عشرة مشاهد حفرها نور الشريف فى ذاكرتنا صبى عاشق
الفيلم: قصر الشوق (1966) إخراج: حسن الإمام كمال عبد الجواد
المتشكك فى كل الأشياء وأولها نفسه، بشعوره الدائم بالدمامة،
صبى عاشق
الفيلم: قصر الشوق (1966)
إخراج: حسن الإمام
كمال عبد الجواد المتشكك فى كل الأشياء وأولها
نفسه، بشعوره الدائم بالدمامة، وسلبيته التامة حيال كل شيء، التى
ستمتد فى نهاية حياته لأن يصير مفكرا ملحدا يتعمد كتابة مقالاته فى
مجلة لا يقرؤها أحد خوفا على وضعه الاجتماعى ومشاعر أسرته.
كمال هنا لا يزال فى مرحلة الشباب لكن نور قرأ
بالطبع مسار الشخصية للنهاية، يجلس مع أصدقائه فى حديقة فيلا
أحدهم، يرفع صوته ملقيا خطبة عصماء لا تناسب جسده النحيل ووجهه
الطفولي، خطبة وفدية يتلوها متحديا صديقه الثرى الوسيم، يقطعها صوت
عايدة تقول “بونجور”. صمت كامل ينزل على كمال، عيناه المتحديتان
تمتلأن فجأة بنظرة صبى عاشق. خمسون ثانية كاملة لا ينطق فيها سوى
كلمة واحدة: متشكر، يقولها وعيناه لا تفارق عايدة، وعندما يحتضن
شقيقتها الصغيرة، يملأ وجهة الرضا وكأنه يحتضن حبيبته نفسها.
إيمان إيفان
الفيلم: الاخوة الأعداء (1974)
إخراج: حسام الدين مصطفى
شوقى القرمانى أو إيفان كرامازوف. مثقف “الأخوة
كرامازوف” الملحد، والذى كانت أفكاره ـ فى النسخة المصرية ـ المحرك
الرئيسى لأخيه غير الشرعى كى يقتل والدهما. لثلاثة أرباع الفيلم
شوقى شخصية باطنية، محافظ فى حركاته وأقواله وحتى ملابسه، يظهر
التماسك والثقة واليقين بينما تشتعل أعماقه بالضعف والشك.
أقنعة شوقى تنهار بمجرد مقتل والده، ونفس الشخصية
المحافظة تتحول فى ربع الفيلم الأخير نموذجا للعُصاب. يعترف علنا
لأول مرة أن “ربنا موجود” ليواسى أخيه المحكوم عليه بالإعدام.
يتقافز يمينا ويسارا من خلف سياج الحجز، يصعد على مقاعد المحكمة،
يؤدى مشهدا هو فى حد ذاته مسرحى بحت، لكن فى موقعه من تطور الشخصية
هو صورة لممثل قادر على تجسيد مسار الجنون بكل مراحله.
صدمة حبيب العمر
الفيلم: حبيبى دائما (1980)
إخراج: حسين كمال
حكاية ابراهيم وفريدة هى قصة الحب المأساوية الأشهر
فى السينما المصرية، فهى من جهة ارتبطت بعلاقة نور الشريف وبوسى فى
الواقع، ومن جهة أخرى جمعت العناصر المثالية للميلودراما
الرومانسية: حبيبان رقيقان، ظروف تفرقهما، أمل بالعودة تحطمه صدمة
المرض.
فى المشهد، ابراهيم الذى عاد حلمه بالسعادة ليظهر
بعدما عادت فريدة وأنقذها من وعكة صحية. مشكلته ستكون فقط التخلص
من المرأة الأخرى التى وقعت فى حبه واستجاب لها بدافع الأمل
المفقود. يذهب لمعمل التحاليل بخطوات سريعة متلهفة، لكن تقرير
فريدة الطبى يصدمه بمرضها المميت. خلال عودته لغرفتها، نجد شخصا
آخر غير من شاهدناه قبل ثوان، ظهر منحن ونظرات غير مستوعبة، يقدم
ساق ويؤخر الثانية، يتوقف لحظات ليستجمع أعصابه، ثم يدخل لفريدة
بسعادة زائفة يخبرها بسلامتها. ابراهيم قرر أن يسعد حبيبته فى
أيامها الباقية، ونور أدمى قلوب الجمهور حزنا بانتقاله العذب فى
المسار المشئوم: الأمل ثم الصدمة ثم تحمل المسئولية.
يا ولاد الكلب
الفيلم: سواق الأتوبيس (1982)
إخراج: عاطف الطيب
ربما يكون المشهد الأيقونى الأشهر فى السينما
المصرية. قيمته فى المقارنة البديهية بينه وبين مشهد الافتتاح،
والذى يهرب فيه نشال من الأتوبيس بعدما حاول حسن أن يحبسه فى
العربة فقفز من شباكها، واستجاب السائق لصراخ من خلفه الرافضين
لتوقفه وسط الطريق. لكن وبعد المحنة التى يتعرض لها حسن، وبعدما
يتعرض للرفض والإهانة على أيدى من كان يعتقد أنهم أول من سيهبوا
لمساعدته، بعد أن يكتشف أن فساد العالم أسوأ بكثير من أن يمكنه
التعايش معه، وأن مساعدة الأصدقاء المخلصين لا تكفى لإنقاذ والده
من الموت كمدا.
