الدين لله.. و«كان» للجميع
طارق الشناوي
هل ينحاز المهرجان إلى توجه سياسى محدد أو دولة أو دين؟ حتى لو
كانت بدايات انطلاق المهرجانات فى العالم كله شكَّلت وجها آخر
لصراع عسكرى وشيك، فإن ما دأبنا على وصفها بالقوى الناعمة مع الزمن
لم تستسلم لتلك الصراعات واستطاعت أن تمنع نفسها من الانزلاق فى
هذا المستنقع.
انطلاق مهرجان «فينسيا» كان قرارا من الديكتاتور الفاشى موسولينى
قبل الحرب العالمية الثانية، وذلك عام 1932، معبِّرا عن تحالف كتلة
«المحور» ألمانيا وإيطاليا، وكان من المفترض أن ينطلق مهرجان «كان»
فى عام ١٩٣٩ معبرا، عن توجه تحالف «الحلفاء» ضد «المحور»، وتأخَّر
سبع سنوات حتى صمتت المدافع، وفى سنوات قلائل تخلصت المهرجانات من
القيود السياسية التى بطبعها مرحلية، وقفزت فوق السور لتعبّر عن
الفن وتنحاز إلى الأجمل إبداعيًّا سواء فى اختياراتها للأفلام أو
لجان التحكيم.
ولو عدتُ إلى التحليل الرقمى طبقا لما ذكره مدير مهرجان «كان» تيرى
فريمو فإن قرابة 2000 فيلم كان مقصدها الأول هو «كان»، طبعا عندما
تتوجه إلى المهرجان يصبح الهدف هو أفلام المسابقة التى فى العادة
لا تتجاوز 19 فيلما، بدهىٌّ أن يفتح المهرجان أبوابه على كل
الاتجاهات، حتى قناعات المنظمين السياسية لا تشكل قيدا، والدليل
مثلا أن المهرجان فى السنوات الأخيرة كان كثيرا ما يستضيف، ليس فقط
الأفلام المعارضة للنظام، ولكن أيضا يستضيف المخرجين المعارضين مثل
جعفر بناهى ومحمد رسولوف، وعرض أفلامهما رغم أنهما من الناحية
القانونية صادرة ضدهما أحكام تمنعهما من ممارسة المهنة لمدة 20
عاما، وفى واحدة من الدورات رُشِّح بناهى لعضوية لجنة التحكيم،
وعندما منعته السلطات من مغادرة البلاد ظل كرسيه شاغرا وتوجهت
الأضواء إلى الكرسى فى حفلتى الافتتاح والختام، ولم يكن الموقف هنا
سياسيا بالدرجة الأولى ولكن من الممكن قراءته على نحو آخر، فهو ليس
ضد دولة إيران بقدر ما عبَّر الموقف برمّته عن انحياز مطلق إلى
الحرية.
غضبت إيران فى عهد نجاد واعتبرت أن المهرجان ينضم إلى المعارضة
ولكنها لم تمنع مخرجيها من الحضور فى أقسامه المختلفة، والدليل أن
هذا العام وفى قسم «نظرة ما» شاهدت فيلم «ناهد» الإيرانى، وهو شريط
سينمائى خارج من معطف الدولة، ولاحظت أن مخرجته عايدة بناهندا عند
تسلّمها جائزة تقديرية من لجنة التحكيم التى رأستها إيزابيللا
روسيللينى، ترتدى الحجاب ولا تصافح الرجال على المسرح، والفيلم يقع
فى إطار سينما الانتقاد الاجتماعى التى يسمح بها النظام مثل فيلم
«انفصال» للمخرج أصغر فرهادى الحاصل على «دب برلين الذهبى» وجائزة
الأوسكار لأفضل فيلم أجنبى عام 2011.
النظام لا يمانع فى الانتقاد فى هذه الحدود، إذ يتناول «ناهد» حياة
امرأة قررت أن تعيش حياتها وأن تختار مستقبلها كما تريد، فهى تزوجت
برجل مدمن وأنجبت طفلا، حائرا بين أمه وأبيه، الأب يشارك فى عصابات
«المافيا» وهى تعانى من ضائقة مالية، كثيرا ما تتعثر ولا تستطيع
دفع إيجار الشقة، وتتزوج عُرفيا بعد الطلاق برجل ليوفر لها الحد
الأدنى من الحماية الاقتصادية. والفيلم ينتقد زواج المتعة عند
الشيعة الذى يحدد زمن الزواج، وهكذا قدم المهرجان فيلما لا يُغضب
ولا يُحرج إيران ولكنه غنىٌّ بالسينما، الرهان هو الحرية، حتى
احتفاء المهرجان بثورات الربيع العربى منذ عام 2011 من الممكن أن
تراها بالأساس تأييدا للحرية.
