يوليو الميلاد والرحيل والبعث أيضاً.. إنه شهر الملك فريد
شوقي. هذا الفنان المصري الذي لا يُشبه أحداً إلا نفسه. إنه من مواليد ٣٠
يوليو ١٩٢٠. وتوفي ٢٧ يوليو ١٩٩٨. وهذا الشهر تحتفل مصر بالذكرى المئوية
لمولده. فما بين المولد وتغيير العنوان بشكل أبدي، عاش ٧٨ عاماً غير عادية.
بدأ من الصفر. واصل مسيرته إلى أن صعد الجبل، وظل هناك على القمة طويلاً
وأبداً. على مدار نصف قرن من الإبحار في عوالم الفن والتمثيل صنع عظمته
وأسطورته الخاصة.
جمع الملك - الذي كان يروق له وصف «فنان الشعب» - بين صناعة
نفسه كفنان وبين صناعة وشئون الفن السينمائي في مصر، لذلك وصفه الفنان
أحمد زكي
بـ«رئيس جمهور التمثيل». جمع بين التمثيل وتأليف القصة
السينمائية، وأحيانا غير قليلة شارك في كتابة السيناريو والحوار، وفي رسم
ملامح الشخصيات بتفاصيل نادرة، مثلما خاض غمار الإنتاج لنفسه أولاً، ثم
أنتج أفلاماً لآخرين آمن بهم، ومنهم الفنان عادل إمام خصوصاً في بداية
حياته ومشواره السينمائي.
أسباب عديدة للنجاح
شارك في كتابة العديد من أعماله السينمائية على مدار
تاريخه، الموثق منها نحو ١٨ فيلماً، وإن كنت أعتقد أن مساهماته تتجاوز ذلك
لأنه بحوار - بالغ الأهمية والمصداقية - مع الناقد السينمائي الكبير كمال
رمزي عندما سئل: هل تتدخل في صياغة حوارات الأفلام التي تقوم ببطولتها؟
قال: في الأفلام التي أكتب قصصها، غالباً، أشترك مع كاتب السيناريو في بناء
الشخصيات، وتحديد العلاقات، وإبداء رأيي في الحوار. هذا بالنسبة لحوار
الأفلام التي أكتب قصصها، أما الأفلام التي لا أكتب قصصها فأحياناً أُبدي
رأيي، ولكني لا أتمسك به. وعادة، أشاهد أفلامي مع الجمهور في دور العرض
وأستفيد من ملاحظاته وتعليقاته في أفلامي التالية.
ما سبق من تدخل في كتابة السيناريوهات، إضافة لرصد الواقع
المحيط به، والقراءات والمتابعات الدؤوبة منه للملاحظات النقدية حول
الأفلام - كانت من أهم العوامل التي ساعدت
فريد شوقي
في تبديل جلده السينمائي وتعميق الشخصيات، وفي اختيار
الموضوعات، وتطويرها، ومن ثم تبديل عباءاته وأقنعته بفن الأداء. إنه مثلما
اكتشف مواهب عديدة كان هو أيضاً الذي يكتشف نفسه فلا يترك الآخرون يضعونه
في خانات ومناطق أداء نمطية. من هنا تتجلى عبقرية وذكاء فريد شوقي.
السيد بدير
لكن المثير للإعجاب أن
فريد شوقي
كان يعطي لكل موهبة حقها، يعترف بنقاط قوتها، فرغم أنه كتب
قصص بعض الأفلام لكنه ظل يُشيد بدور السيد بدير في كتابة السيناريو والحوار
لكثير من أفلامه مثل: حميدو - رصيف نمرة خمسة - جعلوني مجرما. إذ يقول:
«كلهم قصصي وساهمت في كتابة السيناريو فيهم، فأنا قرأت كتب فن السيناريو،
وقرأت عنه كتير قوي، لكن الفضل يرجع للأستاذ الكبير سيد بدير، لأنه أكبر
سيناريست في مصر، من خلاله طلع مخرجين وأبطال».
