لا أحد يبدو راضيا عن اختيار الأفلام التي جاءت ليس طبقا
لمستواها، بل تحقيقا للتوازن "الجندري" بين الرجل والمرأة، وهي "الصرعة"
التي يمكن أن تدمر صناعة المهرجانات وفلسفتها.
انقضت أربعة أيام على بداية الدورة الـ69 من مهرجان برلين
السينمائي، الإحباط هو العامل المشترك بين غالبية النقاد والصحافيين
الحاضرين أمام أفلام لا ترقى في مستوياتها الفنية إلى التنافس على جوائز
مهرجان كبير وعريق مثل هذا المهرجان، واللوم كله يوجه لمدير المهرجان ديتر
كوسليك الذي قضى 19 دورة من عمر هذا المهرجان، الأمر الذي يثير الاستياء،
وقد وقّع 80 سينمائيا ألمانيا رسالة مفتوحة نشرتها مجلة “دير شبيغل” يتهمون
فيها كوسليك بتدمير سمعة المهرجان وتسييره لخدمة حساباته ومصالحه الخاصة
الضيقة.
برلين- لا
أحد يبدو راضيا بوجه خاص عن فيلم افتتاح مهرجان برلين السينمائي في دورته
الـ69 والمعنون بـ”تعاطف الغرباء”، والذي سبق أن نشرنا عنه تفصيلا، وقلنا
إنه بتواضعه لا يتمتع بمستوى يؤهله لافتتاح هذا المهرجان العريق.
ولا أحد، بمن في ذلك الكثير من الصحافيات والناقدات، يبدو
راضيا عن اختيار الأفلام التي جاءت ليس طبقا لمستواها، بل تحقيقا للتوازن
“الجندري” بين الرجل والمرأة، وهي “الصرعة” التي يمكن أن تدمر صناعة
المهرجانات وفلسفتها التي كانت دائما تقوم على اختيار الأفضل والأكثر تميزا
بغض النظر عن موضوع الجنسين، لكننا نعيش عصر ما بعد حملة “أنا أيضا” التي
أنتجت هذا النوع من التعصب المضاد.
الأرض تحت قدمي
شاهدنا مثلا فيلم “الأرض تحت قدمي”
Der Boden unter den Füßen،
وهو من إخراج المخرجة النمساوية ماري كرويتزر، ويصوّر الحياة الصعبة لامرأة
شابة جذابة في الثلاثين من عمرها هي لاورا، تعمل عملا شاقا لا يسمح لها
بالراحة كخبيرة في إعادة هيكلة الشركات، لكنها تتمكن من اقتناص لحظات من
المتعة بين وقت وآخر مع رئيستها في العمل التي ترتبط معها بعلاقة عاطفية
وجسدية.
لاورا تتمتع بكفاءة كبيرة في العمل، تقسو على نفسها، تخفي
الكثير عن حياتها الخاصة، تتحرك باستمرار حركة دؤوبة كالنحلة سواء في
مكتبها أو في منزلها، تسافر كثيرا إلى الخارج، لا يبدو أنها تعير المشاعر
اهتماما وهي تتخلص من العاملين في الشركات حفاظا على استمرارها في السوق
طبقا للمنطق الرأسمالي المعروف.
وهي لا تعاني فقط مما يتولد عن العمل الشاق والمنافسة
والرغبة الدائمة في التحقق والصعود، من ضغوط نفسية عنيفة تنعكس عليها بقوة،
بل من شعورها أيضا بالمسؤولية عن شقيقتها الكبرى التي ترقد في مصحة للأمراض
النفسية، المصابة بالشيزوفرينيا البارانوية، أي مزيج من مرض الارتياب
والفصام معا، وهي تخفي وجود شقيقتها عن الآخرين، بل تصر على كونها ابنة
متبناة وحيدة لا تعرف والديها.
