أسامة عبد الفتاح يكتب:
عمر الشريف.. العالمي الوحيد
** لعب دورا رئيسيا في صناعة السينما المصرية خلال النهضة
الثقافية التي أعقبت ثورة يوليو 1952.. وله دور بارز في صناعة السينما
بأمريكا وأوروبا
من الممكن أن أبدأ هذه السطور عن عمر الشريف بالتحسر على
نهايته الحزينة في مستشفى للصحة النفسية بحلوان، عجوزا لا يدرك ما حوله ولا
يدري من أمره شيئا.. ومن الممكن أن أبكي حاله في أيامه الأخيرة، والتي
تدهورت من نجم كبير ملء السمع والبصر ووسائل الإعلام في العالم كله، إلى
رجل وحيد مصاب بالزهايمر والاكتئاب، وينتظر - بل يتمنى - الموت بعد رحيل
أحبابه وأصدقائه ونهاية عصره.
يمكنني أيضا أن أكتب عن ساعاته الأخيرة، حين عفت نفسه
الطعام والشراب وأصبح يعيش على المحاليل الطبية، وأيامه الأخيرة في مصر،
التي أصر على العودة إليها ليموت ويُدفن فيها بعد عمر طويل من الغربة،
وسنواته الأخيرة، التي شهدت اكتئابه وزهده في متع الدنيا بعد رحيل صديق
عمره الفنان أحمد رمزي في 28 سبتمبر 2012، قبل أن تأتي وفاة حب حياته
الوحيد، الكبيرة فاتن حمامة، في يناير الماضي، لتقضي عليه تماما.
كل ذلك ممكن ومتاح، لكنه يبدو استغلالا لاسم الرجل
ونجوميته، ومتاجرة بمعاناته وهمومه الشخصية، والأهم أنه لا يوفيه حقه كممثل
وفنان كبير له دور رئيسي في صناعة السينما المصرية خلال النهضة الثقافية
والفنية الكبرى التي شهدتها مصر في أعقاب ثورة 23 يوليو 1952، وله دور بارز
في صناعة السينما العالمية، ليس فقط في هوليوود، ولكن أيضا في العديد من
الدول الأوروبية، حيث شارك في بطولة العديد من الأفلام بالعديد من اللغات.
بعيدا عن مدعي تجاوز الحدود وتحقيق شهرة دولية لمجرد
مشاركتهم بأدوار صغيرة في أفلام أجنبية، أو لمجرد مرورهم أمام كاميرا مخرج
خواجة، عمر الشريف هو الممثل المصري والعربي الوحيد الذي حقق العالمية
الحقيقية، ووقف أمام نجوم أسطوريين صاروا فيما بعد أصدقاء شخصيين له، ومن
بينهم بيتر أوتول وصوفيا لورين وبربارا سترايساند.
وهو الممثل المصري والعربي الوحيد الذي نال جوائز دولية
"حقيقية" لا يحلم من يصدعوننا ليل نهار بنجوميتهم بمجرد الترشح لها.. فقد
وصل لقائمة الخمسة الأخيرة لترشيحات أوسكار أفضل ممثل في دور مساعد عام
1963 عن فيلم "لورانس العرب"، وفاز بثلاث من جوائز "الكرة الذهبية"
الأمريكية: الأولى عن نفس الفيلم، والثانية كأحسن نجم صاعد عام 1963،
والثالثة كأفضل ممثل في فيلم درامي عام 1966 عن فيلم "الدكتور زيفاجو"..
كما فاز بالأوسكار الفرنسي (سيزار) عام 2004 كأفضل ممثل عن فيلم "السيد
إبراهيم وزهور القرآن"، وحصل على أسد فينيسيا الذهبي عن مجمل أعماله عام
2003.
