"مترادفات"..
نقد سينمائي لاذع للجيش الإسرائيلي في سياق كوميدي
أمير العمري
الفيلم المتوج بـ"الدب الذهبي" في مهرجان برلين سيثير غضب
الفرنسيين لأنه يسخر من قيمهم الوطنية، والإسرائيليون سيجدونه يدين الدولة
ويسخر من الجيش.
حصل الفيلم الإسرائيلي "مترادفات"
Synonyms
على الجائزة الكبرى “الدب الذهبي” في مهرجان برلين السينمائي كما حصل على
الجائزة التي يمنحها الاتحاد الدولي للنقد والصحافة السينمائية، وهي المرة
الثانية خلال عامين، التي يفوز فيها فيلم إسرائيلي ينتقد السياسة
الإسرائيلية بقسوة وفي سخرية لاذعة، بجائزة رئيسية في مهرجان دولي كبير بعد
فيلم “فوكس تروت” الذي حصل قبل عامين على الجائزة الكبرى للجنة التحكيم في
مهرجان فينيسيا.
في البداية شاب يتحرك في شوارع باريس، وتتحرك معه الكاميرا
في حركة دودية سريعة من زاوية منخفضة في لقطات متوسطة وقريبة تشي بحالة
البارانويا والاختناق التي يشعر بها في أعماقه، يسير بطلنا “يواف” وكأنه
تحت تأثير منوم، يردد كلمات محمومة عن رغبته في التخلص من هويته
الإسرائيلية وأن يصبح فرنسيا تماما.
لا أحد يعرف بالضبط كيف وصل “يواف” الذي كان جنديا في الجيش
الإسرائيلي، إلى هذه البناية البورجوازية في قلب العاصمة الفرنسية باريس،
ولا كيف عثر على تلك الشقة الفخمة الفارغة تماما التي يتجرد فيها من ملابسه
ويترك حقيبته الصغيرة التي كان يحملها فوق ظهره، لكي يغتسل، ثم يفاجأ بعد
ذلك بأنه فقد حقيبته وملابسه أيضا وأصبح وحيدا عاريا عديم الحيلة في تلك
الشقة، يتحرك من غرفة إلى أخرى عاريا بحثا عن ملابسه، وهو يرتعد من البرد
ثم يهبط إلى الطابق الأسفل ليطرق الباب، ولكن لا أحد يفتح له ليصعد وينتهي
الأمر به وقد استسلم للنوم من شدة التعب داخل “البانيو”.
هذا المشهد يبدو وكأنه يدور بين الحلم واليقظة. فالشقة ليس
من الممكن أن تكون واقعية، والإنقاذ الذي يأتي من الجيران غير واقعي لكنه
“المستحيل الممكن” حسب أرسطو، الذي هو أفضل من “الممكن المستحيل”. والمخرج
الإسرائيلي “ناداف لابيد”، يتبع في فيلمه أسلوبا يصنع صورة تدور بين الواقع
والخيال، بين الحاضر والذاكرة، وبين الماضي والحاضر. إنه يعتدي ويجرح ويهين
ويحطم الكثير من المستقرات، وكأنه يرغب في تحرير الفيلم من فكرة الإيهام
بالواقع من دون أن يتخلى تماما عن خلق صورته الخاصة عن الواقع، وهي صورة
تنبع من داخل الشخصية الرئيسية (يواف). فالفيلم يكاد يكون بأكمله مصورا من
وجهة نظره، وهو عندما يسير في شوارع باريس يخفض بصره إلى الأرض، يرفض أن
يكون سائحا يتطلع في انبهار إلى معالم باريس السياحية الشهيرة التي تجتذب
الملايين، لكنه جاء لكي يتخلى عن ماضيه، عن هويته الإسرائيلية، عن انتمائه
العائلي والوطني، وأن يصبح مواطنا فرنسيا خالصا.
