كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

«بين الجدران» فيلم الفرنسي لوران كانتيه

فـراديـس المعـرفـة الزائفـة

زياد الخزاعي

مهرجان كان السينمائي الدولي الحادي والستون

   
 
 
 
 

يقول جديد المخرج الفرنسي لوران كانتيه، الذي كُرِّم عن جدارة بـ«السعفة الذهبية» في الدورة الأخيرة لمهرجان «كان» السينمائي، وهو بعنوان «بين الجدران» («القسم الدراسي» عنوانه الدولي)، السياسة من دون أن ينظّر فيها، ويقارب العرقية من دون أن يلعنها، ويداور موضوعة الطوائف من دون أن يعيّرنا بها.

المغترب والوطني

ذلك أن «القسم الدراسي» فيه بمثابة «رحم جماعي» يحوي نطف جميع عناصر المجتمع الحداثي الذي من أبرز معالمه: تآلف الوافد المغترب مع الوطني المتأصّل الجذور. فيلم كانتيه اختزال للفكرة الأبدية حول التطامن الذي يسعى السياسي إلى عرقلة نموّه ثم وأده، تارة باسم النفوذ وأخرى من محمل الانتقاص وكثيراً بهمة الإقصاء. وبما أن هذه الثلة المختارة من مراهقي أكثر الأحياء تنوّعاً في دمائها، فإنهم يكونون أنبياءها ودعاة المساواة بين قاطنيها، انطلاقاً من رومانسياتهم التي تجعل ردود أفعالهم تجاه القانون أشبه بلعبة مناكفة.

المدرسة نظام وطاعة، لكنها تتحوّل لدى صاحب «موارد بشرية» (1999) إلى ميزان عدل اجتماعي يبحث الجميع فيه عن عقد صلح دائم. الطريف أن أبواب المدارس تُغلق في وجه الطلبة لتتحوّل إلى صوامع لا علاقة لها باشتراطات الخارج. فالمدرسة صنعة أناس المستقبل، لا ينتمون إلى فئة معينة أو جنس بعينه. من هنا، فإن الشمولية التي تتوافر عليها مدارس العالم تحيلها إلى فراديس من الإيديولوجيات والمعارف والإيمانات والكثير من الشجاعة والصلافة.

عرف كانتيه أن فكرة كتاب المعلم فرانسوا بيغودو (المشارك في كتابة السيناريو) آنية وذات مساس بقطاعات مؤثرة في المجتمع الفرنسي الشديد التنوّع. لا ريب أن أحداث الضواحي والعسر الاجتماعي الذي يدفع بأعداد متزايدة من الشباب إلى الجريمة والعنف والفساد، وهي نتائج سياسات متراكمة من الاستبعاد، وجدت أصداءها في تجربة المعلم الشاب الذي تجرّأ على كتابتها وأرشفتها حتى تحقّقت مع خبرة سينمائي موهوب في نصّ سجالي حول اليفاعة والإقناع والتصبّر والمدارات.

في هذه المؤسّسة التربوية، الكلّ خاضع للتعلم: المدرّسون في مواجهة عناد الطلبة المراهقين. الأهالي في مقابل النظم الإدارية المسيّرة واللغة الناقصة. الطالبات أمام أسرارهن المكشوفة. الطلبة في مقابل تبرّمهم من فتوّتهم وتعجّلهم إلى الرجولة المبكرة. الوحيد الذي يبقى على هامش الامتحان الجماعي هو المنهاج الدراسي. هذا هو مفتاح نص بيغودو كانتيه، اذ تتحوّل القراءات اليومية إلى مواده اللغوية وإلى تلاسن حيوي يعبر حاجز الفهم إلى التشكيك بقناعات الصبية للاستفادة من حقائقها ومعلوماتها. ليس كونهم ينتمون الى خلفيات أحطّ اعتباراً وأقلّ ذكاء، بل إن ما يكتشفه المعلم فرانسوا وسع حججهم المتراكمة بسبب وقوفهم وعائلاتهم الوافدة عند حافة مجتمع سريع وديناميكي. فهم يعرفون أن قلّة منهم تفلح في الوصول إلى منصب كبير ما، وأن كثيرين منهم يزاولون مهناً تُفرض عليهم. لذا، فإن غالبية الحوارات المرتجلة التي يقودها فرانسوا (أداء فطري مشع للكاتب بيغودو) معهم تبدأ من الإعارة الكُتُبية لتتوسّع إلى قلب الهمّ العائلي وأخلاقيات العائلة وأعرافها وانتماءاتها.

