ينقلنا مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية الذى يقوم على
الإعداد له الأساتذة سيد فؤاد رئيسا وعزة الحسينى مديرة له إلى عوالم
“الآخرين” من أفارقة وأوربيين وغيرهم، فلا يكفى أن نكون مجرد “مصر أم
الدنيا” أو “فوق الجميع” إلخ، لأن معنى ذلك أننا نكلم أنفسنا فنصبح كائنات
عادية، وممالك عادية من المخلوقات. وهنا نحتاج كثيرا لإبداعات متنوعة
تخرجنا من مجرد ذاتيتنا إلى “الآخرين” لنشعر أننا فى عالم متنوع، ولنتساءل
أين نحن من هؤلاء، وبهؤلاء، أو مع هؤلاء…وهذا ما يحققه ضمن مسائل أخرى
كثيرة مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية ويقدمه لنا الكاتب البارع “سعد
القرش” فى كتاب : “عشر سنوات من الخيال
”
فالشعور بطبيعة علاقة الذات بالآخر يجعلنا نعيش حيوات أخرى،
وندرك أننا جزء من عالم متنوع، وأن أنثروبولوجيا ثقافية متطورة مسألة
ضرورية…لأن جهود الاثنوجرافيين أو ما يعرف بسوسيولوجيا الشعوب تقدم لنا
مادة وفيرة عن هذا التنوع، ومفاهيم الفئات والطبقات والأعمار المختلفة عن
الذات والآخر….ومهرجان الأقصر للسينما الإفريقية يقدم لنا الكثير فى هذا
المجال.
وهنا أذكر ما حدث فى الاتحاد السوفيتى لفترة قبل تحلله،
ولمسته بنفسى فى موسكو من تطلع لمعرفة ما يفكر فيه أبناء هذه
“الامبراطورية” الشاسعة التى تحكمها إيديولوجيا “الشعب كله” أو “كتلة
الشعب الواحد” كما كان يحكى “خروتشوف” نفسه، وكما طور هو نفسه هذا المفهوم
إلى بعض التنوع الفكرى الذى عرفه السوفييت.
وقد رأت مدارس السوسيولوجيا الحديثة فى الامبراطورية
السوفييتية أن تختبر تطلعات بعض فئات الشعب و طبقاته، فسمحوا بعرض فيلم عن
رواية “لطيفة الزيات” وتمثيل “فاتن حمامة” باسم “الباب المفتوح” ولإسمه
دلالته بعد الحرب الثانية. وإذ بجماهير متنوعة من أنحاء “الامبراطورية
“تطلب مشاهدة الفيلم ويتناوله نقاد السينما، ويعاد نسخه هنا وهنالك…
ويفهم سوسيولوجيو السوفييت الكثير من هذه الظاهرة، وكيف أن
أبناء “الامبراطورية” يتطلعون إلى الجديد، بل وإلى معرفة الشعوب الأخرى
وما لديها من هذا الجديد…
ويحقق مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية الكثير فى هذا
المجال، ويطرح على شعبنا أسئلة هامة تتعلق بمدى معايشته لما يحدث فى
العالم، لأن محاصرتنا بالفيلم الأمريكى وحتى الهندى لا توفر لنا ذلك…فلسنا
ممن يهضمون الطبائع الأمريكية أو الآسيوية بسهولة، ولدينا ما نستطيع
قوله منذ عصر التحديث وليس مجرد العصر السلفى. فالأخير سيطرت به جماعات
نعرف مدى تخريبها للعقل العربى رغم ارتباطاتها الهائلة بالعواصم
العلمانية أو ” الملحدة” أو ما شئت من مسميات لا تكشف إلا سفاهتهم
واستغلالهم “لتراث الأمة” الذى يجب مراجعته هو نفسه، وهم أكثر من تراجعوا
عنه إلا فى فضاءات الاستغلال…
ومهرجان الأقصر للسينما الإفريقية لا يقدم الإثنوجرافيا
وحدها كوصف محلى لهذا الشعب أو ذاك، ولكنه يقدم طبيعة علاقة هذه الشعوب
الإفريقية بقوى الاستغلال البشرى والاقتصادى لأبناء القارة، حين يعرض مدى
