"نجمة
الصبح" شاهدة على ما فعلته الحرب بسوريا الجريحة
حنان مبروك
فيلم روائي طويل للمخرج السوري جود سعيد يشارك في
المسابقة الرسمية للدورة 30 لأيام قرطاج السينمائية.
من رحم النزاع السوري المستمرّ ومن أعماق الآلام
السورية المختلفة باختلاف ضحاياها، يجود علينا المخرج السوري، جود
سعيد، كل سنة بفيلم روائي طويل يناقش الحرب كما يراها، ومن زوايا
مختلفة، حتى أنه اتّخذ مسارا سينمائيا لا يقطع مع الحرب، ربما، إلا
إذا ما عمّ السلام بلاد الشام.
اختار المخرج السوري جود سعيد أن ينافس هذا العام
على جوائز مهرجان أيام قرطاج السينمائية في دورته الثلاثين التي
تنتهي السبت، ضمن مسابقة الأفلام الروائية الطويلة، بفيلم حمل
عنوانا رمزيا، وهو “نجمة الصبح”، الشاهدة على ما عانته وتعانيه
المرأة السورية من تعذيب وخطف وأسر خلال سنوات الحرب، في وطن يعيش
واقعا متوترا لا ينتهي.
ويعود الفيلم بالمُشاهد إلى عام 2013، أين تدور
مجموعة من الأحداث الدموية بين أخ وأخيه، أحدهما يمثل قطب الشرّ
والآخر قطب الخير المضاد له، ليستمرّ صراع الكراهية الأحادي الجانب
في قتل وتعذيب وتدمير كل ما له علاقة بأخ لم يرأف بأخيه في زمن مضى.
وتتسارع وتيرة الأحداث ليجد البطل “خلدون” نفسه
منهزما أمام “عارف”، أخاه الذي اختار أن يتجنّد مع المتشدّدين
وينتقم من ابن أمه وحبيبته “نجمة الصبح” الناجية الوحيدة في الصراع
بين الأخوين، في حين لقيا الاثنان حتفهما، بعد أن يأس أحدهما من
تحريرها مقابل التبرّع بكليته لإنقاذها من أسر أخيه، وتتمّ تصفية
الثاني على يد ابن أخته الذي سأم شرّه.
الفيلم يطرح ما عانته وتعانيه المرأة السورية من
تعذيب وخطف وأسر خلال سنوات الحرب في سوريا
إنهما كقابيل وهابيل والبلد مثل الله، يقتل أحدهما
الآخر لتشهد الأرض على واقعة قتل بدأت منذ زمن آدم وحواء، قتل
مُتكرّر من الأخ لأخيه، لا يبدو أن له نهاية.
ويبدو أن المخرج السوري، لم يختر عنوان فيلمه
اعتباطا، إذ تحظى “نجمة الصبح” في الموروث الشعبي بأهمية كبرى
كونها رمزا للنقاء التام، الذي يجعلها ترى بوضوح إذا ما
غاب القمر، كما تتّخذ مكانة الشاهد على السهر من
أجل المحبوب، وتعتبر من جانب نفسي شاهدة على مرور الزمن والتغيّر
من حال إلى حال، في حين أنها ارتبطت لدى أغلب الشعراء العرب بالحزن
والألم، وها هي تظهر في الفيلم ومنذ أول ملامحه، أي العنوان، شاهدة
على معاناة السوريين ودليلا على حزن الأخ على محبوبته والوطن وأخيه
الذي لا يرحم، لأنه يوما ما لم يُرحم.
و“نجمة الصبح” ليست عنوان الفيلم فقط، بل هي إحدى
شخصياته التي تدور حولها كل الصراعات، وهي أيضا شخصية ثانوية بذات
الاسم تنتهي معاناتها صدفة في تبادل للأسيرات مدفوع الثمن، لتكشف
الحقائق وتكون شاهدة على ما عاشته نساء “الضيعة” داخل المعتقلات.
من جانب آخر يزاوج مخرج الفيلم بذكاء بين اللقطات
التصويرية القريبة والأخرى البعيدة، فأحيانا تكون اللقطة قريبة
وأحيانا متوسطة وربما عامة، مرة فوقية ومرة تحتية، مرة مسرعة ومرة
بطيئة كبطء الأحداث، وهو ما يضفي نسقا تشويقيا مثيرا لعين
المُشاهد، مركزا على العديد من التفاصيل التي تلعب على عاطفة
المتلقي فترميه بسرعة إلى عالم العقل والتفكير.
