بداية ينبغي التأكيد على أن تناول الفيلم المغربي “الزين اللي فيك”
للمخرج نبيل عيوش الذي عرض ضمن تظاهرة “نصف شهر المخرجين” في
مهرجان كان السينمائي الذي اختتم مؤخرا، يجب أن ينطلق من منطلقات
فنية، تناقش الفيلم من زاوية نجاحه أو فشله في تقديم موضوعه -ولا
نقول رسالته- فلسنا من المؤمنين بضرورة أن يكون للفيلم السينمائي
“رسالة” سياسية أو أخلاقية بالضرورة.
كان (فرنسا) - ما يصلح للحكم على المواقف الاجتماعية لا يصلح للحكم
على الأعمال الفنية، فالفيلم يجب أن يعامل مثل الشعر، أي لا يجب أن
يصدر الحكم عليه طبقا لما يتضمنه من “رسالة” أو دروس أخلاقية.
الفيلم شكل من أشكال الإبداع الفني، وللفنان حرية أن يختار الأسلوب
الذي يراه للتعبير عن رؤيته الفنية، التي يمكن الحكم على مدى
توفيقها من عدمه من زاوية فنية وجمالية.
إن الجدل السائد في المغرب، بل والذي امتدّ أيضا خارج المغرب، حول
فيلم نبيل عيوش الجديد “الزين اللي فيك”، ليس جديدا، بل هو جدل
قديم يتجدد دائما مع ظهور أي عمل فني يتجاوز السائد، ويخدش سطح
الواقع الزائف الذي يميل من يعتبرون أنفسهم أوصياء عليه، إلى إخفاء
عيوبه مداراة لنواقصه ونواقصهم أيضا.
عالم الليل
تدور أحداث الفيلم بمراكش في الزمن المضارع، ويصور مخرجه عالم
الليل والدعارة والعلاقات التي تجمع بين السياح (من العرب ومن
الأجانب الأوروبيين) من ناحية، وبين الفتيات اللاتي ينجرفن لسبب أو
لآخر، إلى الاشتغال بأقدم مهنة في التاريخ.
ويعيد نبيل عيوش تجسيد ملامح تلك العلاقة وتفاصيل سهرات اللهو التي
تتضمن الرقص الخليع المثير للغرائز وتعرية الجسد واحتساء الخمور
وتدخين المخدرات، وغير ذلك من أشياء تصبغ هذه الأجواء عادة، وتدور
في الملاهي الليلية وغرف الفنادق الفخمة التي تستقبل السياح.
وتدريجيا يتركز اهتمام الفيلم على أربع فتيات، كل منهن تنتمي إلى
بيئة وخلفية اجتماعية مختلفة، لا تهم أسماؤهن، فهن مجرد نماذج
لانعدام الأمل والتهميش الاجتماعي، منهن القروية وفتاة المدينة،
المجربة التي اكتسبت خبرة في التعامل مع الزبائن، والرومانسية التي
قد تنجذب في لحظة ما إلى أحد زبائنها إلى أن تكتشف حقيقة شذوذه.
وهناك المرأة المطلقة التي تركت ابنها في رعاية أمها التي ترحب بما
تأتيها به من مال، لا تسأل عن مصدره إلى أن يصبح الأمر “حديث
الجيران”، فتتنكر لها وترفض إدخالها إلى المنزل درءا لـ”الفضيحة”،
وإلى تلك الفتاة التي يتغاضى خطيبها عما تفعله، لا يهمّه من أمرها
سوى أن تمنحه بعض المال كلما رآها. في حين تخضع امرأة أخرى لابتزاز
ضابط الشرطة الذي يهددها كلما رآها بتلفيق قضية ضدها، حتى يحصل
منها على قسط مما تكسبه من مال، وكأن الرجال تحولوا إلى قوادين، في
حين تخضع النساء للقسوة مرتين: مرة للابتزاز المباشر، ومرة أخرى
لما يتعرضن له من إيذاء واعتداء بالضرب وأقسى درجات الإهانة، على
أيدي الزبائن الذين يطالبون بكل ما يتخيلونه من أنواع المتعة مهما
بلغت من انحراف وقسوة.