تعلم أبنائهم من الغرب بما يرضى الغرب الرأسمالى نفسه، وكيف تنقل الحداثة
والتحديث عبر هؤلاء كما نرى فيما ينتقده ” سمبين ” مثلا فى أفلامه، لأنه
يرى شعبه وهو يقدم التضحيات ويتحمل أنماط الاستغلال..أو يرى ما رآه أصحاب
فيلم ” ستموت فى العشرين ” من تهيؤ للتمرد أو الثورة…
مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية يرينا كيف تعيش الشعوب فى
تنوع اجتماعى وثقافى، لكنها تتوحد فى النهاية… وفى أفلام كثيرة وكما شاهدت
بنفسى كيف تتنوع “جنوب إفريقيا” فيما بين مشاهد من كيب تاون أو ديربان
أو جوهانسبيرج، ثم يوحدها زعيم مثل “مانديلا” أو آليات التحديث كما يحدث
حتى الآن..لكن علينا أيضا أن نلاحظ أن بعض أفلام الأقصر للسينما الإفريقية
لا تكشف إلا عن فقر البشر أو بؤس الفلاحين والمهمشين، وإن كان ثمة كثير من
العروض التى تصور مدنا ومراكز مدنية ذات حداثة – مفرطة أحيانا – مثل
نيروبى وأديس أبابا الجديدة وكينشاسا وغيرها، مما قد يطلعك على معنى أن
ثمة شعبين فى المدينة الواحدة هنا وهنالك…
يطرح مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية على الشعب المصرى
سؤالا هاما عن مدى أفريقيته إلى جانب عروبته..ومع أننا لا نقصد العودة أو
النظر إلى الشعارات القومية أو الدينية…الخ. لكنا نتصور أن ينظر المصريون
إلى طبيعة علاقاتهم “بالآخرين” بجدية أكبر مما نرى، فعدم المبالاه لا يدل
إلا على قصر النظر بالنسبة للمصالح الكبرى المؤثرة…ولا أظن أن المصريين وقد
تابعوا نشاط شركة النصر للتصدير والاستيراد، أو وجود ممثلى حركات التحرير
الإفريقية فى الزمالك بمصر، أو تقديم آلاف المنح الدراسية لأبناء القارة
كانوا ينظرون لذلك بلامبالاه كما ينظر البعض لهذه الفترة أو بشعور بإحباط
الآن.
لذلك حين تشير دلالات مهرجان الأقصر إلى أنه كان لمصر
علاقات وثيقة بكل هذه الشعوب، وتبادلنا معها الاهتمامات والمصالح
والمواقف، إنما تقول للمصريين الآن أن عليكم أن تعيدوا النظر فى مواقف
عدم المبالاه هذه…والغريب أن ما تردده المصادر الإعلامية نفسها تقول أن
وجود المصريين بالخارج يعود على مصر بأكبر نسبة من دخلها القومى، بما يصل
إلى المليارات، ومن الطبيعى أن يضيف هؤلاء إلى ذلك مثلا أنه يمثل “فائض
وعى” بالآخرين الذين نعيش بينهم، ولا ينفع هنا النظر لكل هؤلاء الآخرين
وخاصة الأفارقة، على أنهم متخلفين أو لن يضيفوا لنا إلا القليل.
وحين يعرض مهرجان الأقصر صورا للمدن الكبرى فى القارة…
إنما يقدم لنا معنى أن الشعوب عقب فترة الاستعمار استطاعت أن تبنى صروحا
خالية من المستعمرين أو من غلبة “الوجوه البيضاء “كما كتب البعض.
إننا لا نستدعى هنا كتابات غاضبة مثل “فرانز فانون” الذى
اعتبر اخوانه فى القارة ذوى “وجوه بيضاء بأقنعة سوداء” أو كتابات “جرامشى”
عن أساليب الهيمنة بالقوى الناعمة…ولكننا لا نستطيع تجاهل ما كشفته أفلام
مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية عن هذه الصروح، التى أقامتها الشعوب
الإفريقية بجهدها وعرقها وإبداعات عقول أبنائها.