وكانت كاميرا جود سعيد في العديد من المواضع غير
ثابتة، كأنها تصوّر مُمثلا يقوم بالحدث فعليا، في حين أن عدسة
الكاميرا هي من ينتقل ويغيّر إطار الصورة ومسافة التقاطها، وحتى
مدى تركيزها على التفاصيل في كل اللقطات الخالية من مشاهد تمثيلية،
حتى أن عين الرائي باتت مستعدة للتمييز بين لقطة فارغة من الفعل
البشري مليئة بالتفاصيل، وبين لقطة تمثيلية أخرى تعكس حوارا سلسلا
ومعان عميقة.
وجاءت الكتابة السينمائية في “نجمة الصبح” بعيدة عن
“الكليشيهات”، التي تجعل بعض الأفلام تغرق في المباشرة والوضوح
الممل، إذ وظّف المخرج القرآن ضمن نسق الحوار التصاعدي، من خلال
توظيف الآيتين الأولى والثانية من سورة النجم “وَالنَّجْمِ إِذَا
هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2)”. وفي الآية
الأولى دلالة، حسب المفسّرين، على سقوط النجم (أو الثريا التي يرمز
بها إلى نجمة الصبح) مع الفجر وغيابها عن العين.
واسترجع المخرج بشكل رمزي رحلة المسيح عيسى بن مريم
مع الصلب، مُصوّرا طريقة تعذيبه من خلال مشهد مُشابه لإحدى
الأسيرات، ما يعني أن آلية التعذيب نفسها ظلت قائمة إلى اليوم
تتذكرها أطراف المصلوبين وعظامهم، فتئنّ.
ولم يكن الموت في هذا الفيلم مؤلما محزنا، بل أتى
شبيها بمواكب العزاء في كل البيوت العربية، كاشفا عن مواقف مضحكة
وعن فرص للأحياء في عزاء الأموات، فالحي أبقى من الميّت ومصائب قوم
عند قوم فوائد.
والموت هنا، وظّف بشكل يكشف أن الذات الإنسانية لا
قيمة لها، فمكان لعب الأطفال وأحلامهم الوردية قادر أن يصبح
مستقبلا مقبرة لكل العائلة، وذاك المواطن الفقير البسيط لن يحصل
على قيمة ويحظى بمال وفير، إلا إذا ما استشهد واحتسبته الدوائر
الحكومية من شهداء الحرب.
ولأن الحرب المُثارة في كل مكان وزمان تنتمي إلى
التاريخ الوطني للبلد المُنتج، وأيضا هي بشكل أو آخر أبعد من
الحقبة التي يعيشها البلد في زمنه الحاضر، نجد أن الحروب لا تنتج
الموت والإرهاب والعذابات فقط، بل هي شرارة للإبداع وموقد لإنتاج
فكري فني يخلّد الزمن الحاضر ليؤسّس لمستقبل قوامه الحياة
وتفاصيلها الصغيرة الجميلة، التي ربما لا ننتبه إليها لولا الحروب.
وكعادته في كل فيلم، يسدل سعيد الستار عن فيلم
“نجمة الصبح” بأغنية من الموروث الشعبي السوري، تقول كلماتها “يلي
خدتو محبوبي.. تحت الله شوخليتو (ماذا تركتم)”، لتروي قصة من قصص
الحرب ومعاناة أحباء كثر في فقد محبيهم، ليبقى الوطن خاليا والله
شاهد على ما فعله أبناء الوطن الواحد ببعضهم البعض.
وشارك في بطولة فيلم “نجمة الصبح” ثلة من الممثلين
السوريين، على غرار محمد الأحمد، حسين عباس، لجين إسماعيل، يوسف
المقبل، رنا جمول، مأمون الخطيب، كرم الشعراني، نسرين فندي، سارة
وناديا صدقي وغيرهم، وشاركت سماح القتال في تأليف وصياغة السيناريو
والحوار مع المخرج جود سعيد.
وسبق لجود سعيد أن حاز في الدورة الماضية من مهرجان
أيام قرطاج السينمائية، على ثلاث جوائز من خلال فيلمه “مسافرو
الحرب”، وهي جائزة الجمهور، وجائزة أفضل صورة سينمائية، والتانيت
البرونزي في المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة.
صحافية تونسية |