مقهى بيروتي وزقاق مصري يستعرضان الحياة الحاضرة
يصل مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الأربعون إلى ختامه
مساء اليوم، بحفل توزيع الجوائز وما سيليه من حفل عشاء سيكون اللقاء الجامع
الأخير لأهل السينما في إطار المهرجان حتى العام المقبل.
الجهد الذي بذله محمد حفظي، رئيساً، وفريقه المتنامي وفي
مقدّمتهم يوسف شريف رزق الله وأحمد شوقي، ملموس على الرّغم من أنّ هناك
مشكلات لم تُحل بعد. هذا الجهد المبذول عبّر عنه مطّلع مقرب قائلاً إنّ سعي
رئيس المهرجان لإتمام دورته الأولى بنجاح جعله ينكبّ على الشؤون الكبيرة
كما الصغيرة بنفسه: «كان يراجع كل شيء. يقرأ كل التّفاصيل ويتأكد من كل
شيء. كان جاداً في رغبته تحويل المهرجان من وتيرته السابقة إلى وتيرة أعلى
نجاحاً».
-
منوال
الكثير من مظاهر هذه العناية عكسها بنفسه خلال أيام
المهرجان، بالأمس على سبيل المثال وقبل بداية الندوة الصحافية التي أدرتها
مع الممثل والمخرج رايف فاينس حضر ليتأكد فقط من أنّ كل شيء على ما يرام من
ثمّ انصرف ليتابع شؤوناً أخرى. ويقول مصدر آخر: «عندما جرى اختيار محمد
حفظي ليقود هذا المهرجان شعر أهل السينما في مصر براحة شديدة، كونه يملك
علاقات دولية طيبة يستطيع تطويعها لخدمة المهرجان. وهو قلل من اشتراكات
عربية مقابل زيادة حصة الصحافة الأجنبية لإدراكه أنّ تلك هي التي سيعول
عليها للحديث عن المهرجان للعالم».
لكنّ الواقع أنّ المشكلات المتراتبة على هذا المهرجان لم
تُحل كلياً. نعم الأفلام أفضل. خطوات المهرجان لاستعادة مكانته العربية
والعالمية سارت بخطى ثابتة. تنظيم الاحتفالات أحسن ممّا كان عليه، لكن هناك
التأخير المستمر في العروض.
المسألة هنا ليست مسألة قليلة الشأن. المرء قد يقبل تأخراً
يصل إلى خمس دقائق مثلاً أو حتى عشر دقائق في بعض الحالات، لكن أن يتأخر
العرض لأربعين أو خمس وأربعين دقيقة لأن الممثل أو المخرج استجاب لدعوات
كاميرات التلفزيون التي تصطاد الداخلين عند الباب وأمضى كل هذا الوقت وهو
يبتسم ويؤكد أنّه سينمائي فذ، أمر غير مقبول.
ما ينتج عن هذا التأخير إدراك الجمهور بأنّ الفيلم لن يبدأ
في الوقت المعلن وتبنيه عادة الوصول متأخراً بدوره. بعد ثلاثة أرباع الساعة
ما زال هناك جمهور يصل متمهلاً لينضمّ إلى الجمهور الموجود الذي جلس يتجاذب
الحديث غير عابئ بالتّأخير. بالنسبة إليه هناك وقت يمضيه الآن مع أصدقائه
أو قريباته أو ما شابه. ومن يدخل وحيداً تراه منكباً على مطالعة الـ«فيس
بوك» والرّد على الرسائل التي تسلمها أو كتابة سواها.
لكنّ الناقد الذي لديه فيلم آخر يريد مشاهدته أو موعداً لا
يريد التأخر عنه، أو حتى سئم من الانتظار فلا أهمية له ولرأيه في هذا
المجال.
ولا يتوقف دخول الناس، في بعض الحفلات، حتى من بعد بداية
الفيلم وكثيراً ما يصل البعض قبل نصف ساعة أو أقل من انتهاء الفيلم باحثاً
عن مقعد له وسط الظلام ليتابع فقط ما بقي من الفيلم. أحد المشرفين قال: «بس
يا أستاذ هؤلاء اشتروا بطاقات ولهم حق الدخول» وعليه جاء رد أحد الحاضرين:
«ليشترط عليهم المهرجان بأنّ من لا يحضر على الوقت سيخسر البطاقة والفيلم
معاً».
-
الشريحة الأدنى
قبل ربع ساعة فقط من نهاية «ورد مسموم»، الفيلم المصري
الثاني في مسابقة «آفاق السينما العربية» دخل مشاهد وجلس وتابع المشاهد
الأخيرة.