حالات اجتماعية

نُقابل حيوات غير مقطوعة الجذور لكنها لا تكشف عن بيوتها ومحيطات عيشها وديكورات غرفها. المخرج كانتيه غير مهتم بالصورة النمطية لعرض الحالات الاجتماعية لطلبته. ان قوتهم الدرامية الدرامية لديه تتوافر بين الجدران حيث إنهم يحققون وحدة ذهنية باهرة على الرغم من تضارب شخصياتها ومستويات تسببها للمتاعب في داخل الحصة الدراسية: الصيني ويي (ويي هوانغ) يعاني قصور لغته الفرنسية على الرغم من ذكائه الطاغي، ويواجه محنة أكبر من تحقيق اختراق علمي، إذ إن والديه عرضة للتسفير لانتفاء حقّ إقامتهما في فرنسا. المالي سليمان أقلّ اهتماماً بحرفة التعلّم، نعرف لاحقاً أن والده أجبره على التسجيل في دراسة فرنسية ليضمن مستقبلاً وشهادة وحرفة. هذا الشاب الأخرق يقود انتفاضة قصيرة العمر، ويطيل لسانه على معلّمه بالاستفسار علناً إن كان مثلياً. وتكون المواجهة التي تقوده إلى هيجان لا يتماشى وسنّه، سببها التضاحك على وشم يصر على أنه سورة قرآنية، فيما يرى زملاؤه تعنّتاً على إعلان هويته الإسلامية. وعندما يتراكب غمزه على أستاذه وإحساسه باستهانة الآخرين به، يشتم سليمان معلّمه ويتسبب بأذى زميلته. من هنا، يفتح الثنائي كانتيه بيغودو حكايتهما على الاحتمال الأكثر خطورة: العقاب.

في فيلم «إلى أستاذي، مع حبي» (1967) لجيمس كالافيل، يقع المدرّس الزنجي مارك (سيدني بواتيه) في فخّ سحنته وهو يدرِّس فتياناً وفتيات بيضاً بريطانيين في مدرسة تقع في الحي الشرقي من لندن (قاطنوه من بقايا الكوكني). بيد أن حكمته تحول عصابية طالب عنصري إلى جبل من الخزي. هذا العمل الذي يقارب «بين الجدران» لكنه لا يسايره، كانت ريادته مقلوبة: الوافد متسيّداً والأصلي راضخاً. وعليه، فإن خطابه المفعم بالدعوة الى التآلف العرقي سبّب آنذاك رجّة أخلاقية معتبرة في أوساط المحافظين. قد يفوق «بين الجدران» نظيره في وسع فطنته، إلاّ أنه من الجلي خسارته رهانه المسبق في ضمان تسبّبه بحراك اجتماعي في فرنسا نيكولا ساركوزي. فالعقاب كمبدأ يتحوّل إلى مناورة للحفاظ على الاعتبار وليس وسيلة تقويم كما هو بديهي. الزنجي بواتيه لن يعاقب طالبه بقوانين المدرسة بل عبر قبضته في مباراة ملاكمة. أما فرانسوا فيسعى إلى كتابة شهادته التي تبقى ناقصة أمام قوّة حجة طلبته. فما تحايل على ذكره هو السّبة المتخاتلة باللفظ لـ«عاهرة» التي نعت بها طالبتين نزقتين: أزميرالدا ذات الأصول الشمال أفريقية (إزميرالدا أورتاني) السليطة اللسان التي لن تتوانى عن ردّ الصاع بـ«أتمنى أن أصبح شرطية لأعاقبك حينما تنعتني بعاهرة»، وخومبا (راشيل روغويليير) الأفريقية ذات المزاج العكر التي تتحوّل الى وحش كي تردّ اعتبارها.

