أسامة فوزي.. الرجل الذي مات مرتين
بقلم: أسامة عبد الفتاح
** أدخلنا "جنة الشياطين" عام 1999 وكأنه يشيّع جثمان عقد
التسعينات التعيس ويسخر منه في الوقت نفسه
يحيلك موت المخرج أسامة فوزي المفاجئ، الثلاثاء الماضي، إلى
فيلمه الأيقوني "جنة الشياطين"، الذي قدم فيه، منذ عشرين عاما، أنضج معالجة
شاهدتها شخصيا لقضية الموت في السينما المصرية.
في مفاجأة أسامة، كما في الفيلم، الموت حياة أخرى، والحياة
نوع من الموت. أسامة هو الرجل الذي مات مرتين، أو الذي عاش مرتين، مثل بطل
قصة جورجي أمادو.
أدخلنا أسامة "جنة الشياطين" عام 1999، وكأنه يشيّع جثمان
عقد التسعينات التعيس، ويسخر منه في الوقت نفسه، من خلال "طَبل"، الذي
ينفتح عليه الفيلم ميتا في "غرزة" بجوار ثلاثة أصدقاء من عالم سفلي اختار
بكامل إرادته، ودون سبب محدد، أن يهرب إليه قبل عشر سنوات أخرى تاركا عمله
ذا الياقة البيضاء وزوجته وابنته.
تأتى تلك الابنة لاستلام الجثة، وتبدأ سلسلة إجراءات طويلة
لـ"تنظيفها" وإعدادها لجنازة تليق بصورة أبيها التي كانت، لكن أصدقاءه
الثلاثة تصعب عليهم "حبسته" في التابوت الفاخر، فيختطفونه إلى العالم الذي
يحبه ويريده، تحت عيني ابنته التي تستسلم لـ"رغبة" أبيها الأخيرة.
وكنت توقفت أمام هذا التحول الحاد، البالغ 180 درجة، في
موقف الابنة.. فبعد كل المجهود الذي بذلته وكل الأموال التي أنفقتها لتحقيق
الشروط "البورجوازية" التقليدية لجنازة أبيها، وافقت بكل سهولة على هروبه
من البيت - للمرة الثانية - مع أصدقائه. وفسر لي أسامة ذلك وقتها بأن شخصية
الابنة تطهرت من إحساسها بالغيظ من أبيها الذي كان يتجاهلها (كانت أخرجت له
لسانها في مشهد سابق فور انفرادها بالجثة)، عندما دخلت الغرفة التي يرقد
فيها ببدلته الكاملة بعد تجهيزه، وأضاءت الشموع، واطمأنت أنه أصبح على
الصورة التي تنشدها وأحست أنها فعلت به - أخيرا - ما تريد، ولم يعد شيء
يهمها بعد ذلك.
أما مصطفى ذكري، الذي كتب السيناريو والحوار عن قصة أمادو
"الرجل الذي مات مرتين"، فوافق على أن الابنة دفنت أباها بالفعل في هذا
المشهد، وأضاف لي وقتها أنه قصد - أثناء الكتابة - أن يوجه مسار الابنة
بشكل "ميلودرامي" إلى حيث يريد.. بالإضافة إلى ذلك، هناك عدة إشارات سابقة
في الفيلم على أن الابنة تشبه أباها، وأنها ورثت سلوكه، ولذلك من الممكن أن
تغير موقفها فجأة، تماما كما قرر هو فجأة، وبلا أي مبرر، أن يهجر أسرته
وحياته المستقرة، بل واسمه: "منير رسمي".
ويلهو الفيلم - في سخرية لاذعة ومريرة - بالتناقض الحاد بين
تعامل كل من العالم البورجوازي المنمق، والعالم السفلي لـ"الشياطين"،مع
الموت: جانب يراه مجموعة من الإجراءات المادية لحفظ الشكل الخارجي أمام
الناس، وآخر لا يعترف به أصلا، ويتحداه، في لعبة وجودية خطيرة لا تخلو من
عنف وقسوة.
ولم يخف صناع العمل انحيازهم الكامل لهذا الموقف الوجودي،
وهذا ما جعلني أصف معالجتهم قضية الموت بأنها الأنضج على الإطلاق في رأيي،
حيث يقف الفيلم على قمة لا يقترب منها إلا "السقا مات" لصلاح أبو سيف.
ووُفق أسامة فوزي تماما في نقل هذا الموقف الجديد - الصادم
للبعض - عبر سرد محكم، يتدفق بلا ترهل، ويتفجر بالحيوية، تلك الحيوية التي
أساء البعض فهمها أو التعامل معها، واعتبرها ضجيجا أو صوتا عاليا يسود
الفيلم.
وهؤلاء لم يدركوا أن هذه الحيوية هي روح العمل، والخلفية
التي يجرى عليها إعداد البطل لميلاده الثاني، وأن ما يسمى بالصوت العالي
مقصود تماما (اسم البطل "طبل")، حتى أن الهدية التي يحضرها الشياطين
لصديقهم، عندما يذهبون لإلقاء النظرة الأخيرة عليه، ضفدع ذو صوت عال.وهذا
الضفدع هو كل ما يتبقى - بعد هروب "طبل" الثاني - داخل التابوت الفاخر..
ويصبح - بقفزاته الصغيرة وصوته العالي - رمزا للحياة الثانية التي انطلق
"طبل" إليها مع أصدقائه.
وهكذا يعنى الفيلم للغاية بأدق التفاصيل التي تتجمع وتتراكم
معا لتصنع نسيجا متماسكا ومتميزا.. فمثلا: الشموع التي تشعلها الابنة بكل
عناية حول جثة أبيها.. يطفئها احد الشياطين فيما بعد بيده بكل سهولة.كما
يفتح الأصدقاء نوافذ وستائر غرفة مكتب "طبل" لأن "رائحتها مثل القبر"، فهم
لا يعترفون بأنها قبر بالفعل لأن بها جسدا مسجى، كل ما يعرفونه أنها تخنقهم
وتخنق صديقهم!
وبالفيلم مشاهد لا تنسى، على رأسها مشهد تغسيل جثة "طبل"
على مكتبه، بينما تستعرض الكاميرا صوره العائلية، الموضوعة تحت زجاج
المكتب. ويتساقط الماء والصابون على الصور كأنه يغسل حياة "طبل" السابقة
كلها. وفي أحد المشاهد، يتناقش "مورد جثث" لطلبة الطب مع أحد الشياطين حول
بيع جثة "طبل"، بينما يبدو على حائط الخلفية ملصق فيلم "تجار الموت"، في
دلالة لا تخفى على أحد.
وهناك مشهد النهاية الرائع، حيث تتجه السيارة المتهالكة
بشياطينها إلى نهاية نفق مظلم، بينما تحتضن عشيقة "طبل" حبيبها - الجثة -
وتستأذنه باكية في استكمال حياتها مع آخر، في مونولوج طويل ينتهي بانقلاب
ساخر ولاذع للصورة والسيارة والفيلم يُعد رمزا لانقلاب الحياة إلى موت،
والموت إلى حياة.
بعد عشرين عاما جاء أسامة ليموت مرتين: مرة حين قتله الخلل
والتجاهل والجهل فتوقف عن تحقيق أحلامه عشر سنوات، وأخرى حين اختار أن
يترجل عن جواده ويرتاح، لكنه أيضا عاش مرتين: مرة حين صنع تحفه السينمائية
وشكل بها وجدان الكثيرين، وأخرى حين تحررت روحه وانطلقت إلى آفاق أرحب. |