إنّه الفيلم الأول للمخرج أحمد فوزي صالح الذي عمل مساعداً
في أفلام تسجيلية وحقّق وعلى نحو مستقل تماماً، هذا الفيلم الذي ينحو فيه
إلى التسجيل أيضاً ولو أنّه فيلم ذو حكاية يرويها.
إنه حول فتاة محجبة اسمها نور (تكتفي بطاقة الفيلم باسم
واحد لها هو كوكي) تعيش في حي المدابغ في ضواحي القاهرة. تعمل منظفة
حمّامات وتعيل أمها وشقيقها صقر (إبراهيم النجاري) الذي يعمل في مصنع
للدباغة كلما كان ذلك ممكناً (وهو يصرف من عمله قبيل نهاية الفيلم). صقر
يود السّفر بطريقة غير شرعية إلى إيطاليا عبر البحر. يستدين المبلغ ويبدأ
بالاستعداد. لكن نور لا تستطيع أن تقبل فكرة رحيل شقيقها وتلجأ إلى مشعوذ
(محمود حميدة) الذي يعطيها دمية ويطلب منها حرقها ورمي رمادها في النيل.
تفعل ذلك ويشعر شقيقها بتوعك وضعف. لكن ما إن يتغلب على وعكته حتى يؤم ما
قرر القيام به.
تبلغ عنه ويتم القبض عليه وعلى من كان معه وينتهي الفيلم
بعودة الحياة بوتيرتها لما كانت عليه سابقاً.
«ورد
مسموم» عن حياة مكبّلة. لم يعد هناك طموحات لها ولا آمال، بل واقع معاش
يشبه أشلاء الحياة. وهو يبدأ بمشهد من اللقطات الصادمة: مياه آسنة تسري في
أحد الأزقة. يمشي العابرون بجانب الجدار مختارين خطواتهم بحذر لئلا يدوسون
في الماء. بعد قليل تندلق مياه سوداء من أحد الأنابيب لتزين الآسن أسناً.
تمر عربة يجرها حصان في ذلك الزقاق. يستمر المشهد لنحو دقيقة ونصف وبه
يغلّف المخرج الواقع والمكان وينتقل منه للتفاصيل التي لن تختلف كثيراً عما
بثه ذلك المشهد.
ليس أنّ المخرج لا يرى جمالاً في القاهرة لكي يصوّره، لكنّه
غير معني بذلك، تاركاً هذا العمل لمن يرغب من صانعي أفلام الكوميديا
والأكشن الجماهيريين. ما يريده هو توثيق تلك الشريحة من الحياة الأدنى من
معظم ما شوهد من قبل من أفلام مشابهة عبر السنين. أسلوبه تسجيلي راصد.
الممثلون لا يمثلون عواطف ولا الدراما لها تلك المكانة العالية. وهو ربما
خافت أكثر بقليل ممّا يجب كونه بلا حدث بارز فيه. فيلم بلا حكاية والبديل
ليس - بدوره حيوياً، ولو أن ذلك من شروط العمل. شيء لتعويض هذا الافتقار
كان يمكن له أن يتم عبر زيادة نبرة الأداء ولو قليلاً. الناس حتى في تلك
المواقع الاجتماعية الرّازحة تحت الفقر والعوز تبقى ذات صوت عاكس لعواطف ما
تُقال بنبرات أقوى وردود فعل حاسمة.
محمود حميدة له دور صغير جداً تريده لو يكبر. هو مثل
اللؤلؤة في كل فيلم يؤديه. في بعضها هو لؤلؤة بحجم كبير وفي بعضها الآخر هو
لؤلؤة صغيرة، لكنّه دوماً لؤلؤة.
-
مقهى لأوجاع البلد
أحد آخر الأفلام المعروضة في هذا القسم هو اللبناني «غود
مورنينغ» لبهيج حجيج الذي وصل من الرباط، حيث نال فيلمه هذا جائزتين، واحدة
كأفضل سيناريو (كتبه المخرج) والثانية كأفضل تمثيل (نالها كل من عادل شاهين
وغبريال يمّين).
فيلم آخر محدود الميزانية ومتقشف لكنّه يختلف كلياً عن «ورد
مسموم». قريب في صياغته العامة من الفيلم اللبناني الآخر «غداء العيد»
للوسيان بورجيلي من حيث أن المكان واحد والفيلم بلا شخصية واحدة محورية.
«غود
مورنينغ» يقع في مقهى في طابق مرتفع عن مستوى الأرض. هناك نافذة عريضة تطل
على ميدان صغير في شوارع مختلفة. في المقهى النّظيف الماثل زبونان مسنان
أحدهما اسمه الجنرال (كونه كان في إحدى سرايا الجيش)، والثاني صديقه
الحميم. هما مسلم ومسيحي. ووراءهما كل يوم ينكب صحافي أصغر سناً اسمه سليم
(رودريك سليمان) على الجلوس إلى حاسوبه والكتابة، متدخلاً من حين لآخر في
حديث الصديقين. النادلة التي تعمل في المقهى (مايا داغر) تستلطف سليم وسليم
يستلطفها، لكنّه مسيحي وهي مسلمة ولا ترى مستقبلاً مشتركاً بينهما.
