حفلة ختام مهرجان لندن السينمائي، شهدت العرض الأوروبي
الأول لفيلم «الآيرلندي» لمارتن سكورسيزي. الخارج من الفيلم، وبعد مراجعة
أفلام هذه الدورة (وقد كتبنا عن بعضها بالفعل)، يدرك أن الفيلم منحه القدرة
على التحليق معه، فوق رؤوس معظم الأفلام التي عرضت في هذه الدورة الثالثة
والستين.
ربما من غير المنطقي، وبالتأكيد من غير المعقول، أن تأتي كل
(أو أقل من ذلك) أفلام مهرجان ما بقيمة الفيلم الأفضل بينها. لكن هذا هو
الشعور الذي انتاب هذا الناقد بعد ثلاث ساعات و48 دقيقة من العرض. ما فعله
المخرج سكورسيزي هنا هو إلقاء تحية وداع على سينما الغانغسترز التي - كما
ذكرت في مقال سابق - قادها في السبعينات مع برايان دي بالما وفرنسيس فورد
كوبولا.
الفيلم ضخم، ليس بسبب ساعاته وأحداث تلك الساعات؛ بل نسبة
إلى تاريخ حافل من التجاذب حول السلطة بين قوى مختلفة، أحدها جيمي هوفا،
رئيس الاتحاد العمالي الأميركي منذ منتصف الخمسينات وطوال الستينات
تقريباً، وبين المافيا، كذلك بينه وبين الحكومة ممثلة بمكتب التحريات
الفيدرالي
FBI)).
كذلك، وإذا كان لا بد، من حيث إن كلفة الفيلم التي انطلقت على أساس 100
مليون دولار ارتفعت إلى 160 مليون دولار، ذهب كثير منها إلى خلق الفترة
الزمنية، وإعادة الشباب إلى محيا ممثليه المخضرمين آل باتشينو وروبرت دي
نيرو، عبر وسائل الديجيتال (يقول سكورسيزي إن المؤثرات المذكورة ابتلعت
وحدها عشرات ملايين الدولارات).
نقاد السرد
يتضح من سياق الفيلم أن سكورسيزي قرر أن الوسيلة الوحيدة
لتحقيق فيلم غانغستر آخر، يضيفه إلى أفلامه السابقة، هي أن يتم فقط بإعادة
الزمن ذاته إلى الوراء. ليس فقط من حيث استئجار سيارات تنتمي إلى تلك
الفترة، وتجهيز ديكورات وتصاميم ملابس وتفاصيل أخرى على النحو الأمين لتلك
الفترة؛ بل من حيث البحث عن تلك الشوارع وتلك المقاهي والمحلات التي كانت
تزخر بها، حتى لو أعيد بناء بعضها في استوديوهات الديجيتال.
يحاكي ذلك كله شغل كاميرا (من رودريغر بييترو الذي اشتغل
على فيلمين سابقين لسكورسيزي، هما «ذئب وول ستريت» 2013، و«صمت» 2016)، على
نحو يعيد المشاهد إلى سينما تلك الفترة، حين كانت الكاميرا (قبل عصر
الديجيتال) تجوب الحكاية وتمتزج بعناصر العمل البصرية، مساهمة في رفع
مقاييس الفيلم الفنية بأسرها.
إذا كان سكورسيزي يعتمد على بييترو لكي يحقق له هذا «اللوك»
الشاسع والصعب، فإن اعتماده على المونتيرة المخلصة ثيلما سكونميكر، لا يقل
أهمية، وعلاقتهما تمتد منذ سنة 1967، عندما كان سكورسيزي ما زال مبتدئاً.
من دون أن ندري كم ساعة تصوير كانت بين يديها، تسبر
المونتيرة المخضرمة سبيل الفيلم بقدرة شبه فريدة على صياغة العمل سهلاً
وعميقاً في الوقت نفسه. تحافظ على نقاء السرد رغم كثرة العناصر والمواد
والشخصيات، وكل ما اعتبره السيناريو مهماً، كان أو لم يكن.
سكورسيزي هو قائد أوركسترا مؤلف من مئات العناصر الفنية،
يهدف عبره إلى تذكير المشاهدين بما هي السينما فعلاً. لا يغيب عن بال
المشاهد لحظة واحدة أن معظم أفلام اليوم هي أشبه بعود كبريت ترميه بعد
الاستعمال مباشرة. تنضوي بعدما تشع أو تنطفئ سريعاً. وهو يعرف كيف يذكّر
المشاهد بكيف كانت السينما، لا على يديه فقط؛ بل على نحو عام.
