: المتفرج والشخصية، العالم الواقعي والعالم السينمائي. من هناك تنطلق تجربة سينمائية فريدة تختلط فيها أحاسيس الاثارة بالحميمية بالانكشاف.

لعل السمة الابرز لسينما بيرغمن هي تجلي سلطة المؤلف عليها. لم يتسنَ ربما في تاريخ السينما لمخرج ان يمارس تلك الحرية القصوى التي تمتع بها بيرغمن حتى غدت لأعماله بصمة لا يمكن أن تخطئها العين وتحولت بفضلها أفلاماً ذاتية محورها "أنا" المخرج وأزماته. وهذا ما يدفع ببعضهم إلى القول ان تلك السلطة "الشيطانية" كانت السبب في الثمانينات والتسعينات إلى استبعاد بيرغمن من دائرة السينمائيين المؤثرين بسبب استرساله في أناه وبسبب من عصرانية سباقة تحلى بها. لعله في عرف هؤلاء وقع ضحية للخطر الذي تحدث عنه اوسكار وايلد: "ليس أخطر من ان تكون شديد العصرية لأنك سرعان ما ستصبح قديم الطراز." ولكن هناك من يعتبر ايضاً ان عودة بيرغمن إلى مكانته في تاريخ السينما تحققت بفضل ثورة الـ"دي.في.دي" التي أتاحت لأعماله تواصلاً حميماً مع المشاهد يتلاءم وذاتيته الطاغية. ولكن الأهم هي فرصة اعادة اكتشاف هذا السينمائي بعد مرور كل ذلك الوقت. كانت المفاجأة ان بيرغمن لم يشخ ولم يصبح بعد نصف قرن قديم الطراز. بل ان الهواجس والاسئلة التي طرحها حول العصرانية مازالت من دون اجابات وأكثر الحاحاً من ذي قبل لاسيما في الافلام التي صنعها في عقد الستينات. ولكن لم تكن الأخيرة هي بداية اسطورة برغمن بل ان جدلية هذا السينمائي ترافقت مع بداياته الاولى.

عدمية وتنويع وكوميديا

أنجز بيرغمن خمسة عشر فيلماً بين 1945 و1954 حازت بمعظمها ردود فعل متناقضة ومتفاوتة في السويد. عن فيلمه الاول "أزمة" Crisis كتب أحد النقاد السويديين: "...ثمة ما هو متفلت وخارج عن السيطرة بشكل غير مريح في مخيلة بيرغمن. يبدو غير قادر على الحفاظ على سوية ذهنية. ما تحتاج السينما السويدية اليه بالدرجة الاولى ليس مجربين وانما أشخاص عقلانيون وأذكياء..."

يكشف هذا الكلام عن بعض المشكلة الذي سيكمل بين السينمائي والنقاد السويديين على مدى مسيرته السينمائية. فقد شكل بيرغمن بالنسبة إلى هؤلاء حجر عثرة في طريق ثقافة كانت تعتبر نفسها تنويرية وصوتاً ينادي بالمكبوت وسط حركة عصرية عقلانية. هكذا خرجت أفلامه في الاربعينات متشائمة تدور حول شخصيات تحيا على هامش الحياة الاجتماعية والاقتصادية المعاصرة في ستوكهولم ضحية صراع مع القوانين والاعراف السائدة. مع موضوعة الشباب واليأس الوجودي التي رافقت أفلام تلك المرحلة A، Music in darkness، Port Call،Thirst،Prison ) (Crisis، It Rains on Our Love، Ship Bound for India بحث السينمائي عن أساليب مختلفة تناسب هواجسه، يظهر من بينها تأثره بروسيلليني وهيتشكوك. على أن الفيلم الاول الذي حمل ملامح سينمائية ستتحول في ما بعد علامة بيرغمانية كان Summer Interlude عام 1951. فبالإضافة إلى موضوع اليأس والشباب، أضاف أبعاداً أخرى لشخصية المرأة الشابة التي تستعيد خياراتها الحياتية وتدفع في النهاية إلى اعترافات عميقة حول معنى الحرية والمسؤولية. لقد حمل الفيلم فكرة محورية سترافق افلام الخمسينات وهي: كيفية العيش من دون ايمان حقيقي بالانسان والمجتمع والله وحتى بالنفس.

في كتابات ماريت كوسكينين المتخصص ببيرغمن وأعماله نعثر على جذور ذلك عندما يقول ان أعمال بيرغمن كانت انعكاساً لأزمة المجتمع السويدي بتحوله إلى الشكل العلماني الذي لم يتمكن تماماً من استبدال العادات والتقاليد القديمة مما ولد قلقاً روحياً.

بخلاف المفكرين الاسكندينافيين والثقافة الانغلوفونية الذين ابدوا الاهتام الكبير بأفكار بيرغمن وموضوعاته، انجذب النقاد الفرنسيون إلى اسلوب بيرغمن السينمائي مسهمين في لفت الانظار العالمية اليه منذ الخمسينات. فقد حاز فيلمه Summer with Monika (1953) اعجاباً كبيراً لدى عرضه في باريس من ضمن برنامج استعادي عام 1958 ضم مجموعة افلام أخرى لبيرغمن. وكان جان­لوك غودار او ل من تحدث عن مشهد ثوري في الفيلم وذلك عندما تواجه مونيكا وهي في عز شرودها وقلقها بعيد فشل علاقتها بحبيبها الذي تحمل طفله الكاميرا بدون تحفظ وتنظر إلى المشاهد مباشرة في ما اعتبر وقتها خروجاً على تقاليد السينما السردية. في العام نفسه، عُرض فيلمه Sawdust and Tinsel الذي استخدم فيه مهرجين ولاعبي سيرك للتدليل على الحياة اليومية حيث تنحصر مهمة الاجساد في خدمة الآخرين سواء أفي العمل او في العلاقات وحيث تتراوح النتيجة بين العنف العاطفي والاذلال.

على الرغم من قسوة الفيلم، اعتبر لاحقاً قفزة في مسيرة مخرجه. مع هذا النوع من الافلام، لم يحظَ بيرغمن بأية جماهيرية فكان ان أنجز سلسلة افلام كوميدية لضمان استمرار تعاونه مع الاستديو الذي انتج افلامه وقتذاك "سفينسك فيلم اندستري". أظهرت تلك الافلام (Waiting Women وLessons in Love) عدم ارتياح بيرغمن مع الكوميديا ولكنها ولدت ايضاً تفاعلاً غريباً بين جدية موضوعاته من جهة ومقومات الكوميديا من جهة ثانية تجلى في آخر افلام السلسلة Smiles of a Summer Night عام 1955. فهذا فيلم على الرغم من شذوذه عن اعمال بيرغمن الاصيلة هو في جوهره كوميديا عن عقم الكوميديا في معالجة أزمة الانسان وهواجسه. وهو أبعد من ذلك يطرح اشكالية السلوك الانساني ازاء تصدع الايمان. إلى موضوعه الذي سيتعمق بيرغمن أكثر في طرحه في فيلمه التالي "الختم السابع" The Seventh Seal، حقق له Smiles شهرة عالمية وذلك بعيد عرضه في مهرجان كان عام 1956 وفوزه بإحدى جوائزه الاساسية.

السينما الفنية

في حمأة نجاح Smiles of a Summer Night ونشوة الاستديو به، مرّر بيرغمن سيناريو The Seventh Seal أكثر أعماله ذاتية في ذلك الوقت وربما تطرفاً. هكذا خرج الفيلم الذي يعتبر حجر اساس في السينما العالمية ونموذج السينما الفنية لسنوات مقبلة بعد انجازه عام 1957. أثر الفيلم في جيل كامل من المخرجين من مونتي بايثن إلى دايفيد لينش مروراً بوودي آلن. يروي الفيلم حكاية محارب عائد لتوه من الحروب الصليبية يطارده الموت ويثمر أحد أبرز المشاهد في ذاكرة السينما: لعبة الشطرنج بين المحارب والموت. قام الفيلم على صورة شديدة التباين لسويد القرون الوسطى وقدم ماكس فون سيدو في دور المحارب نموذجاً آخر للبطل الوجودي المكروب فلقي صدىً عميقاً في ذروة الحرب الباردة. لقد طرح الفيلم أسئلته العميقة والاساسية والمعقدة حول معنى الحياة والمبادىء في عالم يتهدده الموت في كل لحظة ولا يجلب الايمان فيه سوى الخضوع والكبت والتعامي. ترك الفيلم اثراً عميقاً في العالم وفتح الابواب امام سينما فنية للجمهور الايركي والبريطاني كان من نتيجته أن عُرف أمثال فيلليني وانتونيوني ورواد الموجة الجديدة بين الجمهور العريض.

الفيلم التالي،Wild Strawberries ، كان شديد الاختلاف عن سابقه. صحيح ان محوره هو أزمة الايمان ولكنها هنا تتجلى في أشكال أخرى. بل ان الفيلم ينطلق منها وقد تجذرت ولم تعد موضع بحث او نقاش كما هي حالها في The Seventh Seal. أزمة الايمان هنا تتجسد في السعي إلى قبول الذات وانتشال اعتراف الآخرين والتصالح مع الماضي والآخر. فيكتور سجوستروم أحد أكبر مخرجي السينما الصامتة في السويد يلعب دور البروفيسور الذي يسافر مع زوجة ابنه جنوباً للحصول على جائزة تكريمية. ولكن رحلته تلك تستحيل رحلة إلى ماضيه وذكرياته التي تتجسد أمامه مشاهد أحلام وفلاشباك تتداخل مع الواقع في ما كان فتحاً وقتذاك ترك أثره في أعمال لاحقة مثل افلام اندريه تاركوفسكي.

بين مجموعة الافلام التي تلت قبل حلول 1961 موعد التحول الجذري في حياته، برز The Virgin Spring (1960) الذي دارت أحداثه في القرون الوسطى ايضاً حول اغتصاب فتاة وقتلها وسعي والدها إلى الانتقام. قد لا يرقى الفيلم إلى مستوى أعماله السابقة واللاحقة المميزة ولكنه جلب للمخرج أولى جوائز الاوسكار الثلاث التي نالها في حياته. كما كان باكورة تعاونه مع المصور السينمائي سفين نيكفيست الذي سيكمل معه المسيرة حتى النهاية متسلماً الشعلة من غونار فيشر الذي أضاء وصور افلام بيرغمن خلال عقد الخمسينات.

