"إن
مجتمعاً يرتد عن أفكار ماقبل 100 سنة في حاجة للكثير من الألوان الطبيعية
لقول أشياء مختلفة".... أما وقد رحل المخرج المصري الكبير أسامة فوزي، فإنه
لايكون غريباً القول إن أربعة أفلام روائية في مسيرته السينمائية القصيرة
نسبياً قد وضعته في ربع القرن الأخير بين أهم المخرجين العرب.
تخرّج من المعهد العالي للسينما في القاهرة سنة ،1984 وعمل
مساعد مخرج لفترة طويلة مع مخرجين من طراز حسين كمال ونيازي مصطفى وأشرف
فهمي ويسري نصر الله ورضوان الكاشف قبل أن يستقل بمسيرته السينمائية ويضع
بصماته تباعاً في أفلامه: (عفاريت الإسفلت) 1996 – (جنة الشياطين) 1999 –
(بحب السيما) 2004 – (بالألوان الطبيعية) 2009. التقيته في مهرجان روتردام
– هولندة سنة 2010. جاء ليعرض فيلمه الروائي الأخير في مهرجان الفيلم
العربي، و التقيته كذلك في مهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط في
المغرب وقد جاء ليعرض الفيلم نفسه. الذي حدث أن حواراً في المهرجان
المتوسطي قد فاتنا بسبب سفره مع طاقم فيلمه إلى مدينة شفشاون المغربية. هنا
استعادة له بمناسبة رحيله صباح هذا اليوم 8 يناير بعد صراع مع المرض:
·
لماذا تبدو في فيلمك وكأن هناك رغبة دفينة تقوم على تظهير
شيء جواني يقبع في داخلك أساساً؟
**(بالألوان
الطبيعية) هو سحر السينما ومادتها المستقاة منها، ولو أننا قلنا بحسب
الترجمة الانكليزية (الألوان الحقيقية) لغدا هذا السحر بعيداً من الإدراك.
ولو قمنا بتذكر المرحلة التي بدأ فيها ظهور الألوان في السينما، لغدت ألوان
فيلمي مبالغ فيها للغاية.
·
هل كنت تدرك أن هناك نوعاً من المبالغة في روايتك تصل حد
اللامعقول؟
**أعتقد
أن هناك نوعاً من المبالغة في كل شيء من حولنا يصل حد الهزل واللامعقول إن
شئت.
·
)
بالألوان الطبيعية) هل هو فيلم عن فساد جهاز التعليم؟
**لا
بالتأكيد.. ليس التعليم هو قضية الفيلم الأساسية. هو فيلم عن فساد قيم
مجتمع بأكمله. هذا المجتمع لديه مشاكل وهواجس مسكوت عنها، والتعليم جزء
منها. تخيَّل أن رسم الجسد الإنساني بكامل تفرعاته هو إشكال تخلصنا منه
مطلع القرن الماضي مع الشيخ محمد عبدة، وقد مرَّ هذا مع بداية تأسيس كلية
الفنون الجميلة عام 1907، ومع ذلك تجد نفسك مضطراً الآن لأن تناقش قضايا
حسمت منذ أكثر من مئة سنة. إن مجتمعاً يرتد عن هذه الأفكار هو في حاجة
للكثير من الألوان الطبيعية لقول أشياء مختلفة.
·
إلامَ تعزو هذا التراجع؟
**هذا
موضوع كبير سيدخلنا في قضايا كثيرة بعيدة من الفيلم، وهي عموماً ظروف
تاريخية وسياسية واجتماعية صنعت هذا الواقع المتردي.
·
يوسف (كريم قاسم) لم يحسم خياراته الفكرية وقناعاته الدينية
في الفيلم على رغم رفضه دراسة الطب على حساب دراسته للفنون؟!
