بين الجنة والأرض.. المشقة في قلبي لا في الطريق
صفاء الليثي:
امرأة ورجل بسيارة مرسيدس عتيقة، هي معها جواز سفر إسرائيلي وهو معه تصريح،
كشرقي يريد القيادة وهي تجد أنه أفضل لهما أمنيًّا، "أنا باسوق"، يصلان بعد
توقيف ثم سماح بالعبور إلى حيث المحكمة لتوثيق الطلاق، القضية رقم 67، هل
سيكون هناك دلالة للرقم؟ نعم سنتأكد لأنهما بعد الرحلة للحصول على وثيقة
مطلوبة بعنوان والد الزوج ستكون القضية رقم 48.
في عودة لأصل الحكاية والشأن الفلسطيني بدون حل. الموثق يسأل تامر أم تمير؟
سيكون تحت اسم الأب ولد آخر بتاريخ ميلاد آخر تمير، يصلان إليه، هي وحدها
لتقابل الوالدة هاجر جلعادي في البيت القديم بالخليل، يدعوها على شاي،
صفارة أبريق الشاي مؤشر دالّ على الشعور بالخطر، هي آمنة، هو من يشعر
بالخطر يراقب بكاميرا موصولة بجهاز كومبيوتر، خوف السارق لبيت ليس صاحبه،
يبلغ عنهما، يحتجزان وهي ترفض الإجابة على سؤال بخصوص ديانتها، رغم كل شيء
هناك قوانين ولا يصح الاحتجاز دون اتهام محدّد لأكثر من 24 ساعة، تصل أمها
سيدة أنيقة تصحبهما إلى منزل أسرتها حيث الوالد البرجوازي المثقف.
من التحقيق نفهم أن منزل تمير كان للعرب وسكنه الإسرائيلي، دون مباشرة نفهم
سبب خوف تمير، وغلقه الباب بعدّة تكات والتصوير لكل من يقترب من البيت،
عمارة فريدة بأحجار وسلالم حجرية، ستصور المخرجة كلّ ما يعكس أصالةً كانت
للعرب واحتلها الإسرائيليون. أزقة ومتاجر ومقهى يجلس صامتًا به عربي بحطّته
الفلسطينية علامة على المكان. نعود للأحداث في بيتها تعد الأم طعامًا
وتحاور زوج ابنتها تعاتبه لعدم زيارتهم طوال الخمس سنوات، مظهرها عصريّ
ولكن تفكيرها تقليديّ تسألهما عن ولد تنتظره هي والأب، جد وجدة مشتاقان.
يحصل من الوالد عن معلومات تخص والده واسم لشخص يتصل به، أموج. هو ووالده
وأموج تزاملوا في حزب يساريّ ولديه معلومات غير دقيقة عن والده، يعرفها
أموج.
في السيارة، سلمى منزعجة لا يعجبها حال أبيها المنسحب من الحياة، وأمها
التي تركت الحديث معها لتعدّ كيكة لهما للطريق. هو مندهش، على الأقل لديك
والد تعرفين مكانه، يصحب الطريق أغنية من السيارة صوت سعاد ماسي المفضل لدى
المخرجة وكلمات "سلام، وأنا هامشي من سكات، وباودع أملي فيك، يا حلم ودعني"
مع مشاهد لليل يستمرالغناء. "أنا تقريبًا مشيت، أشوف وشك بخير"، يصلان إلى
طريق رأس النافورة، تامر يتذكر لمحات من طفولته، والده والأم ونافذة عليها
قضبان حديد، توقفهما سورية معها بندقية، تسأل سلمى، بعدما حلّ سوء التفاهم
"أدّيش إحنا بعاد عن سوريا، ترد السورية بحماس: إحنا هون بسوريا لو فينا
-قدرنا- ساعة مشي كنا بأحسن مطعم بدمشق، فكروا إن الشريط اللي حطوه بيناتنا
راح يحميهم، ويمكن ينسينا أصلنا" تمنحهما طعامًا ومبيتًا حتى الصباح
ويواصلان بالسيارة.
يكادا يصدمان سيارة تتعطل، بها سائحان فرنسيان، يطلب منهما اصطحابه لأقرب
محطة بنزين، تقول سلمى: "نحن فلسطينيان ممنوع علينا اصطحاب الإسرائيليين"،
يرد لحسن الحظ "نحن يهود ولسنا إسرائيليين". الكلمات الدالة التي تضعها
المخرجة المؤلفة على لسان أبطالها ليست عفوية ولكنها مقصودة لشرح وجهة
نظرها بوضوح. المرأة منزعجة من العرب وهو يهدئها بقبلة فرنسية، تامر يزعق
بهما: "خلصونا ورانا طلاق بدنا نلحقه"، هناك أيضًا حسّ فكاهيّ وسخرية من
موقف وضع تامر فيه. ينزل الفرنسيان ويتوهان إلى مقبرة يلتقيان فيها بصوفيّ،
يصلون إلى منطقة شعبية حيث يهود متعصبون يصفونهم بالقردة ويتعاركون.