الثنائي الفرنسي
جيران يواف في المسكن الذي اقتحمه كما لو كان يعرف مقدما
أنه خالٍ، اثنان، شاب وفتاة، إميل وكاثرين. الأول يريد أن يصبح كاتبا وقد
بدأ بالفعل في تأليف كتاب يشي عنوانه العجيب بحالته النفسية هو “ليل
الكسل”، أما كاثرين فهي عازفة على آلة الأوبوا في فرقة سيمفونية. إنهما
نموذجان مثاليان للطبقة الوسطى الفرنسية باهتمامها الكبير بالشكل،
بالأناقة، بالتلاعب باللغة، بحي الاستطلاع والدهشة إزاء الغريب. الاثنان
يعثران على يواف فيحملانه إلى شقتهما الفخمة، يتولياه بالرعاية إلى أن
يستفيق ويسترد الحياة. يقول لهما إنه إسرائيلي جاء إلى باريس لكي يتخلص من
هويته الإسرائيلية تماما وأنه يريد أن يجيد اللغة الفرنسية. يمنحه إميل
مبلغا معتبرا من المال، وبعض الملابس وأهمها بالطبع المعطف الأصفر المميز
الذي سنشاهده به طيلة الفيلم في تناقض لوني مثير للسخرية مع جميع المحيطين
به خاصة في المشاهد الخارجية العامة (لهذا اللون تحديدا معنى خاصا في
الذاكرة اليهودية). ينصرف يواف لكن العلاقة مع إميل وكاثرين ستظل متصلة.
أول ما يفعله يواف في باريس هو أن يذهب ويشتري قاموسا للغة
الفرنسية ويأخذ في حفظ الكلمات والمترادفات ويرددها بشكل محموم أثناء سيره.
وعندما يصف يواف لإميل إسرائيل التي هجرها، يستخدم الكثير من المترادفات
التي تخرج من فمه مندفعة محمومة عنيفة مثل (مقرفة، كريهة، فجة، عقيمة،
تافهة، شيطانية، فاقدة الروح.. إلخ). ويبدو “يواف” وكأنه يردد مونولوجا
طويلا عدائيا رافضا لإسرائيل بحكم تجربته القاسية في الجيش تحديدا وهو ما
سيتضح في ما بعد من خلال اللقطات والمشاهد التي تعبر ذاكرته ويسترجع من
خلالها تجربته العبثية القاسية في الجيش. ويستخدم المخرج الأغاني الأميركية
الشائعة والرقصات للتعليق الساخر على هذه المشاهد ومنها مشهد التدرب على
إطلاق النار.
هل يستطيع يواف أن يصبح فرنسيا في فرنسا وهو الإسرائيلي
الذي تكوّن وعيه وشخصيته في النظام الإسرائيلي: الاجتماعي، السياسي،
التعليمي، والعسكري؟ إن يواف نتاج الذكورية الخشنة الإسرائيلية، بينما
جاراه الفرنسيان نموذجان لفرنسا “الأنثوية” الرقيقة الناعمة التي تريد أن
تحتضنه أو بالأحرى، تلتهمه وتخنقه في ثقافتها.
من السيرة الشخصية
في الفيلم جانب مستمد من السيرة الشخصية للمخرج “ناداف
لابيد” الذي هبط إلى باريس قبل نحو عشرين عاما وقضى هناك سنوات، قبل أن
يرتد عائدا إلى إسرائيل. وهو يصف هنا تلك الحالة النفسية الشعورية العبثية
التي تنبع من شخصية الغريب القادم من مجتمع ذي تكوين شديد الاختلاف إلى
فرنسا، ساعيا للاندماج، ويلجأ في سبيل ذلك إلى هدم ما يعتبره الأساس الأول
للهوية أي اللغة، فهو يقرر ألا يتحدث العبرية على الإطلاق مهما كانت
الظروف، وأن يتعلم الفرنسية ويحفظ كلماتها ومترادفاتها، ولكنه في حاجة أيضا
إلى العمل. يلتحق بالعمل كحارس أمن في القنصلية الإسرائيلية حيث يجد نفسه
تحت إمرة ضابط مخابرات عنيف، وزميل له، كان الاثنان قد خدما من قبل في
الجيش الإسرائيلي، وهما يمثلان نموذجا نمطيا للإسرائيلي الذكوري العنيف.
يتلقى درسا في كيفية رصد أي شيء يتعلق بالعرب: الكلمات والأسماء، والصور
والإشارات والملابس والأشكال.