**هذه
ليست خيارات فردية، بل هواجسه المتمثلة بالأشباح الأربعة: هاجس البنت التي
تمثل الرغبة والحب، وهاجس العم محمود الذي يمثل الفاشل، وهاجس الداعية الذي
يمثل الحلال والحرام، وهاجس الأم التي لم يلب رغبتها بأن يصبح طبيباً بعد
أن ربَّته وتعبت عليه، ولم يسبب لها إلا التعاسة.
·
لماذا أبقيت على عنصر نزيه وسط هذا الفساد العميم؟
**على
رغم الفساد المنتشر في جنبات الكلية، من دون شك سوف تجد مخلصاً يريد وضع حد
لهذا الفساد، والطلاب الجيدون يعرفون هذا جيداً. ولكن حتى لا تتحول الحكاية
برمتها إلى مسألة شخصية بيننا وبين كلية الفنون، كان لابد من وجود هذا
العنصر بغض النظر عن المدرسة الفنية التي ينتمي لها.
·
ما الذي تعنيه "الكوميديا الإلهية" ليوسف كمشروع تخرج؟ هل
هي بطاقة عبور نحو هذا الحسم الفكري والفني الذي يحتاجه كفنان؟
**سبق
وقلت لك، يوسف لديه هاجس التساؤلات، وهو لابد واقع في دائرة الحلال
والحرام، ولقد شاهدنا صراخه وتعهداته، وبالتالي فإن هواجسه المتأتية عن
المجتمع ورجال الدين تشير إلى أن ما يحصل يقع ضمن دائرة الحرام، ولهذا كان
مهماً في اختياراته أن يتعرض لموضوعة الدين.
·
لماذا أردته أن يظهر بهذا المظهر؟
**بالنسبة
له الفكرة الكامنة في تفاصيل الطقوس الدينية جعلته يبحث عن معنى الإيمان
الحقيقي.
·
وأين وجد هذا المعنى برأيك؟
**أنا
لا أعتقد أنه حسم خياراته، ولكن هو استطاع أن يصل إلى فكرة أن الجمال هو
الطريق الحقيقي إلى الفن، وإلا لما انزرعت الموهبة بداخله.
·
ما الذي يفعله الأصوليون في الكلية.. هل هي إشارة فقط على
تعاظم دورهم في الحياة الاجتماعية، أم أن شرطاً فنياً فرض (الأعمى) من هذه
الزاوية بالذات؟
**في
السنة الماضية كانوا عازمين على إلغاء قسم النحت بسبب عدم توفر طلاب له،
وبالتالي وجد الأصوليون ثغرة صريحة للدخول في الكلية من أجل فرض وجهات
نظرهم وتصوراتهم عن الفن.
·
مشهد الخلط بين مختلف الاتجاهات الدينية والفنية (رقص شرقي-
رقص غربي – داعية إسلامي – مبشر مسيحي) في الكلية، هل هو اختزال مشوش
للمجتمع المصري كما يبدو عليه الآن؟
**بالطبع
تستطيع أن تسحب ذلك على المجتمع، فالتشتت الحاصل فيه يجمع دائماً مابين
النقيضين: الخير والشر، الحلال والحرام. إنها حال التأرجح التي يعيشها
المجتمع بأكمله.
·
ماذا عن اختيارك لممثلين غير معروفين لفيلمك؟
**النجوم
الذين يؤمنون للفيلم شباك التذاكر أصبحوا فوق الثلاثين، وبالتالي لا يمكن
دعوتهم من أجل أداء أدوار من هم في العشرين.
·
هل كنت تفضلهم نجوماً؟
**لا..
على رغم أن الفيلم عرض أثناء مباريات كأس الأمم الإفريقية وامتحانات
الطلاب، فإن هذا لم يقض مضاجع أصحاب الصالات، لأنهم يعرفون أن أفلامنا لا
تصنع من أجل شباك التذاكر، لذلك فهم يبرمجونها في الفصل الميت، أي في الوقت
الذي يكون جمهور الشباب منشغلاً بالقضايا التي تهمه. |