أفاتار
Avatar:
نقلة نوعية لهوليوود سياسياً وتقنياً
د.إبراهيم علوش
تندر المفاجآت السياسية أو الأيديولوجية في أفلام هوليوود عموماً,
خاصةً عندما يتعلق الأمر بإنتاج ضخم لاستديوهات رئيسية تكلف مئات ملايين
الدولارات. لكن فيلم أفاتار
Avatar
سيكون مفاجأة سياسية وإبداعية في آنٍ معاً حتى لأشد نقاد هوليوود تطرفاً
بيننا, وأكثرهم درايةً بقراءة الرسائل السياسية المبثوثة ما بين سطور مشاهد
أفلامها. وحتى لو بقيت تحفظاتٌ وتساؤلات أساسية لا بد من طرحها حول فيلم
أفاتار, فإنه تمكن من تسجيل نقلة نوعية على الأقل في رفع سقف هوليود
السياسي فيما تقدمه كنقد للسياسات الإمبريالية والحروب الخارجية ومنها ما
يسمى الحرب على الإرهاب.
فإذا كانت أفلام هوليوود عامةً تقوم على نقد الأشخاص السيئين كبديل
لنقد النظام ككل, وعلى إظهار قدرة النظام السياسي الأمريكي على التجدد
وتطهير نفسه بالمحصلة من السيئات من خلال جهود الأشخاص الجيدين - أبطال
الأفلام - الذين يوفر لهم النظام عاجلاً أو آجلاً فرصاً لإصلاحه من الداخل,
فإن جيمس كاميرون
James Cameron, كاتب ومخرج فيلم أفاتار, يقدم للمشاهدين هنا رؤية جديدة تكشف نزعة
الشركات عابرة القارات, أو عابرة الكواكب في هذه الحالة, لإنتاج سياسة
حربجية تستهدف السيطرة على ثروات الشعوب وتدمير كل عائق في طريقها بالقوة
أو بالاختراق الثقافي.
وهو فيلم لا يتوقف عند توصيف المشكلة, بل يتقدم بعد ذلك نحو حركة
مقاومة شعبية على كوكب آخر, والعالم الثالث في وعي معظم الغربيين عبارة عن
كواكب أخرى بعيدة أصلاً, ولا يتحرج كاميرون من تبرير استخدام السلاح في
مواجهة الإمبريالية القادمة من بعيد لتدمير الأرض والشعب ونهب الثروات,
وليعرِّف التحرير باعتباره طرداً جسدياً للقوى الغريبة من الأرض المحتلة.
فهو يضع الأمور في نصابها الصحيح سياسياً, ولا ينتهي بدعوة فارغة للتعايش
أو السلام مع المحتل أو بدعوة ليبرالية لتفهم الآخر واستيعاب ظروفه كما
عودتنا هوليود, ولا يصور الشعوب المستهدفة عنصرياً كشلل من الأغبياء
والمتخلفين.
والأهم أن الفيلم لا يقدم رسائل يهودية خفية أو علنية, على ما رأينا.
على العكس, يمكن أن نقول انه يدعم بشكل غير مباشر حق شعوب العالم الثالث
بالكفاح ضد الإمبريالية بالسلاح, ويوحي بأن نصرها ممكن رغم عدم تكافؤ ميزان
القوى. وبالنسبة لجيمس كاميرون, مخرج فيلم التيتانك
Titanic الرومانسي عام ,1997 فإن أفاتار لا بد أن يكون قد مثل نقلة نوعية حتى
بالنسبة له شخصياً... خاصة أنه أيضاً مخرج فيلم أكاذيب حقيقية
True Lies
عام ,1994 وهو فيلم معاد بشدة للعرب والمسلمين ومؤيد للعمليات الخاصة
الأمريكية الخارجية.
طبعاً ثمة ملاحظات وتساؤلات لا يمكن التغاضي عنها... وسنأتي على بعضها
لاحقاً, لكن لا بد من نبذة عن الفيلم لنضع رسالة الفيلم السياسية في سياقها
الدرامي والفني أولاً.
قصة الفيلم تدور في المستقبل, عام 2154 بالتحديد, حول شركة إدارة
تنمية الموارد التي أقامت قاعدة عسكرية على كوكب باندورا, الذي يبعد 3,4
سنة ضوئية عن الأرض, لاستخراج خامات معدن وهمي اسمه
Unobtainium
يفترض أنه سيحل مشكلة الطاقة, بعد أن تم استنزاف الشركات لموارد الطاقة
الأرضية حتى النهاية. ويجب أن يكون مشاهد الفيلم على قدرٍ عالٍ من البلادة
الذهنية كي لا يدرك أن الحديث يدور مواربةً هنا عن نفط العراق خاصة ونفط
العرب عامة!