لذا، فعندما يتعرض لنفس الموقف، يتغير رد فعل حسن
كليا. لا مجال هنا للمقايضة ولا إرضاء الآخرين ولا الخوف والرضا
بالقليل. يوقف حسن الأتوبيس ولا يهتم للغاضبين خلفه، يقفز فيطارد
اللص ويواجهه، لا يخشى المطواة التى يهدده بها فلن يخسر أبدا أكثر
مما خسره. كل نظرة غلّ فى عينى حسن، كل تحفز جسدى دون ذرة خوف أو
تراجع يواجه به النشّال، كل نبرة غضب فى صرخته الأشهر “يا ولاد
الكلب” ساهمت فى حفر المشهد فى ذاكرة كل من شاهده.
ابتديت دلوقتى بس
الفيلم: حدوتة مصرية (1982)
إخراج: يوسف شاهين
فى فيلم مشغول بالكامل على الأعصاب، كل مشهد فيه
مشتعل بأحلام يحيى شكرى مراد (أو فى الواقع يوسف شاهين) الضائعة.
طفولته المبتورة وتجارب شبابه وطموحه فى عالمية لا يعرف معناها. فى
فيلم تدور أحداثه حرفيا داخل صدر صانعه المشقوق. وسط تقافز شخصية
يحيى العصابية، بكلماته اللاذعة وحركته التى لا تتوقف، يأتى مشهد
حفل أم كلثوم كزفير عميق يأخذه المشاهد بعد شهيق متواصل.
يحيى يهدأ أخيرا، يجلس ساكنا مفتونا بالست وهى تغنى
“أنت عمري”. وبينما يتمايل كل من حوله طربا يكتفى هو بالصمت،
وبنظرة وله نرى فيها ماضيه وحاضره ومستقبله، نظرة ربما تحمل تصالحه
مع كل تناقضاته ولو للحظة، تحمل عثوره على أرض صلبة يقف فيها بعد
عقود من محاولة التوازن. فى عينى نور اللامعتين وتجاهله لكل من
حوله، يمكنك أن تشعر بكل هذا دون أن ينطق بكلمة واحدة.
انهيار ذكورة كمال
الفيلم: العار (1982)
إخراج: على عبد الخالق
قيمة المشهد تنبع مما يمثله كمال بين أشقائه
الثلاثة، فهو الذكورة المطلقة، الهيمنة ومعرفة الأسرار والتحكم فى
المصائر، القاطع فى كل شيء الذى لا يفكر إلا فى مصلحة الأسرة
المادية، وهو ما جعله يوافق على أن تشارك زوجته روقة فى مهمة
انتشال المخدرات بدلا من أخيه المذعور، بكلمات أخرى: قوته هى من
قتلتها.
بعد أن أنهى العمل تحت تأثير الصدمة، وجلس على
الشاطئ حزينا كأى رجل فى تركيبته، يفاجئه القدر مفاجأة سيئة: جثة
روقة تنتشل أمامه. يقف وسط المتواجدين منكسرا، تنزل دموع من عينين
مخبأتين خلف كفه كمراهقة رقيقة وليس تاجر مخدرات متمرس. دموع تفضحه
حتى يسأله الشرطى إذا كان يعرف الغريقة. يمسك السلسلة التى أهدتها
له بيده، يتهدج صوته وهو ينكر معرفته بها. انتصر العقل على القلب
كالعادة، لكنه انتصار مكلل بانهيار هيمنة الذكورة التى كانت سر قوة
صاحبها.
7.إنسانية
الأستاذ فرجاني
الفيلم: آخر الرجال المحترمين (1984)
إخراج: سمير سيف
بعد أن تعرض المعلم المثالى فرجانى للصدمة فى كل
شيء: ضاعت طفلة يُفترض أن يرعاها، تلقت السلطة شكواه بروتينية لا
تليق بضياع إنسان لا يمكنه الدفاع عن نفسه، وتعرض للنصب عرضا بدفع
مبلغ مالى ضخم لاسترداد طفلة مخطوفة يكتشف أنها فتاة أخرى غير نسمة
المفقودة. فرجانى زادت مصائبه، فتحويشة العمر ومعها مصاريف الرحلة
دفعها فدية لم تأت بنتيجة، وخيط البحث انقطع وتبدد الأمل فى العثور
على نسمة، والغجرى النصاب يرفض إعادة المبلغ والشرطة لا تفعل شيئا
أكثر من الدهشة أنه أنفق 500 جنيه فى 24 ساعة!