المهرجان يعبر عن توجه يفتح طاقة من الممكن أن تُطل عليه أيضا من
زاوية الضيوف الذين يتوافدون من كل الدول، إذ يزداد عدد الإعلاميين
والصحفيين على 5 آلاف، من مختلف الجنسيات والأديان، وهكذا قرأتُ
هذا الشعار الذى تصدر الكنائس هناك والأقرب إلى قصر المهرجان مثل
«نوتردام»، كانت اليافطة تقول: «فلْنَعِشْ معًا»، وأسفلها كلمة
«عنف» ببنط صغير ووُضعت عليها علامة
«X»
ليُكتب بدلا منها ببنط أكبر كلمة «سلام»، وهذا ما تكرر فى كلمات
«فُرقة» التى صارت «وحدة» و«كراهية» التى صارت «أخوّة»، وهكذا من
الممكن أن تجد فى هذا الموقف تجسيدا حيًّا لشعار «الدين لله و(كان)
للجميع»، إذ إن المهرجان يأتى بعد حادثة مجلة «شارلى إبدو» وهو
يدرك تداعيات الحساسية التى من الممكن أن تنتاب البعض، فقررت
الكنيسة أن تقدم رسالتها على هامش المهرجان وهى تحتضن كل الضيوف
مهما تعددت الجنسيات والأعراق والأديان ليظل «كان» للجميع.
نجمنا العالمى عمر الشريف ليست له علاقة وطيدة بمهرجان «كان»، آخر
مرة رأيته قبل ست سنوات وحكى لى أنه وهو يصعد وحيدا سلم «لوميير»
على السجادة الحمراء وجد أن امرأة حسناء تتأبط ذراعه، ولم يعترض
بالطبع، ولكن بعد أن وصل إلى القاعة لم يعثر عليها، أخبره أصدقاؤه
بعدها أنها هيفاء وهبى.
وأنا ألملم أوراقى وفى طريقى للسفر من «كان»، جاء الخبر الحزين
بإعلان إصابة عمر الشريف بألزهايمر، وفى مرحلة متأخرة جدا، وصار لا
يتذكر أحدا كما قال طارق عمر الشريف فى تصريحه لإحدى المجلات
الإسبانية، وأشار إلى أنه فى البداية عندما أخبره فى يناير الماضى
برحيل فاتن سأله: فاتن مين؟ ولكن بعدها كان عمر يسأله عن فاتن، فهو
لم يدرك أنها قد رحلت.
لم تكن المرة الأولى التى يلتصق فيها اسم ألزهايمر وعمر الشريف،
فقبل نحو ثلاثة أعوام ترددت شائعة قوية تؤكد إصابته واضطرت
سكرتيرته وقتها الكاتبة الراحلة إيناس بكر إلى أن تعلن للصحافة
المصرية والعربية أنه لم يُصَب بأى مرض ولكن بحكم السن لم يعد من
السهولة أن يتذكر الحوار، ولهذا فإنه لن يقدم أى أعمال فنية جديدة.
كل من التقى الشريف فى السنوات العشر الأخيرة من السهل أن يدرك أن
ذاكرته لم تعد فى لياقتها السابقة، كثيرا ما شاهدته فى مؤتمرات
صحفية فى فينسيا والإسكندرية والدوحة، وكذلك عندما أجريت معه حوارا
قبل خمس سنوات لجريدة «الشرق الأوسط» كان الحديث عن الأفلام
المصرية القديمة لا يرضيه كثيرا، وتأتى إجابته أن الفيلم قديم جدا
وهو لا يتذكر شيئا. البعض كان يقرأ هذه الإجابات بطريقة غير صحيحة،
باعتبارها تحمل نوعا من التعالى على السينما المصرية، بينما
الحقيقة لو تأملتها ستكتشف أنه بالفعل لا يتذكر. آخر إطلالة لعمر
جاءت مع الفيلم المغربى «روك القصبة»، إذ أدى عمر دور رجل ميت،
والمشاهد القليلة التى تُقدم كـ«فلاش باك»، حوارها ضئيل جدا، مما
يوحى بالفعل أنه لم يعد قادرا على تذكر الحوار، ويومها كتبت مقالا
عن الفيلم وعمر الشريف قائلا: «ختامها مسك»!!
