«ثلاثة
وخمسون عاماً من الاكتشافات والتفاعلات والنقاشات العاصفة أحياناً،
والبنّاءة والمثيرة دائماً، بين الأجيال المختلفة من المخرجين
الموهوبين... من الاحتفاء بالسينما الأفريقيّة والعربيّة، بالإضافة
إلى السينما الآسيوية، وسينما أميركا اللاتينيّة، والتجارب
المبتكرة لبقيّة العالم». لعلّ هذا آخر ما خطّته أصابع نجيب عيّاد
(1953 ـ 2019) قبل رحيله المحزن، على بعد أسابيع من انطلاق الدورة
30 من «أيّام قرطاج السينمائيّة»، التي اختُتمت أول من أمس. مدير
النسخ الثلاث الأخيرة، تمكّن من انتشال «عميد المهرجانات العربيّة
والأفريقيّة منذ 1966» من ترهّل وتراجع، معيداً الألق إلى مهرجان
أحد أكثر البلدان العربيّة تطوّراً لناحية السينما، حتى أنّه يمكن
تلمّس عدد من بصمات عيّاد الواضحة. دعم السينما العربيّة
والأفريقيّة فنيّاً وماديّاً. الأخذ بيد المخرجين الشباب. المزج
بين الأصالة والحداثة. الاهتمام بسينما التحرّر والنضال من شتّى
أصقاع العالم. الانفتاح على سينما آسيا وأميركا اللاتينيّة.
الاستعانة بفريق مكوّن من الخبرة والشباب المتحمّس. عيّاد منتج
خبير، وناقد محنّك منذ نشأته في «حركة نوادي السينما» الطلابيّة،
ومناكفة السلطات في سبيل نشاطاتها. قربه من أسماء كبيرة مثل الطاهر
شريعة (مؤسّس أيام قرطاج السينمائيّة)، وأحمد عطيّة، ساهم في صقل
تجربته. هكذا، اتكأ «سي نجيب» على مشوار ثريّ، ليشتغل على المهرجان
بدقّة ومواكبة لأصغر التفاصيل. من الطبيعي أن تحمل الدورة اسمه،
وهو من رسم خطوطها، ووقّع دعواتها بيده. ارتقاء شوقي الماجري أيضاً
خيّم على قرطاج. لم يكتمل المهرجان من دون تكريم عيّاد وصديقه
الماجري، مع عرض خمسة أشرطة من إنتاج الأوّل، اثنان منها بمشاركة
الثاني كمخرج وكمستشار فنّي.
البرنامج
أربع ميّزات لبرمجة هذه السنة. كثير من أعمال أولى لمخرجين شباب،
معظمها آتٍ من تظاهرات كبرى مثل برلين وفينيسيا وكان وتورونتو.
أيضاً، لدينا عناوين من دول «بكر» سينمائياً، مثل السعودية وليسوتو
والسودان. أخيراً، سجّل مخرجو المهجر وجوداً لافتاً، حتى أنّ
المهرجان أحدث قسماً كاملاً بعنوان «شتات؟» ضمّ 6 أفلام.
الجديد في «دورة نجيب عيّاد» أيضاً، إطلاق «قرطاج
ديجيتال»، وهو ملتقى للمهتمّين بالقطّاع الرقمي وتقنياته. كذلك،
نقلت عروض المسابقات، من صالة الكوليزيه العريقة وقاعات أخرى قرب
شارع الحبيب بورقيبة، إلى مسارح «مدينة الثقافة» الأكثر اتساعاً
(1800 مقعد في مسرح الأوبرا لوحده).
147
فيلماً اختيرت من 674 تقدّمت للمهرجان. أكثر من 40 دولة، من ضمنها
تونس التي شاركت بـ 39 عنواناً بين طويل وقصير. المسابقات الأربع
ضمّت 44 فيلماً، موزّعة على 12 لكلّ من المسابقات الروائية الطويلة
والقصيرة (لجنة التحكيم برئاسة السنغالي آلان غوميز) والوثائقية
الطويلة، فيما ضمّت مسابقة الوثائقي القصير 8 عناوين (الأميركي
جيروم غاري تولّى لجنة تحكيم الوثائقي)، فيما ترأس الفلسطيني محمد
قبلاوي لجنة تحكيم العمل الأوّل (جائزة الطاهر شريعة). يضاف لها
فيلم الافتتاح، وأقسام ثابتة منها: اختيارات رسميّة خارج المسابقة،
و«نظرة على السينما التونسيّة»...