ثلاثية الايمان

حملت الستينات التطور الاهم في مسيرة السينمائي ومعها التطرف الابرز. فقد كتب المؤرخ السينمائي السويدي ميكايل تيم يقول: "كلما نضج بيرغمن كسينمائي ازداد تركيزه على القوى التدميرية التي تتحرك تحت الثقافات المتناغمة." هكذا انجز خلال تلك الفترة أكثر أفلامه نقداً للثقافة العصرية. في كتابه "انغمار بيرغمن: الساحر والنبي" الصادر عام 1999، كتب مارك غيرفايس عن افلام بيرغمن لا سيما خلال الستينات واصفاً إياها بالصراع بين "قوة الحياة" وقوة أخرى مجردة وسلبية تتمثل بانعدام الامل والعدمية. لعل أبرز أعمال الستينات ما عُرف بثلاثية الايمان: Through a Glass Darkly (1961)، Winter Light (1963) وThe Silence (1963). في الاول يبدو واضحاً تحوله إلى العالم المعاصر من جديد ملتقطاً نبضه بواقعية مركبة. على جزيرة "فارو" النائية التي ستتحول بيته منذ 1966، نلتقي شخصيات الفيلم الاربع التي تتنوع بين ضحايا العصرانية الباردة والناجين منها. الشحصية الاساسية "كارن" (هارييت اندرسن) تعيش أزمة ايمان تنأى بها عن العالم إلى آخر داخلي مسكون بالهلوسات والانتظار. والدها وزوجها متأقلمان تماماً مع الواقع بينما شقيقها المراهق يعيش أزمة الهوية. في Winter Light، يلعب غونار بيورنستراند دور كاهن، وهن ايمانه فراح يحاول استعادته من خلال اداء الطقوس. وبظهوره الصامت والعابر في دور رجل يرزح تحت الخوف من حرب شاملة (ظهر الفيلم في فترة ازمة الصواريخ الكوبية)، شكل ماكس فون سيدو التجسيد المطلق لانعدام الايمان.

اختتم The Silence الثلاثية بشكل غير متوقع. بعيداً من الطرح الفلسفي للجزءين الاول والثاني، تبدى "الصمت" فيلماً مفتوحاً على قراءات مختلفة، ايروتيكياً وحسياً. ولكن مرة أخرى يعود إلى الايمان والمؤمن في هذا الفيلم يتجسد في شخصية الاخت على فراش الموت بينما لا ينعدم الامل بالمستقبل من خلال شخصية الولد.

"بيرسونا" وما بعده

على أثر مزاولته للعلاج النفسي عام 1965، بدأ كتابة سيناريو Persona مستوحياً من العلاقة الواقعية بين نجمتي الفيلم ليف ألمن وبيبي اندرسن. أكمل الفيلم من حيث انتهى سابقه بتلك الحرب النفسية بين امرأتين انما وصل فيه إلى ذروة ابداعه السينمائي. تدور الاحداث حول ممثلة تقرر التوقف عن الكلام وممرضة مكلفة العناية بها بما يتحول علاقة مسكونة بالرغبات والشبق. في منتصف الفيلم، يحترق السليلويد امام احتمالين: اما ان الطبيعة البلاستيكية للخام تحمي نفسها بسحق الاحاسيس واما ان عمق الاخيرة وحرارتها عصية على الوسيط السينمائي. ويصل الفيلم إلى قمة اكتماله وتركيبه عندما يمتزج وجها الامرأتين وتبقى لكل منهما عين وتحدقان معاً في المشاهد. من مسافة أربعين سنة اليوم، يقف Persona واحداً من اعظم انجازات بيرغمن والسينما على حد سواء.

في Hour of the Wolf عام 1968 يغوص المشاهد داخل تلك النظرة وكأنه يدخل عالم الشخصية من خلال الكاتب الذي تتراءى له شياطينه الداخلية في هيئات بشرية تسكن عوالمه وافكاره. الفيلم من طراز الرعب الرفيع في جانب منه ويحتوي على أكثر مشاهد بيرغمن تشوشاً وقلقاً متمثلة في صراع بين الكاتب وولد على هيئة شيطان.

ماكس فون سيدو وليف ألمن هما ايضاً بطلا The Shame الذي اعتبر رد فعل على حرب فييتنام بينما أكملت الستينات بأفلام The Ritual وA Passion .

كان عقد السبعينات فترة الاجماع النقدي والجماهيري على اعمال بيرغمن بعد الستينات المتطرفة وانما المبدعة. على الرغم من بدايتها غير المشجعة مع the Touch فيلمه الاول والاخير باللغة الانكليزية، أكمل العقد بنجاح كبير جلبه له Cries and Whispers (1972) عن امرأة على فراش الموت تحيطها اختها الانانية وخادمتها/عشيقتها. كان الفيلم اول عمل لبيرغمن يحوز الاعجاب الواسع منذ The Seventh Seal مقدماً فيه تحولاً طفيفاً في الاسلوب والديكور المتقشف.

ولكنه Scene from a Marriage (1973) هو الذي أكمل فيه بحثه في موضوع العصرانية والايمان. لقد جاء الفيلم في سياق اعمال بيرغمن الرافضة لاية سلطة مطلقة أكانت الله او الانسان او حتى الزواج كما هي الحال هنا. بفعل هذا الفيلم، تحول الثنائي "يوهان" و"ماريان" رمز الزوجين المعاصرين وجسدا استحالة نجاح هذه المؤسسة على طول الخط من دون الخضوع او الخيانة.

حملت السبعينات اعمالاً أخرى بارزة مثل

The Magic Flute وface to Face ولكنه Fanny and Alexander عام 1982 هو الذي سيعيد للمخرج ذروة الشهرة والتألق حيث سيقرر ايضاً الاعتزال. في ميلودراما تلفزيونية، قدم بيرغمن ما يعتبره البعض سيرته الكاملة في fanny and Alexander مع العلم ان افلامه كلها كانت اقتباساً لطفولته ومشاهد من حياته.

في العام 2002 قرر بيرغمن العودة إلى السينما بعدما تفرغ خلال الثمانينات والتسعينات للكتابة والمسرح عشقه الثاني الذي يستحق دراسة منفصلة. عاد إلى "يوهان" و"ماريان" بعد ثلاثين عاماً في saraband ليحكي مجدداً العلاقات الانسانية واستحالة الاندماج والعزلة الحتمية المكتوبة على الانسان.

لعل بيرغمن بإرثه السينمائي الذي يفوق الخمسين فيلماً خلال ثلاثين سنة يشكل معجزة الفن السينمائي من نواحٍ لا حصر لها وليس ذلك من قبيل تأليهه بل انه اول من نفى عن نفسه صفة الالوهة عندما شارك في دراسة نقدية نشرتها عنه احدى المجلات المتخصصة منتقداً نفسه واعماله تحت اسم مستعار مردداً غير مرة انه لا يستطيع مشاهدة افلامه لأنها تبعث فيه القلق واليأس.

المستقبل اللبنانية في

03.08.2007

 
 

الراحل إنغمار بيرغمان.. أسئلة فلسفية عبر كل أفلامه

وودي آلان وسبيلبرغ والكثير من المخرجين الكبار اعتبروه عبقرية لا يمكن الاقتراب منها

نادر الزبني

في عام 1957 التفت العالم السينمائي صوب السويد، وتخصيصا لرجل نحيل البنية لا يتعدى عمره الأربعين عاما، بسبب فيلم نقله إلى الشهرة العالمية. لم يكن هذا الرجل إلا المخرج الكبير إنغمار بيرغمان، الذي ودع هذه الحياة قبل أيام قليلة، واحتفى نقاد الغرب بفيلمه «الختم السابع». بيرغمان هو ابن أوروبا القرن العشرين.. رأى وعاصر وشاهد وكتب وأخرج أفلاما عن الأفكار التي اجتاحتها، وعن الشخصيات التي تعيش فيها، وعن أخطائها وحسناتها. إن أفلام بيرغمان، التي تخطت حاجز الستين فيلما (إخراجا وكتابة)، هي في الحقيقة صورة مكبرة عن أوروبا برؤية رجل أنهكته الأفكار الكبرى، التي تشغل عقل كل إنسان يرغب بالعيش بطمأنينة وسلام.

ولد إرنست إنغمار بيرغمان في عام 1918، لأب قسيس هو إريك بيرغمان وزوجته كارين. فنشأ في جو مليء بالنقاشات والتأويلات الدينية المسيحية، حتى أن الدين أصبح في ما بعد من أهم المواضيع التي يناقشها بأفلامه. اكتشف بيرغمان ميوله نحو المسرح مبكرا، فكتب وأخرج العديد من المسرحيات وخلال تلك الفترة حصلت له بعض المواقف التي جعلته يأخذ موقفا من بعض النقاد (حتى أنه دعا مؤخرا في مقابلة تلفزيونية على أحد النقاد الذين كانوا ينتقدوه بأن يحترق بنار جهنم، رغم أنه ليس من المؤمنين بوجودها!). في أوائل الثلاثينات اكتشف بيرغمان حبه للسينما، وبدأ في الأربعينات من القرن الماضي في إخراج أول أفلامه، وهو فيلم «كرايسيس» الذي يحكي قصة فتاة تترك حياة الريف لتنتقل إلى حياة المدن وحياة الليل لتكتشف الجانب المظلم من النفس البشرية. صنع بيرغمان، كتابة وإخراجا، العديد من الأفلام على مدى أكثر من نصف قرن متخطيا في ذلك حاجز الستين، صانعا بذلك توليفة من الأفلام التي تدور في ذات الفلك، الأسئلة التي لا أجوبة لها، سواء كانت غيبية أو تغوص في أعماق النفس البشرية. يعتبر بيرغمان من أولئك المخرجين المخلصين لفنهم، فهو عندما يقرر أن يصنع فيلما فإن الفكرة تستغرق شهورا أو سنين لتختمر برأسه، وبعد ذلك يقرر كتابة أفكاره على ورق السيناريو منتهيا بذلك بتصويرها. من الأمور المميزة لدى بيرغمان أنه لا يهتم بحجم الإيرادات التي تحققها أفلامه، فأفلامه غالبا ما تكون ذات تكلفة إنتاجية بسيطة. ومن الأمور المهمة لديه هو أن الفيلم ينبغي أن يحتوي على رسالة يوصلها صانع الفيلم للمشاهدين، رغم أنه في بعض الأحيان يتوه بإيصال رسالات أفلامه لمشاهديه، بسبب خطورة الأفكار التي يريد إيصالها. أفلام بيرغمان غالبا ما تمثل نقاشا فكريا دسما لعشاق الفن السابع، فهي غنية فنيا وتحمل إشباعا فلسفيا للمشاهد، بحيث تجعل لكل مشهد من المشاهد أكثر من فكرة وأكثر من رأي في تحليله. دائما ما تبحث أفلامه في الأسئلة الوجودية، عن وجود الإنسان على هذه الأرض، ما هي مهمته، وإذا كان هناك سبب أصلا لوجوده. ورغم إلحادية اسئلته وقسوتها الظاهرة، إلا أنها تحكي لنا عن أوروبا وتاريخها المخزي في النصف الأول من القرن الماضي، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية وحصدها لملايين الأرواح البريئة. وبيرغمان كإنسان عاصر تلك الأحداث العظام يطرح هذه الأسئلة بنفسه لعله يجد الجواب أو يظل في تيهه يبحث عن النور في الظلام المطبق. ولعل هذه الأحداث الكبرى هي التي أوحت له بفيلمه العظيم «الختم السابع»، الذي أطلق شهرته للعنان.