إننا أمام نوع من الكوميديا العبثية التي تصل في بعض
المشاهد إلى السيريالية في سياق أسلوب يتجاوز الحداثي ويقفز كثيرا إلى ما
بعد الحداثي.. والفيلم يلعب على فكرة الأنماط الشائعة والقوالب، فإميل
وكاثرين يعكسان ما هو مستقر في ذهنية “الآخر” عن الفرنسيين من خلال الأفلام
والإعلام عموما: فهما ينتميان للطبقة البورجوازية الكلاسيكية، يعتبران
“يواف” صيدا ثمينا، إميل يريده أن يزوده بذكرياته عن الفترة التي قضاها في
الجيش لكي تساعده في الانتهاء من كتابه، وكاثرين تستولي عليه جسديا، بل
ويلتصق به إميل حد الاستغلال الجنسي أيضا. أما الاستغلال الحقيقي المباشر
الذي سيتعرض له فسيأتي على يدي مصور فرنسي في مشهد يتمادى في السخرية
والنيل من الصورة الفرنسية المقولبة: إنه المصور الذي يصور يواف بعد أن
يدفعه للتجرد من ملابسه تماما، ثم يطلب منه أن يتحسس جسده ويتلوى في حركات
جنسية مثيرة وأن يضاجع نفسه بدس إصبعه في مؤخرته. يلجأ يواف لهذا العمل،
كـ”موديل” في أفلام وصور جنسية مقابل المال. وهو لا يمانع من التعري والعبث
بجسده لكن أكثر ما يصدمه ويقاومه ما يطلبه منه الفرنسي من ترديد عبارة من
العبارات المثيرة بلغته العبرية التي قرر التخلي عنها. إنه يرضخ من أجل
الحصول على المال، ولكنه يستخدم كلمات لا يفهمها الفرنسي بالطبع، مليئة
بالشتائم والكلمات النابية التي يوجهها للفرنسي!
زميله ضابط الأمن في السفارة، مصاب بلوثة اسمها “العداء
للسامية” ينتابه الشعور بأن العالم كله أصبح معاديا لليهود، وأن فرنسا هي
قلعة العداء للسامية. وهو يقفز أمام الجمهور في إحدى محطات مترو باريس ثم
يردد بطريقة عدوانية تشي بالتحدي: “أنا يهودي.. من إسرائيل”، وسط دهشة
الجميع، وصدمة “يواف”.. فهذا الحارس هو نقيضه، فبينما يرغب يواف في التخلص
من يهوديته، يستعرض الثاني في استعلاء وتحدٍ هويته اليهودية الإسرائيلية بل
ولا يجد غضاضة في ترديد النشيد الإسرائيلي.
فرنسا إذن تستغل يواف وتستخدمه ولا تريد الاعتراف بسهولة
بأنه يمكن أن يصبح فرنسيا. وهو من جهته يرفض الفن الذي تقدمه كاثرين
وفرقتها السيمفونية. وعندما يلتحق بمدرسة لتعلم اللغة الفرنسية وكيف يصبح
مواطنا فرنسيا، وسط مجموعة من ذوي الأصول الأفريقية والصينية وغيرهم، يجد
نفسه أمام نوع آخر من الشوفينية الفرنسية والاعتزاز الوطني بالقيم الفرنسية
من خلال ما تقوم بتلقينه لهم المعلمة الفرنسية، بل يكتشف أن كلمات النشيد
الوطني الفرنسي مليئة بالعنف والحض على القتال والتباهي بالانتصارات
العسكرية. فهو يهرب من ثقافة العنف الإسرائيلية، ليجد نفسه مطلوبا منه
ترديد أفكار مماثلة عن التباهي بالانتصارات العسكرية والحروب إن أراد أن
يصبح فرنسيا.
في أحد المشاهد يقف يواف في الليل أمام كنيسة نوتردام
الشهيرة ويتطلع إليها وهو يرفع يديه في ما يبدو كنوع من الاحتجاج على شعوره
بالضآلة خاصة وأننا نراه من زاوية مرتفعة حيث يبدو قزما صغيرا أسفل المبنى
الشاهق المهيب.