أما أكبر تكريم دولي له ولمصر معه، فكان حصوله - في نوفمبر
2005 - على ميدالية "سيرجي آيزنشتاين" من منظمة اليونسكو تقديرا لإسهاماته
البارزة في إثراء صناعة الأفلام والتنوع الثقافي حول العالم.. وهي تحمل اسم
المخرج الروسي الكبير آيزنشتاين، وتم الاتفاق بين اليونسكو وستوديو
"موسفيلم" الروسي الشهير على أن تُمنح في أضيق نطاق، ولم تحصل عليها سوى 25
شخصية دولية فقط.
ومقابل هذا الاحتفاء الدولي، عانى من تجاهله في مصر لمصلحة
بعض النجوم الذين نصبوا أنفسهم زعماء للفن وغيره.. صحيح أنه تم تكريمه في
بعض المهرجانات السينمائية المصرية، لكنه لم يحصل على ما يستحق من تقدير
رسمي من قبل الدولة.
وبشكل عام، علاقتنا بعمر الشريف هي الأغرب بين نجم عالمي
وجمهور بلده في الدنيا كلها، فأي دولة تفخر بأي ممثل يعبر الحدود ويتحقق في
هوليوود أو غيرها، ولا تتهمه بالتفرنج أو بعدم الانتماء، بل تمنحه أرفع
الأوسمة ("سير" في بريطانيا مثلا).. أما نحن، فقد تفننا في رجم الرجل
بالشائعات والاتهامات التي وصلت إلى حد التشكيك في وطنيته، رغم أنه لم يحمل
في حياته جنسية غير المصرية.
شككنا أولا – منذ أن غادر مصر للعمل في هوليوود عام 1962
وحتى سنوات قليلة قريبة – في "عالميته"، وقال البعض إنه أصبح يشحذ الأدوار
الثانوية بعد أن كان نجما.. وبعد أن عاد وعمل في الأفلام المصرية مجددا،
أحاطته الشائعات من نوع أنه "يهودي صهيوني" أو "سكير" أو "مدمن قمار".
وبدا أن أحدا في مصر لا يدرك أن ميشيل ديمتري شلهوب،
المولود مسيحيا في الإسكندرية يوم 10 أبريل 1932 لأبوين من أصل لبناني من
طائفة الروم الكاثوليك، والذي اعتنق الإسلام عام 1955 ليتزوج حمامة، وتوفي
الجمعة الماضية في القاهرة عن 83 عاما، جزء أصيل من الحركة الوطنية التي
انطلقت في كل المجالات بعد ثورة يوليو لتعيد بناء مصر وترسم ملامح شخصيتها
التي ما زالت تحملها حتى اليوم.
ومنذ إعلان إصابته بالزهايمر قبل شهور، اهتم العالم كله،
وحزن العالم كله، إلا بلده مصر، ولم يتعد الأمر فيها خبرا عابرا في موقع أو
صحيفة.. كان بيننا، لكن أحدا لم يهتم به أو يسأل عنه، ولم تحاول الدولة
تكريمه أو رعايته أو علاجه على نفقتها مقابل ما قدمه لمصر من رفع لاسمها
دوليا، فضلا عن الاستعانة به ممثلا لبلده في العديد من المحافل الرسمية مثل
تقديم الملف المصري لتنظيم كأس العالم لكرة القدم ومهرجان القاهرة
السينمائي الدولي.
انضم عمر الشريف لقائمة من يموتون بأجسادهم فقط ويبقون
أحياء بأعمالهم إلى الأبد. مات وسيظل محتفظا بعرش النجومية الذي تربع عليه
61 عاما متصلة منذ أن قدم أول أفلامه "صراع في الوادي" عام 1954، وسيظل
محتفظا أيضا بسحر عينيه الواسعتين ونظراته الطيبة الآسرة.. لا يحتاج إلى
شيء الآن، وربما نكون نحن في حاجة للتزين باسمه وتخليده بما يليق به، وبما
يتجاوز إطلاقه على شارع أو سينما. |