بجميع الأحوال, باندورا في الأساطير الإغريقية هي المرأة الأولى, أي
حواء, وهو الاسم الذي يطلقه جيمس كاميرون في الفيلم على كوكب غني جداً
بالحياة النباتية والحيوانية يعيش فيه شعب النافي
Na…vi
الذي يتآلف مع الكوكب في حالة انسجام تام, وهو الشعب الذي يصبح مهدداً
بالدمار الجسدي والبيئي بسبب أطماع الشركات الأرضية بثرواته واحتقارها
لثقافته.
النافي ليسوا بشراً مئة بالمئة, بل عرقا آخرا ذا صفات جسدية مختلفة
نوعاً ما, فهم أكثر طولاً بكثير من البشر ويميل لون بشرتهم للأزرق وإلى ما
هناك. لكنه عرق عاقل ذو حس وإدراك متطور, وله منظومة أخلاقية متقدمة من أهم
ما فيها مدى احترامها للأرض والكائنات التي تعيش عليها. فالموضوعة البيئية
تمثل العمود الثاني لفيلم أفاتار بعد موضوع الإمبريالية, واحترام الفيلم
لشعب النافي متفرع من تبنيه لقضية البيئة إلى حدٍ كبير.
رغم ذلك, يصعب على مراقبي أفلام هوليود, خاصة منا نحن شعوب العالم
الثالث, أن لا يلاحظوا أن الغربيين عامة ينظرون لنا ككائنات غريبة تختلف عن
جنس البشر, ومع أن أفاتار فيلم خيال علمي, يجوز فيه ما لا يجوز في غيره,
فإن شعب النافي وكوكب باندورا يمثلان امتداداً للطريقة التي ينظر فيها
الغربيون إلينا حتى ولو قدم كاميرون شعب النافي باحترام وتقدير بالغين.
ويشار هنا أن كاميرون استعان ببرفسور لغويات كي يطور لغة خاصة لشعب
النافي هي في الواقع مزيج من اللغة الأمهرية المستخدمة في الحبشة, ولغة
الماوري للسكان الأصليين في نيوزيلندا. والواقع أن مثل هذه الجهود الخاصة
هي التي تجعل أفلام هوليود ما هي عليه. وكذلك تم استخدام علماء نبات
وأحياء, ناهيك عن خبراء البرمجة, لتطوير الأنظمة البيولوجية لكوكب باندورا.
فالأمر ليس مجرد تجميع لخيالات عشوائية... وقد صدر كتاب من 224 صفحة في
24/11/ 2009 عن التاريخ الاجتماعي والحياة البيولوجية لكوكب باندورا
الخيالي, أي قبل إطلاق الفيلم رسمياً في 18/12/2009 في الولايات المتحدة!
جو كوكب باندورا لا يستطيع البشر أن يتنفسوا فيه بشكل طبيعي, ولذلك
قامت شركة إدارة الموارد البشرية بتطوير بعض أجساد النافي من خلال الهندسة
الوراثية ليحل فيها بشرٌ محددون عن طريق برنامج اسمه أفاتار
Avatar, وهو اسم الفيلم. وهو بالأساس مصطلح من الديانة الهندوسية ينم عن
الحلول الإلهي, حسب معتقداتهم, في جسد إنسان أو حيوان, والله أعلم.
وتدير دكتورة علم نبات اسمها غريس أوغسطين (الممثلة سغورني ويفر)
برنامج أفاتار في شركة إدارة الموارد البشرية التي تسعى لاستعمار كوكب
باندورا, لكنها تسعى للتفاهم مع النافي, حتى أنها أسست لهم مدرسة لتعليم
اللغة الإنجليزية, كما أنها مسحورة بالبيئة الطبيعية لباندورا التي يبدو
أنها تهمها أكثر بكثير من تعدين موارد الطاقة فيه. وهنا تنشأ أجندات مختلفة
ما بين المشاركين ببرنامج أفاتار, الذين يحلون على كوكب باندورا وشعب
النافي بأجساد نافيين, وعلى رأسهم بطل الفيلم جيك سلي (الممثل سام
ويزينغتون), وما بين القائمين على شركة إدارة الموارد البشرية بشقيها
العسكري والاقتصادي.
الشق العسكري من شركة إدارة الموارد البشرية يتألف طبعاً من قطيع من
المرتزقة العاملين كجيش للشركة, وجلهم من العسكريين الأمريكيين السابقين,
ويصعب بشدة هنا أن لا يفكر المرء بشركة بلاووتر وما يعادلها في العراق
وأفغانستان وغيرهما.