عنصرية واستهانة

في المشاهد الافتتاحية، يرصد المخرج كانتيه (ولد في العام 1961 وأنجز أول أعماله التلفزيونية «الدمويات» في العام 1997) معلميه الجدد الذي يواجهون رهانات يومية عصية مع «الخليط الآدمي»، وفي المشاهد اللاحقة لاجتماعاتهم، يصوّب الفيلم سهامه القاسية ضد نماذج منهم تخفي تحت رداء تأدبها وأوروبيتها كماً من العنصرية والاستهانة وقطع الأمل بكائنات لا رجاء علمياً فيها. مَنْ الأسبق: سمعة المدرسة وإدارتها أم كرامة الطالب وحقّه في التعلّم؟ هذا السؤال الجارح يجيب عنه بيغودو بسطوة النظام المعمول به ضمن أسوار المدرسة: يُطرد سليمان (في مشهد الاستماع الأول مع المدير، تحاول الأم بملابسها الأفريقية التقليدية أن تمدح طيبة الابن، غير أن السواحلية لا تنفع للاقناع، وفي الثاني تفاجئ الجميع بصمت تقطعه بجملة فرنسية: «سيداتي سادتي، شكراً لكم»، وهو مشهد مفعهم بتهكّمه العرقي) بعد أن يغير فرانسوا بتواطؤ من المدير شديد الفرنسية ويفلت من عقابه الإداري. الصبيتان ومعهما الشلة يكونون على موعد حاسم للأخذ بالثأر الذي يعتمد بالكامل على تقابل حواري جارح وسط ساحة المدرسة. يُحقّق فرانسوا لاحقاً تطهّره من إثمه تجاه سليمان بكتابة روايته «بين الجدران»، فيما يختار صاحب «في اتجاه الجنوب» (2005) الانتصار بأي ثمن للجماعية حين يختم فيلمه بلعبة كرة قدم مشتركة يتنافس فيها الأساتذة مع طلبتهم، وهو ما يذكر بثيمة فيلم المخرج الأميركي جون أن. سميث «عقول خطرة» (1995) حيث تجتهد ميشيل بفايفير في تطويع طلبتها العرقيين الغارقين بالمخدرات والأبناء غير الشرعيين ليقرأوا في النهاية أشعار ديلان توماس ويردّدوا أغاني بوب ديلان، قبل أن تقرّر البقاء في المدرسة الصاخبة.

)لندن(

السفير اللبنانية في 5 يونيو 2008

 
 

زيـاد الـخـزاعـي مـقـوّمـاً الـدورة الأخيرة لـ"مـهـرجـان كـانّ" من نقادّها إلى أفلامها:

عصب اقتصادي يغني المدينة الكسولة ويُظهر عدم ارتهان السينما إلى وسيط آخر.... مهووسو التخمينات صرفوا جهودهم في قراءة الغيب متناسين أن يشاهدوا لأفلام

هوفيك حبشيان

انتهت الدورة الحادية والستون من "مهرجان كانّ"، لكن لم ينتهِ بعدُ الحديث عنها وعن الخارج منها من أفكار وأفلام وجوائز جاءت كالعادة مرضية لبعضهم ومثيرة للامتعاض لبعضهم الآخر. المهرجان، عدا انه حصن منيع أمام "نقد النقّاد"، فهو كذلك المهرجان الذي يظل حاضراً سنة كاملة من بعد انعقاد دورته، أقلّه من خلال الافلام التي تُعرَض تباعاً في الصالات العالمية. وله ما يملأ جعبتنا على مدار الاثني عشر شهراً التي تسبق قيام الدورة التالية. وكثيراً ما يتيح خروج هذه الافلام الى دور العرض قراءة متأنية ومدروسة لبعض من هذه الإنتاجات التي تتيه وسط كمّ هائل من الاغراءات خلال اقتراحها على جمهرة المهرجان. فإما تظلم وإما يوجّه اليها مديح يكون أحياناً في غير محلّه، تأكيداً أن المهرجانات، في غالبيتها الساحقة، لم تستطع بعد أن تكون المكان الامثل للمشاهدة. للناقد السينمائي العراقي المقيم في لندن زياد الخزاعي الذي يتابع نشاطات "مهرجان كانّ" منذ سنوات طويلة ويعرف جيداً آلية عمله، كلامٌ آخر في مستوى أفلام هذه السنة والذي تم وصفه بالمتردي، مقارنة بما كان عليه البرنامج في الاعوام الفائتة. رأيه هذا يتأتى من موقع المتخصص الحريص على مشاهدة أكبر قدر ممكن من الافلام، للعثور على الرابط بينها من حيث المستوى المضموني والشكلي، خشية الخروج باستنتاجات سريعة وأحكام مطلقة. لذا، كانت العودة الى كانّ ضرورية، وان عبر طرق جانبية وملتوية، للتحليل والتأمل في "ما حصل"، وذلك بعدما "راحت السكرة وجاءت الفكرة".

