"جوكر"...
تصوير وديكور وأداء متقن لسيناريو ضعيف متوقع
"اعتبر
آرثر تجسيداً حيّاً لقضايا ومشكلات ابتليت بها المدينة"
سارة عابدين
بعكس عادتي عند الكتابة عن عمل فني أو فيلم سينمائي، حاولت
هذه المرة قبل مشاهدة فيلم "جوكر" وبعد مشاهدته ألا أقرأ أي مراجعات أو
تحليلات له، لكنني لم أستطع منع منشورات الفيسبوك من ملاحقتي وإن حاولت غض
بصري عنها، بالإضافة إلى محاولتي فصل الفيلم عن سلسلة أفلام جوكر وباتمان
السابقة ووضعه في سياق منفصل تماما.
تبدو الحكاية من البداية حكاية شخص مهمش وبسيط هو آرثر
فليك، لا يريد سوى أن يصبح كوميديان/بهلواناً يضحك الناس، لكنهم لا يتركوه
لأمنيته البسيطة هذه، ويتعرض للضرب من مجموعة من المراهقين، لا لسبب سوى
أنه ضعيف لا يمكنه الدفاع عن نفسه. نتعرف بعد ذلك عليه أكثر. مريض نفسي
يعاني من اضطراب الهوس الضاحك الذي يؤثر على ردود أفعاله ويدفعه للضحك في
أوقات ومواقف لا تستحق الضحك.
لا أحد.. لا أحد يهتم لأمره حتى طبيبته النفسية التي تتعامل
معه بشكل آلي، إلى حدّ أنه كتب في مذكراته "آمل فقط أن يصبح موتي مفهوما
أكثرمن حياتي". إذاً هو شخص مهمش يحاول قدر الإمكان إيجاد مكان له وسط
العالم، لكن لا أحد يتقبله. لا الناس في الشوارع، ولا طبيبته، ولا شريكة
الباص التي تنهره لمجرد مزاحه مع صغيرها، بالرغم من تفاعل الصغير معه،
وضحكه له، ربما لأن الطفل ما زال فطريا لم يُحمّل بمفروضات المجتمع
ومرفوضاته، وأمه هي بداية تدجينه وقهر فطرته، وتحويل طرق سعادته وتفاعله
للطرق التي توافق عليها الأم، ويوافق عليها المجتمع.
لحظة التحول الأولى
لحظة التحول الأولى كانت بعد أن فقد وظيفته نتيجة سقوط
المسدس منه أثناء عرض للأطفال وبعد تلك اللحظة المؤلمة التي استمر فيها في
الرجاء ليبقى في عمله، لكن رب عمله لم يوافق، خاصة مع الجملة التي قالها
"رجاء.. رجاء أنا أحب هذا العمل". لحظة قهر جديدة لشخص يحاول أن يعيش بدون
أي طموحات أو أحلام كبرى.
في طريق العودة داخل قطار الأنفاق يتحرش شبان ثلاثة بفتاة،
دون اعتبار لوجوده أصلا، في استمرار لشعوره بانعدام وجوده، وربما كان
الدافع الذي دفعه للدفاع عن الفتاة، هي نظرة عينها التي ركزتها عليه حتى
تلاقت نظراتهما، تلك النظرة التي أشعرته أنها تراه وتستجديه ليدافع عنها
بشكل ما، خاصة عندما انتقلت من مكانها لمكان أكثر قربا منه، ومنحته شعورا
بالاعتراف.
الفيلم يذكرني بشكل شخصي بالأفلام المصرية التي تكتب خصيصا
لبطل كبير
في اللحظة التي أطلق فيها آرثر النار لم يكن يطلقها فقط على
الشبان الثلاثة، لكنها كانت طلقته الأولى في وجه كل التجاهل والظلم والقهر
والتهميش الذي كان يشعر به. كان يدافع عن نفسه من خلال دفاعه عن الفتاة،
وظهرت بوادر شخصية جوكر في لحظات إطلاق النار، في الإصرار في عينه، وخطواته
غير المهزوزة وذراعه الممدود بالمسدس، أثناء المطاردة التي استمرت لدقائق
من داخل القطار حتى خارجه، لنتأكد أن قتله لهم كان اختيارا استمر فيه
للنهاية، وليس مجرد شعور عابر أو لحظة تعاطف مع الفتاة فقط.