ساعد
فريد شوقي
نفسه بنفسه على تجديد طاقته بأمرين؛ حيث إنه بذكاء كان يستعين بالنجوم
المشهورين المجاملين له وربما الأكثر نجومية منه ليمنحوا الفيلم مزيداً من
القوة والثقل والرضا الجماهيري، فعندما بدأ الإنتاج كان يطلب
محمود المليجي
وزكي رستم ليكونوا أبطالا أمامه.
مثلما ساهم في تجديد وحيوية
فريد شوقي
أنه كان حريصاً على إشراك الشباب من النجوم الواعدين في
أفلامه، كأنهم يُجددون له حيويته، ويكسبونه مزيداً من الطاقة، والبريق، وفي
نفس الوقت يحرص على مغازلة مشاعر الجمهور الملول بطبعه الباحث عن الجديد
والمنتصر للشباب.
إصراره علي نجيب محفوظ
قدرة
فريد شوقي
على
الفهم، وامتلاكه البصيرة والوعي الذي كان يميزه - ساعداه على إدراك ضرورة
البحث عن المواهب والشخصيات المبدعة التي تفيد عمله في شتى عناصر العمل
خصوصاً السيناريو والحوار. وهو ما يتضح من فكر بفيلمه «جعلوني مجرماً»
عندما سعى لإقناع
نجيب محفوظ
بالمشاركة في رسم شخصيات الفيلم وتحولاتها النفسية.
بالفيلم الوثائقي «نجيب محفوظ.. صاحب نوبل» تحدث الكثير من
رفاق رحلة محفوظ عن مشواره الأدبي والسينمائي، من بينهم الفنان الراحل
فريد شوقي
الذي قال: «إن علاقته بمحفوظ بدأت بعد أن قرأ رواية «بداية ونهاية»، التي
قرر بعدها شراءها من «محفوظ» لتحويلها إلى عمل فني، مشيراً إلى أن
نجيب محفوظ
كان يعمل في قسم "الرهونات" في وزارة الأوقاف.
وأضاف الملك أنه عندما كان يقوم ببطولة فيلم «جعلوني
مجرمًا» استعان بمحفوظ لإعادة كتابة وضبط شخصيات الفيلم، وتم الاتفاق معه
على أن يكون الأجر ١٠٠ جنيه، دفعها له على أربعة أقساط، بواقع ٢٥ جنيهًا
لكل قسط. كان يجتمع مع
نجيب محفوظ
والمخرج السيد بدير ثلاث مرات أسبوعياً. ظلوا يعملون على السيناريو نحو ٧
أشهر. في نهاية العمل عندما أعطاه
فريد شوقي
القسط الأخير أعاده إليه
نجيب محفوظ
قائلاً: إنه تعلم منه ومن السيد بدير ما لم يكن يعرفه عن
كتابة السيناريو.
تصحيح معلومة
مع ذلك، لا بد من تصحيح معلومة انتشرت بالصفحات الفنية،
وربما ساعد في ترويجها ترديدها في الندوة التي أقيمت لكتابي «فريد شوقي وحش
الشاشة.. ملحمة السينما المصرية» - الصادر عن مهرجان الأقصر للسينما
الأفريقية - إذ وقف المخرج القدير عمر عبد العزيز متحدثاً بحب كبير عن
الملك ومن بين ما ذكره عبد العزيز أن «فريد شوقي هو مَنْ اكتشف
نجيب محفوظ
السيناريست، وأنه هو مَنْ قدمه للسينما».
والمعلومة السابقة بعيدة عن الصواب تماماً، وهذا لا يُقلل
من قيمة وأهمية فريد شوقي، لأنه لو افترضنا أنه اكتشف موهبة أديب نوبل،
وقدمه للسينما فإن هذه الجزئية ليست هي التي صنعت أسطورة فريد شوقي. هناك
أشياء أخرى عديدة خصبة وثرية جعلت الملك يتربع على قلوب جماهيره ليس فقط
على مدار نصف قرن من التمثيل ولكن حتى بعد وفاته بربع قرن آخر. لأنه
باختصار «فنان لكل العصور» كما وصفه الرائع نور الشريف ذات يوم: «إنه مثلي
الأعلى، ومثل لأبناء جيلي ولأجيال كثيرة. الفنان الحقيقي هو فنان لكل
العصور، ولكل الأجيال».