والد الطفلة العائدة لا يدرى كيف يرد للأستاذ
فرجانى ما دفعه، يعرض عليه أن يبيع مصوغات زوجته ويقوم بتقسيط
الباقي، يسأله البطل عن مهنته فيعرف أنه موظف بسيط، فيطلب منه أن
يأخذ ابنته لوالدتها ولا يشغل باله بالمال. ربما يظن الرجل أنه ثرى
لا يفرق معه المبلغ، لكننا نعلم أنه رجل فى كارثة، كارثة لم تؤثر
على إنسانيته ولم تجعله يتردد لحظة ويفكر فى عرض الأب المكلوم.
وبعد أن يرحل الأب يقابل فرجانى نظرة الضابط الممتنة بإشارة بسيطة
من يده وهزة لرأسه تقول: وهل يمكن لشخص مثلى أن يتصرف بشكل آخر؟
حلم.. بل كابوس
الفيلم: البحث عن سيد مرزوق (1991)
إخراج: داود عبد السيد
المخرج داود عبد السيد اختار أن يسرد الفيلم كله
بمنطق الحلم، رحلة ضبابية يعيشها يوسف الذى خرج للشارع لأول مرة
بعد أعوام طويلة لم ير فيها سوى المنزل والعمل. خلال الرحلة يجد
يوسف نفسه متورطا مع ضابط شرطة يدين بالإخلاص للثرى الغامض سيد
مرزوق، يصطحبه معه فى حملة لمداهمة وكر ما لا يعرف عنه شيئا، فيذهب
يوسف مغلوبا على أمره لكن ليس وحده، فمعه كرسى معدنى قيد معصمه فيه
ولم يكلف الشرطى نفسه عناء تخليصه منه.
فى الأحلام، وتحديدا الكوابيس، نشعر دائما أننا
ثقيلو الحركة، بليدو التفكير، عاجزون عن اتخاذ أبسط الأفعال لإنقاذ
أنفسنا. هكذا بالضبط يتصرف نور الشريف فى المشهد: على وجهه وفى
حركة جسده يجتمع الذعر بالبلادة والعجز. هذا رجل يعيش كابوسا
بالمعنيين المادى والمعنوي. ذعره ليس خوفا عاديا ولكنه ذعر شخص لا
أمل له فى النجاة سوى أن يستيقط فجأة فيجد نفسه فى سريره.
أنا باكتب ليه ولمين؟
الفيلم: المصير (1997)
إخراج: يوسف شاهين
ابن رشد وقد فاض به الكيل. من يحاول نشر فلسفة
جوهرها المحبة يحيط به الجهل والتطرف والاجتراء. يواجه ابن الخليفة
الشاب الذى يتبح بأنه “ينشر كلام ربنا للناس”، فيضعف الفيلسوف لأول
مرة فى الفيلم، ويحول أزمة الفتى لقضية شخصية هى شعوره بالغبن وعدم
التقدير.
فى لقطة زمنها 125 ثانية كاملة يترك يوسف شاهين
العنان لنور الشريف، ليلقى مونولوجه الشهير ويتنقل بحنكة بين
الهدوء والغضب، الحكمة والثورة، حب الآخرين والإحباط من عدم
الاعتراف بفضله. ابن رشد هنا يخرج للحظات عن تصوره الخاص عن نفسه،
وفى هذه اللحظات يبرع نور فى منحنا مشهدا لا يُنسى.
حشيش + الزهايمر = طفولة
الفيلم: بتوقيت القاهرة (2014)
إخراج: أمير رمسيس
فى فيلمه الآخر لعب نور الشريف شخصية “يحيى شكرى
مراد” للمرة الثانية. نعم، هى الشخصية التى اختارها يوسف شاهين
ليروى سيرته من خلالها. المخرج أمير رمسيس أراد أن يتخيل ما كان من
الممكن أن يصير عليه أستاذه فى عالمنا المعاصر، القبيح كما يقول
الفيلم. والنتيجة؟ يحيى مصاب بالزهايمر، ينسى حاضره المشوه بل وبعض
ماضيه، ويعيش على ذكرى الحب فى حياته. لم يكن رمسيس يدرك أنه سيخرج
فيلم نور الأخير، لكن بالتأكيد استفاد من تماس حالة الشخصية مع
النجم. جسده المتداعى فى مواجهة روحه الحالمة.
وبعد أن “يرمى شكرى جثته” حرفيا بالتعبير العامى
على موزع المخدرات المتورط شريف رمزى ليقله للقاهرة، يقوم الشاب
بإشعال سيجارة حشيش لا يذكر يحيى إن كان قد جربها من قبل أم لا.
يحاول التظاهر بالتذمر لعدم احترام الشاب لوجوده، بينما تصرخ عيناه
بنظرة صبيانية لمراهق بلا ذاكرة يريد أن يخوض التجربة الأولى.
بالفعل يخوضها لتتسع ابتسامته الطفولية، ويخرج رأسه من نافذة
السيارة صارخا بأنه آت لمطاردة حلم العمر، ولو كان فى الوقت الضائع. |