في مطلع «الآيرلندي» هناك مشهد نرى فيه الكاميرا تجوب ممرات
مستشفى. لن نعرف أنها ممرات مستشفى من الوهلة الأولى. ليس قبل أن ندلف إلى
جزء من هذه الرحلة البصرية، فنرى أطباء وجراحين وممرضات. تستمر اللقطة بلا
انقطاع مبتعدة لتدخل غرفة هادئة فيها رجل ينتظر زيارتنا له. إنه فرانك
(روبرت دي نيرو). المشهد السلس والطويل ينتهي عنده.
قبل أن يتحدث إلينا نسمع أغنية من تلك الفترة
(In the Still of the Night).
سكورسيزي لم يستخدم هذا المشهد فقط كتمهيد لشهادة فرانك اليوم عما حدث
بالأمس بينه وبين جيمي هوفا الذي مات مقتولاً (في الواقع لم يجد أحد جثته
ولم يعلن عن وفاته رسمياً إلا بعد سبع سنوات من اختفائه عام 1975)؛ بل
كتذكير ببصمة مشابهة أقدم عليها عندما أخرج
«Gollfellas»
سنة 1990. فيلم غانغستر آخر أقدم عليه متمثلاً بمشهد نرى فيه الكاميرا
ولنحو يزيد عن دقيقتين وهي تلاحق رجلاً وامرأة (راي ليوتا ولورين براكو) من
لحظة خروجهما من سيارة وحتى دخولهما ملهى ليلياً من خلال باب المطبخ. هناك
أيضاً مصاحبة لأغنية من تلك الفترة (لا أذكر ما هي).
عالم انتهى
هناك نقطة لقاء أهم بين هذين الفيلمين: «صحبة طيبة»
و«الآيرلندي». في كليهما نتابع الأحداث من وجهة نظر الراوي (دي نيرو هنا،
وليوتا هناك). بهذه المقارنات (ومعها حقيقة وجود دي نيرو وجو بيشي في
الفيلمين، ثم إن «صحبة طيبة» هو فيلم عصابات أيضاً)، تنتهي حزمة التشابهات.
يبدو «الآيرلندي»، بالمقارنة مع ذلك الفيلم وباقي أفلام
سكورسيزي العصاباتية، رحلة المخرج صوب نقطة ضوء بعيدة ما قبلها عتمة داكنة.
شعور بالزمن المترهل والحقبة المنقضية. إنه أشبه بمن يودع عصراً أحبه على
الرغم من أنه كان عصر الخارجين عن القانون. شيء مثل «بات غاريت وبيلي ذا
كيد» عندما ودع المخرج سام بكنباه فترة الغرب الأميركي بفيلم يبكي الحرية
والجريمة في تلك الآونة معاً. ليس في الأسلوب (فيلم بكنباه كان شعراً
بالمقارنة مع هذا الفيلم)؛ لكن بنظرة وداع لذلك الجزء الفعلي من تاريخ عنيف
مرت به الولايات المتحدة منذ نشأتها.
يسبر المتحدث فرانك في «الآيرلندي» الماضي. الكاميرا تتركه
(وستعود إليه) وتبدأ بسرد الحكاية التي ستمنحنا خلفيته من حين كان جندياً
إيطالياً خلال الحرب العالمية الثانية لحين انتقاله إلى الولايات المتحدة
منتمياً إلى المافيا، كرجل أعمال مهامه هي تنفيذ مهام بالتصفية. إحدى تلك
المهام، كما يتبلور الوضع لاحقاً، المساعدة في التخلص من العبء الذي بات
جيمي هوفا (آل باتشينو) يشكله على محيطه وعلى الحكومة والمافيا ذاتها.
هوفا، كما نراه هنا، سلطوي قاد الاتحاد العام للعمال الأميركيين خلال
الخمسينات والستينات، واستمد قوته من انضواء أكثر من مليوني عامل أميركي
إلى ذلك الاتحاد.
هذا جعل الـ«إف بي آي» حذرة ومتربصة لأقل خطأ يقع فيه هوفا.
وهوفا كان كثير الأخطاء، وأحدها أودعه السجن بتهمة الرشوة والفساد سنة 1967
حتى سنة 1971، عندما وافق رئيس الجمهورية آنذاك (ريتشارد نيكسون) على إطلاق
سراحه مقابل تخليه عن رئاسة الاتحاد. بعد خروجه من السجن تعامل هوفا مع
المافيا؛ لكنها (ممثلة بعصبة بوفالينو) قررت التخلص منه. هنا يأتي دور
فرانك الذي كان صديقاً سابقاً لجيمي هوفا، والذي بات عليه أن ينفذ رغبة
المافيا، كما يتذكر موجهاً حديثه أكثر من مرة للكاميرا في اختراق للجدار
الرابع (الجدار الذي يتوجه فيه إلى الكاميرا ومن ثم إلى المشاهدين مباشرة).
