"لما بنتولد".. في السجن
بقلم: أسامة عبد الفتاح
** فوجئنا جميعا بمستوى آراء وتعليقات المساجين
التونسيين على الفيلم المصري بعد عرضه في سوسة
لا أنكر أن الدافع الشخصي كان مساويا، وموازيا،
للجانب الموضوعي العام في حرصي على خوض تجربة "أيام قرطاج
السينمائية في السجون" ضمن البرنامج الرسمي لدورة "نجيب عياد" من
مهرجان قرطاج السينمائي الذي اُختتم في تونس في الثاني من نوفمبر
الحالي.
وبعد أن حالت ظروف العمل وتغطية فعاليات وأقسام
أخرى دون وقوفي – في دورات سابقة من "الأيام" – على تلك التجربة
الإنسانية والمهنية الفريدة، جاءت دورة هذا العام لتتيح فرصة سانحة
لا يجب إهدارها، خاصة أن أحد الأفلام، التي تقرر عرضها خلف
الأسوار، مصري، ومن المثير حقا أن يتعرف المرء على كيفية استقبال
جمهور من المساجين التونسيين لعمل سينمائي مصري.
المكان: السجن المدني بالمسعدين في سوسة، والزمان:
الأول من نوفمبر 2019، والحدث: عرض الفيلم المصري الجديد "لما
بنتولد" في إطار الدورة الخامسة من "أيام قرطاج السينمائية في
السجون"، وهي بادرة أطلقها المخرج إبراهيم اللطيف، عام 2015، حين
تولَّى إدارة مهرجان قرطاج، وحققت نجاحا كبيرا، حيث اجتذبت
المهتمين بالشأن الفني والثقافي وعناصر المجتمع المدني إلى خصوصية
التجربة واستثنائيتها، ومثلت فرصة للقاء نادر بين صناع الفن السابع
والمساجين للنقاش والتفاعل حول الشرائط السينمائية، إيمانًا بحق
نشر الثقافة السينمائية بين الجميع، حتى لو كانوا قد فقدوا حريتهم
مؤقتا.
وواصل المدير العام لـ"الأيام"، الراحل نجيب عياد،
بدوره، دعم هذه البادرة خلال توليه قيادة المهرجان في الدورات
الثلاث الأخيرة. وفي نسختها الخامسة عُرضت 7 أفلام في 7 وحدات
سجنية هي: السجن المدني في المرناقية، والسجن المدني في صوّاف،
والسجن المدني في القصرين، والسجن المدني في برج الرومي، والسجن
المدني في المسعدين، ومركز الإصلاح في سيدي الهاني، والسجن المدني
في منوبة، بالشراكة مع الإدارة العامة للسجون والإصلاح ومكتب
المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب في تونس.
وكانت شيراز العتيري، المديرة العامة للمركز الوطني
التونسي للسينما والصورة، الذي ينظم ويشرف على "أيام قرطاج
السينمائية"، قد صرحت بأن هذا البرنامج يمثل الطابع الإنساني في
فلسفة وروح ذلك المهرجان العريق الذي يعطي المواطن حقه في الثقافة
أينما وجد، حتى لو خلف الأسوار، فالسجن واقع اجتماعي وظروف فُرضت
على السجين، والبادرة تستهدف تمكينه من فرصة لإعادة العلاقة مع
الحياة خارج الأسوار ولو عبر الأفلام، ومن الممكن أن تكون هذه
الأفلام فرصةً لتفجير طاقة إبداعية داخله يجهلها، كما يمكن الكشف
عن مواهب بين السجناء.
وأوضحت أنه ليست هناك معايير خاصة للجمهور داخل
السجن، وهو في النهاية جمهور "أيام قرطاج السينمائية"، وأن اختيار
الأفلام مال لأن يكون النصيب الأكبر للأفلام التونسية لإعطاء فرصة
أكثر للسجين لرؤية الحياة خارج السجن، إذ يمكن أن يجد ما يربطه
بالواقع الخارجي، مما يوطّد علاقته بعالمه خارج الزنزانة، لكن ذلك
لم يمنع وجود أفلام من مصر ولبنان. كما أكدت شيراز أنه لم يكن هناك
إقصاء أو رقابة على الأفلام أو أي فلسفة أخرى سوى أنها مبرمجة داخل
المسابقة وخارجها.
واُفتتحت العروض الأحد 27 أكتوبر الماضي بفيلم
"عرايس الخوف"، للمخرج النوري بوزيد، بالسجن المدني في المرناقية،
وكان أيضا فيلم افتتاح المهرجان، وتلاه عرض كلٍّ من فيلم "تليفزيون
فتح الله" بالسجن المدني في برج الرومي، وفيلم "ع العارضة" لسامي
التليلي بالسجن المدني في صوّاف، وفيلم "صباح الخير" لبهيج حجيج
بالسجن المدني في القصرين، وفيلم "مبروك حبيب" لسنتيا صاوما في
مركز الطفولة الجانحة بسيدي الهاني، وفيلم "لما بنتولد" لتامر عزت
بالسجن المدني في المسعدين، وكان الختام الإثنين 2 نوفمبر، مع عرض
فيلم "فترية" لوليد الطايع بالسجن المدني في منوبة.
وأعلنت الإدارة العامة للسجون والإصلاح في تونس أنه
تمت مضاعفة عدد المساجين الحاضرين لهذه العروض، حيث انتفع بالعروض
المباشرة 2400 سجين، إلى جانب أكثر من 6000 سجين داخل الوحدات
السجنية عبر الشاشات العملاقة.
لم أكن قد دخلت سجنا في حياتي، لا داخل مصر ولا
خارجها، ولا حتى لزيارة مسجون، ولذلك كانت التجربة التي خضتها مع
صناع "لما بنتولد": المخرج تامر عزت والمنتج معتز عبد الوهاب
والمنتج الفني محمد جمال والممثلين عمرو عابد وبسنت شوقي، ثرية جدا
ومفيدة جدا، خاصة أن إدارة السجن وفرت لنا جولة داخل جميع عنابره
وغرفه وساحاته لتكتمل الرؤية، وتكون التجربة فعلا عرضا سينمائيا
داخل سجن، وليس تجميعا للمساجين في عرض بأي قاعة خارج السجن.
أعترف بأن أي مكان مقيد للحرية، مهما كان مستوى
نظافته وتنظيمه، ومهما بلغ من آدمية وتحضر – والحق أن سجن المسعدين
بسوسة كان على هذا المستوى – هو في النهاية مكان مقبض، لا تستطيع
أن تقضي فيه وقتا طويلا، لكن حرارة استقبال المساجين لنا وللفيلم
أذابت أي شعور بالوحشة أو بالاغتراب، والأهم والأجمل تعليقاتهم على
الفيلم ومداخلاتهم في الندوة التي أعقبت عرضه، حيث فوجئنا جميعا
بمستوى الآراء والتعليقات، ومدى نضجها وصدقها، مما حوّل قاعة العرض
في السجن إلى منبر ثقافي!
وبالنظر إلى طبيعة الفيلم غير التقليدية، وبنائه
الدرامي الصعب القائم على ثلاث قصص متوازية تربط بينها أغاني
الملحن والمغني أمير عيد، أستطيع أن أقول – بضمير مستريح – إن
تعليقات وداخلات عدد من المساجين كانت أنضج وأصدق وأكثر موضوعية من
آراء بعض من يزعمون أنهم نقاد سينمائيون في بلادنا. |