صباح، الأسطورة «الصعلوكة»
دلال البزري
ثمة أمر عجيب في الموت. انه مثل خاتمة حكاية. يطرح، عند
حدوثه، أسئلة لم تكن لترد قبله. انه الكاشف عن معنى سيرة حياة، أو الخالص
إلى استنتاجات أو عبر، لم يكن لها لتظهر لولاه. هكذا هو حال رحيل الفنانة
صباح. نعرفها قبل رحيلها، سعيدة، كريمة، مبهجة، ذات صوت يعلو الأصوات،
وأداء متفجر، وصدى بعيد يتجاوز البحر والجبال، وريبرتوار غني ومتنوع، غطى
كل الطبقات الصوتية وكل النغمات، كأنه يتنزه في بستان يضجّ بالألحان.
ولكن بعد رحيلها الآن، صار السؤال يفرض نفسه بإلحاح: لماذا
فيروز هي التي تربّعت على عرش الأغنية اللبنانية، وليس هي، صباح، التي
تكبرها بعشر سنوات، وقد توسعت في عوالم الغناء والمسرح والسينما، وبغزارة
وتنوّع لم تسبقها إليها؟ لماذا اعتُمدت فيروز، نسمعها إلزامياً عند كل طلعة
شمس في غالبية الإذاعات اللبنانية والسورية؟ نرفعها الى أبعد السماوات،
«سفيرتنا الى النجوم»، رداً على «كوكب الشرق»، أم كلثوم؟ نقدس اسمها،
ونحولها الى رمز من رموزنا الوطنية، وبنوع من العصبية تكاد تشبه عصبية
جمهور الطوائف؟ تساؤلات يحييها الموت، وهنا بعض الإجابة عليها:
صباح امرأة وحيدة، لم تعتمد على عائلة أو مؤسسة أو مجموعة،
أو حتى على رجل واحد. وبالتالي هي امرأة حرة، وعصامية أيضاً، ليست مرهونة
لمناخ، أو زعيم، أو فكرة سياسية معينة. تنقلت بين أنماط الأغاني كلها،
وأعطتها حقها. كما تنقلت بين بيروت والقاهرة، في زمن لم يسعفها كثيرا. فما
كادت تستقر كفنانة في مصر الملك فاروق، حتى جاء عبد الناصر وكانت هيمنته
التي لم تطقها، فعادت الى لبنان. وفي هذه الأثناء، كانت تتشكل نواة
الفنانين الخالدين، أو تتحطم آمالهم، بناء على طبيعة الانظمة السياسية التي
رست آنذاك، الأنظمة الما بعد استقلالية. فكان من نصيب فيروز ان يتبناها
نظام البعث السوري، فيحيي حفلاتها ومهرجاناتها، ويفرضها على إذاعاته
يومياً... فيما لم تتحمل صباح ضغوط الناصرية عليها، المباشرة وغير
المباشرة، ولا كانت ملائمة للتصورات الفنية والاخلاقية التي كانت آخذة
بالرسو وقتذاك.
وهذا الكلام ينطبق خصوصاً على صوتها وأدائها: فصباح تقف على
المسرح بقوة الطبيعة التي تتمتع بها، بفرح تستمده من أعماقها. روحها
الطليقة مصهورة بصوتها، تدعوك الى اللذة والمستقبل، تفتح لك آفاقا كانت
خجولة، أو مبعثرة. خفّة ظلها وتنوع أغنياتها وانطلاقتها تريد ان تقول لك
بأنها سعيدة على الخشبة، لأنها تحب أن تغني؛ فهي حرة، ولم يخنها في حريتها
إلا حبها للحب. فاذا ما لمحتَ حزناً في عمق طبقة من طبقاتها الصوتية، حزن
في نفس كريمة طيبّة مشرقة... حزن مثل الأمان والأمل، لا مرارة فيه ولا ثأر
ولا ندم، فهذا لأن حبها للحب لم ينفعها، إلا في أوقات متقطعة وقصيرة، في
إيجاد صنو روحها. هكذا نفهم زيجاتها العديدة؛ ليست تفلتاً أو غواية أو
دلعاً، كما يروّج أصحاب الأخلاق الحميدة، إنما بحثاً عن الحب. لا الحب
المؤسساتي، الذي يدرّ عليها مالاً وشهرة واطمئناناً؛ حب خيّب كل مرة ظنها،
ولكنه لم يصبها بالمرارة والندم، كما تصاب الزوجات العاشقات لأزواجهن
بخيانتهم لهن.
يمكن مقارنة صباح بامرأة أخرى هي داليدا، الباحثة أيضا عن
الحب الأصلي، ولكنها عاشت في حزن أبدي منذ انطلاقتها الاولى وحتى انتحارها،
تغني اللوعة والحنين والمستحيل. حمّى الحياة، جنونها بها، حمت صباح من
المرارة واليأس، وأعطتها كل هذا العمر، كل هذا التأنق، كل هذه الضحكات
المجلجلة التي يبقى صداها يرنّ في أذنك مثل ذكريات الطفولة.