يتحدث فيلم «الختم السابع» عن فارس صليبي يعود من الحملة الصليبية، بعد عشر سنوات من غيابه، إلى بلده السويد الذي كان يحتضر في ذلك الوقت من الطاعون الذي فتك بأرواح الملايين من البشر. يقابل هذا الفارس بطريقه للبيت «الموت»، ويستطيع الفارس أن يتحايل على «الموت» بتأخير موته من أجل أن يلعب معه لعبة الشطرنج. في أثناء اللعب يسأل الفارس «الموت» أسئلة وجودية عن الإيمان، والحقيقة ووجود الرب. إنها الأسئلة ذاتها التي سألها الشبان الأوروبيون بعد الحرب العالمية الثانية، لماذا يدعنا الرب نعاني ونعذب هكذا؟ لماذا يهلكنا الطاعون بينما لم تكن الحملة الصليبية إلا في خدمته؟ أغلب أفلام بيرغمان تتحدث عن ذات الأسئلة التي طرحها بيرغمان بفيلمه «الختم السابع»، بل إننا قد نجده في بعض الأحيان يتأرجح في أفكاره ما بين مؤيد مرة أو معارض. ولأن الأفكار العظيمة مربكة وتربك من يحاول الولوج فيها، فإن شخصية بيرغمان نفسه شخصية مربكة متناقضة. فهو في إحدى المرات يختار أفضل أفلامه، بينما يظهر مرة أخرى ليقول بأن أفلامه لا تستهويه وأنه لا يرغب بمشاهدتها مرة أخرى. كما أنه دائما ما يؤكد حبه اللانهائي لزوجته أنغريد بيرغمان إلا أنه خانها مرارا وتكرارا، وقد أنشأ علاقات حب مع أغلب بطلات أفلامه. رغم أن بيرغمان ليس من أولئك المؤمنين إلا أنه تمنى عندما كبر في العمر أن يصبح متدينا، وأن يجد الإجابات على أسئلته، بالرغم من أن رؤية أفلامه لا تمنح المشاهد فكرة عن رؤية هذا الرجل للدين والمتدينين، فهو تارة يكرههم ويحقد عليهم مثل فيلمه «الختم السابع»، بينما تجده في فيلم آخر يقدمهم على أنهم الملائكة، التي تعيش على هذه الأرض مثل فيلمه الأفضل «صرخات وهمسات». لم يكن الدين الموضوع الوحيد الذي ناقشه بيرغمان بأفلامه، بل إنه تعدى ذلك ليقدم فلسفته عن النفس البشرية ويغوص في أعماقها ليثبت لنا أنه عالم نفسي بقدر ما هو فيلسوف.

يقدم بيرغمان في فيمله العظيم «الصمت» قصة اختين لا يجمع بينهما إلا الوالدان فقط، فهما متناقضتان في كل شيء. الأخت الكبرى تحتضر وترافقها أختها الصغرى لمحاولة رعايتها أو ربما زيادة معاناتها. وبينما الأخت الكبرى امرأة مثقفة ذواقة للفن والموسيقى، شاذة جنسيا تؤمن بأن المرأة يجب أن تتحرر من تبعية الرجل (صورها بيرغمان تبعا للصورة النمطية لجميع النساء اللواتي رفعن شعار حقوق المرأة في الغرب)، فإن اختها الصغرى على النقيض من اختها فهي تحب الرجال وليست بذات الفكر الخلاق التي تملكه اختها وليس لديها ذوقها الرفيع في الموسيقى. بيرغمان من أولئك المخرجين الذين عشقوا السينما فعشقتهم بدورها. ثلاثة أفلام من أفلامه حصدت الأوسكار، كما أن مجلة «الترفيه الأسبوعي» رشحته ليكون ثامن أعظم مخرج في التاريخ. وودي آلان وسبلبيبرغ وغيرهما الكثير من المخرجين الكبار عشقوا أفلامه ونظروا له وكأنه شيء مقدس لا يمكن الاقتراب من عبقريته. ولهم الحق في ذلك، فعلى الرغم من جمال صور أفلامه الستين بسبب مهاراته السينمائية، إلا أنه أشبعها فلسفة وفكرا بسبب فكره الفلسفي ومعرفته المسرحية. توفي إنغمار بيرغمان في بيته الواقع في فارو في السويد في يوم الاثنين في تاريخ 30 يوليو (تموز) 2007 عن عمر يناهز التاسعة والثمانين.

الشرق الأوسط في

03.08.2007

 
 

عملاقان ميّزا فن السينما ورحلا...

أنطونيوني وبرغمَن

هوليود - محمد رضا

في يومين متتالين (الثلاثين والحادي والثلاثين من تموز/ يوليو هذا العام) رحل عملاقان من أهم من أنجبتهم السينما في تاريخها. انغمَر برغمَن، ومايكل أنجلو أنطونيوني. سويدي خبير النفس وتعامل مع الوجوديات على طريقته، وإيطالي خبير النفس أيضاً وتعامل مع الوجوديات إنما بطريقته الخاصّة. ما جعلهما أستاذين كبيرين في السينما.. الرؤية للفرد وللعالم وعلاقة كل منهما بالآخر.. كل منهما باشر السينما شابّاً، مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، وكل منهما أمّ السينما راغباً في إحداث تغيير عن السائد في الستينيات جسّد كل منهما تلك الرغبة عبر أفلام لا تُنسى وستبقى خالدة.

إنهما من الفترة الذهبية للسينما، الفترة التي ترعرع فيها مخرجون عالميون من كل حدب وصوب من القاهرة وطوكيو وكذلك من باريس ونيويورك مروراً بنيودلهي وساوباولو ... السينما كانت آنذاك تعجّ بالإنجازات الفنية المهمّة قبل أن نلج عصراً جديداً اختلف فيه المفهوم بأسره وقّل عدد المخرجين الذين يمكن تسميتهم فعلاً ب(سينمائيين كبار).

أنطونيوني

ولد أنطونيوني في 29-9-1921 في بلدة فيرارا الإيطالية. درس الاقتصاد أولا في جامعة بولونيا من العام 1931 إلى العام 1953 وحينها تخرّج وعمل موظّفاً في أحد المصارف كما أخذ يمارس الصحافة حتى العام 1939عندما انتقل إلى روما وأخذ يكتب لبعض المجلات والصحف عن السينما.

في العام 1940 استلم منصب سكرتير تحرير مجلة (سينما) لعامين انضم خلالهما إلى مؤسسة تعليم سينمائية من تمويل الحكومة الفاشية، لكن كغيره من الذين درسوا هناك، تخرّج وفي باله منظومة فكرية مناهضة لنصوص ومفاهيم الدولة.

وهذا الموقف قاده على الأرجح للتعرّف على مخرج سيكون له شأن في مناهضة الفاشية الإيطالية هو روبرتو روسيلليني ولمشاركته سيناريو فيلم (عودة طيّار) (1942) حول طيّار إيطالي يهرب من معتقله (بعدما أصيبت طائرته وهي في غارة فوق اليونان) ويعود إلى بلاده في الوقت الذي تم فيه إعلان استسلام اليونان. كما شارك أنطونيوني كتابة سيناريو فيلم لمارسيل كارني عنوانه (زوّار المساء) تم إنجازه في العام ذاته.

حين انتقل أنطونيوني إلى الإخراج واختار السينما التسجيلية فحقّّق منها سبعة ما بين 1943 و1950 وأوّلها ((شعب بو)) لم يعرض إلا من بعد سقوط الفاشية. في العام 1950 أنجز أول فيلم روائي له بعنوان (قصّة علاقة غرامية) وفيلمه الثاني (كاميليا من دون كاميليا) (1953).

لمعان أنطونيوني بدأ في العام الأول من الستّينيات حين أخرج (المغامرة)، إنه نفس العام الذي أخرج فيه عبقري آخر هو فديريكو فيلليني فيلمه (الحياة الحلوة) لكن في حين أن أسلوب فيلليني البصري كان منفرداً به، كان أسلوب أنطونيوني طليعياً وسابقاً بقليل موجة السينما الفرنسية الجديدة. وهو أكبر سنّاً من جان لوك غودار وفرنسوا تروفو وكلود شابرول، لكنه سبق الثلاثة وآخرين في فرنسا إلى ذلك الأسلوب المناهض للتقليد السائد في سرد القصّة.

الفيلم عبارة عن قصّة تقوم على الوضع التالي: مجموعة من الأصدقاء على مركب في عرض البحر الصقلّي. فجأة تختفي إحدى نساء المجموعة، وهذا يقع بينما الفيلم لا يزال في مطلعه تماماً كحال فيلم ألفرد هيتشكوك (سايكو) حيث تختفي بطلته بعد ثلث ساعة من بداية الفيلم الذي تم إنتاجه في العام ذاته!. لكن فيلم أنطونيوني ليس بوليسياً. الرغبة في العثور عليها ومعرفة ما الذي حدث لها ليست متساوية بين الركّاب لأن صديقها كان بدأ يميل إلى صديقتها، هذا الفيلم كان الأول من ثلاثية.

الثاني بعنوان (الليل) (1961) والثالث بعنوان (خسوف) (1962) والثلاثة من تمثيل مونيكا يتي. كل من الأول والثالث نال جائزة لجنة التحكيم في مهرجان (كان). بعد ذلك أخرج (الصحراء الحمراء) (1964) وهو أوّل فيلم بالألوان له تبعه ب(تكبير الصورة) وأول فيلم له بالإنكليزية وأوّل فيلم له يصوّره خارج إيطاليا وكان من بطولة أنيسا ردغراف ونال الفيلم ذهبية مهرجان (كان) السينمائي.

في العام 1969 انتقل مسافة أبعد... صوّر فيلمه الوحيد في أميركا وهو (نقطة زابرسكي) ثم انتقل إلى المغرب وصوّر سنة 1975 (المهنة: صحافي) مع جاك نيكولسون.

أخرج أنطونيوي أفلاماً أخرى غير هذه المذكورة، لكن هذه الأفلام هي الأفضل من مخرج مال إلى اللقطة الطويلة وإلى المتابعة المتمهّلة لحكايات تبدو في الظاهر بسيطة، لكنها في الصميم أكثر تعقيداً مما توحي به الصورة للوهلة الأولى.

برغمَن

وُلد إنغمَر برغمَن في 1918 في مدينة أوسالا في السويد. والده كان راعي أبرشيه قبل أن يتم اختياره ليصبح قسيس العائلة الملكية، وكان والده متزمّتاً ما نشأ عنه رغبة برغمَن الابن بالانعتاق، قبل أن يفعل ذلك عن طريق ترك أوسالا إلى ستوكهولم شابّاً.

دخل ذات مرّة مسرحية وهو في الخامسة من عمره ومن حينها وقع في حب الفن، حسبما كتبه في مذكّراته التي نشرت سنة 1988 تحت عنوان (المصباح السحري).