هذا هو الخط الرئيسي من الأحداث، وعنه هناك متفرعات. كلها
(الخط الرئيسي والخطوط المصاحبة) تؤدي إلى فيلم غانغستر من النوع الذي يلبي
حاجة عشاق النوع. كثير من النهايات العنيفة، خطط ومؤامرات وقتلى. يستخدم
سكورسيزي سطوراً مطبوعة للتدليل عليها. شهادة فرانك تنقلب إلى شهادته التي
كانت أكبر الشهادات. هذا مخرج يريد أن يصِم الفترة وما احتوته من شرور
وجريمة منظمة. وفي الوقت ذاته لا يمانع في جعل فيلمه أشبه بممر ذكريات
حانية. يشيد عالماً اختفى كان أحب ما فيه بصرف النظر عما فيه.
لكن خريطة الطريق عند سكورسيزي ليست فقط من قتل من في رحى
حياة الخارجين عن القانون والمنتمين إليه تحت الستار؛ بل تشمل أيضاً
أحداثاً أكبر لا يريد سبرها كميادين بحث واستقصاء؛ بل يتوقف عند ذكرها
والإيحاء بها. يرد في الفيلم ذكر فضيحة «ووترغيت»، ويرد إيحاء بعيد بأن
المافيا هي التي قتلت جون كينيدي، ويتحدث عن محاولة روبرت كينيدي الحد من
سُلطة هوفا، ثم عن علاقة فرانك مع وكالة المخابرات الأميركيةCIA)
).
بما أن الفيلم لا يريد أن يترك شأنه الخاص راوياً، عن لسان فرانك (دي نيرو)
الأحداث التي قادت لقتل جيمي هوفا، فإن ما يوحي به أو يذكره ليس هنا أكثر
أهمية مما يقع.
لحظات صمت
شخصيات «الآيرلندي» مليئة بالشحن العاطفي. جيمي نفسه كان
شخصاً حاداً، وآل باتشينو لا يحتاج لخبرة في تأدية الشخصيات الحادة. هو
ممثل ممتاز رغم كونه يميل للاستعراض، إذ إن كل كلمة وجميع الملامح عليها أن
تأتي مصحوبة بحركة الجسد وأطرافه. في المقابل، فرانك لا يمكن أن يكون الشخص
السعيد بما آلت إليه صداقته مع جيمي. بذلك الانتقال من صف الصداقة إلى صف
العداوة (قتل فرانك أحد معارضي جيمي). هو بيدق صغير لحساب العصابة، وأداؤه
يختلف من حيث إنه يعمد إلى ما يعمد إليه من وتيرة هادئة. كما أن شخصية
دينيرو الخاصة يستمع أكثر مما يتكلم، وحين يتكلم يختصر.
الشخصية التي يؤديها جو بيشي (العائد من العزلة بعد 19 سنة)
لا تقل إثارة للمتابعين. تخلى عن كل تلك الحركات التي عادة تصاحبه (هل يذكر
البعض مزاحه خلال عملية دفن جثة في «صحبة طيبة»؟). البديل تمثيل رزين يشبه
دوره في فيلم سكورسيزي الرائع «ثور هائج» لاعباً شخصية شقيق دي نيرو.
سابقاً ما كانت المرأة تأتي قوية الجانب في بعض أفلام
سكورسيزي (شارون ستون في «كازينو» مثلاً)؛ لكن هنا، ومع وجود ثلاث نساء في
حياة فرانك (زوجته السابقة وزوجته الحالية وابنته كما تؤديها آن باكوين)،
يختلف الأمر، رغم أن المساحة كانت متاحة لدور أكبر لدور الابنة. لكن ما
يتبدى من دورها مهم جداً. هي العين التي تراقب أفعال والدها والفم المغلق
غالباً. هو يشعر بأنها تنتقد ما يقوم به وما يشتغل عليه، وغير راضية عن
علاقاته. شعوره ذاك يزعجه؛ بل يؤلمه؛ لكنه لا يستطيع الانفصام، لا عن ماضيه
ولا عن سيطرة راسل بوفالينو (جو بيشي) عليه.
هذه اللحظات التي تفسر العلاقات القائمة بين كل هذه
الشخصيات، هي الصرح المتين للفيلم. هي ونفاذ المخرج من شرك التعاطف مع
فرانك أو مع جيمي أو مع أي من سواهما. لكن طول الفيلم شرك آخر لم يستطع
سكورسيزي تجنبه. صحيح أنه فيلم حافل والمرء يجد في معظم ما يدور على الشاشة
تجسيداً لكيف تحولت السينما من مجرد ترفيه إلى فن جامع، إلا أن الفيلم
يستنفد مبررات طوله. يفعل ذلك على حساب من سيشاهده (بدءاً من مطلع الشهر
المقبل) في بعض الصالات التجارية أو من سينتظره على شاشة «نتفليكس» من
السابع والعشرين من الشهر ذاته. |