 كيف تقوّم الدورة الحادية والستين من "مهرجان كانّ" السينمائي، التي قيل عنها انها باهتة، وما أبرز هناتها في تقديرك؟

- هي الاقوى في اختياراتها منذ سنوات. وشخصياً، لا أحسب التقويم العام للمهرجانات على أساس عروضها فحسب، فهذا أمر بالغ التخاتل انطلاقاً من كبوات الأسماء الكبيرة التي في أحايين يغافلها ابتكار تقديم نص يُرضي الجميع. ما أنا معني به بالنسبة الى مهرجانات السينما العريقة هو قدرتها على توكيد أن السينما فنّ لا يرتهن الى "ميديم" (وسيط) آخر جديد، بل يستوعبها ويطوّعها. فسابقاً تمّ نعيّها بسبب التلفزيون، وكرّروها عندما ظهر صندوق الفيديو الاسود، ولاحقاً الاسطوانة المدمجة، وأخيراً شبكة الانترنت وأحفادها الجدد.

كلّ مهرجان في التقدير العام هو سلة عروض. والحيلة الناجعة في نقله نحو مسابر اخرى تكمن في تحصينه بـ"التيارية" ونخب التجديد والافلام ذات الروحية الانقلابية على السائد السينمائي. ولا مهرجان آخر مثل "كانّ" يستأهل مثل هذه التزكية التاريخية. فقياداته وضعت نصب أعينها ان تكون هناك قفزات ابداعية تشكل صيرورات سينمائية تغيّر المفاهيم وتكرّس مفاهيم متجددة. وليس أبعد من نجاحه في دعم موجات جديدة اوروبية عُدّت انتفاضات حاسمة في تواريخ سينماها، آخرها الهرج الذي أصاب الجميع مع دستور "دوغما 95".

لو افترضنا ان هذا التيار أُعلن في البندقية او برلين، لما كان حصد كل هذه الجعجعة وضجيجها الذي وصل حتى السينما المستقلة الاميركية! "كانّ" هو الوحيد اسند ظهره الى الافلام المنجزة بواسطة كاميرات الديجيتال انطلاقاً من وعيه أنه وسيط حداثي لا يمكن انكاره أو تسفيهه. لذا فإن الأفلام الانقلابية في مفاهيم السرد والتقنية السينمائيين لجهابذة من امثال الروسي الكسندر سوخوروف والايراني عباس كياروستامي والتركي نوري بيلجي جيلان والدانماركي لارس فون ترير وغيرهم الكثير، مرهونة بنجاحاتها بسبب "مهرجان كانّ" بالذات. وهذه النخب السينمائية تجد موئلها ضمن التعقيد الذي صنعه "كانّ" لنفسه، والسند المرجعي الذي فرضه على الجميع. فما معنى ان يُطلق صحافيون عابرون بامبراطورية سينمائية نكاياتهم الخاسرة في أن فيها هنّات؟ هل هو فشل انطباعاتهم في ان يكونوا جزءاً من فاعلياتها، وبقاؤهم مراقبين على رغم اعوام ارتيادهم الطويلة الى الـ"كروازيت"؟

كل مهرجان سينمائي في العالم تابع للمنجز السينمائي الدولي والاستوديوات التي توفره، والمنتجين النبيهين الذين يدعمون هذا النص او ذاك. وما قوة دورة ما لمهرجان ما الاّ اذا كان مرجعها الاول نجاح ادارته في استقطاب المهم والمميز. تمتع "كان" على الدوام بحظوظه وسطوته في إغراء الجميع بما فيهم هوليوود التي ترضخ كل عام لبهرجته وترفع اللافتات العملاقة لصنيعها التجاري من دون ان تلقى اعتراضاً.

المأخذ الرئيسي (لا أحبذ وصف الهنّات) في دورة هذه السنة، يكمن في تقويمات بعض المسؤولين وتقديراتهم لافلام معينة واسماء مخرجين بالذات لتلوين هذه الخانة او تلك، مقللين من حظوظ مشاركتها في المسابقة الرسمية التي يعدّها الكثيرون أساس المهرجان. وهذا في رأيي جزء من المناورة في ضخ عناوين تُكبّر من قوة الخانات تلك وترضي مناصريها من طرف آخر. فليس الكل في "كان" مرتهناً الى المسابقة فحسب.