سنة 1940 تخرّج برغمَن من الجامعة في ستوكهولم ليعمل كمخرج مساعد في مسارح المدينة، ثم أخذ يعمل مستشاراً للسيناريوهات. في العام 1944 كتب سيناريو فيلم (عذاب) الذي أخرجه السويدي الكلاسيكي ألف سيوبيرغ، وكان أحد مشاهير السينما السويدية حتى الستينيات. (عذاب) كان تمهيداً لولوج برغمَن السينما فكتب ثم أخرج بضعة أفلام لم تحمل أي تميّز حقيقي. وهذا التميّز لازمه حتى العام 1955 عندما أخرج (الختم السابع) متبوعاً ب (الفريز البري) وكلاهما من أفضل أعماله إلى اليوم.

ما أن حلّت الستينيات، حتى كان المخرج سطا على اهتمام المجتمع السينمائي الدولي عبر سلسلة لا تُنسى من الأفلام مثل (الصمت) و(برسونا) و(ساعة الذئب) و(عار) وكلّها رصفت أمام العين أسلوب برغمَن التعبيري الخاص حيث الكاميرا (كلوز أب) للوجه تلتقط تفاصيل تعبيره ودقائق خلجاته وحيث الخيال يتداخل والواقع لحد أن السؤال المتكرّر هو إذا ما كان المشاهد يرى خيالاً أو حلماً أو واقعاً. هذا ما عبّر عنه أفضل تعبير في فيلم (برسونا) حيث تتكشّف أن المرأتين بطلتا الفيلم (بيبي أندرسن وليف أولمان) قد تكونا امرأة واحدة. أيضاً يجوز أن إحداهن (ليف أولمان) تخيّلت ما دار بينهما من سجال عنيف أو حلمت به.

مثل أنطونيوني، برغمَن يجيد خلق اللغز لكن ليس بهدف تقديم تشويق من أي نوع، بل لدراسة الحياة وما تموج به من أفكار وتداعيات، وهذا استمر منهجاً له في السبعينيات عندما أخرج (اللمسة) و(صرخات وهمسات) و(وجها لوجه) و(سوناتا الخريف).

في الثمانينيات خف زخمه السينمائي وانحسر وذلك في مقابل انشغاله بالعمل المسرحي والتلفزيوني. لكن ذلك لم يمنعه من إنجاز واحد من أهم أعماله وهو (فاني وألكسندرا). في التسعينيات انحسر ظهوره السينمائي أكثر فأكثر وحينما قدّم (ساراباند) سنة 2003 لم يجد الفيلم الاهتمام الجدير به.

الحق ليس على برغمَن هنا فهو أنجز هذا الفيلم بنفس المقاييس التي أنجز بها أفلامه السابقة، بل على اختلاف البيئة الفنية والثقافية مع ولادة جيل آخر يعيش في عصر مختلف حيث سينما برغمَن (وسينما أنطونيوني) أبعد من أن تعني له الشيء ذاته الذي كانت تعنيه للجيل السابق.  

الجزيرة السعودية في

03.08.2007

 
 

السينما تفقد «برجمان» في الصباح

و«أنطونيوني» في المساء

 بقلم  سمير فريد

أصبح الاثنين ٣٠ يوليو الماضي يوماً خاصاً في تاريخ السينما، ففي الصباح فقدت السينما المخرج السويدي إنجمار برجمان، وفي المساء فقدت المخرج الإيطالي مايكل أنجلو أنطونيوني (٢٩/٩/١٩١٢ - ٣٠/٧/٢٠٠٧)، وأغلق قوس ثان لأحد عظماء السينما في كل تاريخها،

 ففي اختيارات النقاد والمؤرخين لأهم مخرجي السينما في المائة عام الأولي من تاريخها لابد وأن يكون هناك برجمان وأنطونيوني رغم الاختلاف الكامل بينهما علي الصعيدين الفني والفكري، فلكل منهما رؤيته الخاصة للإنسان والعصر اللذين عاشا فيه (القرن العشرين كاملاً)، ولكل منهما أسلوبه الخاص في التعبير عن هذه الرؤية.

أخرج أنطونيوني ١٤ فيلماً روائياً طويلاً في ٣٠ سنة من ١٩٥٠ إلي ١٩٨٠، وأصابه مرض أقعده عن الحركة وأفقده القدرة علي النطق، ولكنه تمكن من إخراج فيلمه الخامس عشر «ما وراء السحب» بمساعدة المخرج الألماني فيم فيندرز عام ١٩٩٥، بل وأخرج فيلماً قصيراً كجزء من الفيلم الطويل «ايروس» عام ٢٠٠٤.

وكان قد سبق أن أخرج فيلمين كجزء من فيلم «الحب في المدينة» ١٩٥٣، و«ثلاثة وجوه» ١٩٦٥. كما أخرج ٧ أفلام قصيرة روائية وتسجيلية من ١٩٤٧ إلي ١٩٥٠ قبل أن يخرج فيلمه الروائي الطويل الأول. وفي تاريخه الحافل فيلم تسجيلي طويل عن الصين أخرجه عام ١٩٧٣، وهو مخرج وكاتب سيناريو ورسام أقام عدة معارض لرسوماته، وله عشرات المقالات عن فن السينما.

أفلام أنطونيوني الـ١٤ هي «وقائع قصة حب»، ١٩٥٠ «المهزومون» ١٩٥٢، «السيدة من دون زهرة الكاميليا» ١٩٥٣، «الصديقات» ١٩٥٥، «الصرخة» ١٩٥٧، وثلاثيته الكبري «المغامرة» و«الليل» و«الخسوف» من ١٩٦٠ إلي ١٩٦٢، ثم «الصحراء الحمراء» أول أفلامه بالألوان والذي فاز بالأسد الذهبي في مهرجان فينسيا ١٩٦٤،

 و«تكبير الصورة»، الذي فاز بالسعفة الذهبية في مهرجان «كان» ١٩٦٧، حيث التقيت معه لأول مرة، و«زابريسكي بونيت» ١٩٦٩، و«المهنة صحفي» ١٩٧٤، و«لغز أوبرفالد» ١٩٧٩، و«هوية امرأة» ١٩٨٠ آخر أفلامه قبل أن يمرض.

وفي المكتبة العربية كتاب واحد عن أنطونيوني مختارات من مقالاته وأحاديثه نشرته وزارة الثقافة في دمشق عام ١٩٩٩ تحت عنوان «بناء الرؤية» ترجمة أبيه حمزاوي. 

المصري اليوم في

04.08.2007

 
 

أول أعماله بعد صراعه مع مرض عضال

"برسونا" منعطف في حياة وسينما برغمان

محمّد رُضا

تقدير كل من انغمار برغمان يمكن أن يتم عن طريق استعادة بعض أفلامه في بعض صالات الفن والتجربة (او ما بقي من نوادي السينما) في العالم العربي، أو -إذا ما كان التلفزيون يريد أن ينضج ويتحوّل من صندوق الفرجة الى وسيط الثقافة- عبر برمجة عدد من أعماله لجعل الجيل الجديد يتّصل والحديث الذي انتشر عنه في الآونة الأخيرة.وإلى أن يتم ذلك، سأستعرض أحد أهم أفلامه الأولى على أساس أن القارئ في نهاية المطاف لا يبقى عليه سوى جهد البحث عنه لاقتنائه إذا أراد. الفيلم هو “برسونا” (1966) الذي خرج في وقت يشكل مرحلة خاصة في حياة مخرجه إنغمار برغمان وسينماه. بعد أن عمل في أفلام تلفزيونية محدودة الأثر وخاض غمار الفيلم ذي الرمزيات الذي تقع أحداثه في القرون الوسطى (“الختم السابع” - 1957) انتقل الى طرح مشاكل روحانية الجانب في “من خلال الزجاج، معتماً” (1961) و”نور الشتاء” (1962)، ثم باشر سلسلة من الأفلام الدرامية المازجة بين العمق النفسي والمراجعات العاطفية ذات البعد الأخلاقي في سلسلة جديدة بدأت سنة 1963 بفيلم “الصمت” (1963) وجاء “برسونا” ثانياً فيها لتشمل لاحقاً “ساعة الذئب” (1968) و”عار” (1968 أيضاً).

“برسونا” كان محطة أخرى لناحية علاقة المخرج بأفلامه. لقد كان أول أعماله بعد فترة عانى فيها من مرض عُضال منعه عن العمل والأول في أسلوب مغاير بصرياً وأسلوبياً عن أعماله السابقة. أسلوب لا يخلو من التجريب ليس بمعنى من لا يزال يبحث منتقلاً بين أساليب وصياغات عدّة بل بمعنى الفعل التجريبي نفسه بعدما بناه على أسس وقواعد تخصّ اللغة السينمائية التي من آنذاك باتت لغة برغمان الخاصة.

“برسونا” دراما نفسية عن إليزابث (ليف أولمان) التي تدخل المستشفى بعدما فقدت صوتها خلال تأدية مسرحية “ألكترا”. الكشوفات لا تؤدي الى تشخيص مرض بل حالة ويتم تعيين الممرضة ألما (بيبي أندرسون) لترعاها إذ لا تزال إليزابث تؤثر الصمت المطبق. تنتقل الممرّضة بالمريضة الى بيت ريفي (تملكه الطبيبة التي عاينت اليزابث) وهناك تدخل الحكاية مستويات من الطروحات والنقلات بين الواقع والخيال، وبين الحاضر والذكريات. ألما تتحدّث والثانية تستمع وفي حديث ألما الكثير من البوح والاعتراف وفي استماع إليزابث الكثير من الشجون الداخلية والانعكاسات.

برغمان وطأ المرحلة الجديدة بإعلان فريد: اللقطة الأولى من هذا الفيلم شاشة سوداء، ثم يغمرها الضوء بطيئا وتدريجياً ثم نبدأ بمتابعة ما يبدو لنا مقتطفات من أفلام صامتة (كوميدية ورعب)، كل هذا قبل أن يصحبنا صوت موسيقا تتسلل في الثواني الأخيرة من اللقطات المذكورة الى لقطات أخرى يلج بها المخرج قصته هذه. لماذا؟

يحمل الفيلم مستويات من التحليلات الجائزة خصوصاً وأن المخرج لا يوفّر قاعدة روائية بسيطة ويعمد إلى تشكيل الصورة والبناء الدرامي (النفسي غالباً) على نحو لا يحتوي التفسير المبسّط، وفي أحيان لا يحتوي على أي تفسير على أي حال، لكن بأخذ الاعتبار أن المخرج يقطع بين مشاهده الواقعة بين الشخصيّتين الرئيسيّتين أكثر من مرة ليذكّرنا أننا نشاهد خيالاً وليس واقعاً. فقط برغمان لديه السبب وراء عملية قطع الاسترسال بلقطة للفيلم يحترق مثلاً قبل أن يعود الى استكمال الحكاية، لكن على الشاشة وفي ذات المشاهد، فإن ما يحدث هو انتقاله المفاجئ (من الدراما التي يقرأها على الشاشة والخيال الذي قبل العيش فيه) الى لحظات من الواقع السينمائي. واقع أن هناك أستاذاً في العمل كتب هذه الشخصيات وخلق هذه الحكاية ويدير ما يتفاعل فيها. من هنا، تتواكب اللقطات الأولى لتتجانس مع عملية النقل من وإلى الفيلم. إنه التمهيد للقول بأن الفيلم الذي نشاهده ليس سوى فيلم. وفي نهاية الفيلم يقطع المخرج من ليف أولمان وهي ما زالت مندمجة في دورها الى لقطة للعاملين وراء الكاميرا. بل اليه هو أيضاً وهو ينظر الى الكاميرا، كما لو كان يتحدّى مشاهديه.