«عرايس
الخوف»
الافتتاح بثامن عناوين التونسيّ المعروف نوري بو
زيد
«عرايس
الخوف» (96 د.) عن عودة امرأتين من «الجهاد» في سوريا. تساعدهما
محامية، وشاب مثليّ على العودة إلى الحياة، ومواجهة المحيط، وكشف
شبكات تجنيد الشباب. شريط تأمّلي، نفسي، يعاين أضرار ما بعد صدمات
عسف واغتصاب ويصبّ في سجلّ سينمائيّ معروف بشراسته تجاه التنظيمات
المتطرّفة في أعمال سابقة، أبرزها «آخر فيلم» (2006) و«مانموتش»
(2012). يعزّز ذلك الإشارة إلى أن الأحداث تدور عام 2013، أثناء
حكم النهضة في تونس. رغم وجود نقاط في صالح الشريط، مثل إدارة
الممثّل، إلا أنّه ليس أفضل أعمال بوزيد. السيناريو ليس بالإحكام
الكافي. يضيع البوصلة في النصف الثاني، واقعاً في مونوتون إيقاعي.
انتصار السينمائيين الجدد
صنّاع العمل الأوّل حصدوا أبرز الجوائز، ما يؤكّد
تفوّق وعمق السينمات الجديدة، وحيويتها الحارّة. هند بو جمعة تقترح
حكاية ممتعة ومؤثّرة في باكورة عناوينها الروائيّة الطويلة «نورا
تحلم» (93 د. – التانيت الذهبي، أفضل ممثّلة لهند صبري، جائزة
الاتحاد العام التونسي للشغل لمساعدة الإخراج الأولى سوسن الجمني).
عاملة وأمّ تكدّ لتأمين لقمة العيش، وتربية أطفالها، وإنجاح
علاقتها بحبيب، فيما يقبع زوجها المجرم في السجن. تتأزّم الأمور
عندما يخرج الزوج بعفو رئاسي، مقوّضاً عالمها. بوجمعة تلعب على
نقطتين أساسيتين في البناء، لقول الكثير عن تونس اليوم «الآن
وهنا»، في تداخل غير معلن بين الخاص والعام، بين الشخصي والجمعي.
القانون التونسي يمكن أن يسجن المرأة خمس سنوات في حال اتّهامها
بالزنا من قبل الزوج، والخوف المتأصّل داخل المرأة من عنف الرجل.
هند صبري خلّابة في حمل الدور على كتفيها، باذلةً كلّ ما يتطلّبه
من تلوّن وصراع داخليّ. لا تشبه شيئاً ممّا شاهدناه لها سابقاً.
تقنع في دور المرأة الشعبيّة الآتية من القاع التونسيّ بخصوصيته
وأدواته. «بيك نعيش» (96 د. – تنويه خاص) لمهدي البرصاوي شريط
تونسيّ آخر، يتّخذ من العائلة مدخلاً للحديث عن الفساد، وتجارة
الأعضاء، وصولاً إلى بنية الأسرة نفسها. قوّة الفيلم أنّه يقول
بوضوح: الفساد لا يعالج بشعارات زائفة. الميلودراما معقودة على
أداء ساحر لسامي بوعجيلة.
كما قلنا، السودان بطل السينما العربيّة هذا العام.
«ستموت في العشرين» (105 د. – جائزة العمل الأوّل، أفضل سيناريو،
جائزة الـ «فيبريسي») لأمجد أبو العلاء يصل من فينيسيا بـ «أسد
المستقبل»، ليثبت أنّه مستحق لها عن جدارة. الشريط المأخوذ عن
رواية «النّوم عند قدمي الجبل» لحمّور زيادة، يعدّ سابع روائي طويل
في تاريخ بلده، والأوّل منذ عشرين عاماً. إنجاز حميميّ، عذب، محبّ
للسينما والحياة والجمال، رغم افتتاحه بنبوءة موت الطفل «مزمّل»
عندما يبلغ سنّ العشرين. لا يحتمل الأب، فيغادر. أمّه «سكينة»
تتولّى تربيته بنفسها. بلغة رفيعة في هذا الريف السوداني الوديع،
واستقاء سينمائي مدروس وموفّق، يحقّق أبو العلاء عملاً أصيلاً رغم
مرجعياته، يجمع بين الأصالة والتجديد. ضمن مناخ دينيّ صوفيّ، ونشأة
محافظة، يكبر «مزمّل» كورقة ناصعة من دون خطيئة أو تجارب من أيّ
نوع. متأخّراً، يتعرّف إلى السينما والمرأة وبعض ما في الحياة من
جمال. «ستموت في العشرين» توليفة عاشقة للحياة من قلب الموت،
منتصرة للفنّ، مناوئة للخرافات من دون القسوة على معتنقيها.