الفيلم يتميز بذلك التحكم البديع في أداء مجموعة الممثلين، ومعظمهم
ممن لا خبرة سابقة لهم في التمثيل
لا شك أن نبيل عيوش مخرج حرفي موهوب ومتمكن، يعرف جيدا كيف يبني
المشهد، وكيف ينتقل من مشهد إلى آخر، وكيف ينقل التأثير العاطفي في
اللقطات القريبة للوجوه، وكيف يتحكم في الإيقاع الداخلي لكل مشهد
على حدة، وفي الإيقاع العام للفيلم.
وهو يجيد اختيار أماكن التصوير وينجح في المحافظة على الإضاءة
الملونة الزائفة والألوان الناصعة في مشاهد السهرات الصاخبة، ثم
خفضها إلى مستوى الظلال والألوان القاتمة في مشاهد اللقاء بين
المرأة وأمها مثلا. كما يضفي الكثير من اللمسات الخفيفة على الفيلم
من خلال الحوار الطبيعي التلقائي الذي يدور على ألسنة الشخصيات،
كذلك يتميز الفيلم بوجه خاص بذلك التحكم البديع في أداء مجموعة
الممثلين والممثلات، ومعظمهم ممن لا خبرة سابقة لهم في التمثيل، مع
إتقان اللهجات المختلفة، والنجاح في خلق تلك “الهارمونية” التي
تشيع في الفيلم بين الممثلين جميعا.
مشكلة السيناريو
غير أن المشكلة الرئيسية تكمن في سيناريو فيلم نبيل عيوش، الذي
يميل إلى الاستعراض، وتكرار الاستعراض، وتصوير الأجواء الصاخبة
والمحيط الذي تتحرك فيه الشخصيات، دون أن ينجح في تطوير الحبكة في
اتجاه يكشف الغطاء عن تلك الشخصيات المأزومة، ويعكس أزمتها
الحقيقية بعيدا عن الإشارات السطحية العامة، مع إهمال التعمق في
معظم الشخصيات، جانحا نحو الإثارة الشكلانية، وكأنك أمام مشاهد
خارجة من “كباريه”. وعلى حين ينطلق الفيلم من فرضية “تعرية” ما
يُمارس على النساء من “استغلال” إلاّ أنه يسقط من خلال التركيز على
أكبر كم من مشاهد العري والإثارة الجسدية والجنس المباشر بتفاصيله،
من أجل إحداث “الصدمة” البصرية، مع المغالاة في تصوير قبح الرجال،
بل وقبح النساء أيضا.
هنا يسقط الفيلم نفسه في “الاستغلال”، أي استغلال المتفرج وبيع
المناظر الملونة المثيرة له دون أن يحصل المتفرج على رؤية أعمق،
تنفذ تحت جلد الشخصيات، تجسد حالة الاغتراب الروحي والوجودي، بل
إننا في لحظات كثيرة نجد أن الفتيات يشعرن بنوع من المتعة في اللهو
واكتشاف هذا العالم، ومتعة البحث عن مكان جديد في نهاية الفيلم.
هذا ما يجعل الفيلم يبقى داخل عالم “إكزوتي” شرقي مثير للغرائز،
يكتفي بالعرض المثير المبهر، بجرأته واجترائه على المحظور، دون أن
يرتفع قط إلى مستوى الشعر الذي ينبع من بين ثنايا ذلك العالم
الساقط (سبق أن قدم فيلليني مثلا عملا مليئا بالشعر عن السقوط
والتدهور في فيلمه البديع “ساتيريكون” 1969). في الفيلم الكثير من
التعبيرات اللفظية، وكأنها محاكاة مباشرة لما يتردد في واقع هذه
البيئة التي تختلط فيها العاهرات برجال قادمين من المشرق العربي،
وكل طرف يسعى لاستغلال الطرف الآخر، مع الإسهاب والتكرار في أحاديث
العاهرات عن الرجال الذين يلتقين بهم، مع فضح عيوبهم الجنسية،
ومضافة إلى كل تفاصيل العلاقات بين العاهرات وزبائنهن، يعود السؤال
الجوهري القديم حول “معنى الواقعية في السينما”، هل هي نقل الواقع،
أم التعبير عن “رؤية” للواقع؟
فيلم نبيل عيوش يصطدم بالرقابة وأشياء أخرى
العرب/ محمد أشويكة
أعتقد أن أفظع ما يمكن أن يقوم به ناقد أو محلل هو أن يتحدث عن عمل
فني أو أدبي أو فكري لم يطلع عليه، ولكن الجدل الذي يروج حول فيلم
المخرج نبيل عيوش الجديد “الزين اللي فيك”، وبعد استعراض المشاهد
واللقطات المنشورة من الفيلم، وكذلك رصد جزء مما كتبه نقاد
وصحفيون، يجعلنا نضع ذلك ضمن السياق العام الذي صدر فيه الفيلم.