درجات من الخيال

على ذلك كلّه، لا يخسر الفيلم داخل الفيلم سطوته على مشاهديه وذلك نظراً لقوّة ما يحدث بين شخصيّتيه وقوّة لغة الإيصال وسبر غور العاطفة. إليزابث الصامتة تكسر الغلاف الذي تعيشه الشخصية الناطقة (ألما) لكن بداية العلاقة تسجّل قوّة ألما، النفسية والشخصية، وضعف إليزابث (على الصعيدين نفسيهما). ألفة وعلاقة حميمة (غير مثلية) ولو أن هذا ما قد يُقرأ لغير (المتمعّن) تنشأ بينهما في ذلك البيت الصيفي وخلالها تخسر ألما قوّتها وتبدو إليزابث كما لو كانت المرأة التي تنشدها ألما لفتح كل ذكرياتها ولمعايشة سجلات حياتها.

الذي يحدث إثر انتقال المرأتين الى البيت الهادئ والبعيد يبدأ بمحاولة مصارحة. بما أن الممرضة ألما هي الوحيدة التي ستتحدّث طوال الفيلم فإنه من الطبيعي أن يُسند إليها المخرج دور القيادة في محاولة فتح حوار مع الممثلة المعنية ولو من طرف واحد. حميمية الحوار تتجلّى في فتح ألما لباب ذكرياتها التي لم تكن مضطرة لطرحها علناً. لكن الصورة ذاتها (لمدير التصوير الفذ سفِن نيكفست الذي مات قبل أقل من عام) تشترك في هذا التقرّب. المرأتان تعدّان عشاء وتتجالسان. إليزابث ليست مضطربة وألما في أوج سعادتها. لكن مع انتقال ألما الى حديث الشجون كاشفة عن ذنب ارتكبته ذات يوم بعيد، تتدرّج اللقطات من الجو المبهج الى الجو المؤلّف من لقطات أكثر مضياً في الاشتراك مع وقع ما تسمعه إليزابث. ألما في نهاية ذلك الفصل الحاسم تبكي وإليزابث هي التي تحتضنها وذكرياتها كأم.

لكن في ما بعد، يبدأ التساؤل عما إذا كانت ما ذكرته ألما حدث معها او مع إليزابث. كيف؟ الطريقة الوحيدة هو ألا تكون هناك ألما. آنذاك إليزابث تعيش ذاكرتها الخاصة بخيانة زوجها وارتكاب الإثم ولعل هذا هو الدافع الذي جعلها تفقد الرغبة في النطق وتلتزم الصمت (و”الصمت” هو عنوان لفيلم آخر لبرغمان.

لكن في حين أن ذلك مطروح أكثر من مرّة يستمر برغمان في معالجة ما يدور في الفيلم على أساس أنهما امرأتان منفصلتان. فإذا أخذت هذا الفيلم على هذا الوضع جابهتك وجهة مغايرة تستحق بدورها الاهتمام. عندما تقرأ ألما رسالة كتبتها إليزابث لزوجها تذكر فيه ما سمعته من ألما (او هو اعتراف اليزابث؟) تنقلب الى امرأة عدائية تتمنى أذى إليزابث. هناك ذلك المشهد الحابس للأنفاس عندما تدرك ألما أن هناك كأساً مكسورة على بلاط الشرفة بينما تمر إليزابث حافية القدمين. تمر قريباً أول مرّة وثاني مرّة ولا تحذّرها ألما وفي ثالث مرّة تدوس إليزابث على الزجاج المكسور وتجرح قدمها.

نهاية المواجهة، سواء أكانت بين ألما وإليزابث او بين إليزابث وإليزابث هي العودة الى المصحّة حيث ينهي المخرج الفيلم بالإعلان أنه سواء أكان الوضع هو هذا او ذاك، فإن ما شاهدناه هو فيلم يحتمل أي قدر من الأبعاد الأخرى.

وهناك درجات من الخيال والواقع. هناك مشاهد عدّة يتركنا فيها المخرج متسائلين عمّا إذا كانت ألما تتخيّل (مثلاً مجيء زوجها لزيارتها قد يكون واقعاً وقد يكون خيالاً). عما إذا تجاوزت، في مرحلة معيّنة، ضبابية الخط الفاصل بين الحقيقة والخيال. في قراءة ربما أكثر تطرّفاً يبدو أن الحقيقة الوحيدة في القصة (التي هي بفعل منهج برغمان حيالها: خيالية بأسرها) هي ما تتولى قوله الطبيبة (مرغريتا روك) إذ هي الوحيدة المسموح لها بحوار تلقيه مباشرة الى الكاميرا. إنها في هذه الشطحة من القراءة، ربما كاتبة الحكاية وخالقة الخيال الماثل أمامها.

في شتّى الأحوال، يقترح الفيلم، من خلال عنوانه الذي يعني، في علم النفس، الشخصية التي تتقدّم الشخص، وفي الدراما، القناع الذي يرتديه، أن إليزابث وألما في واقع الأمر هما إنسان واحد. وليس صدفة -تبعاً لهذه القراءة- تشابه الملامح بين الممثلتين أولمان وأندرسون.

 “سر أسما” حكاية بوسنية

 “سر أسما” للمخرجة البوسنية يسميلا زبانيتش يتحدّث عن امرأة عاملة والأحداث هنا تقع في الزمن الحالي. أسما وابنتها لونا تعيشان وحيدتين في البيت. الأولى تخرج الى عملها والثانية الى مدرستها والحياة من حول كل واحدة ليست هيّنة. الأم في عملها في أحد المصانع وتبحث عن عمل آخر في الليل وتجده نادلة في حانة رخيصة. بين العملين وفي رحى الأسبوع تحضر لقاء يضم النساء اللواتي تعرضن للاعتداءات الجنسية خلال حرب التسعينات. الفتاة تشعر بالوحدة وتريد أن تنمو سريعاً. تسبق عمرها. صديقها الوحيد صبي في مثل عمرها اسمه سمير (كنعان كاتليتش) ويبدو كما لو كان بحاجة لقوّتها ودعمها أكثر مما هي بحاجة اليها منه. ذات يوم يتقرّب الحارس الشخصي لصاحب الحانة (ليون لوتشيف) من الأم وأفق علاقة تلوح في الأفق. لكن الأم لديها الكثير مما يجب أن تخوضه قبل أن تستطيع استقبال حب جديد. الشاب ليس لديه وقت طويل لذلك فهو أعد نفسه للهجرة.

هناك الكثير مما ترصفه المخرجة زبانيتش على صعيد الشخصيات. دائما لديها جديد تعرضه أو تعرّضها اليه. لكن السيناريو مكتوب جيّداً في معظمه متهاو في ربعه الأخير حينما يصبح ضرورياً أن تفتح الأم ذاكرتها وتخبر ابنتها ما حاولت إخفاءه طويلاً وهو يتعلّق ليس بها فقط، بل بوالدها الذي كانت تعتقد أنه بطل بوسني مات شهيداً. هذا اللجوء الى نهاية كاشفة لا يمر سلساً بل مدهماً ولو أن هذا لا يؤثر في ما سبق، فقط يوهن النتيجة النهائية بعض الشيء.

ما تحاول المخرجة طرحه هنا هو كيف تعايش المرأة وضعها بعد الحرب وما الذي تفعله لكي تسعد ابنتها. هنا ينطلق الفيلم في اتجاه جانبي مواز حول علاقة الأم بابنتها الصعبة التي تسيء الظن بأمّها فلا تدري مدى جهد الأم في سبيل تأمين مستوى الحياة المعيشي لها، وحين تراها تغادر سيّارة الحارس تقفز الى استنتاج بوجود علاقة حقيقية وأن أمها قد تتخلّى عنها.

تمثيل مرجانة قرانوفيتش من ناحية وحياكة المخرجة لشخصيّتها وإدارتها الفنية من ناحية أخرى يجعلان العمل أكثر إثارة للاهتمام. الفيلم لم يكن النتيجة الجيّدة التي نشاهد لولا الممثلة وقدرتها على اختزان المشاعر الدفينة على نحو تشهد انفعاله. كذلك ردّات فعلها تجاه ما يحدث لها مدروسة -أدائياً- وعلى قدر كبير من حسن الانضباط. فرانوفيتش تؤدي، بكلمة، شخصية المرأة التي تبدأ -في الفيلم- من نقطة ضعيفة وتزداد ضعفاً بينما تحاول صد المشاكل التي تواجهها.

الخليج الإماراتية في

05.08.2007

 
 

بصيرته الشعرية تحرك عين الكاميرا باتجاه الصورة الناطقة

السينما العالمية تخسر برحيل الإيطالي أنطونيوني علماً فنياً متفرداً

روما ـ عرفان الزهاوي

بعد يوم واحد فقط من رحيل إنغمار بيرغمان، اختطف الموت عملاقاً آخر من عمالقة الفن السينمائي العالمي، ميكيل أنجلو أنطونيوني الذي انطفأ في الرابعة والتسعين من العمر في منزله بالعاصمة الإيطالية روما وإلى جواره زوجته الأخيرة إنريكا فينو.

غياب أنطونيوني جاء بعد ساعات فقط من وفاة العملاق السويدي إنغمار بيرغمان، حتى بدآ وكأنهما كانا على موعد. انطفأ أنطونيوني بهدوء كبير في منزله بروما التي ودعته الأسبوع الماضي في حفل تأبيني أقيم في صالة القياصرة بقصر «الكامبيدوليو» ليوارى بعد ذلك الثرى في مسقط رأسه فيرّارا. ولد ميكيل انجيلو أنطونيوني في عام 1912 بمدينة فيرّارا، وتخرّج من الجامعة في مدينة بولونيا (وسط إيطاليا) واقترب من السينما من خلال عمله ناقداً سينمائياً. ثم انتقل إلى روما ودرس السينما في «المركز التجريبي للفن السينمائي» في تشينتشيتّا وبدأ تعاونه مع المخرج الكبير روبيرتو روسّيلّيني. وأنطونيوني أحد آخر الكبار، وقد تميّزت سينماه بغلبة الصورة على الكلمة، وكان قد مُنح في عام 1995 جائزة الأوسكار للحياة الفنية. وبغيابه من المشهد، تفقد السينما العالمية ليس فقط علماً هاماً من اعلامها، بل أيضاً أسلوباً متفرّداً من أساليب السينما، مثّل ما يُشبه عصراً من عصور الصورة السينمائية. وضع أنطونيوني العين في قلب بصيرته الشعرية..

