هل يموت الإنسان عندما يقول نكتفى بهذا القدر؟ تلك هى
قناعتى، كل شيء مكتوب «وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا
تَدْرِى نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ»، لكن هناك دائما الأسباب، فمن يملك
رغبة فى الحياة لا تبخل عنه الحياة بزمن قادم، ومن يرد أن يقول وداعا،
أيضا، تستجب له السماء.
وهكذا توقفت طويلا أمام خبر رحيل المخرج أسامة فوزى الذى
كانت لديه رغبة عارمة لاستكمال مشواره فى الدنيا.
وحدثنى عن العديد من الأفكار التى كان يشتغل عليها، ورفضتها
السوق السينمائية، وتلك التى يسعى أيضا لإنجازها قريبا، فهو قادر على أن
يجد ولو ثقبًا صغيرًا فى الجدار الصلب الذى يعوق دائما أصحاب الفكر
المختلف، إلا أنه يستطيع إيجاد معادلة إنتاجية تتيح رؤية النور.
فى لقاءاتنا الأخيرة رأيته يتدفق ليس فقط حياة، لكن حيوية،
وخفةَ ظلٍ وحضورًا، أغلب الأخبار التى قرأتها جاءت بعد الرحيل، تضمنت هذه
المعلومة التى تناقلها الزملاء، رحل المخرج أسامة فوزى بعد معاناة طويلة مع
المرض.
آخر مرة رأيته فيها قبل نحو 10 أيام فى إحدى اللجان
السينمائية، لم أجد أى معاناة مباشرة أو مستترة طويلة أو قصيرة، كان لديه
مشكلة طفيفة فى أحد صمامات القلب، إلا أنه تعايش معها.
لم نكن قد التقينا قبل نحو 10 سنوات، حتى عندما شارك فى
لجنة تحكيم مهرجان (الجونة) قبل عام، تضاربت المواعيد فلم نجتمع فى لقاء،
ولكنى سعدت قطعا بتواجده فى المهرجان، لأنه من الأسماء التى يتم ترشيحها فى
لجان التحكيم قليلًا.
اللجنة السينمائية التى التقينا بها كانت تفرض علينا قراءة
عدد من النصوص، تبادلنا التليفونات، ففوجئت بتليفون من أسامة يقول لى إنه
قد أنهى القراءة، بل طلب أن أرشح له أى سيناريو أعجبنى من بين ما قرأت، ولم
أكن قد بدأت بعد، فطلبت مهلة أسبوعًا، أدهشنى بحرصه ودقته فى القراءة، وقبل
ذلك التزامه بالمواعيد، هناك انطباع سائد أن أسامة لا يلتزم، والحقيقة غير
ذلك تماما، فهو أكثرنا التزاما.
المطلوب من اللجنة اختيار السيناريو الفائز، ولدينا مرشحون
أعلم تماما أنه تربطه صداقات بالعديد منهم، إلا أنه تحرر تماما من هذا
القيد وانحاز لما يراه الأجمل.
إنه المخرج الذى يمتلك عالمه ونبضه وتفاصيله التى لا تعبر
سوى عن أسامة، هو الأهم فى جيل التسعينيات، بعد حقبة الثمانينيات والذى
تضمن أسماء خان وبشارة وداوود والميهى والطيب ونصرالله وعرفة، وعلى اختلاف
المذاق الفنى الذى قدمه كل منهم فقد منحونا لمحات خاصة، وأفلامهم امتلكت
قدرًا لا ينكر من الحداثة، والجرأة والقدرة على الاقتراب أكثر من خشونة
الحياة الواقعية بجمال فنى، جاء أسامة فوزى من رحم هذا المنهج، إلا أنه
حافظ على خصوصيته.
ينتمى أسامة لعائلة فنية، والده المنتج السينمائى المعروف
جرجس فوزى، وشقيقه الأكبر هانى فوزى، أكمل هانى مسيرة الأب بعد أن درس
الإنتاج فى معهد السينما، بينما أسامة التحق بمعهد السينما قسم إخراج،
وأتاحت له الظروف التواجد فى فريق الإخراج المساعد لأفلام يوسف شاهين وحسن
الإمام وهنرى بركات وحسين كمال وداوود وصولا إلى يسرى نصرالله ورضوان
الكاشف.
وفى منتصف التسعينيات، قرر أن يقدم مشروعه الأول مع الكاتب
مصطفى ذكرى، ليحرز هدفا عظيما بهذا الفيلم الاستثنائى (عفاريت الأسفلت)،
فهو لا يراهن على أسماء النجوم، بل على الممثل قبل النجم، حكى لى أسامة فى
لقائنا الأخير، إنه فى البداية رشح المطرب محمد فؤاد لدور (رينجو)، سائق
الميكروباص (المخربش) الذى يُشهر المطواة فى وجه من يعارضه، ولكن فؤاد
اعتذار، ولم يبدِ أسبابًا، فكان الترشيح الثانى محمد شرف، ووقتها لم تكن
تسند إليه إلا أدوار ثانوية، ولكن عين المخرج الموهوب التقطت هذا الفنان
الذى اكتشفه، بعد ذلك بسنوات عدد كبير من السينمائيين، المفاجأة بالصدفة
يكتشف أسامة أن شرف أساسا لا يعرف قيادة السيارة، وعندما سأله لماذا لم
تقل؟ أجابه أنه يتدرب، وبالطبع استبعد الترشيح، وأسند له دورًا أقل فى
المساحة من (رينجو)، ورشح للدور النجم الصاعد وقتها الراحل عبدالله محمود
لتصبح أول رهان حقيقى عليه.