عجوز يفض "العاركة" ويشير لهم على طريق أموج، إلى مقهى حيث أموج ويتبين أنه
يهودي عراقي يعرف أم تامر هاجر جلعادي ولكنها اختفت، يشير إلى عملها
بالمخابرات وإلى ابنها الذي أخذوه منها بالمستشفى. وأبوه غسان هجار الكاتب
الذي قتل ببيروت، الفلاش باك الذي يظهر لتامر يؤكد أنه كطفل شاهد قتل أبيه
وأمه من غرباء اقتحموا البيت. مشهد رقيق الطفل يحاول إلباس أمه حذاءها
المخلوع بجوار جثتها وكأنه يحضها على النهوض. والطفل بشعره الأسود يشبه
تامر في اختيار موفق من المخرجة.
هما حائران والسيارة تسير في نفق مظلم قبل الوصول إلى شاطئ البحر، تصور
النجار كل مشهد في مكان يلقي بظلاله على مشاعرهما لحظتها، كل شيء مدروس
وليست مجرد رحلة بلا هدف.
يصلان إلى شاطئ ويتعاتبان، ومكان للمبيت كقرى بساطة التي أقامها اليهود
أثناء احتلال سيناء، أماكن بسيطة للمبيت ثم يحضران الحفل مع الصوفي الذي
ينير طريقها بكلماته، وحديث عن العشق تنتبه إليه. يكون عليها إصلاح السيارة
وهو يستقل سيارة نصف نقل مع مجموعة تودع عروسين، الغناء مختفٍ، وتضع النجار
موسيقى ناعمة بدلًا من التصفيق والغناء، هل كان اختيارًا فنيًّا أم لضعف
التسجيل في الطريق العام؟ هي مقلة جدًا في استخدام الموسيقى من خارج الصورة
وتستخدم مؤثرات المكان بطريقة تعبيرية.
يصل تامر إلى هاجر في بيت رعاية وقد فقدت الذاكرة، صامتة تمامًا، الممرضة
تحكي له أن ابنها يزورها وكانوا أخذوه منها بعد ولادته وأعطوه لأسرة من
الأشكيناز، تامر مندهش تودعه وتعطيه ورقة جريدة عن خبر استشهاد والده، عند
خروجه يقابل الابن تمير العدواني يوبخه، لماذا لا تتركها في سلام، ليست أمك
ولا يمكن أن نكون أخوين، يعطيه اسمًا يصل إلى كنيسة حيث قبر الوالد ونصب
تذكاري به شكر لوالده الذي أنقذ الكثيرين. يعود تامر محبطًا تأكد من اسم
والده وعنوانه الأخير، يصلان إلى المحكمة يعلن عن رقم 48 ولكنهما لا
يتقدمان، لا يتحركان وكأنهما أدركا عبث الانفصال.
شتات فلسطينيّ وضحيّة سوريّة قوية ومتماسكة، ومعتدٍ إسرائيلي على الوطن
والدار، أوضاع عبّرت عنها النجار في رحلة الطلاق الذي لم يحدث ويبقى الوضع
قاسيًا على فلسطيني ببطاقة خضراء، وفلسطينية من عرب الداخل لديها هوية
إسرائيلية رفضت الإفصاح عن ديانتها، يحمل والدها اسمًا يمكن أن يكون لمسلم
أو لمسيحي، فاروق عيسى، وتامر نفسه هل دفن والده في مقابر المسيحيين يعني
مسيحيته؟! تطرح النجار كثيرًا من الأسئلة ولا تجيب عليها بشكل قاطع، يقول
المخرج السوري الكبير محمد ملص: السينما لا تعطي إجابات، فقط تطرح الأسئلة.
الفيلم في قالب رحلة في سينما بسيطة، تشاغبنا بسؤال هل تامر وتمير أخوان من
أم واحدة؟ هاجر جلعادي اليهودية العراقية الشيوعية، وكأنها بدون مباشرة
تدعو إلى دولة علمانية لا تمييز فيها بين المواطنين بسبب الدين. "بين
السماء والأرض" نموذج جيد لسينما المؤلف المهتمة بقضيتها العامة والمنعكسة
على مشكلتها الخاصة.