الدين لله.. و«كان» للجميع
طارق الشناوي
هل ينحاز المهرجان إلى توجه سياسى محدد أو دولة أو دين؟ حتى لو
كانت بدايات انطلاق المهرجانات فى العالم كله شكَّلت وجها آخر
لصراع عسكرى وشيك، فإن ما دأبنا على وصفها بالقوى الناعمة مع الزمن
لم تستسلم لتلك الصراعات واستطاعت أن تمنع نفسها من الانزلاق فى
هذا المستنقع.
انطلاق مهرجان «فينسيا» كان قرارا من الديكتاتور الفاشى موسولينى
قبل الحرب العالمية الثانية، وذلك عام 1932، معبِّرا عن تحالف كتلة
«المحور» ألمانيا وإيطاليا، وكان من المفترض أن ينطلق مهرجان «كان»
فى عام ١٩٣٩ معبرا، عن توجه تحالف «الحلفاء» ضد «المحور»، وتأخَّر
سبع سنوات حتى صمتت المدافع، وفى سنوات قلائل تخلصت المهرجانات من
القيود السياسية التى بطبعها مرحلية، وقفزت فوق السور لتعبّر عن
الفن وتنحاز إلى الأجمل إبداعيًّا سواء فى اختياراتها للأفلام أو
لجان التحكيم.
ولو عدتُ إلى التحليل الرقمى طبقا لما ذكره مدير مهرجان «كان» تيرى
فريمو فإن قرابة 2000 فيلم كان مقصدها الأول هو «كان»، طبعا عندما
تتوجه إلى المهرجان يصبح الهدف هو أفلام المسابقة التى فى العادة
لا تتجاوز 19 فيلما، بدهىٌّ أن يفتح المهرجان أبوابه على كل
الاتجاهات، حتى قناعات المنظمين السياسية لا تشكل قيدا، والدليل
مثلا أن المهرجان فى السنوات الأخيرة كان كثيرا ما يستضيف، ليس فقط
الأفلام المعارضة للنظام، ولكن أيضا يستضيف المخرجين المعارضين مثل
جعفر بناهى ومحمد رسولوف، وعرض أفلامهما رغم أنهما من الناحية
القانونية صادرة ضدهما أحكام تمنعهما من ممارسة المهنة لمدة 20
عاما، وفى واحدة من الدورات رُشِّح بناهى لعضوية لجنة التحكيم،
وعندما منعته السلطات من مغادرة البلاد ظل كرسيه شاغرا وتوجهت
الأضواء إلى الكرسى فى حفلتى الافتتاح والختام، ولم يكن الموقف هنا
سياسيا بالدرجة الأولى ولكن من الممكن قراءته على نحو آخر، فهو ليس
ضد دولة إيران بقدر ما عبَّر الموقف برمّته عن انحياز مطلق إلى
الحرية.
غضبت إيران فى عهد نجاد واعتبرت أن المهرجان ينضم إلى المعارضة
ولكنها لم تمنع مخرجيها من الحضور فى أقسامه المختلفة، والدليل أن
هذا العام وفى قسم «نظرة ما» شاهدت فيلم «ناهد» الإيرانى، وهو شريط
سينمائى خارج من معطف الدولة، ولاحظت أن مخرجته عايدة بناهندا عند
تسلّمها جائزة تقديرية من لجنة التحكيم التى رأستها إيزابيللا
روسيللينى، ترتدى الحجاب ولا تصافح الرجال على المسرح، والفيلم يقع
فى إطار سينما الانتقاد الاجتماعى التى يسمح بها النظام مثل فيلم
«انفصال» للمخرج أصغر فرهادى الحاصل على «دب برلين الذهبى» وجائزة
الأوسكار لأفضل فيلم أجنبى عام 2011.
النظام لا يمانع فى الانتقاد فى هذه الحدود، إذ يتناول «ناهد» حياة
امرأة قررت أن تعيش حياتها وأن تختار مستقبلها كما تريد، فهى تزوجت
برجل مدمن وأنجبت طفلا، حائرا بين أمه وأبيه، الأب يشارك فى عصابات
«المافيا» وهى تعانى من ضائقة مالية، كثيرا ما تتعثر ولا تستطيع
دفع إيجار الشقة، وتتزوج عُرفيا بعد الطلاق برجل ليوفر لها الحد
الأدنى من الحماية الاقتصادية. والفيلم ينتقد زواج المتعة عند
الشيعة الذى يحدد زمن الزواج، وهكذا قدم المهرجان فيلما لا يُغضب
ولا يُحرج إيران ولكنه غنىٌّ بالسينما، الرهان هو الحرية، حتى
احتفاء المهرجان بثورات الربيع العربى منذ عام 2011 من الممكن أن
تراها بالأساس تأييدا للحرية.