يعود من جديد لشخصية المهرج بعد انتهاء جريمة القتل، ويبدأ
الخوف والذعر في الظهور على ملامحه، أثناء جريه السريع هربا من المكان
والموقف، حتى وصوله للبيت وإغلاقه للباب بذراعيه، كأنه يتأكد أنه أصبح في
أمان بعيدا عن كل ما حدث، ثم رقصة انتصاره الأولى أمام مرآة الحمام. هنا
يكتشف آرثر جزءا جديدا من نفسه، مشاعر لم يجربها، وقوة لم يختبرها من قبل.
كما يحقق آرثر دائما أمنياته وأحلامه بشكل فانتازي داخل
عقله وخياله، كانت القبلة والعلاقة الفانتازية التي قامت بينه وبين جارته،
بمثابة المكافأة التي اختارها لنفسه، وبداية رفضه للظلم والتنمر، خاصة مع
رقصته الجديدة على السلم التي تنتهي بباب يدفعه بقدمه، فيظهر النور ويغطيه
بداخله، ليظهر آرثر بوجود جديد يتبلور مع كل جريمة قتل جديدة يرتكبها.
"نتعرف
خلال الفيلم على طريقة صنع البطل الثوري أو الأيقونة الثورية من البداية،
وكيف أصبح القاتل بطلاً"
فينيكس يغرد منفردا
اعتبر آرثر تجسيدا حيا للقضايا والمشكلات التي ابتليت بها
المدينة، وما يمثله جوكر ليس بالضرورة سيئا، فهو يقدم مشكلات اقتصادية مثل
عدم توزيع الثروة بشكل عادل، والطريقة التي يتم التعامل بها معه ومع وغيره
من الأشخاص المصابين بأمراض عقلية والمهمشين في المدينة، لكن يجب ملاحظة أن
فليك لم يحاول التعبير الإيجابي عن مشكلاته بأي طريقة، بل تركها تتفاقم
حوله، ولم يرغب من الأساس أن يصبح رمزا أو أيقونة ثورية، وفي لحظة التحول
استسلم لأسوأ ميوله وأصبح إعصاراً من الغضب والتدمير.
يأخذ السيناريو الأفكار الشخصية للبطل ويربطها بشكل مباشر
بالقضايا التي تعصف بالمجتمعات الحديثة، فيمنح البطل تبريرا لأفعاله،
ويمنحه تعاطف المشاهد، خاصة المشاهد الذي مر بكل التجاهل والتهميش والتنمر
الذي مر بهم آرثر في الفيلم، ولم يستطع أن يرد حقه لأسباب مختلفة، لذا وجد
في فليك أمنياته وانتقامه الذي لم يتحقق، لكن تبقى القصة شديدة السطحية،
ناقصة في أجزاء كثيرة، كأنها كتبت على عجل، خاصة في الجزء الذي يخص علاقته
بأمه، وعلاقة أمه بالمرشح المحتمل لرئاسة المدينة، بالإضافة إلى أن محاولات
الربط السياسي تبدو مصطنعة ومباشرة.
الفيلم يذكرني بشكل شخصي بالأفلام المصرية التي تكتب خصيصا
لبطل كبير، دون مراعاة أدوار باقي الممثلين، أو قصة الفيلم، ليظهر خواكين
فينيكس كأنه يغرد منفردا في الفيلم، حتى إذا بحثنا عن اقتباسات أو مشاهد
مهمة لن نجد سوى اقتباسات ومشاهد جوكر، وأداء فينيكس الذي يعلو كثيرا على
أداء باقي أبطال الفيلم، ماعدا روبرت دي نيرو الذي قام بدوره بشكل متقن
وتعبيرات وجه وعيون وجسد، تلائم تماما شخصية النجم الذي يحاول طوال الوقت
أن يكون مثاليا طيبا مقربا من الجماهير، بينما هو في الواقع لا يبحث سوى عن
مجده الشخصي.
القتل هو العقاب دائما
بعد جريمة القتل الأولى بدأ وجود آرثر الكوميديان في
التلاشي، وظهرت شخصية جوكر التي اعتبرت القتل هو العقاب المناسب لكل شيء.