عين الكاميرا التي تميّزت على الدوام باستقلالية متفرّدة، وعين المخرج الذي حرّك تلك الكاميرا بصمت وهدوء. وكشفت تلك العين مصاعب التواصل بين البشر، وعجز الكلمة والوحدة التي تعيش فيها الشخصيات. وتميّزت عين أنطونيوني بقدرتها على اكتشاف تناقضات النفس البشرية، وتحقيق كمال الصورة. كان مبدعاً قادراً على إدراك دواخل الشخصيات النفسية، والرغبات الكامنة والمتوالدة لدى الشخصيات، من دون التهافت وراء بلاغات لغوية فائضة. كثيرون حاولوا تقليد أنطونيوني لكنهم، وبرغم صدق مساعيهم وقدراتهم عجزوا عن ذلك. ومنذ بداياته وابتداءً من فيلم «بلو آب» و«المغامرة» وحتى النهاية.. أنجز أنطونيوني الكثير من الشخصيات المثيرة للجدل سواء في عالم النقد أو في العلاقة مع العرض الجماهيري. لم تكن أفلامه مصنوعة للعرض الواسع، ولم تكن تغازل المشاهد (والناقد) المُستسهل. وعلى رغم المرض وفقدانه قدرة الكلام (بعد الجلطة الدماغية التي أصابته في مطلع التسعينات)، فإنه لم يفقد القدرة والرغبة في التعبير بالصورة وعبر سينماه.

أنجز أنطونيوني عمله السينمائي (الوثائقي) الأول في مسقط رأسه، وكان الشريط الوثائقي «ناس نهر البو ـ 1947» والذي يُعد الآن من كلاسيكيات التوثيق السينمائي، وفي الفترة ذاتها بدأ بالتعاون مع عدد من زملائه المخرجين ككاتب سيناريو وساهم في كتابة عدد مهم من الأفلام مثل «رحلة الصيد المأساوية» لجوزيبي دي سانتيس و«الشيخ الأبيض» لفيديريكو فيلليني. أما فيلمه الأول الروائي كمخرج فهو «يوميات حب» 1950. وقد برزت منذ هذا العمل مواصفات إنجازه وأسلوبه الخاص. وتناول أنطونيوني في الفيلم مجموعة من شخصيات مجتمع برجوازي، وتابع نوازعها ومحرّكاتها النفسية. فعل ذلك بأسلوب يقترب من القراءة البوليسية، لكن برشاقة ابتعدت عن الفضفاضية. وبعد نجاح التجربة الأولى أنجز أنطونيوني أعماله التالية «الخاسرون» ـ الذي سجّل فيه إرهاصات أزمة الشباب الأوروبي عام 1952 و«الغادة دون كاميليا» - 3591، الذي تدور أحداثه في عالم السينما، ومن ثم شريط «الصديقات» ـ 1955 و«الصرخة» ـ 1956.

والفيلم الذي يعتبره النقاد أهم عمل لأنطونيوني حتى تلك الفترة هو «المغامرة» ـ 1959 واختلف عن الأعمال الأخرى وتميّز بتفرّده وبرشاقته الشعرية. وقد أثار الفيلم لدى عرضه في مهرجان كان السينمائي الدولي ردود أفعال متباينة.. وربما يكون مردّ ذلك الإيقاع البطيء الذي ميّز العمل، ولكونه استند على الصورة وعلى النظرات دون الاعتناء بالإيقاع. وكان فيلم «المغامرة» من بطولة رفيقة حياته في تلك الفترة النجمة السينمائية والمسرحية مونيكا فيتّي. التي عملت معه في أفلامه التالية «الليل» ـ 1960 و«الخسوف» ـ 1962 و«الصحراء الحمراء» ـ 1964.

وفي فيلم «الصحراء الحمراء»، قبل أنطونيوني تحدي الانتقال من الأسود والأبيض إلى الشريط الملوّن، وفاز به بجائزة الأسد الذهبي في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي (وهو الأول أما الثاني فهو الأسد الذهبي للحياة الفنية وحصل عليه في عام 1983). ولم يتوقف أنطونيوني عن العمل المتواصل ووسّع مدى آفاقه إلى خارج إيطاليا. وقد فاز شريطه الشهير والخالد «بلو آب» - 6991 والمنجز في المملكة المتحدة بالسعفة الذهبية لمهرجان كان السينمائي الدولي.

وبعد ذلك بوقت قصير، أي في عام 1970 سافر إلى الولايات المتحدة وأنجز هناك في 1970 فيلمه «زابريسكس بوينت». إنه فيلم يتحدث عن أميركا الاحتجاجات الشبابية وعن موسيقى الروك، واشتهر الفيلم بنهايته المتفجّرة بحفلة فرقة بينك فلويد. بعد بضعة سنين من ذلك العمل أنجز أنطونيوني واحداً من الأعمال التي تُعد من كلاسيكيات السينما العالمية أي فيلم «المهنة صحافي» - 5791 وكان الفيلم من بطولة جاك نيكولسن وماريّا شنايدر.

في عام 1982 أنجز شريط «تعريف امرأة». وفي هذا الفيلم حقق أنطونيوني خطوة هامة شابهت ما كان زميله فيلليني فعلها في أعماله، أي استعادة نجوم أفلام الدرجة الثانية وإعطائهم الفرصة للبروز. فعل أنطونيوني ذلك مع الممثل الكوميدي توماس ميليان الذي كان اشتُهر في أفلام الدرجة الثانية بأدوار الشرطي مونّيتسا (أي القمامة بلهجة روما).

بعد ذلك بفترة قصيرة أصيب أنطونيوني بجلطة في الدماغ، عطّلت لديه الخلايا الدماغية المتحكّمة بالكلام، إلاّ أن تلك الجلطة لم تُعطّل قدرته على التواصل عبر الصورة، وهكذا وبعد فترة من العلاجات الطبيعية عاد المبدع الكبير إلى ما وراء الكاميرا، وأنجز عمله الشعري الرائع «ما وراء الغمام» - 5991. وأنجز في عام 2002 جهده الأخير عندما أخرج جزءاً بعنوان «إيروس» في العمل الكورالي «الخيط الخطير للأشياء» والذي أنجز جزأيه الآخرين كل من وونغ كار واي وستيفن سبيبلبيرغ. المخرجان اللذان تتلمذا على إبداع أنطونيوني واستوعبا بالتأكيد دروس المايسترو الكبير، وعرض الشريط الثلاثي التوقيع في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي في العام ذاته.

البيان الإماراتية في

05.08.2007

 
 

السينما العالمية تفقد اثنين من الفنانين العظام .. انطونيوني وبرجمان

مايكل انجلو انطونيوني والإبداع حتي آخر نفس

محمود قاسم

رغم الشلل الذي أصابه في سنواته الأخيرة لم يتوقف عن العمل في السينما وفي الرسم وفي كتابة القصة والرواية كانت المرأة هي حلم حياته وسبب أرقة .. ليس فقط في شخوص أفلامه ولكن في حياته وفي الهامه لموضوعات قصصه ورواياته اعتبر فيلمه الصديقات مرحلة انتقالية في البناء السينمائي الذي كان يهتم به، فترك العقدة التقليدية إلي مجموعة حوادث مترابطة، حيث لكل شخصية مغزي أكثر أهمية من الأشتراك في الحدث