 عموماً، هل المهرجانات مسؤولة عن تردي مستوى الافلام المعروضة؟

- اذا كنت تقصد إداراتها، فنعم. وهذه ظاهرة تمس عصب تنظيمها، ليس لدى الآخر فقط. فتمعّن في كثرة المرتزقة الذين يديرون مهرجانات العرب. تساؤلي هو: مَنْ الذي يجلب شخصاً أمياً الى أن يتبوأ منصباً عالياً في مهرجان ما، ويفرض ذائقته المتهافتة على كمّ من البشر؟ المهرجانات لا علاقة لها بالتردي، فهي ظاهرة مرتبطة بالتسهيل والعجالات، اضافة الى قصر الهمة والنظر الذي يقود اشباه المخرجين الى ضخ أعمالهم في مهرجانات تتوالد من دون حسيب. لا أؤمن ان هناك مهرجاناً يولّد سينما سيئة، فاذا كانت الارادات النافذة في هذا البلد او ذاك تسعى بجدية كاملة الى نصرة صناعتها السينمائية، فلا بدّ من وجود موهوبين يسترعون الاهتمام. المشكلة تكمن في سعي منظّمي اي مهرجان الى تكريس ذائقة سينمائية تتشكل عناصرها تباعاً وبتجذر ثقافي وسياسي وايديولوجي.

 مَن هي الاسماء التي خذلتك أكثر من غيرها، المكرّسة أم الشابة؟

- لا أمتحن الخذلان في المنجز السينمائي. فدائماً هناك نظرات وتمعنات قد تفلت من بصائرنا لهذا الفيلم او ذاك. ولا ننسى ان كثرة عروض مهرجان ما، لا تتيح الاّ للمحتالين فرصة التشكي من الرداءات التي تصادفهم. فهؤلاء متعجلو انطباعات، يظنون ان آراءهم مقروءة. ما امتحنته بجد في دورة "كانّ" لهذه السنة، هو كمية الافكار الكبيرة التي تنقص سينمانا العربية، وتلك الروحية المنطلقة في تقنياتها وخطاباتها من دون ان نغفل شجاعة آرائها في التحامل على القهر والتشوه الاخلاقي الذي يعصف بنا أينما حللنا. وكلها غائبة عن صنّاع السينما العرب الذين يعانون بخل مؤسساتهم وفساد اداراتها.

 يتضمّن فيلم كانتيه، "بين الجدران" الحائز "السعفة الذهب"، حكماً، ويحض على الاندماج مع الثقافة الفرنسية. في بلد مثل فرنسا وفي عهد مثل عهد ساركوزي، ما نسبة احتمال أن تكون "السعفة" سياسية؟

- جوائز المهرجانات كلها سياسية بشكل او بآخر. وهي امتداد لسياسة المنجز السينمائي نفسه. أليس "روكي" مسيساً؟ أليست الـ"أوسكار" التي حازها مسيسة بدورها؟ هذه ليست النقطة التي دارت حول "بين الجدران"، فهو عمل باهر في تلقائيته، وايقاعيته التي امتازت بحيوية عالية النبرة وغير معهودة. إنه فيلم مغاير عن صنيع السينما الفرنسية السائدة وإصرارها على تسفيه القضايا الاجتماعية الكبرى. عمل كانتيه يقارب في رأيي الجماعية المتفردة في عمل زميله عبد اللطيف كشاش "البذرة والبغل"، وهما في مقاربتهما للانقلابات السياسية الهادئة في فرنسا، يضعان السؤال المحرج حول العنصرية والطائفية والتكفيرية الاجتماعية في مقابل الشعار الثلاثي للجمهورية [حرية، مساواة، أخوّة]. وكلاهما لا يلعن السياسة او فاعلياتها بل يحرض على مساءلتهما كما فعل بول هاغيز في رائعته

"صدمة".