تغيرت نظرة عيون آرثر الطيب، وظهرت لمعة شريرة في عينيه، خاصة عند اختيار
ضحيته، أمه التي تسببت في مرضه العقلي منذ صغره، صديقه الذي أعطاه المسدس،
وأخيرا موراي فرانكلين المذيع الذي سخر منه.
لحظة الاعتراف على الهواء تمثل بالتأكيد المشهد الرئيسي في
الفيلم، حين قال "حياتي لا شيء ما عدا الكوميديا"، وتأكيده أن هناك سلطة ما
دائما تقرر كل شيء، حتى أنها تقرر للجماهير ما هو المضحك وما هو غير
المضحك، واللحظة التي قرر فيها مخالفة تلك السلطة والضحك من جرائم القتل
الخاصة به، هي قمة شعوره بالتحقق والحرية، بالإضافة إلى أنها تظهر طريقة
توجيه الجماهير وتكوين الرأي العام عن طريق الإعلام الذي يخدم الأهداف
الرأسمالية للدولة، ويفرض على الجماهير أسباب وطرق التعاطف مع مؤيدي
الرأسمالية وتخطي وتجاهل الفقراء والمهمشين.
في النهاية نتعرف على طريقة صنع البطل الثوري أو الأيقونة
الثورية من البداية، وكيف أصبح القاتل بطلاً، وهو يتابع أحداث الشغب
والعنف، ويرقص بعد كل جريمة رقصة التحرر. كيف أصبحت الحرائق والدمار دلائل
احتفالية في المدينة بدلاً من أن تكون دلائل جنائزية أو تعيسة، خاصة في
المشاهد التي ارتدى فيها الجميع قناع جوكر.
"السيناريو
سيء يحمل الكثير من الكليشيهات والأحداث التي يمكن التنبؤ بها بعد الربع
الأول من الفيلم"
الألوان والديكور
تبدو المدينة منذ البداية مقفرة وكئيبة، شوارعها شبه
مهجورة، متسخة مضببة. اختار مهندس الديكور لسكن جوكر ووالدته مبنى من طراز
الأرت ديكو القديم، مع ديكور غائم وحزين، وأثاث يبدو مستهلكاً للغاية، مع
إضاءة صفراء خافتة، وجدران ملطخة بورود ضخمة تفتقر لأي صورة من صور الجمال.
ملابس آرثر الشخصية عندما لا يكون مهرجاً، تبدو قديمة من حيث الخامة
والموديل، لشخص غير مبال بتطورات الملابس أو تراكيب الألوان، ليؤكد على
الشخصية المريضة، غير الناجحة اجتماعيا، خاصة مع وجه خواكين الشاحب، وبروز
عظام الخد ليبدو نحيلا ومرهقا للغاية.
عندما يتحول آرثر إلى المهرج، يرتدي شعرا مستعارا بلون
أخضر، ومكياج مهرج غريب يحمل لمحة مخيفة منذ البداية، خاصة مع البدلة
الحمراء والسترة الذهبية، وزوج الجوارب البيضاء. تلك التوليفة العجيبة التي
أضفت على الشخصية بعدا غرائبيا، مع إحساس عتيق يتماشى مع ديكور المدينة
والمبنى والمنزل.
الانقسام حول الفيلم
أثار الفيلم جدلا كبيرا، فهناك من وجده فيلما أسطوريا عميقا
يحتاج أكثر من مشاهدة وأكثر من قراءة للأحداث، وهناك من اعتبره فيلما
جماهيريا مباشرا، وفي النهاية وجدت نفسي أحمل أكثر من رأي ناحية الفيلم.
أحببت الديكور والتصوير والأداء المثير أحيانا للشفقة وأحيانا للخوف أو
الإعجاب من فينيكس، لكن السيناريو سيء يحمل الكثير من الكليشيهات، والأحداث
التي يمكن التنبؤ بها بعد الربع الأول من الفيلم، بالإضافة إلى تأكيده على
العلاقة بين الاضطراب النفسي والعقلي والجرائم، والتي قدمت في الفيلم بشكل
سطحي ودون تعميق واستكشاف لطبيعة المرض العقلي وتأثيره الفعلي. هو فيلم
تجاري صنع ليكون ملائما للجماهير ويجلب أكبر قدر من الإيرادات، ويبدو أن
ذلك كان بمثابة الاهتمام الأول لصناع الفيلم. |