"التحدّث
عن الأشجار": السودان يثور سينمائياً
برلين - هوفيك حبشيان
المصدر: "النهار"
في دورة باهتة إلى حدّ ما من مهرجان برلين السينمائي (٧ -
١٧ الجاري)، أفلام عدّة تصدّرت المشهد، منها "التحدّث عن الأشجار” للمخرج
السوداني صهيب قسم الباري، الذي عُرض في قسم "بانورانا" ونال جائزتين: أفضل
فيلم وثائقي وجائزة الجمهور.
يجوز اعتبار هذا الوثائقي - باكورة مخرج في الأربعين مولود
في أم درمان - احدى لقيات برلين لأسباب عدة. فالحماسة التي حدثت حوله كانت
كبيرة. هذه المرة الأولى يصل فيها فيلم سوداني إلى مكانة كهذه في برلين
الذي كان سبّاقاً في اقتناصه وعرضه. وصادف تمشاركته في برلين مع قيام
الانتفاضة الشعبية التي شهدها السودان في الآونة الأخيرة ضد الطاغية عمر
البشير ونظامه الجاثم على صدور السودانيين منذ ثلاثة عقود.
أثار الفيلم الفضول سواء عند العرب أو الأجانب. والحق انه
لا يوجد مكان أفضل من برلين لعرض هذا العمل الذي ينتصر لناس غائبين عن
الصورة، ولطالما كان بلدهم خارج الحسابات، ولا نعرف الكثير عمّا يُصنع فيه
من أفلام. حتى الانتفاضة الشعبية لم تنل ما تستحقه من تغطية في وسائل
الإعلام الغربية. لذلك، كانت هناك حاجة طبيعية للاطلاع على حكايات شعب وبلد
وناس لا نعرفهم جيداً، وهم مغيبون تماماً عن الصورة. فجاء العرض كلحظة
وجدانية نادرة، خالية من التدليس السياسي والتوظيف المجاني للقضايا المهمة.
"التحدّث
عن الأشجار" يقتفي أثر مجموعة سينمائيين مغامرين كانوا قبل سنوات من مؤسسي
ما يُعرف بـ"نادي السينما السوداني". بعد سنوات، ها هم يجتمعون مجدداً
لتحقيق حلم قديم: تأهيل دار للعرض في هواء الخرطوم الطلق، وافتتاحها، بعدما
تحوّلت على مرّ الزمان إلى ما يشبه الأنقاض. كلّ السينمات التي كانت لها
أيام عز في الخرطوم، اندثرت وأُقفلت وتعرّضت للإهمال، وثمة حاجة إلى بديل.
الهدف من هذا كله: بثّ الثقافة السينمائية ونقل عدواها إلى الأجيال الجديدة
في بلاد تعيش نوعين من القمع: الديني والعسكري. والقمعان على علاقة تواطؤ،
أحدهما بالآخر، ولا يختلفان كثيراً على مستوى ارادتهما في المنع والحظر.
كلاهما لا يريدان السينما لأنها أداة تخرج عن نطاق سيطرتهما. لذلك، تماطل
السلطات المعنية في منح الاذن المطلوب لترميم السينما واعادة افتتاحها
وشراء المعدات المطلوبة، مع العلم ان الصالة اسمها "سينما الثورة".
في مقابلة مع "راديو فرانس انترناسيونال"، روى المخرج انه
رافق الأربعة ذات مرة إلى أحد العروض، وهكذا وُلدت الفكرة. فجأةً، خلال
العرض، هبّت عاصفة ترابية، ولكن لا أحد تحرّك من مكانه، والعرض استمر على
هذا النحو، مع التراب في العيون، في مشهد معبّر يرمز إلى الواقع الذي يعيشه
محبّ السينما في السودان.
هؤلاء الأربعة سينمائيون حقيقيون، تتراوح أعمارهم بين
العقدين السادس والثامن، جلّهم متقاعد أو معتكف عن العمل لأسباب خارجة عن
إرادته. كثر منّا لا يعرف أياً منهم، الا انهم سبق ان أنجزوا افلاماً عديدة
نرى مقاطع منها في الفيلم، وقد استعاد الـ"برليناله" عدداً منها في نسخ
رُمِّمت في ألمانيا (لا تتجاوز مدة نتاجهم الذي انطلق في العام ١٩٦٤
الساعات الثلاث).
السينمائيون الأربعة هم متن الفيلم، الريش التي يرسم بها
قسم الباري لوحة مضيئة - كئيبة لسودان معاصر حيث أي رغبة أو أمنية تصطدم
بواقع أليم لا يتوقّف عن تذكير الإنسان بحجمه ولا يكف عن تقليص طموحاته.
انهم إبرهيم شداد، منار الهيلو، سليمان محمد إبرهيم، الطيب
مهدي. أكبرهم شداد وهو في الثمانينات من عمره، وأكثرهم نشاطاً. صداقة عميقة
تربطهم منذ قرابة النصف قرن. الفيلم ينطوي على جملة دلالات على
سينيفيليتهم. اذ يبدأ مثلاً بإعادة تمثيل ساخرة لمشهد فيلم "سنست بولفار"
الشهير، مع غلوريا سوانسون، من دون أي كاميرا، بل بالايماء.