سينماتوغرافيا نفيسة من الضوء والظلال والوجوه الشاخصة نحو المجهول.
صهيب قسم الباري مبدع سوداني آخر، يتسلّح بالسينما
في مواجهة القمع والظلام والشيخوخة، في الوثائقي المحكم «الحديث عن
الأشجار» (93 د. – التانيت الذهبي للأفلام الوثائقيّة الطويلة).
أربعة مخرجين من «جمعية الفيلم السوداني» يسعون لإحياء نادي
السينما، وإعادة صالة مهملة إلى الحياة. هذه وسيلتهم في مقاومة
منظومة وأدت السينما، والشعور بالوجود والحياة، واستعادة ما تحقق
في الماضي. انتشال أحلام وتطلّعات واعدة من ركام العمر. عرض وثائق
نادرة، ونبش أخرى. هم جذّابون بطبيعتهم، طريفون بالفطرة، يرسمون
قصّة مشوّقة، ضمن إطار وثائقي، يحققه قسم الباري بصبر وإتقان.
من سوريا، كان العرض العالميّ الأوّل لجديد جود
سعيد «نجمة الصبح» (97 د. – جائزة الجمهور). لكن هل تتناسب الجرعة
المفرطة من الكوميديا، مع حكاية خطف نساء، وصراع شقيقين وسط الحرب
السوريّة؟ رغم جودة الصورة، إلا أنّ الحامل يبقى شفهياً في الغالب.
مفاصل دراميّة تسرد كلامياً على ألسنة الشخوص، التي لا نعلم وظيفة
بعضها في الفيلم، أو لماذا تتصرّف بهذا الشكل الكاريكاتوري حتى بعد
فقد ابن أو اثنين.
من العراق، شاهدنا الشريط المرتقب «شارع حيفا» (79
د.) لمهنّد حيّال. من دون مقدّمات، يلقي بنا حيّال في جحيم بلده
عام 2006. «بلد الحضارات» قابع تحت احتلال أميركي مهين، وسيطرة
جهاديّين، واقتتال طائفيّ مقيت. لا يتردّد حيّال في نكء جروح
قديمة، ونبش فترة مظلمة لأحد أشهر مناطق الاشتباك الطائفي في
بغداد. بشراكة فنيّة وإنتاجيّة مع شباب مثل المونتير علي رحيم،
وهلا السلمان في الكتابة، يقترح مهنّد حيّال رؤية مغايرة للجيل
الجديد تجاه أزمات العراق المتتالية. رؤية تتميّز بمكاشفة حادّة،
وصراحة قاسية، من دون التورّط في الأحكام والشعارات، رغم أنّ
المادّة قابلة لذلك. سينما مرسومة بحدّ السكّين، لتقشير طبقات
العنف والعسف والرهاب والكابوس، ولاستحضار ذاكرة بلا تجميل، بغية
الخلاص منها إلى الأبد. هذا لا يعني عدم تسجيل موقف ذاتيّ، منتصر
للمهمّشين والمستضعفين ممّن يدفعون الثمن دائماً. أهم ما ينجح
الفيلم في تحقيقه هو حسّ المعايشة الذي ينقله للمشاهد. يساعد على
ذلك خيار شجاع وذكيّ بالبقاء ضمن الزمن الحقيقي لأحداثه (الزمن
الفيلمي يوازي الحقيقيّ)، إضافةً إلى استخدام الكاميرا المحمولة
لنقل جوّ التوتّر والاضطراب. الحوار يتكئ على لغة الشارع اليوميّة.
كلمات جارحة. شتائم. أوصاف «فجّة». كل ذلك يرفع درجة المعايشة،
ويزيدها حضوراً. يمتزج اللهاث والعرق والذباب الماشي على الجلد،
بلحظات تأمّل مؤثّرة، وكثير من الصمت، ما يحقق هدف الشريط
بالاشتغال الثريّ على الجانب النفسي لأبطاله.
من إنتاج نبيل عيّوش، نجحت المغربيّة مريم التوزاني
في صنع شريط ذكيّ وحسّاس بعنوان «آدم» (98 د. – أفضل صورة، أفضل
توليف). امرأتان مثقلتان بالماضي والقهر، وطفلة جميلة الوجه
والضحكة، يصنعن عالماً مأزوماً من الهواجس والقلق وتحسّس المستقبل.