دراسة الشخصية
هذا فيلم من نوع “دراسة في شخصية” أو دراسة شخصية
character study،
وهو يظل يدور حول هذه الشخصية من الخارج، مع إفراط في المشاهد الحسية من
دون ضرورة درامية حقيقية، تنتهي قصة لاورا نهاية صادمة لكن هل ستتعلم هي
الدرس؟
هناك أيضا فيلم آخر من نوع دراسة الشخصية، هو “الرب موجود
ولكن اسمه بترونيا” للمخرجة المقدونية تيونا ستروغر، يدور الموضوع حول قصة
تحمل دلالات واضحة أساسها كيف أن جميع الرجال أنذال والنساء ضحايا، بل إن
الرجال وحوش ضارية، لا يقيمون وزنا للمشاعر أو القيم، بمن في ذلك القس.. أي
رجل الكنيسة الأورثوذكسية وضباط الشرطة والنائب العام ومجموعة الشباب في
تلك البلدة التي تعيش فيها بترونيا مع والديها، وقد تجاوزت الثلاثين من
عمرها، لكنها ما زالت عاطلة عن العمل منذ تخرجها في قسم التاريخ.
ولكونها بدينة وغير جذابة في نظر الرجال، فإنها تفشل في
العثور على عمل حتى في تنظيف مكتب مدير أحد المصانع وتقديم القهوة له، ورغم
وساطة أمها التي تريدها أن تعمل بأي ثمن وتهيمن بطريقة فظة على حياتها،
يطردها مدير المصنع شر طرد، بعد أن يوجه إليها إهانات تتعلق بأنوثتها.
بترونيا تصادف احتفالا دينيا كنسيا يشارك فيه عدد كبير من
شباب البلدة، الذين يقذفون بأنفسهم إلى مياه النهر، متبارين حول من يمكنه
أن يلتقط الصليب الكبير الذي ألقاه القس في مياه النهر، يفشل الجميع ولكن
بترونيا تلقي بنفسها بكامل ملابسها في النهر وتتمكن من انتشال الصليب، ورغم
أنها غير متدينة إلاّ أنها تصر على الاحتفاظ به متشبثة بفكرة التحقق ولو
لمرة واحدة، وهي التي تعاني من الشعور بالفشل المتكرر في حياتها.
ينقلب عالم بترونيا رأسا على عقب، فتجد نفسها مهددة من عصبة
الشباب المتعصب المهووس الذي يرفض أن تحتفظ امرأة بالصليب المقدس، بل
ويعترضون أصلا طبقا للوصايا المسيحية على نزول امرأة إلى النهر لتشارك في
مناسبة قاصرة دينيا على الرجال فقط.. وهم يدفعون القس الذي بدا متعاطفا
معها إلى تغيير موقفه وإبلاغ الشرطة التي تلقي القبض على بترونيا وتحقق
معها، وترفض إطلاق سراحها أو توجيه اتهام رسمي مباشر لها.
وخلال ذلك تترافع بترونيا عن نفسها في مواجهة عالم الرجال:
المؤسسة الرسمية: الأمن والقضاء والكنيسة، تدين الجميع وتدافع عن حق المرأة
ككائن إنساني من خلال أسلوب إنشائي خطابي مباشر مع الكثير من التكرار ومن
دون تطوير حقيقي للموضوع، حيث يطغى الرمز حينا، والتعليق الاجتماعي (عن
البطالة والفساد والنفاق) حينا آخر، وبالتالي تترسخ خيبة أمل أخرى في فيلم
“نسائي” آخر من أفلام المخرجات السبع في المسابقة الرسمية.
الديناصور والإنسان
من وجهة نظر كاتب المقال يظل الفيلم الذي يمثل منغوليا في
المسابقة الرسمية “بيضة الديناصور”
Ondog،
هو أفضل ما شاهدت من بين أفلام المسابقة (عرضت 8 أفلام)، من الناحية الفنية
الصرف، وهو من إخراج المخرج الصيني الشهير وانغ كوانان صاحب الفيلم الفائز
بالدب الذهبي قبل 12 عاما “زواج تويا” وكان يصوّر كيف تطلّق راعية أغنام
زوجها العليل الذي لا يمكنه أن يكسب عيشه وتذهب إلى المدينة وتتزوج رجلا
آخر لكي يمكنها الإنفاق على زوجها السابق وأبنائها منه.
كان هذا العمل يمثل نوعا من الاحتجاج الدرامي البديع على
الصورة الشائعة عن الصين باعتبارها الدولة التي تحقق نموا اقتصاديا
صاروخيا، ولكنها أهملت الريف وسكان البراري.