يُكوّن بهيج حجيج فيلمه من مقاطع (فقرات) كل منها بعنوان
مختلف. هذا العنوان عادة ما هو مأخوذ من عبارة سترد في الحوار. شغل
العجوزين الشّاغل حل الكلمات المتقاطعة وقراءة عناوين الصحف والتعليق على
ما يشاهدانه من تلك النافذة الرحبة.
كل فقرة تتبع يوماً مختلفاً في الروزنامة لكنّه غير مختلف
في الممارسة. هذا يضعف سياق الفيلم الذي كان يحتاج إلى تفعيل أعلى حدة. شيء
مثير بعد انقضاء شهوة متابعة الأيام الخمسة الأولى مثلاً. يقوم الجنرال من
مقعده قاصداً زبائن آخرين ليحكي لهم نكاتاً مختلفة. يتظاهر بعضهم بالضحك
ويغادر غالبهم المقهى تخلصاً من إزعاجه. وهذا المنوال الواحد يستمر إلى
نهاية الفيلم حيث سيغيّب الموت أحدهما.
الفيلم حزين النبرة بدوره. حديث العجوزين يتناول الماضي
والحاضر معاً ولا شيء يبدو مسرّاً اليوم كما كان بالأمس. ما يريانه من
النافذة عالماً من انعدام المسؤولية. ما يقرآنه في الصّحف أو ما تعلنه شاشة
التلفزيون القريب هو سلسلة من الانفجارات الانتحارية داخل لبنان وحتى فرنسا
عاكساً وضعاً لعالم مات ضميره، كما يقول أحد عناوين الفيلم.
هو فيلم خاص بصياغة خاصة تستدعي الاهتمام من ثمّ يفتر ذلك
الاهتمام بعض الشيء بسبب تكرار منوالها. لا جديد يُضاف إلى ما سمعناه
وشاهدناه والأيام تتوالى من دون تعداد وتتشابه. كان يمكن للمخرج مثلاً،
استبدال فقراته بعدد أيام محدودة في ذلك المكان الواحدة («سبعة أيام في
مقهى» مثلاً). وكان يمكن له أن يكبر حجم بعض الشخصيات الخلفية كذلك أو
يجعلها تقول شيئاً لامعاً من حين لآخر. بالنسبة لنكات الجنرال زادت قليلاً
عن حدها وجعلت المشاهد يسخر مما يقوم به، عوض أن يدرك تمام حاجته للتواصل
مع الآخرين.
-
تحكيم
في السنوات الأخيرة ارتفعت نسبة الأفلام التي تدور في موقع
واحد داخلي. ليس أن هذا النوع جديد. الراحل نبيل المالح أقدم على ذلك في
«كومبارس» (1993) مع شخصيتين أساسيّتين في شقة. قبله (سنة 1984) حقّق
الأميركي روبرت ألتمن «شرف سري»
Secret Honor))
بطولة شخص واحد في مكتبه.
هذا العام شاهدنا لرشيد مشهراوي «كتابة على الثلج» الذي دار
بأسره داخل منزل و«غداء العيد» دار كذلك في منزل واحد. «غود مورنينغ» يتبع
هذه الأعمال وما يدور في خلد المخرج من تأطير المكان وما يدور فيه من
أحاديث مهمّة، لكنّه قليل الحيلة عندما يأتي الأمر إلى ما يفرضه المكان
وشخصياته من استطراد.
حفل اليوم سيعلن عن فوز الفيلم المتسابق في قسم «آفاق
السينما العربية»، وهذه الجائزة ستهم فريقاً موازياً في الحجم لمسابقة
المهرجان الأساسية التي يرأسها المخرج الدنماركي بل أوغوست وتضم كذلك
المخرجة هالة خليل (مصر) والمخرجين بريانتي مندوزا (الفلبين) وفرانشسكو
مونزي (إيطاليا) والمنتج الأرجنتيني خوان فيرا والممثلين ديامان بوعبود
(لبنان) وظافر العابدين (تونس) وناتاشا رينييه (بلجيكا) وسامال يسلياموفا
(كازخستان).
كيف سيرى هؤلاء الأفلام الستة عشر التي شاركت في المسابقة
هو أمر مهم كون الكثير منها جيد ومثير للاهتمام، مما جعل هذه الدورة واحدة
من أنجح دورات المهرجان في هذا الصدد.