فى الفيلم الثانى (جنة الشياطين) 1999، إنتاج محمود حميدة
أيضا مع توأمه الفنى مصطفى ذكرى، عن رواية الكاتب البرازيلى جورج أمادو
(الرجل الذى مات مرتين)، والبطل هو المسيحى الثرى منير الذى قرر اختيار
حياة أخرى لنفسه تاركًا حياة الأثرياء ليعيش مع المهمشين والخارجين عن
القانون باسم (طبل)، يكتشف أصدقاؤه بالصدفة ذلك، ويقررون وهم مجموعة من
العابثين بعد موته اختطافه، ليحتفلوا به على طريقتهم، كان المرشح الأول
لدور الميت عمر الشريف، هكذا أيضا كانت وجهة نظر المنتج محمود حميدة ووضع
ميزانية مليون جنيه كأجر، ولكن عمر كما روى لى أسامة لم يرد، فكان الحل أن
يلعب حميدة الدور، ويحصل حميدة على جائزة افضل ممثل من مهرجان (دمشق)
والفيلم نفسه اقتنص الجائزة الأولى فى المهرجان وغيرها من الجوائز المهمة
فى لجنة تحكيم كان يرأسها المخرج كمال الشيخ، وعندما يحصل ممثل يلعب دور
ميت على جائزة الأفضل يجب أن نتوجه لدراسة ما فعله المخرج ومدير التصوير
والمونتير، هذا الفيلم يدعوك من فرط جماله للعديد من المشاهدات، الزمن
الفعلى لا يتجاوز 24 ساعة، ولعب المخرج بعدد من الوجوه الجديدة مثل عمرو
واكد وسرى النجار.
ونأتى للفيلم القنبلة كما أراه (بحب السيما) 2004 التابوه
الذى اخترقه أيضا أسامة بجرأة مع الكاتب هانى فوزى.. أن تُصبح العائلة
المسيحية هم الأبطال ليلى علوى ومحمود حميدة وعايدة عبدالعزيز والطفل يوسف
عثمان، بينما تعود المشاهد على رؤية أبطاله مسلمين، أيضا التفاصيل فى تقديم
الفروق بين الطائفتين الأرثوذكس والبروتستانت، كلها عوالم غير مألوفة
للجمهور، بينما قرأ البعض الفيلم على نحو خاطئ، والكنيسة اعترضت، وهتفوا فى
صحن الكنيسة ضد أسامة فوزى.
انه واحد من أجرأ وأهم الأفلام فى الألفية الثالثة، ويدفع
أسامة كعادتة بوجوه جديدة، لأول مرة، مثل إدوارد ومنة شلبى، ويقدم حميدة
أحد أمتع أدواره على الشاشة.
وننتقل إلى فيلمه الرابع 2009 (بالألوان الطبيعية)، ومع نفس
الكاتب هانى فوزى، الرهان المباشر على عدد من الوجوه الجديدة، يمنحها
البطولة، كريم قاسم ويسرا اللوزى ورمزى لينر وفرح يوسف وفريال يوسف، ويقدم
صراع الرؤية الدينية التى سيطرت حتى على الأساتذة داخل كلية الفنون الجميلة
مع الفنون الجميلة.
الفيلم ليس الأفضل، ولا هو الذروة للعديد من المشكلات
الفنية ليس الآن مجال ذكرها.
يبقى أن هذا المخرج الاستثنائى كان إيقاعه الفنى فى الإبداع
فيلمًا كل خمس سنوات، وهو كما ترى نتاج قليل العدد لكنه قادر على أن يضعه
فى قائمة الأهم بين مخرجى جيله.
ظل أسامة 10 سنوات ينتظر مشروعه الخامس، وحاول فى الدراما
التليفزيونية التى أراها لا تتوافق مع تكوينه الفنى ورغم ذلك تعثر المشروع.
غادرنا أسامة سريعًا، وودعته آخر مرة التقيته فيها بقبلة على أمل أن نلتقى
مجددا فى واحدة من الحفلات السينمائية، إلا أنه أخلف الوعد! وداعا يا من
أحببت السينما التى قدمها، وعندما اقتربت منه إنسانيًا قبل الرحيل بأيام
أحببت الإنسان الرقيق أسامة فوزى.
tarekelshinnawi@yahoo.com |