صهيب قاسم البري: إنجاز فيلم «الحديث عن الأشجار»
انتصار على الدكتاتورية والبيروقراطية.
توّجت أيام قرطاج السينمائية في دورتها الثلاثين
التي اختتمت، السبت، الفيلم السوداني الوثائقي الطويل “الحديث عن
الأشجار” بالجائزة الذهبية، وهو فيلم من إخراج صهيب قاسم البري،
وتأتي أهمية العمل بالدرجة الأولى من كونه فيلما قادما من السودان،
وثانيا لأنه ينبش ويبحث في الذاكرة البصرية للسودان عبر أرشيفها
السينمائي من خلال شخصياته الأربع التي كان لها الفضل الكبير في
صناعة تلك الأفلام وأرشفتها.
تونس
– رغم
ارتباط معظم أفلام السينما الوثائقية وخاصة العربية منها في ذهن
المشاهد بطابع الحزن والبؤس، يبرز فيلم “الحديث عن الأشجار” كفيلم
سوداني خفيف الظل يحمل مضمونا جديرا بالاهتمام والتوقّف عنده،
ويحكي الفيلم عن التاريخ المزدهر للسودان الذي كان يشع ّثقافة
وحضارة.
صحيح أن التجربة في حد ذاتها لم تكن سهلة واحتاج
المخرج صهيب قاسم البري إلى روح المغامرة والكثير من الحيل
لإنجازها وسط بيروقراطية وقوانين قاتلة تحكم السودان، إلاّ أن روح
الدعابة التي تتملّكه وحيلته الواسعة وصبره الذي نتلّمسه في شخصيته
حين التقته “العرب” بتونس، إثر تتويجه بالتانيت الذهبي لأيام قرطاج
السينمائية ضمن مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة، ما يؤكّد تمكّنه
من إنجاز فيلم بهذا الجمال وتلك الحساسية.
لكن كيف أتت فكرة الفيلم؟ وكيف علم المخرج بالأرشيف
السينمائي السوداني؟ يقول صهيب قاسم البري في حواره مع “العرب”،
“كنت أعرف مسبقا بوجود هذا الكم الكبير من الأرشيف السينمائي
السوداني، فهناك ما يقارب 13 ألف فيلم تسجيلي كانت في معظمها من
الإنتاجات الرسمية للدولة، إلاّ أنه ومع محاولة حكومة البشير
والإسلاميين محو الذاكرة السودانية تماما، تعرّضت تلك الأفلام إلى
إهمال كبير جدا، ووضعت في مكان سيء وتحت ظروف لا يمكن بأي حال من
الأحوال تجميع أرشيف سينمائي وطني فيها”.
فيلم “الحديث عن الأشجار” عمل خفيف الظل يحمل
مضمونا جديرا بالاهتمام و يحكي عن التاريخ المزدهر للسودان الذي
كان يشع ّثقافة وحضارة.
وعن كيفية النبش في أرشيف سينمائي في دولة تحكمها
البيروقراطية، ومدى حجم الصعوبات التي واجهت المخرج صهيب قاسم
البري أثناء رحلته السينمائية تلك، يقول “وجدت صعوبة كبيرة في
البحث والنبش عن تلك الأفلام وخاصة أفلام وأرشيف سليمان (أحد أبطال
فيلمه الأربعة)، لأنه موجود داخل مبنى التلفزيون السوداني، وهو
بناء محصّن جدا على اعتباره مهددا دوما بالاحتلال تحت ضغط أي خلاف
يحصل، وأثناء زياراتي المتكرّرة لمبنى التلفزيون قابلت حرّاس
الأرشيف السينمائي، وكان بنجامين واحدا منهم، وقد لفت انتباهي بشكل
كبير واعتبرته شخصية نادرة، لأنه رجل متفهّم جدا سبق وأن عمل لفترة
طويلة في الإنتاج السينمائي السوداني، ورغم أن الجنسية السودانية
قد انتزعت منه بين يوم وليلة، وفقد بالتالي مرتبه كموظف بسبب أصوله
التي تعود لجنوب السودان، إلاّ أنه واصل حراسته لذلك الأرشيف”.
رمزية العنوان
لأن الأفلام كما الروايات والقصص تُقرأ من
عناوينها، فإن عنوان الفيلم “الحديث عن الأشجار” لا يمكن أن يمرّ
مرور الكرام، فمن أين استوحى المخرج هذا العنوان؟ ولماذا؟
وعن سؤال “العرب” يجيب المخرج السوداني “اقتبست
العنوان من بيت شعر للكاتب والشاعر الألماني بريخت، بالتحديد من
قصيدة بعنوان ‘للذين يأتون من بعدنا’ والتي يقول فيها: أي زمن هذا
الذي يكاد الحديث فيه عن الأشجار يصبح جريمة، بينما هناك جرائم
أكثر هولا”، كما أن والدي كان يكرّر نفس العبارة في بداية
التسعينات والتي كانت تعرف بسنوات الرصاص والقمع والقتل، حيث كنا
نعيش حالة من الإحباط الشديد، خاصة بعد أن فُصل والدي ومعظم أفراد
العائلة من العمل، واعتقل صديق لي كان يعمل طبيبا ومات تحت
التعذيب، بالإضافة إلى أن منار أحد أبطال الفيلم والذي تعود
مرجعيته إلى الأدب، ذكر في الفيلم نفس العبارة وكرّرها”.