في “أوندوغ”
Ondog
يعود كوانان إلى البراري والطبيعة الساحرة القاسية الباردة في فصل الشتاء،
ليحذرنا من البداية من أن ما تراه العين ليس بالضرورة هو الحقيقة.
ويبدأ الفيلم بداية تذكرنا كثيرا ببداية الفيلم التركي “كان
يا ما كان في الأناضول” (2011) لنوري بيلج جيلان، فنحن في قلب الطبيعة
الريفية المعزولة، في العراء بكل معنى الكلمة، حيث ترقد جثة امرأة عارية
ممددة متجمدة من شدة البرد.. والذئاب تحاول افتراسها.
لكن امرأة محنكة من البادية (راعية أغنام) تظهر مع رفيقها،
تصوب بندقيتها العتيقة وتطلق النار لكي تخيف الذئاب وتبعدها عن الجثة،
ولكنها تقتل دبا تستقر جثته بالقرب من جثة المرأة، يحضر رجال الشرطة في
سيارة متهالكة، يغطون جثة المرأة، يعين قائد المجموعة شرطيا شابا في
الثامنة عشرة من عمره حارسا على الجثة، حيث يتعين عليه أن يقضي الليل بجوار
تلك الجثة وحيدا في الظلام والبرد.
"الرب
موجود ولكن اسمه بترونيا" فيلم يقدم جميع الرجال أنذالا والنساء ضحايا، بل
إن الرجال وحوش ضارية
تساعده راعية الأغنام على إحكام ملابسه وتعده بالعودة في ما
بعد لكي تزوده بالحساء الساخن، المرأة تستخدم في تنقلاتها جملا ذا صنمين،
ويستخدم رفيقها دراجة بخارية، لكن رغم بدائية المنطقة تعمل أجهزة الهاتف
المحمول بفعل انتشار الشبكة في تناقض وسخرية واضحة مع مستوى الحياة البائسة
التي يعيشها سكان المنطقة.
البداية توحي بأننا أمام فيلم من أفلام الجريمة، لكنه ليس
كذلك، فالاهتمام بالتحقيق لا يستغرق زمنا طويلا ولا يتم التركيز عليه، تحضر
المرأة بالحساء الساخن لتنقذ الشاب الذي يفتقد للتجربة من الموت، تسأله إن
كانت لديه صديقة فيخبرها بأنه يتلعثم عند رؤية النساء، تلقي الشرطة القبض
على المشتبه فيه في تلك الجريمة التي ترجع غالبا إلى الغيرة، وتنشأ علاقة
جسدية وعاطفية بين راعية الغنم والشرطي الشاب وهي علاقة لن تكتمل، ولكنها
ستترك في أحشاء المرأة جنينا، ويعترف لها رفيقها بأنه معجب بها منذ أن كانت
فتاة صغيرة.
في الفيلم إشارات رمزية كثيرة أهمها بالطبع بيضة الديناصور
(عنوان
الفيلم
Ondog)
التي يعثر عليها الرجل ويهديها للمرأة باعتبارها رمزا للخصوبة، ويتردد في
الفيلم أن منغوليا كانت مهد الديناصورات وقد عثر فيها على الكثير من البيض
المتجمد وانتقل منها عبر التهريب مقابل مبالغ كبيرة، إلى أميركا وأوروبا.
ينتمي الفيلم مذهبيا إلى المذهب الطبيعي في الفن، هنا لا
يهم كثيرا تحليل الشخصيات وتجسيد دوافعها، بل تصويرها في إطار الطبيعة كما
هي، في تلقائيتها، وفي خشونتها ورقتها وعنفها ومرحها وإيقاعها الخاص.