هذا هو مفتاح الدخول لعالم أغلب الفنانين ومنهم بالطبع المخرج الإيطالي مايكل أنجلو انطونيوني 191-007، فالمرأة ظلت عالمه ومحيطه الواسع الذي تناثرت حياته اللؤلؤية في كل إبداعاته منذ منتصف الخمسينات، وحتي رحيله باعتباره لم يتوقف قط عن العمل، رغم الشلل الملحوظ الذي أصابه في سنواته الأخيرة، ليس فقط في مجال السينما بل أيضا في مجال الفن التشكيلي والرواية والقصة القصيرة.المرأة موجودة في هذا العالم بؤرته الوحيدة ومنبعه الدائم، ورغم أن صفاتها تختلف وتتباين من عمل لآخر، فإنها موجودة بكيانها وبكافة ما لديها من تأثير علي الدنيا من حولها، وليس فقط علي الرجل .. فالمرأة ليست موجودة في شخوص أفلام المخرج ولكنها أيضا موجودة في حياته، المرأة نفسها التي ألهمته الكثير من القصص، هي أيضا بطلة أفلامه، خاصة أعماله الإيطالية في الخمسينيات والستينيات الا وهي الممثلة المعروفة مونيكا فيتي التي شاهدناها في أفلامه ومنها «الخسوف»،«الصحراء الحمراء» و«الليل»، وقد بدا اهتمام الفنان في هذه الأفلام بأن العلاقة بين المرأة والرجل لا يتحكم فيها طرفاها بقدر ما يؤثر عليها الآخرون.البداية سيناريستدرس مايكل انجلو في جامعة بولونيا حتي تخصص في الرسم والهندسة، وفي بداية حياته كان يطمح للعمل بالمسرح، كما مارس كتابة الرواية، وعمل ناقدا في مجال المسرح والسينما، وكان معروفا بحدة آرائة ومواقفه تجاه الفن الهابط، مما جعل الكثيرين أصحاب المجلات يعزفون عن التعامل معه فقرر أن يتجه إلي الإبداع ، في البداية بدأ يمارس كتابة السيناريو، وشارك في تأليف قصة فيلم «عودة الطيار» الذي أخرجه روسيلليني ثم سافر إلي فرنسا ليعمل مساعد مخرج مع الفرنسي مارسيل كارنيه خاصة في فيلمه الشهير «زوار الليل» الذي قام ببطولته إيف مونتان .ومع نهاية الأربعينيات اتجه مايكل انجلو إلي كتابة وإخراج الأفلام الوثائقية، فقدم فيلمه «قوم وادي البحر» الذي بدا فيه متأثرا بالمدرسة الواقعية التي كان من روادها في هذه الفترة كل من فيتوريوري سيكا، وروبرتو روسيلليني، وأورمانو ولمي.في تلك السنوات لم يقطع علاقته بالأدب فكان يترجم مجموعة من الروايات الفرنسية إلي أن جاء فيلمه الروائي الأول «يوميات حب».ويعتبر فيلم «الصديقات» الذي أخرجه عام 1954 من أبرز أعماله الأولي وهو بمثابة ثلاث قصص منفصلة عن العلاقات المتأرجحة بين الرجل والمرأة، ويقول الناقد روبن رولان إن هذا الفيلم يحوي العناصر الموجودة في جميع أفلام المخرج، فهو يمزج تشاؤم الأفلام الأولي مع ومضات الأمل التي ظهرت فيما بعد وهو أكثر الأفلام أهمية لمعالجة موضوع العلاقة بين المرأة والرجل من ثلاث زوايا، والقصة الوحيدة من بين القصص الثلاث التي تتحرك أحداثها بسلاسة هي القصة التي تساير التقاليد الفاسدة للمجتمع الذي تحدث فيه، ففي قصة «مومينا» يوجد لدينا التعبير الكامل عن كراهية انطونيوني للنظام أو مومينا هي الشخصية الوحيدة الرئيسية في أفلامه التي تواءمت مع النظام بنجاح، وهي أيضا الوحيدة المكروهة تماما بالنسبة للمشاهدين.ويعتبر فيلم «الصديقات» مرحلة انتقالية في البناء السينمائي الذي اهتم به انطونيوني، حيث ترك العقدة التقليدية إلي مجموعة من الحوادث المترابطة لدرجة يستحيل التعرف علي الخط الأساسي للقصة ولكل الشخصيات مغزي أكثر أهمية من اشتراكهم في الحدث.تغير العواطف والاحاسيسبعد مجموعة أخري من الأفلام البارزة للفنان مثل «الصدفة» 1957، قدم فيلما مهما عام 1961 هو «الخسوف» وهو عن العلاقات نفسها، فأمامنا بيرو وفيتوريو اللذان يجمعهما حب الحياة والنقاء، ولكن قبل أن يصبحا ثنائيا متكاملا يبدأ الملل يتسرب إلي قلب كل منهما، ويتسرب التغيير، فالمرأة تبحث عن رجل جديد من أجل تجديد حياتها، ولكنها لا تلبث أن تحس بأن خسوفا ما يهل علي تلك العلاقة وهكذا، فالفشل هو الكيان الذي ينتظر أيا من هذه العلاقات وهو الشيء الحقيقي الواقعي في علاقات الحب.وقد تكررت مثل هذه المشاعر في فيلمه التالي «الصحراء الحمراء» عام 1964 الذي قامت ببطولته أيضا مونيكا فيتي فبعد أن يربط رجل بامرأة ويكاد أن يطيرا من السعادة فوق السحاب عليهما أن يكتشفا أن الحب شيء من المستحيل.ومثلما جاء في كتاب فن المونتاج السينمائي الذي ترجمه أحمد الحضري، فإن فيلم «الخسوف» يحمل فكرة العلاقة بين الرجل والمرأة إلي أبعد حد، إنها فكرة تغيير العواطف والأحاسيس مع بقاء الأشياء واستمرارها بل وطغيانها، ويري المخرج فيما يتعلق بهذين الفيلمين الأخيرين: إن رؤيتنا محدودة يتحكم فيها احساسنا غير الدقيق بالأحجام فيما يتعلق بالزمن.ولا شك أن الشكل العام قد تغير في فيلم «تكبير الصورة» لكنه موجود بصورة أخري متمثلا في مواجهة علاقة حب بين رجل وامرأته، بل نحن أمام رجل يصور عالم النساء من الخارج، إنه توماس المصور الفوتوغرافي، لقد نذر نفسه من أجل الوصول إلي نوع ما من التحكم في عالم الأشياء، ومهما كانت الوسيلة قاسية ومهما كانت معاناة العواطف والأحاسيس، فهو يصور الأشياء التي تثير احساسه وانتباهه، والبشر هم أهم هذه الأشياء، فهم يتحركون، تملأهم الحركة والحياة والمشاعر، وعلي سبيل المثال فإنه يقرر أن ينتقم من صاحب محل رفض أن يبيعه محله بأن يصوره.وتوماس مشغوف بتصوير النساء وفتيات الغلاف وهن يتمايلن أمامه مليئات بالشهوة والحياة، ثم تسوقه أقداره أن يصور لقطات حب بارعة ورقيقة في حديقة عامة هادئة .. ولكنه يتوغل في أعماق الصورة، ويكتشف أن وراء هذه اللمسات الرقيقة واللهفة البادية علي وجه المرأة في الحديقة نوعاً آخر من الحقائق .. فهناك جريمة قتل تشترك فيها الحبيبة المزعومة بالتخلص من حبيبها الذي يكبرها سنا.والفيلم يهتم بالوهم وبمحاولاتنا لاصطياد الواقع وإعادة تمثيله والمشكلة الرئيسية في مجتمع يصنع الصور، هي أنه في خطر دائم من أن يخلط الصورة بالواقع والظل بالجوهر.من المعروف أن هذا الفيلم كان محاولة للمخرج أن يصنع افلامه خارج حدود إيطاليا وأنه قد أخرج هذا الفيلم في بريطانيا، ثم أخرج فيلما أمريكيا هو «نقطة زايريسكي» في عام 1971 ثم «المهنة صحفي» عام 1975 .وإذا توقفنا عند هذا الفيلم بشكل خاص فإنه يذكرنا برواية «المرحوم ماتيا باسكال» لبيرانديللو، حول باسكال الذي قرأ خبر موته في إحدي الجرائد بينما كان مسافرا، فيحلو له أن يعيش في منطقة جديدة باسم جديد، لكنه ما يلبث أن يحن إلي عالمه القديم ويعود ليلقي مصيره هناك.ودافيد لوك اختار لنفسه أن يعيش إنسانا جديدا لا ليبحث عن سر مهرب الأسلحة روبرتسون ولا ليقوم بجولة صحفية، لقد اختار لنفسه أن يعيش بهوية روبرتسون، لكن صراعاته مع داخله لم تكن شغله الشاغل، فقد تحولت رحلة البحث عن ذات جديدة إلي مطاردات بوليسية تنتهي بمصرع لوك.ولوك رجل سعيد في حياته الخاصة شغوف بالمغامرة، لكن المغامرات تمادت به هذه المرة، فقد التقي يوما برفيق في الفندق الذي ينزل به في إحدي القري الإفريقية، روبرتسون هذا مهرب أسلحة للمتمردين حيث الدولة تعج بعدم استقرار سياسي، والرئيس يصرح في التليفزيون أن بلاده لا تعاني من قلاقل سياسية، ومع أن البلاد مقبرة إلا أنه لا يمكن تحديد أسباب الثورة الحقيقية أو حتي القائمين بها، وروبرتسون لا يساعد المتمردين عن قناعة بل هو مجرد تاجر يعطي السلاح لمن يدفع ، يموت بالسكتة القلبية، ويجد لوك نفسه وقد انتقل الهوية روبرتسون ويدعي أن الذي مات هو لوك.. خاصة أن التشابه الجسدي بينهما كبير، ثم يقوم بتزوير جواز السفر ويصبح شخصا جديدا.يخبر لوك «روبرتسون» أنه يحب الطبيعة وهذا يتنافي مع سلوك رجال الأعمال ولا نري في سلوك لوك بعد أن ينتحل شخصيته الجديدة، ما يدل علي أي شاعرية أو رقة، وقبل أن يبدأ في ممارسة إنسانه الجديد، يتوجه إلي منزل روبرتسون ويعثر علي بعض الأوراق التي تثبت هويته ثم يسافر إلي ميونخ ويلتقي هناك ببعض عملاء الثوار الذين يباركونه في نجاح مهمته ثم يسافر إلي برشلونة في مهمة كان علي روبرتسون أن يقوم بها ويقابل رجلا له علاقة بالثوار، يقص عليه حياته، وبدلا من أن نري قصة حياة الرجل نشاهد فيلما تسجيليا عن مصرع أحد الثوار رمياً بالرصاص وهو الفيلم الذي قام لوك بتنفيذه.والفيلم ينحو في نصفه الثاني منحي جديدا حيث يهتم بمطاردة تمت بين مارتن نايت أحد أصدقاء لوك وزوجته من جهة وبين لوك والسائحة التي تعرف عليها في إسبانيا من جهة أخري، وبعض الثوار من طرف ثالث، فقد رأي نايت أن الغموض الذي اكتشف مقتل لوك قد يحل إذا استطاع أن يقابل روبرتسون الذي يعتقد أنه لا يزال حيا.. ويحاول لوك التخفي عن مطارديه الذين يلجأون إلي الشرفة، كي تنتهي الأحداث بمقتله علي أيدي المتمردين في أحد الفنادق النائية في مكان أشبه بالمكان الذي مات فيه روبرتسون، كي يظل شخصا ماثلا في الأذهان كالأسطورة.وقد توقف انطونيوني عن العمل بالإخراج لبعض الوقت ليعود في نهاية السبعينيات بفيلمين احدهما هو «هوية امرأة» حول المخرج السينمائي نيكولو الذي يعيش أزمة إبداعية ووجودية، فهو يبحث عن امرأة لتقوم ببطولة فيلمه الجديد، ولتقوم بدور البطولة في فيلم حياته، حيث يتداخل الأمران فيلمه وحياته معا، وبالفعل تظهر امرأتان مختلفتان، الأولي تسمعه يردد لها أن هناك محاولة لقتله والتخلص منه سيقوم بها رجل يراقبه بلا سبب ظاهر، أما المرأة الثانية «ايدا» فهي تعمل ممثلة في المسرح وهي امرأة متعلقة بالماضي.ونيكولو لا يهتم بدوافع أي من المرأتين، ولذا كادت «إيدا» أن تنفلت منه عندما يحس أنها أصبحت أكثر قربا منه حيث تبلغه أنها حامل من رجل آخر.وقد تحدث انطونيوني إلي مجلة الأكسبريس - 16 أغسطس 1985 حول هذا الفيلم قائلا: في هذا الفيلم لم أعقد مقارنة بين الشخصيات والبيئات التي لا ينتمي إليها، وقد يعبر هذا عن مصادفات الحكي، فالقصة نفسها قائمة علي المصادفة، وهذه الأحداث الخارجية التي تتداخل في حياة شخص، مخرج يفتش عن إلهام، وهو علي كل أقل حساسية في السيطرة علي مقدرات البيئة، لأنه لا يعيش في مشكلة ملحة مثل المهندس المعماري في« المغامرة» والكاتب في «العميل» والرسام في «الأصدقاء».وحول تقنيته وأسلوبه يتحدث المخرج في الحوار نفسه قائلا: انها تتضمن مجموعة من التفاصيل بدءا من التفاصيل التي تخصني، فإنني أصعد نحو مواقف تجميعية عندما يعجبني شيء في مكان ما أو في كادر، تطرأ فكرة سريعة علي أن اسجلها في شخصيات عندما كنت طفلا كان يسليني في لعبة التراكيب أن أكون شوارع وميادين وأحياء وأضع فيها ناساً طيبيناً أصنع من حولهم حواديت، والآن أيضا فعندما أبلغ مكانا أو إذا ابتدعت قصة تتعلق بمكان ما أجد نفسي أجاهد في التخيل للعديد من الحركات والأفعال التي أكون شاهدا لها مهما كانت القصة التي تدور أمامي.من المعروف أن انطونيوني قد لجأ لإخراج فيلمه الأخير إلي تلميذه الألماني فيم فندرز، كما أنه ألف كتابا مهما يحمل عنوان «بناء الرواية» وللمخرج تاريخ حافل مع الجوائز السينمائية.

جريدة القاهرة في

07.08.2007

 
 

رحيل (بيرغمان)...

ماذا تبقى من السينما؟

حميد تاكني

قال السيد "فريدي بوش" بعد سماعه نبأ رحيل عملاق السينما السويدية " إنغمار برغمان" 0لقد رحل عملاق من عمالقة الفن السابع عالميا، ولم يتبقى لنا إلا الأسطورة الإيطالي " أنتونيوني" وإذا رحل فالواضح أن السينما ستعرف مسلكا آخر 9.لم يمر على تصريح المدير السابق لمهرجان لوكارنو أكثر من أربع وعشرين ساعة، لينعي العالم رحيل السينمائي الإيطالي " أنطونيوني".