تطوّر العلاقة بينهما، يفتح باب الأسئلة أكثر ممّا يجيب عنها. يمنح
أملاً بفرص ثانية، من دون يقين أو ضمانات. أداء رفيع المستوى لكلّ
من لبنى أزابال ونسرين الراضي، وإيقاع ممسوك بمهارة لافتة.
«شارع
حيفا» لمهنّد حيّال يلقي بنا حيّال في جحيم العراق عام 2006
أمين سيدي بومدين (1982) من شباب السينما
الجزائريّة الجديدة، التي تتمرّد على السرد الكلاسيكيّ، ممّن مزجوا
شتّى الأنواع الفيلميّة، للخروج بمنظور مغاير لواقع شائك. في
باكورته الروائية الطويلة «أبو ليلى» (135 د. – أفضل ممثّل لإلياس
سالم)، يعود بومدين إلى 1994، إذ ما زالت العشرية السوداء حقبة
سينمائية مفضّلة في الجزائر. المدن مشتعلة. «لطفي» و«أس» صديقان
منذ الطفولة. يعبران الصحراء من الشمال إلى الجنوب، بحثاً عن
الإرهابي الخطير «أبو ليلى». «أس» مضطرب عقلياً بهلاوس متكرّرة.
لطفي مهموم بإبعاد رفيقه عن عنف العاصمة. الإرهاب لم يبلغ هذه
البقعة بعد. ولكن من قال إنّ الاحتكاك برمال مترامية لن يحفّز
عنفاً كامناً داخل النفوس؟ بومدين دارس للسينما في باريس، كما أنّه
ابن موسيقى الروك. يقول الكثير بمزيج بين فيلم الصداقة
Buddy Movie،
وفيلم الطريق، والإثارة النفسيّة، والرعب، وحتى فانتازيا مصّاصي
الدماء. يخاتل بين الخير والشر، الظاهر والباطن، التلميح والصمت.
لا يريد حصر شريطه بقراءة قاصرة على العشرية السوداء. العنف كان
وما زال وسيبقى. إنّه متأصّل ومتجذّر. في النهاية، إنّه تطهير
لشخصيتين متباينتين، ضمن مطاردة عبثيّة، كواقع البلاد التي تجري
فيها.
الجوائز
المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة:
التانيت الذهبي: «نورا تحلم» لهند بوجمعة (تونس)
التانيت الفضي: «أتلنتيك» لماتي ديوب (السنغال)
التانيت البرونزي: «سيدة البحر» لشهد أمين
(السعودية)
أفضل ممثّل: إلياس سالم عن «أبو ليلى» لأمين سيدي
بومدين (الجزائر)
أفضل ممثّلة: هند صبري عن «نورا تحلم» لهند بوجمعة
(تونس)
أفضل سيناريو: «ستموت في العشرين» لأمجد أبو العلاء
(السودان)
أفضل موسيقى: فاطمة القاديري عن «أتلنتيك»
(السنغال)
أفضل صورة: فرجيني سورداج عن «آدم» لمريم التوزاني
(المغرب)
أفضل توليف: جولي ناس عن «آدم» (المغرب)
المسابقة الرسمية للأفلام الوثائقية الطويلة:
التانيت الذهبي: «الحديث عن الأشجار» لصهيب قسم
الباري (السودان)
التانيت الفضي: «إلى سما» لوعد الخطيب وإدوارد واتس
(سوريا)
التانيت البرونزي: «الغياب» لفاطمة الرياحي (تونس)
تنويه خاص: فيلم
pas d› or pour Kalsaka
لميشال زونكو (بوركينا فاسو)
المسابقة الرسمية للأفلام الوثائقية القصيرة:
التانيت الذهبي: «من طين» ليونس بن سليمان (تونس)
التانيت الفضي: فيلم «باسيفيك» لإنجي عبيد (لبنان)
التانيت البرونزي: «خمس نجوم» لمام يوري تيوبو
(السنغال)
المسابقة الرسمية للأفلام الروائية القصيرة:
التانيت الذهبي:
True Story
أمين لخنش (تونس)
التانيت الفضي:
Charter
لصبري بوزيد (تونس)
التانيت البرونزي:
Mthunzi
لتيبوغي مالابوغو (جنوب أفريقيا)
جوائز العمل الأول:
التانيت الذهبي (جائزة الطاهر شريعة): «ستموت في
العشرين» لأمجد أبو العلاء (السودان)
جائزة الجمهور: «نجمة الصبح» لجود سعيد (سوريا)
جائزة قناة تي في 5 موند: «أوفسايد الخرطوم» لمروى
زين (السودان)
تنويه خاص: «بيك نعيش» لمهدي البرصاوي (تونس) |