المهرجان يعبر عن توجه يفتح طاقة من الممكن أن تُطل عليه أيضا من
زاوية الضيوف الذين يتوافدون من كل الدول، إذ يزداد عدد الإعلاميين
والصحفيين على 5 آلاف، من مختلف الجنسيات والأديان، وهكذا قرأتُ
هذا الشعار الذى تصدر الكنائس هناك والأقرب إلى قصر المهرجان مثل
«نوتردام»، كانت اليافطة تقول: «فلْنَعِشْ معًا»، وأسفلها كلمة
«عنف» ببنط صغير ووُضعت عليها علامة
«X»
ليُكتب بدلا منها ببنط أكبر كلمة «سلام»، وهذا ما تكرر فى كلمات
«فُرقة» التى صارت «وحدة» و«كراهية» التى صارت «أخوّة»، وهكذا من
الممكن أن تجد فى هذا الموقف تجسيدا حيًّا لشعار «الدين لله و(كان)
للجميع»، إذ إن المهرجان يأتى بعد حادثة مجلة «شارلى إبدو» وهو
يدرك تداعيات الحساسية التى من الممكن أن تنتاب البعض، فقررت
الكنيسة أن تقدم رسالتها على هامش المهرجان وهى تحتضن كل الضيوف
مهما تعددت الجنسيات والأعراق والأديان ليظل «كان» للجميع.
نجمنا العالمى عمر الشريف ليست له علاقة وطيدة بمهرجان «كان»، آخر
مرة رأيته قبل ست سنوات وحكى لى أنه وهو يصعد وحيدا سلم «لوميير»
على السجادة الحمراء وجد أن امرأة حسناء تتأبط ذراعه، ولم يعترض
بالطبع، ولكن بعد أن وصل إلى القاعة لم يعثر عليها، أخبره أصدقاؤه
بعدها أنها هيفاء وهبى.
وأنا ألملم أوراقى وفى طريقى للسفر من «كان»، جاء الخبر الحزين
بإعلان إصابة عمر الشريف بألزهايمر، وفى مرحلة متأخرة جدا، وصار لا
يتذكر أحدا كما قال طارق عمر الشريف فى تصريحه لإحدى المجلات
الإسبانية، وأشار إلى أنه فى البداية عندما أخبره فى يناير الماضى
برحيل فاتن سأله: فاتن مين؟ ولكن بعدها كان عمر يسأله عن فاتن، فهو
لم يدرك أنها قد رحلت.
لم تكن المرة الأولى التى يلتصق فيها اسم ألزهايمر وعمر الشريف،
فقبل نحو ثلاثة أعوام ترددت شائعة قوية تؤكد إصابته واضطرت
سكرتيرته وقتها الكاتبة الراحلة إيناس بكر إلى أن تعلن للصحافة
المصرية والعربية أنه لم يُصَب بأى مرض ولكن بحكم السن لم يعد من
السهولة أن يتذكر الحوار، ولهذا فإنه لن يقدم أى أعمال فنية جديدة.
كل من التقى الشريف فى السنوات العشر الأخيرة من السهل أن يدرك أن
ذاكرته لم تعد فى لياقتها السابقة، كثيرا ما شاهدته فى مؤتمرات
صحفية فى فينسيا والإسكندرية والدوحة، وكذلك عندما أجريت معه حوارا
قبل خمس سنوات لجريدة «الشرق الأوسط» كان الحديث عن الأفلام
المصرية القديمة لا يرضيه كثيرا، وتأتى إجابته أن الفيلم قديم جدا
وهو لا يتذكر شيئا. البعض كان يقرأ هذه الإجابات بطريقة غير صحيحة،
باعتبارها تحمل نوعا من التعالى على السينما المصرية، بينما
الحقيقة لو تأملتها ستكتشف أنه بالفعل لا يتذكر. آخر إطلالة لعمر
جاءت مع الفيلم المغربى «روك القصبة»، إذ أدى عمر دور رجل ميت،
والمشاهد القليلة التى تُقدم كـ«فلاش باك»، حوارها ضئيل جدا، مما
يوحى بالفعل أنه لم يعد قادرا على تذكر الحوار، ويومها كتبت مقالا
عن الفيلم وعمر الشريف قائلا: «ختامها مسك»!! |