لقد كان السيد " فريدي بوش" صادقا في تساؤله، استنادا على هذا المنحى السينمائي الذي أصبحنا نشاهده الآن، والذي يختلف بصفة غير مباشرة مع ما ناضل من أجله سينمائي من طينة " إنغمار برغمان" الذي اختار لنفسه طريقا صعبة و معقدة في تناوله السينمائي، وذلك انطلاقا مما كان يقدمه للسينما العالمية من أفلام، كانت تعتمد في معظمها على تيمة التراجيدية الإنسانية، ومأساة الإنسان في مواجهة الحياة الحديثة، إلى جانب الصدام والتشرذم الأسري. لقد كانت أفلامه غير مرحب بها في السويد، إلى درجة أن الكثير من السويديين يعتبر أن ما كان يخرجه من أفلام نتج عنه تسويق صورة السويد المصابة بالعصاب.

ولد الأسطورة " برغمان " في مدينة " أبسالا" في السويد يوم 1918/07/14من أب قس وأم مهيمنة ومسيطرة، وقد تأثر كثيرا بتربيته الدينية الصارمة والقاسية كما صرح بذلك قائلا " لقد كانت طفولتي مؤلمة ومعقدة". درس في جامعة ستوكهولم، وإبتداءا من سنة 1944أصبح يمارس الإخراج السينمائي والمسرحي. وقد بلغ عدد الأفلام التي أخرجها أكثر من 40فيلما من أشهرها " ابتسامات ليلة صيف" سنة 1955،" مشاهد من حياة زوجية" 1973، التوت البري" 1957، "صياح وهمسات" 1972.وعقب هجرته إلى ألمانيا أنجز فيلم "بيضة الثعبان" سنة 1977عن النازية، وعند عودته إلى السويد سنة 1982أخرج فيلم "فاني وألكسندر" وهي تحفة مختارة عن طفولة المخرج وولعه بالفرجة التي زينته بأربع أوسكارات".

تحت عنوان " برغمان، سينما الظلال الصامتة " كتبت مجلة " لوفيغارو" بتاريخ 2007/07/31."أي رجل !! صعب المراس، مجروح، شقي جني وعبقري، إنه أعظم عارض للصور في القرن العشرين، إنه يغرف من الحراك ومن المستور في الإنسانية، من تدفق الشهوات، في كهوف اللاوعي، في بحيرات الطفولة. لقد حقق بطولة خرافية خارقة للرجل والمرأة التائهان في عالم من الجراح والخطيئة، في سعار الرغبة ومعاناة عدم التفاهم".

القسوة والعدوانية أو الهجومية شكلت بلا ريب الخطوط العريضة لحياة " إنغمار برغمان" في مرحلة الشباب. نحس أنه مليء بالاضطراب والقلق، فخور وفاقد لصبره من الحياة اليومية. في سنة 1960اكتشف جزيرة "فارو" السويدية التي ستصبح فيما بعد منفاه الاختياري وشبه وطن: (إذا سألوني عن جنسيتي)، سيكون جوابي: أنا مواطن من "فارو". هنا أرى أصدقائي وأطفالي، هنا أملك مكتبتي السينمائية المكونة من 350فيلما والتي هي مصدر افتخاري، لقد قبلني سكانها ال 400كواحد منهم، وقد وجدت فيها حياة الطفولة، القراءة، اللعب، النزهات... لقد اكتشفت هنا ليس الحكمة، إنما السكينة والصفاء".

لقد فقد عالم السينما فنانا صقلت موهبته تلك الانكسارات التي بصمت حياته الشخصية، فصارت أفلامه مليئة بذلك السواد القاتل الذي يلازم العلاقات الإنسانية وما يتبعها من مشاكل وآلام وعدم التفاهم. وقد نفهم من زيجاته الخمس بأنه كان يعيش على نفس إيقاع أفلامه خصوصا وأن طلاقه المتكرر يرسم لنا صورة ولو بطريقة غير مباشرة عن استحالة العيش وصعوبة العشرة. إن حياة "برغمان " كانت موشومة بالهجرة والرحيل، فلقد غادر بيت والديه وهو في سن 19إثر خلاف مع والده، ولقد هاجر من السويد إلى ألمانيا، ثم قفل راجعا إلى السويد وبالضبط إلى جزيرة "فارو" على ساحل البلطيق حيث اختار منفاه مؤمنا بأن هذه القطعة الصغيرة من يابسة السويد، قد تغنيه عن هرج العاصمة وأضواء المدن، تماما كالدب القطبي الذي لا يظهر كثيرا.

الرياض السعودية في

08.08.2007

 
 

أنا وبرغمان وأنتونيوني

عبدالرحمن نجدي

أفادت و كالات الأنباء مؤخراً وفاة اثنين من أهم رجالات السينما وأساطينها وهما السويدي انغمار برغمان والايطالي مايكل انجلو انتونيوني، امضيت معهما أكثر مسيرتي المهنية ضنكاً، في سعي محموم لاستيعاب ما تود السينما التي يحققانها أن تقول، بكل ما في هذه السينما من أسرار وأحلام ومساحات ومعاني مستترة وذكريات وأزمات وتفاصيل والاحساس الدائم بعدم الأمان، كان يقابل ذلك كله عشقي للسينما السائدة وأعني السينما الأمريكية بكل التشويق الذي تحمله، وهوسي الدائم أن أخرج من عباءة هذه السينما بحثاً وراء سينما تمتحنك وترهقك، ولكن أن تصبح سينمائياً تتحدث في مجالس السينما ومنتدياتها ومع كتاب السينما ونقادها لابد أن تحب وتفهم وتستوعب سينما برغمان وبينويل وفلليني وانتونيوني وكل المخرجين الذين يملكون القدرة علي جعل أحداث أفلامهم مقلقة ومحيرة ويا لها من شروط صعبة.

1- مع انغمار برغمان في عليائه

عرفت برغمان أولاً.. وتلك كانت تجربة قاسية، كان ذلك في نهاية السبعينات وأنا أخطو أولي خطواتي في مدرسة الفيلم بلندن، وكان مقرراً علينا أن نشاهد هذا النوع من السينما يومياً، وأن ندل بدلونا فيما نشاهد من أفلام، كنت مهيأ بعض الشيء فقد أحضروا لنا المخرج الروسي تاركوفسكي ليحاضر عن أفلامه التي تعتبر الأكثر تعقيداً وغموضاً.

كانت أول مشاهداتي لبرغمان فيلم الختم السابع الذي حققه عام 1957 وللأمانة أصابني احباط شديد بعد مشاهدة الفيلم،

يبدأ الفيلم بأناشيد كورالية، بينما نري نسراً يحلق في سماء ملبدة بالغيوم.. نري الفارس وتابعه علي شاطيء مليء بالصخور.

المكان: السويد في القرن 14

الوباء منتشر

الفارس يصلي والموت واقف خلفه

يتقدم الموت بجسمه الضخم ليلف الضحية بعباءته، ولكن الضحية تذكرت فجأة إنها قد شاهدت الموت من قبل في بعض الرسومات وهو يلعب الشطرنج.

يقترح الفارس علي الموت أن يلعب معه مباراة في الشطرنج كنوع من التحدي، يوافق الموت.. وينتصر الفارس ليستمر في رحلته.

أسلوب له طابع شخصي جداً، تحدث الحضور عن الفلسفة السوداء التي تتخلل مضمون الفيلم، وعن الكآبة، ونظرته للحياة والناس ومخاوفه وأحلامه.

تحدث البعض عن قوة الفيلم التي تكاد تخلو من أي خطأ، وعن الجمال المرئي وقوة التحكم في حركات الممثلين ودخول الموت والتقطيع الممتاز.. إلخ.

لم أر في الفيلم سوي مضامين مثيرة للقلق، وتقارير وأحكام لا تمت لواقعنا بصلة وأفكار إنسان مريض تنوء روحه بآلام حقيقية، وقلت إنني أصبت بخيبة أمل مريرة.

وللغرابة أعجبت وجهة نظري الحضور.. وأخذ الحوار منحي يؤيد أفكاري التي طرحتها بعفوية شديدة نتيجة جهلي التام بمضمون الفيلم ومللي من شكل ومحتوي الفيلم، وللأمانة فقد كنت مسطحاً تماماً، كان ذلك أشبه بمعجزة، فربما كان حديثي انعكاساً عما كان حقيقة يشعر به برغمان وما يود أن يقوله.

رأي الحضور ان من حقي كمتفرج أن أخرج من الفيلم بما يتوافق مع عالمي الداخلي والخاص، تحدث الحضور عن أشياء كثيرة جداً، عن الإيمان ونقص الإيمان، عن الطمأنينة والشعور بالمسؤولية، عن الأحلام و الواقع، وحين تتحول الأحلام إلي واقع معاش، ويتحول الواقع إلي حلم، عن محاولات برغمان إلي إزالة الحواجز بين الحلم والواقع.

قالوا إن الفيلم يطالب أن تستمر الحياة بشكل أو بآخر، أما الرمز المهيمن علي الفيلم فهو الموت نفسه، الذي يصل إلي قمة القلق في مباراة الشطرنج واستمر الحوار أياماً.

وكان هذا هو المغزي الوحيد الذي خرجت به وقتها، إنها سينما ملهمة، تثير الكثير من الحوار والجدل، سينما مختلفة تثير الكثير من التساؤلات وتبقي أعواماً في الذاكرة، السينما التي تنعش وتجدد عقل الإنسان. أما فهمها فربما يجيء مع الوقت.

واستمرت رحلتي مع انغمار برغمان لأكثر من ربع قرن شاهدت فيها معظم أفلامه الهامة وجزءاً من أفلامه القصيرة، وهي أفلام تتسم بالتعقيد والقوة التعبيرية وتقدم حلولاً غير تقليدية لمشكلات السرد السينمائي، سينما تجعلك تبحث أكثر وتكتشف أكثر، يتحرك برغمان بحرية شديدة في عوالم أحلامه وهواجسه دون أن يفرض رأياً أو يقدم شروحاً.

ومن الممكن تماماً أن تخرج من الفيلم لأيام وأنت تتساءل عن المغزي المطروح دون أن تتوصل لشيء، وكثيراً ما صرح برغمان بأنه لم يفهم تلك الأفلام التي قام بصنعها. عندما أشاهد الأفلام التي قمت بصنعها فإن جسمي كله يصاب بالحمي والاحمرار .

ولد أرنست انجمار برغمان في عام 1918 في بلدة أوبسالا السويدية، وكان والده قسيساً، فعاش طفولة جافة كلها قيود انعكست علي أعماله وتصرفاته.

وهو مخرج وكاتب سينما ومسرح وراديو وتلفزيون، ويعتبر واحداً من أهم رموز السينما في العالم، حصل علي شهرة عالمية بعد اخراجه لفيلم الختم السابع عام 1956 ونال عنه جائزة التحكيم في مهرجان كان السينمائي عام 1957 .

الراية القطرية في

08.08.2007

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2016)