الرباط - المغرب لم يخلص بعد من قضايا ذات حساسية بالغة كقضية
الإجهاض، ومدونة القانون الجنائي، واستقالة أو إعفاء وزير ووزيرة
بسبب ما راج حول علاقتهما الشخصية، وانخراط المغرب في محاربة
الإرهاب والتطرف، والاستعداد لانتخابات عامة وشيكة، وضحالة الخطاب
السياسي في السنوات الأخيرة، فلا نعتقد أن الحديث عن مثل هذه
المواضيع مفصول عن تناول فيلم نبيل عيوش الجديد “الزين اللي فيك”.
يقول سلامة موسى في كتابه “تاريخ الفنون وأشهر الصور”: إن الانحطاط
يعتري الفنون الجميلة من جملة نواح، أولها المنع من الناحية
الدينية، والحاصل أن ما قاله ساري المفعول إلى اليوم ما دامت
أغلبية ردود الفعل المطالبة بالمنع والمحاكمة والشجب والاحتجاج،
تنم عن أيديولوجيا محافظة يغلفها الخطاب الأخلاقي ولا تبتعد عن
الاستثمار السياسي الذي يخاطب الجماهير الانتخابية ذات الحس
المجروح والمخدوش.
اللقطات التي تم نشرها لا تخلو من عنف لفظي واضح وصادم لذوي
الأحاسيس المنقادة والعواطف المنساقة وغير المتريثة، وهي تأخذ من
السينما مباشريتها لتمرير أيديولوجيا معينة.
إذن، نحن أمام أيديولوجيات متصارعة ومتصادمة، لكن المسألة الهامة
في الأمر هي قدرة السينما كفن حديث وحداثي على كشف المستور،
المهمش، واستدعاء الناس للنقاش حوله في أفق التأسيس الفعلي لأدبيات
الحوار التي من شأنها أن ترقى بالنقاش نحو أفق ديمقراطي أرحب، قد
يسمح للعقل بالاشتغال العمومي دون حجر أو ادّعاء بامتلاك الصلاحية.
أعتقد أن من يدافع عن صورة معينة للمغرب يقف به عند حافة الثبات،
فهو مجتمع إنساني متعدد ومفتوح، له رهاناته الاقتصادية التي يصعب
عزلها عن ملحقاتها، فليس هناك سياحة دون متعة، ولا يوجد اقتصاد
نظيف بالمعنى الأخلاقي، ولا يمكن فهم الجنس بمعزل عما هو اجتماعي
وأيديولوجي وديني وتربوي وسياسي لأنه مكوّن طبيعي لدى الإنسان، ولا
تستقيم الحياة دونه.
وما السكوت عنه إلاّ علامة من علامات الجرح الذاتي والجمعي الغائر،
خاصة إذا ابتعدت مقارباته عن الموضوعية، لذلك فصورة المغرب وهويته
وثوابته متحولة ومتغيرة ومتفاعلة مع محيطها ومع الأجيال المتعاقبة
لأبنائه التي تستدمج الطرائق التربوية الجديدة بأشـكال واعية أو
غير واعية.