قالب فيلم الطريق يناسب تمامًا فكرة صاغتها نجوى نجار بشكل مركب عن علاقة
حب بين اثنين على حافة الطلاق مع الورطة التي يعيشها كلّ فلسطينيّ سواء كان
في الضفة الغربية أو الشرقية، سواء كان معه هوية إسرائيلية أو تصريح فقط مع
معاملته كإرهابيّ محتمل. تتمسّك البطلة بعدم الرد على سؤال حول ديانتها وهو
إعلان موقف نجحت فيه النجار من خلال اتخاذها البطلة واجهة للتعبير عن كل
أفكارها الرافضة للهوية على أساس دينيّ.
بدت الفلسطينية مثقفة جميلة، ملابسها غير متزمتة، تقود سيارتها، ككل فتاة
عربية تهرب من إلحاح أمها للسؤال عن الطفل ومتى ينجبان طفلًا يفرح به الجدة
والجد. وسط المشكلة الكبرى التي ظهرت عند الرغبة في الحصول على وثيقة طلاق
تعبير عن مشاكل الفتاة في مجتمع عربي والتنميط الذي يضعها فيه الجميع،
الأسرة والأهل والجيران. أظهرت النجار البوليس النسائي الإسرائيلي متعجرفًا
وغبيًّا وأصرت على عدم تحقيق طلبهم حول معرفة ديانتها، كما أظهرت الشاب
الإسرائيليّ خائفًا يغلق باب البيت بعدد من تكّات المفتاح في مقابل جسارتها
ومحاولة حلّ أزمة هوية زوجها. إنها ليست رحلة طلاق ولكن رحلة بحث عن الهوية
والتأكيد على أن هذه ديارنا، بيوتنا وذاكرتنا.
من اسم الممثلة اعتقدت أنها يهودية. أثناء البحث عن معلومات عن الفيلم
وصنّاعه عرفت أن الممثلة لويز حاييم ممثلة فرنسية فلمنكية ومترجمة ومخرجة.
عملت كمدرس لغة سابق ومسؤول حماية عن طلبات اللجوء، وبدأت مسيرتها المهنية
في المسرح عام 2007 وانضمت إلى السينما في عام 2011. وقد شاركت في إنتاجات
دولية في فرنسا وألمانيا وإيران وفلسطين. أربع لغات: اللغات الفرنسية
والإنجليزية والإسبانية والإيطالية، سافرت في 50 دولة وتتعلم اللهجات
الفلسطينية والمغربية. هنا تجيد العربية والعبرية بطلاقة مكّنتها من تخطي
حواجز والتعامل مع كل الأطراف بكياسة. عمومًا تخوض نجوى نجار حقل ألغام في
فيلمها حيث سار البحث عن احتمال كبير أن يكون اليهودي والمسلم من أم واحدة
عراقية يهودية شيوعية.
بداية البحث بلقاء مع صديق لوالد الزوجة ويعرف والده وأمه ولكن عند
الاستمرار في البحث يتبين أن والد الزوج مسيحي مناضل وقبره بجوار كنيسة في
رام الله. نعود إلى الخلف لنتتبع صاحبة الباسبور الإسرائيلي وزوجه
الفلسطيني ومعه تصريح فقط 73 ساعة، يريدان الحصول على وثيقة طلاق. الرحلة
تحولت إلى بحث في الجذور وإلى التأكد من عدم وجود دافع قويّ للطلاق فتتحول
إلى رحلة مصالحة وتفاهم وتراجع عن الانفصال.
الأم اليهودية العراقية، يحيلنا إلى فيلم "انس بغداد" وقوة اليهود
الشيوعيين العراقيين، أين هم الآن، هناك شتات نلمس وجوده ضمنيًّا، ومأساة
حول فشل مشروعهم الأمميّ الذي يتخطى حدود القوميات والأديان.
نجوى نجار مخرجة ومؤلفة فلسطينية، ولدت في العاصمة الأمريكية واشنطن 31
يوليو 1973، ودرست هناك السينما، وبدأت مسيرتها الفنية بإخراج الإعلانات
التجارية، ثم اتجهت للأفلام الوثائقية والقصيرة خاصة بعد انتقالها للعيش في
مدينة القدس، وكانت أول أفلامها القصيرة فيلم (نعيم ووديعة) عام 1999،
لتتوالى أعمالها بعد ذلك والتي من أبرزها (المرّ والرمان، عيون الحرامية).
ينشر بالتعاون مع نشرة مهرجان القاهرة السينمائي |