الحسنات يذهبن السيئات لكن ذلك يفترض معرفة التمييز ما بين الحسنات
والسيئات ابتداءً. والخلل الرئيسي في الفيلم يكمن في طريقة تصوير الأمريكي
الجيد, الأبيض, الذي يندمج في الشعب الأصلي, النافي, إلى درجة تقمص جسده
ولغته وثقافته, والذي يلعب في نفس الوقت دور المستشرق والمعلم والجمعية
الخيرية ومركز الدراسات, بدعم من شركة إدارة الموارد الاستعمارية في
النهاية, ولكن الذي يتفهم الشعب الواقع تحت الاحتلال, ويسعى لإيصال رسالته
من خلال القنوات النظامية.
حتى بطل الفيلم جيك سلي يفترض أنه كان يلعب دور جاسوس لمصلحة الإدارة
العسكرية للشركة الاستعمارية, لكن تفاعله مع شعب النافي يوصله للتخلي عن
الولاء للبشر وللانتماء للنافي, حتى يتحول في النهاية إلى قائدٍ لهم في
المواجهة المسلحة مع شركة الموارد البشرية لتحرير باندورا. وهي ملاحظة
أساسية أخرى لا بد من إضافتها لقائمة الملاحظات على الفيلم. فجماعة
السياسية الخارجية السلمية يتمثلون بالمشاركين في برنامج أفاتار, في وزارة
الخارجية الأمريكية مثلاً, التي تعيش صراعاً تاريخياً مع وزارة الدفاع
الأمريكية, البنتاغون, ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية. ولم يتم تصوير
أي من المشاركين ببرنامج أفاتار بصورة سلبية, بل تم تصوير كل تلك المؤسسة
بشكل إيجابي, وعندما تم تهميشها, انضمت لقضية النافي, ولو أن جيمس كاميرون
تجاوز كل السقوف السياسية المألوفة هوليودياً هنا كما سبق الذكر, فالإدانة
هنا لتوجهات المجمع العسكري الصناعي الاستعمارية بعد أن سيطر على النظام
فحق التمرد عليه. الزاوية الميتة هنا هي أن المجمع العسكري الصناعي هو
امتداد طبيعي للطبقة الرأسمالية الأمريكية وليس مجرد ابنها العاق!
ولكن, لا بد من الانتباه هنا أن جيك سلي لم يقد النافي بصفته رجلاً
أبيض أو ببزته العسكرية الأمريكية, أو حتى كبشري. وهذه نقطة مهمة جداً كي
لا نظلم الفيلم. لقد قاد النافي بجسده النافي, وبعدما تغلغلت ثقافتهم في
فؤاده, وبعدما اقتنع بعدالة قضيتهم إلى حد الاستعداد للتضحية بنفسه من
أجلهم.
وهنا يعترف المخرج جيمس كاميرون بأنه تأثر بفيلم يرقص مع الذئاب
Dances with Wolves لكافن كوستنر عام ,1990 وهو من أعمق أفلامه
بالمناسبة ومن أجملها, ورسالته الأساسية يمكن تلخيصها بالكلمات التالية:
جوهر الإنسان الفرد يتمثل بهويته الثقافية.
وقد تأثر جيمس كاميرون بلا أدنى ريب أيضاً بأفلام الخيال العلمي, وعلى
رأسها فيلم المصفوفة
Matrix
الذي أبدع فكرة البرنامج الذي ينقل الإنسان من عالم إلى أخر, ناهيك عن بزات
الـ
AMP
العسكرية المستخدمة في الجزء الثالث من المصفوفة.
والحقيقة أن الإبداعات التقنية في فيلم أفاتار تستحق معالجة مستقلة,
وقد طال وقت إنتاج الفيلم سنوات حتى يتم تطوير التكنولوجيا السينمائية
القادرة على حمل فكرته. ولذلك تم تطوير كاميرات خاصة لهذا الفيلم بالذات,
كما أن شخصيات كاملة بالفيلم عبارة عن برامج حاسوب, لا شخصيات حقيقية, وهي
تتفاعل مع البشر من دون أن يشعر المرء بفرق. وللحصول على التجربة كاملة, لا
بد من مشاهدة الفيلم بثلاثة أبعاد.
طبعاً كل ذلك كلف مئات ملايين الدولارات: 237 مليون دولار حسب
الموازنة المعلنة رسمياً, وهناك من يقول أكثر بكثير. لكن مبيعات التذاكر
بلغت عالمياً خلال الأسبوع الأول فقط حوالي 417 مليون دولار فقط, منها أكثر
من 160 مليون في أمريكا الشمالية.
العرب اليوم في
29/12/2009 |