 كان شون بنّ قد صرّح لصحيفة "لو موند" أنه لن يختار فيلم "السعفة" كما يختار أعضاء اكاديمية الـ"أوسكار" الفيلم الفائز. وكرر مقولة لديفيد لينش، ذات مرة، حين ترأس لجنة التحكيم: "لسنا نحن من نختار الافلام، بل هي التي تختارنا". هل تعتقد انه التزم ما قاله، أم انه مجرد كلام. وفي رأيك، هل كان "بين الجدران" أكثر الافلام استحقاقاً لـ"السعفة"؟ وما الذي قد يكون نال اعجاب شون بن فيه؟

- قول لينش حكيم. وخليفته بنّ لا يخلو من فطنة. فصاحب "في البرية" اختار عن حق، ومعه أعضاء لجنة التحكيم، النص الاكثر سجالية ضمن بقية الأفلام العشرين. وهذا الانتصار لعمل كانتيه يُسقط الاعتبار الضمني لمهووسي التخمينات الذين صرفوا جهودهم في قراءة الغيب متناسين ان "يشاهدوا" الافلام ويقرأوها بروية، فتورطوا بخيباتهم مرّة بعد أخرى. "بين الجدران" يغاير الافلام الاخرى في المسابقة كونه يملك قوله الانساني الذي يخاطب الجميع اينما يكونوا. فالأولاد المجتمعون في الحصة الدراسية هم وجوه اعتبارية لمحن اجتماعية في صيروراتها الاولى. هم غير مكملين لعائلاتهم وخلفياتها، بل ارادات في طور التشكل الجمعي. من هنا، سنفهم ان عنصرياتهم لا تتوجه الى البعض بل الى المؤسسة الحاكمة أو المسيرة. وهذه عناصر توافرت في العمل الاخير لشون بنّ، "في البرية"، الذي نقابل فيه الشاب اليافع الذي يلغي عبوديته المقبلة لـ"السيستم" وينتصر للطبيعة كبديل من الارتهان لقيود العائلة والعمل والضرائب وغيرها. ابطال كانتيه اليافعون مثل بطل بنّ، لا يرتهنون لواقع حال ثابت، فهم جيل مرن وديناميكي. الامر الوحيد الذي يعرقل تعجلهم، هو ان قابلياتهم في فهم القانون لا تزال تعاني سذاجة توصلهم في احايين كثيرة الى الانتقام: تتمثل في حالة كانتيه ورطة المدرسة بـ"الشتيمة" والمجلس التأديبي، ولدى شون بنّ بموت بطله لمضغه نبتة سامة بعدما اضناه الجوع.

 اذاً، هل شكلت لائحة الجوائز مفاجأة بالنسبة اليك؟

- هذا سؤال برسم مهووسي التخمينات الذين لم يسعفهم الغيب كي يحققوا ولو لمرّة واحدة ضربة صواب. لائحة الجوائز في كل مهرجان هي في محصلتها الختامية مديح للسينما أولاً، وتعبير عن ذائقة قد تقود الى قنوات جديدة في السوق العالمي. الطريف في مهرجانات اوروبا الكبيرة أن الصحافة اليومية تختار من تشتهي لتصطدم بقرار اللجنة المحكمة التي فضلت ان تدعم عنواناً لم يكن في الحسبان. وهذا ما حدث مع الاخوين داردين وشريطهما "روزيتا" الذي عُرض في اليوم الاخير من "مهرجان كانّ"، فيما غالبية الصحافيين حزموا حقائبهم وغادروا! لعل "بين الجدران" ساير الفيلم السابق في مفاجأة اختياره من جانب فريق شون بنّ. بيد ان ما هو اهم من التفضيلات، يكمن في الجمهرة السينمائية التي تُثبت شجاعة صانعيها وتألق خياراتها ورقي خطاباتها. جوائز هذه السنة متوازنة كالعادة (...). ولنقل حقاً: كل مَن كان في المهرجان ارتوى على طريقته. الصحافيون الذين ينسلّون من العروض بعد اقل من نصف ساعتها الاولى، وجدوا ما يتبرمون به. ومثلهم مجانين المشاهدة الذين يتقافزون من عرض الى آخر، وجدوا ضالاتهم الكثيرة ليثيروا غبار مساجلات تحمل ألقاً متفجراً. اما اصحاب النميمة ومتحيّنو الفرص فانشغلوا كالعادة في صفقات وهمية وإمرار اكاذيب. أما الاجمل فإن المرء سيقف مدهوشاً امام حكايات افلام المسابقة (...). كل هذه الحكايات لا تحتاج الى مقايسات اشخاص يعتبرون مشاهدتها تحصيلا حاصلا، اما اكتشاف فهمها فهو مغيّب بسبب رعوناتهم.