هؤلاء درسوا في القاهرة والإتحاد السوفياتي وألمانيا
الشرقية، والمدرستان السينمائيتان الأخيرتان واضحتان في مقاربتهم للسينما
ونمط اشتغالهم. كانت لهم في الماضي أحلام كبيرة، بعد عودتهم إلى بلادهم عقب
سنوات من التشرد في بقع مختلفة من العالم. انهم من جيل كان يشكّل أملاً
لقيام سينما سودانية. الانقلاب العسكري عام ١٩٨٩ الذي جاء بعمر البشير،
فسيطرة الإسلاميين على البلاد والعباد وفرض شريعتهم الإسلامية، صنعا كارثة.
مذذاك حُصرت السينما في بعض الصالات التي تعرض أفلاماً تجارية من أميركا
والهند. تبددت أحلام الماضي ولم يبقَ منها سوى شذرات. ضوء الشموع الخافت حل
مكان الكهرباء، في استعارة تقول كلّ شيء عن نضالهم، وعن ذهنية السلطة في
التعامل مع الفنّ الذي يخلق الوعي في المجتمع.
الفيلم صامت، لا صخب، لا استعراض، لا عرض عضلات، لا ابتذال،
لا توظيف لأشياء في غير مكانها. نصّ يمتاز بالكياسة، بالتواضع، بالسخرية
اللاذعة التي تدخل القلب بلا استئذان. إلى درجة ان روح الشخصيات تتسلل
داخلك ببطء. شخصيات فيها طرافة وعمق وثقافة، ولكن نتعلّق بها لسبب بسيط:
الصدق الذي يسردون فيه معاناتهم والصدق الذي يصوّر فيه المخرج ذلك. ولعل
أجمل ما في الفيلم انه لا يسيس الأشياء حتى وإن كانت السياسة في كلّ مكان.
عندما يُنتخَب عمر البشير لولاية جديدة بنسبة ٩٤،٥ في المئة، نرى هذا الحدث
من خلال قناة تلفزيونية تبثه. يحاول الفيلم تقديم مسح للبؤس السياسي من
خلال الإنسان ومن خلال الصداقة التي تربط السينمائيين الأربعة بعضهم ببعض،
ومن خلال الأشياء الجميلة التي تعيد اليهم الأمل، وفي صدارتها السينما.
ولأن الأشياء بديهية لا تحمل أي لبس، يترك الفيلم لنا حرية الاستنتاج. لا
يمارس علينا هذا التعنت غير المرغوب فيه، الذي صار صنو الكثير من الأفلام
الوثائقية المؤدلجة. "التحدّث عن الأشجار" يحمل براءة ما، براءة صناعة فيلم
وبراءة مشاركته مع الآخرين. يتخذ موفقاً من كلّ شيء، ولكن لا يعلنه بسذاجة،
بل يدعنا نكتشفه لقطة بعد لقطة، وفي هذا النمط قوة وعمق وصدق.
"التحدّث
عن الأشجار"، الذي صوّره مخرجه وهو يخشى ان يُلقى القبض عليه في أي لحظة،
يلتقط حبّ السينما الذي ظل شبه "أفلاطونياً" عند جيل الرواد، ويدفعه إلى
أبعد نقطة. هذا الحبّ يتبين لنا انه قادر على الكثير. الامكانات الضئيلة
التي في تصرفهم لا تحول دون نشر هؤلاء للثقافة السينمائية، من تشارلي شابلن
إلى “دجانغو". عروضهم تجذب بعض المشاهدين، ومنهم مَن لم يشاهد فيلماً من
قبل. بالاضافة إلى ان المشروع يعرّضهم للسجن، فتوجد أيضاً لديهم هموم من
نوع أكثر عملانية. هناك على سبيل المثل خمس دعوات إلى الصلاة، فماذا لو
تزامن ظهور قبلة على الشاشة مع اطلاق الصلاة؟
رغم لحظات الأمل التي تزهر في الفيلم هنا وهناك، فالأصوات
التي تصلنا من الخلفية تروي حال البلاد. ما نراه هو بلد مسلوب، ممزّق،
ثقافياً واجتماعياً وسياسياً. وهذا لا يمنع من ان نرى بين حين وآخر،
الاحتمالات المتوافرة في بقعة يعرف فيها الناس كيف يتكيفون مع الواقع.
طريقة تعاملهم "البطولية" مع ما يحيط بهم تثير الاعجاب وهي محل اشادة.
طريقة فيها الكثير من الحكمة والاستسلام الجميل. "نحن أكثر ذكاءً، ولكن هم
أكثر قوةً"، يقول أحد الأربعة في حديثه عن السلطة، مختزلاً جزءاً كبيراً
ممّا تعاني منه البلاد: عدم توافر الشرطين الأساسيين للخلق (القدرة
والموهبة) في كائن واحد. |