وانغ كوانان وأبطاله يعودون في "بيضة الديناصور" إلى
البراري والطبيعة الساحرة الباردة بمونغوليا، لتحذيرنا من أن ما تراه العين
ليس بالضرورة هو الحقيقة
راعية الغنم تحضر خمرا وحساء، وتجلس بجوار الشرطي في قلب
الليل وفي قلب الطبيعة يستند الاثنان على جسد الجمل الضخم ذي الصنمين الذي
يبدو كما لو كان كائنا خرافيا قادما من الخيال، ومع سريان الخمر في الدماء،
تتفجر الرغبة وتعلن العاطفة الطبيعية عن نفسها، ويمارس الاثنان الجنس بينما
ينصت الجمل ويتطلع ثم يصدر أيضا بعض الأصوات الاحتفالية بمولد حياة جديدة
بين الرجل والمرأة.
وهي العلاقة التي ستثمر بالفعل كائنا يتشكل في رحم المرأة،
خلال الالتحام الجنسي ومع الاقتراب من لحظة النشوة الكبرى، تقبض راعية
الغنم على بندقيتها، وتصوب وتطلق النار في الفضاء ثلاث مرات.
إننا أمام عمل بصري رفيع المستوى، فيه تشكيل الطبيعة
والظلمة وحركة الإنسان في جوف الليل، وبالنيران المشتعلة التي نستطيع أن
نسمع صوتها وهي تأكل الأخشاب على خلفية موسيقى إلكترونية تتضمن نغمات
إيقاعية تبدو كما لو كانت تصدر من جوف حيوان أسطوري، ربما يكون الديناصور
نفسه.. والرمز الكامن في بيض الديناصور الذي يتردد في الفيلم خلال الحديث
بين المرأة ورفيقها، يوحي بوجود علاقة ما بين خصوبة الأرض التي تحفظ فيها
بيض الديناصورات وخصوبة المرأة، ومن دون هذه الخصوبة لا تستمر الحياة، ومن
دون الحفاظ على النوع يمكن أن ينقرض الإنسان كما انقرضت الديناصورات.
ويؤمن كل من الرجل والمرأة بأن الحيوانات التي تموت لا
تنقرض كما يشاع، بل تتحول إلى جزء من التربة ومنها تنبت النباتات التي
يأكلها الحيوان الذي يأكل الإنسان لحمه، وتستمر بالتالي دورة الحياة التي
تتخذ فقط أشكالا مختلفة.
التشكيل والشعر
لا توجد دراما في الفيلم، ولا ترابط قصصيا بين أجزائه
المختلفة.. فهو تعبير شعري عن علاقة الإنسان بالطبيعة وعناقهما الحار في
برودة الليل وقسوة التضاريس من خلال التكوينات البديعة والتشكيل وحركة
الكاميرا واللقطات الواسعة البعيدة والإيقاع البطيء.
تتبدى العلاقة أيضا بين الإنسان والحيوان: الجمل ثم الحصان
ثم الخروف ثم البقرة، ففي أحد المشاهد تستدعي المرأة رفيقها ليساعدها في
ذبح خروف هو الذي تصنع منه الحساء اللذيذ الذي تأتي به للشرطي، وفي المرة
الثانية تستدعيه لكي يساعدها في توليد بقرة تعاني من آلام المخاض.
وفي واحد من أجمل مشاهد الفيلم وأمام الكاميرا مباشرة،
يتعاون الاثنان في جذب الجنين الصغير من بطن البقرة التي يتركانها تلعق
جسده قليلا قبل أن يحمله الرجل إلى داخل الكوخ، في تكوينات ليلية ضوئية
تضفي جمالا أخاذا على الصورة بألوانها الحارة حيث يغسلان جسده بالماء،
ويدفئانه حتى لا يتجمد من البرد.
وكعادة المخرج كوانان، يمزج هنا بين الممثلين المحترفين
وغير المحترفين من سكان المنطقة، أما بطلة الفيلم راعية الغنم فهي من سكان
تلك المنطقة بالفعل، وهي تعرف جيدا كيف تتعامل مع الطبيعة، ولا شك أنها
أضافت الكثير من التفاصيل التلقائية والطبيعية على دورها في الفيلم.
ويستخدم كوانان الكثير من اللقطات العامة من زوايا بعيدة في
تكوينات تظهر علاقة الإنسان بالطبيعة، وجمال الطبيعة وقسوتها، ربما يكون
الفيلم صغيرا في موضوعه، لكنه صادق ومعبر ونابض بالحياة وعمل يتميز
بالأصالة.
كاتب وناقد سينمائي مصري |