 هل ترى أن خيارات من يُعرف بـ"مشاكس السينما الاميركية" كانت جريئة، أم بقيت في دائرة المحاصصة، الصحبة والزمالة والتسويات؟

- نحن اصحاب شكوك مزمنة. نرى الصحبة عاراً والزمالة سُبّة والتسويات ذنباً. لا اعرف إن كانت لجان التحكيم في مهرجانات العالم تداري موقعها بالصيغة التي تتوافر عليها في "كانّ"، أي المسؤولية في صناعة تواريخ. هكذا سيكون الشريط الروماني "أربعة اشهر، ثلاثة اسابيع ويومان" كسبا للقول السينمائي العائلي في "سعفة" العام الماضي، ومثله "الطفل" للاخوين داردين (2005)، و"غرفة الابن" لناني موريتي (2001). انتظرنا حتى 1997 كي يكون عباس كياروستامي و"طعم الكرز" حاضرا ليغيّر رؤية العالم المحكوم بالمخاوف من ان كل الايرانيين يعتمرون العمائم. عندما عرض البريطاني كين لوتش "الرياح التي هزت الشعير" ("سعفة" 2006) كان السبّاق في وضع الوجع الايرلندي على شاشات "مهرجان كانّ". ولن يخبو رعب "فيل" ("سعفة" 2003) لغاس فان سانت عن مجزرة المدرسة المنكوبة، و"فهرنهايت 9/11" ("سعفة" 2004) عن المجزرة الكبرى على أيدي فرسان عقيدة بوش. وسيرقص الجميع مع كوميديا امير كوستوريتسا في "أندرغراوند" ("سعفة" 1995). وسنعي العالم بعين اكثر قدرية عبر الكبيرين تيو أنغلوبولوس و"الابدية ويوم" ("سعفة" 1998) وجاين كامبيون و"درس البيانو" ("سعفة" 1993). وسيغيّر كوانتن تارانتينو تاريخ الفيلم الشعبي الاميركي من خلال "بالب فيكشن"("سعفة" 1994)، والقائمة تمتد على مدى الستين عاماً (هناك واحدة ناقصة بسبب حوادث أيار 1968). ما سأصر على معرفته اننا في السنة المقبلة سنجالس افلاما أخرى لقامات، والى جانبها اصوات جديدة، لنتيقن ان الصورة لا تزال في الصدارة. ويبقى التفكير في المحاصصات والتسويات لأهلها.

 في رأيك، هل بهتان الدورة سينعكس ايجاباً على دورة البندقية المقبلة؟

- "كانّ" لا يشبه نظيريه في البندقية وبرلين. فكل من هذه المهرجانات عالم وصيغة وتبرير ونظام وجمهور. الاول يستمد قوته من اختياراته واستقطابه للجميع. الثاني محصور في الخيط الرملي الذي يحاصره الهور المائي، فيحوله الى شبه منفى سينمائي يزخر بالعروض من دون قوة سوق. الثالث ابن نجيب لوحدة مدينة كانت مقسمة، وهو الفريد بجمهوره الشعبي الموحد، اذ ان عروضه مفتوحة بقدر لا حدود لها لكل من يملك بطاقة دخول. اما اهل الصنعة فلهم بناياتهم ومقاهيهم وصفقاتهم (...). "كان" هرج، البندقية تأمّل، برلين سباق مشاهدة وتعرّف بين بشر (...).

 القليل الذي عُرض من السينما العربية في "مهرجان كانّ" لم يرفع الرأس؟ ما كانت ابرز علاته؟ هناك أيضاً "مصيبة سينمائية" عُرضت على أراضي كانّ وليس في المهرجان اسمها "ليلة البيبي دول"...

- اشكالية السينما العربية في "كانّ" هي من ذنوبنا الخاصة. المعضلة متراكبة بين الانتاج التقليدي المتهافت والفورة المصطنعة التي بدأت بها مهرجانات وليدة تسبق العطايا قبل تأسيس مشروعية انتاجية. اضافة الى ذلك، فإن عمل العرب فردي، الامر الذي يُكثر من خسائرهم داخل المنظومة السينمائية الدولية. الأكثر اذلالاً ان نرى شريطاً واحدا خلال السنوات الماضية يحقق اختراقاً ميموناً، واعني باكورة نادين لبكي "سكّر بنات"، في وقت تأتي أفلام العرب الى كانّ لتُعرض في صالات مؤجرة غالبية جمهورها من الاصدقاء والخلاّن.