الولادة المستحيلة
الحبكة التقليدية مفقودة. أي أننا لسنا أمام قصة لها بداية
وذروة ونهاية، بل مشاهد متفرقة تجمع بينها الحالة النفسية للبطل/اللابطل،
الذي يبدو وكأنه يريد أن يقاتل ضد ماضيه وحاضره بل وضد نفسه، ويتطلع إلى
ولادة جديدة سيدرك في النهاية أنها مستحيلة، وأن الخروج من تحت جلد الذات
أمر مستحيل لمن تكوّن وانصهر في أتون تجربة ذات طبيعة خاصة. ويمتزج النقد
اللاذع في الفيلم بروح السخرية، وتتفجر الكوميديا، ليس فقط من خلال
التعليقات اللفظية، بل أساسا، من المفارقات بين الشخصيات التي تنتمي إلى
ثقافتين مختلفتين، ومن التناقض بين شخصيات الإسرائيليين أنفسهم. وتقترب بعض
المشاهد من السيريالية كما أشرت، ومنها على سبيل المثال مشهد يدور أمام
القنصلية الإسرائيلية حيث يتجمع العشرات من الأشخاص وراء حاجز أمني، ثم
يبدأ هطول المطر، ويرتبك رجال الأمن الذين يبذلون جهدا في إبعاد الناس عن
مدخل السفارة، فيقوم يواف بإزاحة الحواجز ويترك الجميع يجتازون الحواجز
الأمنية ويدعوهم أيضا للدخول إلى مقر القنصلية وكأنه يريدهم أن يحتلوا
المبنى. وكأنه ينتقم من ذلك الهوس الأمني الإسرائيلي التقليدي.
ويصل المشهد الذي يدور في حجرة الدرس وتعلم كيف تصبح مواطنا
فرنسيا إلى ذروة العبث عندما يقف “”يواف” يردد نشيد “المارسييز” بصوته
الجهوري ولهجته الفرنسية الخشنة، بطريقة استعراضية مسرحية ساخرة.
من أبرز الجوانب الفنية التي منحت الفيلم رونقه وسحره وقوته
التعبيرية الهائلة أداء الممثل الجديد “توم مرسييه” الذي اكتشفه المخرج
وتمكن من القبض على مفاصل الشخصية بتناقضاتها وعنفها الداخلي القابل
للانفجار، مع مزيج من القلق والتوتر والاكتئاب المفاجئ والانبساط الذي يأتي
أيضا فجأة، والنزعة الانطوائية الناتجة عن الشعور بالغربة، وفي النهاية،
ذلك الحس الأبدي بالاغتراب عن النفس وعن العالم. وهذا الاغتراب ناتج عن
التجربة الشخصية القاسية. إنه يؤدي أداء شديد القوة بجسده وقسمات وجهه
وقدرته على التحكم في عبارات الحوار بالفرنسية، وإجادته التعامل مع المواقف
المختلفة. هذا اكتشاف حقيقي دون شك بالنسبة لهذا النوع من الأفلام
“الاحتجاجية” التي بدأت تكثر في السينما الإسرائيلية.
من المؤكد أن يثير الفيلم (وهو من الإنتاج المشترك مع فرنسا
وألمانيا) مشاعر الغضب عند كل من الفرنسيين والإٍسرائيليين، فالفرنسيون
سيجدونه غير منصف لثقافتهم بل ويسخر أيضا من قيمهم الوطنية التي يعتزون
بها. والإسرائيليون سيجدونه منحرفا عن طريق “الولاء الوطني” يدين الدولة
ويسخر من الجيش.
وكانت وزيرة الثقافة الإسرائيلية قد سبق أن وجهت اتهامات
كثيرة وصلت إلى حد الاتهام بـ”الخيانة الوطنية والعمالة” إلى شموئيل ماعوز،
مخرج الفيلم الإسرائيلي البديع “فوكس تروت”
Foxtrot (الحائز
على الجائزة الكبرى للجنة التحكيم في مهرجان فينيسيا السينمائي قبل عامين)
بسبب نقده اللاذع للجيش الإسرائيلي. كما قاطعت الحكومة الإسرائيلية في
العام الماضي، مهرجانا مخصصا للأفلام الإسرائيلية في باريس بسبب عرض “فوكس
تروت” في الافتتاح.
كاتب وناقد سينمائي مصري |