على النقيض التام تقف فيروز: تأطرت فيروز ضمن المؤسسة
العائلية الموسعة، الزوج وشقيق الزوج، وبقيت في داخلها، لم تخرج منها الا
مع ابنها زياد في اغنيات كانت محاولات غير موفقة لإعطاء بعد آخر لصوتها.
تقف على المسرح، كأنها لوح من زجاج، كأنها مرغمة على الغناء. اغنياتها عن
ماض جميل متخيل، تعذبنا معها على فقدانه، وتشدّنا إليه بحسرة لا هوادة
فيها. في دراماتيكيتها ثقل وحزن، تقف وتغني كأنها لم تخلق لذلك، كأنها
مرغمة، تقوم بواجبها. فيروز هي الماضي، الذي لن يعود حتماً. ما من مستقبل
عندها سوى تكرار الحنين الموجع إلى هذا الماضي.
لا أعلم ان كانت صدف الحياة، أو ما نسميه القدر، هو الذي
صنع تلك الشخصيتين المتناقضتين، فنياً وشخصياً. أو كانت طبائع صاحباتهما هي
التي رسمت معالم طريقهما. ربما تفاعلت الإثنتَان معاً في حركة حياتية شبه
باطنية دقيقة ومعقدة، افضت الى ما صارت عليه صباح وفيروز. الاولى منطلقة،
عفوية، حرة، قبل أن تكون متحررة، تضحك وتصدح بصوتها كأنها تخاطب الجبال.
والثانية منكمشة، حزينة، منضبطة، خاضعة لقانون الإطار الذي رعاها ورفعها،
يكاد صوتها المتألم ان يستدخل أوجاعنا إلى أعمق أعماقنا.
عند هذا الحدّ، تتجمع مكونات تطويب الثانية، فيروز، المغنية
القديسة المقدسة، وإحالة الأولى، صباح، إلى صفوف خلفية، تستحق بالتأكيد
أفضل منها. فيروز، بصوتها وطلتها وقصتها واغنياتها، تناسب شعبا منذوراً
للاستشهاد والانتظار والولاء... والعذاب أيضاً. فيما صباح، لو عوملت فعلاً
كـ»أسطورة» في حياتها، أي لو فرضت على الاذاعات الصباحية والمهرجانات
الرسمية والتطويبات الفنية، لكانت ساهمت في صنع شعب لا يوالي إلا من شاركه
في صياغة مستقبله. الخلاصة ان للماضي مستقبل مع فيروز، فيما للمستقبل حاضر
مع صباح.
«الاستبلشمنت» السوري اللبناني، القومي، اليساري، الممانع،
سعى، بوعي أو من دون وعي، إلى إهمال صباح، الخفيفة، المؤيدة للسلام مع
اسرائيل، المتصابية، المزواجة؛ فكانت صعْلكتها التي ذهبت إلى أبعد حدودها
بنهايتها الفقيرة. يقابله فرض هذا «الاستبلشمنت» فيروز على آذاننا طوال
أربعة عقود من الزمن، تغني للقدس وفلسطين... كما فرض نموذجيتها؛ بحيث أصبح
من المحرمات ان يتكلم المرء عن ملَلَه من فيروز، بعدما أصبحت غالبية
أغنياتها لا تفعل شيئاً غير إحالته الى أزمنة سمعها فيها لأول مرة.
رحيل صباح ليس كأي رحيل. انا متأكدة انها الآن تسامح الجميع
على تهميشها، ليس لأنها طيبة القلب وحسب، انما أيضاً لأنها تمكنت، رغم
التهميش، من ممارسة الغناء، بصفته أكثر شيء تهواه. أي انها فنانة أصيلة، لا
شيء أهم مما تحبه. فكانت سعادتها الغامرة بهذه الحياة، وحبها الشديد لها،
وشجاعتها الفائقة في تكبّد كل المظالم، الحميمة خصوصاً، مقابل حريتها بحبها
ما تحب، ومن تحب.
صباح، بعد رحيلها، سوف تنبعث من جديد، ويصدح صوتها نحو
الأعالي، سوف نعود ونكتشفها ويكون ساعتها حكمنا عليها أرحم مما لو كانت ما
زالت على قيد الحياة. اذ لا يجب ان نغفل ان استكثارنا لسنوات عيشها
الطويلة، استكثارنا عليها غرامياتها المتأخرة وصحتها الحديد، ورفضنا الفطري
للنساء الحرات... كل هذا كان غشاء مزّقه الموت، ليعود صوت صباح المحلّق
يصدح بالوثبات المنافسة للنسمات، لتخلع ثوب الصعلكة، فيكون رحيلها هو
بمثابة عودة الحق اليها. وهي كانت تحدس ذلك؛ ما دفعها الى دعوتنا، نحن
الباقين من بعدها على هذه الأرض، إلى تحويل تشييعها إلى حفلة غناء ورقص. |