الى هذا، فإن مؤسسات الانتاج وشركاته وما يتبعها من مهرجانات سينما عربية، تتوارى بسرعة لأن مسيّرها موظف لا يرى في تكثيف جهده ما يستحق عناءه. هناك قلة من الاشخاص الوصوليين يرون ان فرصاً للانتفاع يُمرّون عبرها مزاعم كثيرة تنتهي وتتلاشى بعد أيام. الشيء الأكثر مدعاة للحسرة ان السينما العربية لا تملك عقولاً اعلامية تسليعية او موظفي علاقات عامة. من يتوافر منهم يعاني من أنفة غبية واستعبادا مسبقا، وهؤلاء يرون في العلاقة المكتسبة عبئا قصير المدى، عليه ان ينتظر السنة المقبلة كي يتفاعل. النماذج القليلة ذات النباهة لا تستقوي على اكاذيب مرتزقة العمل الفضائي ومنظمي حفلات الاستقبال البائخة.

تسألني عن "ليلة البيبي دول" لعادل اديب، فهذا نموذج فريد للتهافت. وشخصياً، دهشت حتى من تعليقات انصار منتجه عماد الدين اديب الذين وجدوا فيه عاراً مزمناً في خطابه السياسي وفذلكاته الفنية ونكاته السمجة. هذا العمل هو صيغة متطورة للغباء السينمائي الذي يرغم السياسة على ان تصبح مادة تبرر الدعارة وتلعن الجميع.

 الفيلم الاسرائيلي "فالس مع بشير" أدهش الجميع تقريباً. لكن ثمة حديث حول عرضه في البلدان العربية. هل أنت مع عرضه أم لا؟

- ولماذا هذا السعي الى عرضه عربياً؟ الا يكفينا "البيبي دول" كي نزيد من مهانتنا السينمائية؟! قضية العروض الاسرائيلية ليست جديدة. فالكل طبّل وزمّر في الدورة الماضية وساجل في حظوظ شريط "العرض الأخير" لعيران ريكليس. وأرى في هذا اختزالاً مشبوهاً يدافع عن الامكان من دون التوقف عند الدم الذي لا يزال يتدفق يومياً في الاراضي الفلسطينية. شريط "فالس مع بشير" خطير لأنه يتهم الاثم الاسرائيلي وذاكرته القاصرة عن فهم مجزرة نفّذها لبنانيون بتواطؤ اسرائيلي، بيد ان التجربة الخاصة للمخرج آري فولمان خلال الحرب تجعل من هذه الرسوم المتحركة أشبه بمانيفستو يضع الدم على ايدي الجميع عرباً واسرائيليين. وبما انه غير معني الى حدّ بعيد في اعادة رسم الاتهام الشامل الداخلي، يسعى العمل الباهر الى اختزاله بالشلّة التي وقفت بعيداً عند حافة المجزرة.

 على الصعيد التنظيمي، ممّ يشكو "مهرجان كانّ" اليوم؟

- الدويلة السينمائية في "كانّ" تضخمت وتعقدت. والقادمون كل عام يواجهون مستويات تتغير وأخرى تغيب وقوانين تُفرض واساليب من التعامل تصاب بالرعونة، وانتهارات واهانات مؤدبة. فهذا مهرجان مصاب بفوبيا الامن. على ضيفه ان يتعامل معه بأعصاب من جليد. اما ما يُعنى بالقالب الاداري فهناك حماسات للتجديد، الامر الذي يصيب بسهامه مواضع تواجه الاعتراض دائماً. فهناك فريق يرى ان التجارية غلبت في العشرية الاخيرة على ما كان يفترض به أن يكون "ابا المهرجانات" الذي يجب ان يدافع عن السينما في أرقى درجات وعي تياراتها. فيما يحاجج آخرون ان التجارية ليست عاراً ما دامت تعكس وعياً مقابلاً وشعبوياً. في المحصلة العامة ان المنتفع من كانّ هم أهلها في المقام الاول، فهذا عصب اقتصادي لا فكاك منه يغني المدينة الكسولة ويبرر غضّ قاطنيها انظارهم عن الجروح التي يتسبب بها الوافدون الى محيط الـ"كروازيت" وأزقته.

 (hauvick.habechian@annahar.com.lb )

النهار اللبنانية في 5 يونيو 2008

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2017)