أما من الناحية السوسيولوجية، فالمجتمع المغربي ليس طهرانيا، فيه
الصالح والطالح، الخير والشر، الطبيعي والشاذ، الظاهر والخفي، فحين
يعري فيلم “الزين اللي فيك” سوأته، ويسلط الضوء على مافيا الدعارة
المنظمة، والسياحة الجنسية، ويستثمر الحقل اللغوي الملتصق بالمجال
السوسيو- ثقافي الذي تتحرك فيه الشخوص، فلا يعدو الأمر إلّا أن
يكون محاكاة فنية للواقع مهما بالغ المخرج في نقلها، وكل محاكمة من
شأنها أن تعــــود بــنا إلى زمــــن محــاكم التــــفتيــش.
مع العلم أن صاحب الفيلم قد لا ينتبه إلى خطورة جرأته الناتجة عن
دهائه أو قلة تقديره للأمور أو قصور حساباته الأيديولوجية، التي
تحمل من الخطورة ما يدفع البعض إلى ارتكاب عنف مادي مضاد للعنف
الرمزي الصادر عن الصور الفيلمية التي يصرح البعض بأنها جارحة
لشعوره، ومستفزة لقيمه، فنشر الوعي يجب أن يراعي التدرج والتوظيف
المدروس لآليات السينما.
وهنا لا تمكن الإشارة إلى أن المشاهد واللقطات المنشورة ممطّطة
ومكرّرة، ويمكن أن نسجل أن السينما توظف الأسلوبين معا، فقد تعبر
لقطة تلميحية وحيدة أو حوار مختصر عن الموضوع، وقد تطنب فيه، ولكل
توظيف تأويل وقراءة. وها نحن اليوم أمام فورة من القراءات التي لا
تخجل من استعمال قاموس مشابه لما ورد في الفيلم، رغم اختلاف درجات
الخطاب، واستمرار لنهج المخرج الذي عهدناه في أفلامه السابقة.
لا يحلّ المنع مشكلة ولا يطور مجتمعا، وإنما يزيد من تأزيم الوضع،
فالخطوة التي أقدمت عليها وزارة الاتصال غير محسوبة، ولم تأخذ بعين
الاعتبار القواعد الشكلية الجاري بها العمل في مثل هذه القضايا، مع
العلم أن هذا لا يحمل في طياته أي قيمة ما دام الفيلم سيعرض على
شبكة الإنترنت، وسيشكل مادة تجارية دسمة للقرصنة.
ونعتقد أن ذلك العصف بالمنتج الفني في مثل هذه الصراعات يؤشر على
إثارة ما لا يمكن تصوره، خصوصا وأن المغرب تتربص به كافة أشكال
العنف الظاهرة والخفية، اللينة والسمجة، فالإدارة الحكيمة للأزمة
لا يمكنها أن تسير نحو هذا الأفق.
هكذا يكون تسريب هذه اللقطات الفيلمية التي تتوفر شبكات الفيديو
العالمية على مقاطع وصور أكثر جرأة منها حول المغرب، وهي تصور
أشخاصا واقعيين، وليس ممثلين يقصفهم المجتمع بشتى أنواع الإهانات
والأذى ودون التفرقة بين العري الطبيعي والعري الجمالي، انخرط، عن
قصد أو دونه، في خدمة أجندة داخلية وخارجية لم تفوت الفرصة
لاستثماره خارج دوائر النقاش الفني والجمالي. يدّعي بعضها حماية
المجتمع من الأخطار المحدقة به، ويتستر بعضها الآخر خلف يافطة
الحداثة، وكلا الخطابين يسقطان في التعميم والتبسيط والمغالطة
لخدمة مصالح سياسية واضحة للمحلل اليقظ، وغائبة عن عامة الناس.
والحال أن الفئة الثانية هي المستهدفة، لأنها وقود الأيديولوجيا
التي تحمل فتيل النار في يدها، فالدور التربوي أساسي هنا، لأن
الشباب دون سن الثامنة عشرة شاهدوا اللقطات وهبّوا للاستفسار
حولها، فما الفائدة من المنع؟ أليس حريّا بنا أن نسارع الزمن كي
نرقى بمنظومتنا التربوية والعلمية لتساير روح حضارة الصورة؟ |