لماذا نصحح المعلومة إذن؟ لأن كثيرا من الصحفيين تناولوها
دون تدقيق، ومن المهم عندما نقوم بتوثيق تاريخنا السينمائي أن ننسب الفضل
لأصحابه، وصاحب الفضل في اجتذاب
نجيب محفوظ
لعالم الكتابة السينمائية هو مخرج الواقعية صلاح أبوسيف.
وكاتبة هذه السطور تأكدت منها عبر مطالعة عدة حوارات نُشرت مع أديب نوبل
نفسه في الستينيات، ومنها حواره التالي:
بداية محفوظ السينمائية
"حكايتي مع السينما بدأت في شهر سبتمبر ١٩٣٩، حين صدرت
روايته «عبث الأقدار».. يومها اتصل بي صلاح أبوسيف إذ قرأ الرواية بعد
صدورها بيومين أو ثلاثة.. وقال إنه اكتشف أنني على موهبة في تأليف
السيناريو".
ملخص الحكاية أنه لم يكن القصد تحويل رواية «عبث الأقدار»
إلى فيلم، ولكن الرواية أقنعت أبوسيف بأن محفوظ من الممكن أن يتعاون معه في
كتابة السيناريوهات.. لكن التعاون حصل عام ١٩٤٦.. وقد استدعاه أبوسيف عن
طريق صديقه فؤاد نويرة، شقيق المؤلف الموسيقي عبد الحليم نويرة، وطلب منه
أن يتعاون ثلاثتهم في تأليف سيناريو «زواج عنتر وعبلة».
يومها قال محفوظ لصلاح: «إنني لا أعرف معنى كلمة سيناريو،
فكيف أكتب سيناريو؟!.. ولكنه حسم الموقف قائلاً: إننا سنعمل معاً.. وسأعرف
عن طريق العمل طبيعة السيناريو.. ووافقت.. وطلب مني أن أكتب القصة في
صفحتين.. ثلاثة.. وكتبتها.. واعتقدت أن هذا هو السيناريو، لكنه عاد وطلب
مني أن أحول الفكرة إلى نقاط. وكتبت ما طلب مني في نحو ثلاثين صفحة واعتقدت
للمرة الثانية أن هذا هو السيناريو.. لكن طلب مني للمرة الثالثة أن أحول
النقاط إلى مقاطع فيها حركة وحياة.. ونفذت ما أمرني به.. واعتقدت للمرة
الثالثة أنه السيناريو، لكنه عاد وطلب أن أُقطع ما كتبته إلى مشاهد
متتابعة، وكل مشهد له حركته وحواره.. ودون أن أعتقد أن السيناريو قد تم
أفهمني صلاح أبو سيف أن السيناريو انتهى. ثم بعد ذلك اشتغلت مع صلاح أبوسيف
في سيناريو «المنتقم، ولك يوم يا ظالم»، وريا وسكينة».. حينها لم أقرأ كتبا
في السيناريو، لكن بعد ذلك قرأت كتابين».
إذن بداية
نجيب محفوظ
في
كتابة أول سيناريو سينمائي كانت عام ١٩٤٦، بينما فيلم «جعلوني مجرماً» الذي
شكل أول تعاون له مع
فريد شوقي
جاء عام ١٩٥٤، وإن تم عرضه عام ١٩٥٥.
ختاماً نقول هذه الواقعة لا تسحب شيئاً من رصيد الملك، بل
تُعزز مكانته ببحثه عن الموهوبين لخدمة الفن. كان
فريد شوقي
لا يتوقف عن التفكير في مهنته، والأدوار التي يُمكن أن
يُقدمها للجمهور، استفاد من آراء النقاد في أفلامه، و«جعلوني مجرماً» أوضح
وأقوى دليل بعد نقد فيلم «ريا وسكينة».
كان الملك دائم البحث والقراءة؛ رغبة في تطوير نفسه
وأدواته، لذلك جاءت أسطورته متنوعة شديدة الثراء، بل متفردة، ويظل تاريخه
يُشكل جزءًا مفصلياً من تاريخ وأحوال وتطورات السينما المصرية على مدار قرن
من الزمان. |