صهيب قاسم البري: كنت
أصوّر بشكل سري، فلو طلبت تصريحا لمنع الفيلم
كل ذلك أشعر المخرج السوداني بأهمية تلك العبارة
وما تحمله من رمزية، فالحديث عن الأشجار هو حديث عن الجمال والفن
والأزمنة القاسية، لكن في ظل الفاشية والقمع والموت يحصل نوع من
النزاع الداخلي في قلب الفنان حول الشرعية الأخلاقية وكيفية الحديث
عن الفن أو السينما أو الجمال وسط هذا الدمار، ويزداد هذا التنازع
ويصبح أكبر بكثير حين يكون الفنان قادما من السودان، فبعد كل هذا
الخراب الذي وصل إلى حد تدمير حتى الإنتاج الزراعي الغني والدفع
بالعشرات للنزوح إلى المدن، علاوة على المهاجرين بسبب دارفور وجنوب
السودان، كل ذلك وعبر سنوات طويلة اغتال كرامة المواطن السوداني
بشكل يومي.
ويضيف “كما أن هناك نوعا آخر من التنازع يعيشه
الفنان السوداني وخاصة من سبقوني، ما بين الرضوخ والتنازل لأتمكن
من إنتاج فيلمي، أو أن اختار الطرق الوعرة التي اختارها من سبقوني
والتي من خلالها قُدّمت أفلام جميلة ومهمة في المحتوى رغم رمزيتها
الكبيرة”.
ورغم محلية فيلم “الحديث عن الأشجار” استطاع مخرجه
صهيب قاسم البري أن يحصل على تمويل خارجي هام، فكيف استطاع تحقيق
ذلك، وعن ذلك يقول “في البداية وجدت صعوبة كبيرة في الحصول على
تمويل، وخاصة من السودان على اعتبار أنه لا يوجد أي إنتاج أو
مساعدة على الإنتاج، بل على العكس من ذلك تماما، فالعراقيل هي
سيّدة الموقف، إذ أنني كنت أصوّر دون وجود تصاريح وبشكل سري، ولو
طلبت تصريحا لتوقف الفيلم مباشرة،
بالتالي جزء كبير من الفيلم صوّرته بنفسي”.
ويضيف “حاولت خلق سيناريوهات وهمية لأتمكن من
التصوير، وحصلت على التمويل فعليا بعد أن كتبت السيناريو الأوّلي
للفيلم، وكان أول دعم أحصل عليه من مهرجان أبوظبي السينمائي، وهو
التمويل الذي من خلاله اقتنيت معدات التصوير، ثم في فترة لاحقة
دعمتني شركة
AGAT FILM،
وهي شركة إنتاج فرنسية، ومع بداية التصوير بدأ الفيلم يحصل على فرص
تمويل كثيرة، لكنها كانت تجربة قاسية ليس فقط بسبب الدكتاتورية في
السودان، بل أيضا بسبب دكتاتورية رأس المال، فنحن كمخرجين حين
نصوّر الفيلم الوثائقي نكون بمفردنا دون وجود أي تمويل، نخاطر
وندفع من جيوبنا، وبعد أن نعمل مع شركات الإنتاج نخرج بمرارة من
التجربة، خاصة كونها تضخّم من نفسها على حساب مبدع الفيلم، وإلى
اليوم ما زالت لديّ بعض النزاعات مع شركات الإنتاج إلى درجة أنني
لا أملك رابطا إلكترونيا للفيلم، وأفكر لاحقا في أن أعمل واحدا
بمفردي”.
من المحلية إلى العالمية
شارك فيلم “الحديث عن الأشجار” في مهرجان برلين
السينمائي الذي يعتبر واحدا من أهم المهرجانات في العالم، وحصل فيه
على جوائز، عن ردة فعل السودان كحكومة حول التتويج وهل تعرّض
الفيلم وطاقمه لأي مضايقات حين العودة إلى السودان، يقول المخرج
“بطبيعة الحال كانوا مُجبرين على قبول الفيلم، رغم علمي أن أحد
موظفي الأمن العاملين في التلفزيون السوداني كان ينوي قتلي، لكن
التغطية الإعلامية الكبيرة للفيلم شكلت نوعا من الحماية بالنسبة
لي، خصوصا بعد تتويجه بجائزة في برلين، رغم أنني حينها صعدت المنصة
ووجّهت خطابا للثورة السودانية وقصيدة”.
ويضيف صهيب قاسم البري “حين عودتي إلى الخرطوم كنت
وأبطال العمل نتوقّع سيناريوهات كثيرة لاعتقالنا، وكنا نضحك خوفا،
وعندما وصلنا إلى المطار قال لنا إبراهيم ضاحكا لا تمشوا سويا كما
(أفيش) الفيلم، لكن لحظة وصولنا قابلتها بسالة وجسارة السودانيين،
وخاصة بعد الفيديو الذي انتشر لنا في السودان، وهذا يؤكد رغبة
الشعب في استعادة الكرامة والانتصار للحرية ولو بشكل رمزي، وأن
الحكومة وصلت إلى درجة فقدت فيها أي نوع من الكونترول أو الرقابة
بسبب الاضطراب الداخلي، وخصوصا بعد أن باتت السجون تفيض بالمساجين”.
كاتبة سورية |