ويكشف الموقع الخاص لمهرجان الأقصر للسينما الإفريقية عن
الكثير مما قدم، بما لا داعى لتكراره أو الحديث عن قيمته، لكننا يجب أن
نشعر معهم بالفخر بأن ذلك تم تقديمه فى القاهرة، التى تبدى أحيانا عدم
مبالاه بأقاليم مصر نفسها…وقد كان هناك مهرجان الاسماعيلية على ما أذكر
للأفلام الوثائقية وغيرها فى الاسكندرية، بل وغيرها فى أسوان، مما شاهدته
ونسقت بعضه فى إطار مؤتمر ” تفاعل الثقافات الإفريقية” بالتعاون مع المجلس
الأعلى للثقافة وهيئات سياحية…
إن القائمة المرفقة بكتاب “عشر سنوات من الخيال” وتضم أكثر
من مائتى فيلم بين إخراج وإنتاج لا تمثل كل ما تم إعداده للعرض أو تأخر
بسبب “الجائحة الصحية”، التى حدثت فى مصر والعالم، إنما تمثل جهدا
فائقا، يجعلنا نقدم كل التقدير للأساتذة سيد فؤاد وعزة الحسينى وسعد
القرش لما وضعوه أمام الشعب المصرى من معارف غنية عبر تقديم هذه الأفلام،
ليعرف أبناء شعب مصر أننا لسنا وحدنا…لو نظرنا إلى ذلك بالجدية الملائمة…
دعونا نتأمل عناوين بعض هذه الافلام، لنتفهم بعض الدلالات
التي تقدمها السينما الإفريقية لجمهورها..وذلك من خلال العرض الوافي الذي
يقدمه الاستاذ ” القرش” عبر تفاصيل ما تم في الدورات المختلفة…ونوجز هنا
بعضها
:
فهو يعرض قيمة فيلم “الفتوة” بمصر في سنوات مبكرة 1957،
وفي عام 1957 نفسه وعقب العدوان الثلاثي علي مصر، عرض نفس بطل”الفتوة”
فريد شوقي، فيلم “وطني” عن جريمة العدوان، كما تم عرض فيلم “بور سعيد” عن
ظروف العدوان.
ويذكر الكاتب كيف يتجاهل مهرجان القاهرة السينمائي الدولي
؛ السينما الافريقية الا بالقليل من عروضها، حيث ينظر المنظمون الي
افريقيا ككتلة واحدة يمكن ان يمثلها هذا القليل، مع ان القارة غنية
بالتفاعل الثقافي والاجتماعي، وغنية بالنجوم من أنحاء القارة ولا يكفي
تمثيلها بأربعة أو خمسة من نجومها.
وقد انتظر الناقدون حتي قامت ثورة 25 يناير في مصر 2011،
وقام في عقبها – وليس صدفة – مهرجان الأقصر للسينما الافريقية، لأن الثورة
فتحت أعين المصريين علي عيوب الحصار، الذي فرضه نظام مبارك علي البلاد
والعباد.
قدم مهرجان الاقصر مفاهيم جديدة لمثل هذا النشاط، فأنشا
اشكالا جديدة لنشاطه من تدريب المخضرمين للشباب، أو انتاج الشباب لبعض
الاعمال اثناء وجودهم، أو تقديم المواضيع الحساسة حول حقوق الانسان حيث
قدمت بشأنها افلام من نيجيريا وجنوب افريقيا..وأعطى المهرجان الفرص
للافلام الروائية الافريقية الطويلة وليس الاقتصار علي التوثيقية. فكان
هناك ثمانية أفلام روائية إفريقية في دورة واحدة (2012 ) ومع ذلك يري
نقاد مثل ا.أحمد بهجت في كتاب نشره مهرجان الأقصر نفسه عن “مصر وسينما
العالم “، انه لا وجود لإنتاج مصري إفريقي مشترك، اللهم الا أن تاتي صورة
الأدغال في هذا الفيلم او ذاك.
يمثل مهرجان الأقصر مدي اهتمام المجتمع المدني المصري
بتطوير دوره في مجال ا لسينما مبكرا…فالسينمائيون المستقلون يعملون منذ عام
2006 لينهضوا باكثر فاعلية بعد ثورة يناير، وتشهد بعض دوراته حضور كبار
الشخصيات السياسية والفنية من مصر بل ومن خارجها لإنجاح المهرجان.
ومن أوجه نجاح المهرجان تقديمه لعديد من الجوائز تبلغ الست
تقريبا لاحسن الافلام الروائية والوثائقية، مثل جائزة النيل الكبري لأحسن
فيلم وأخري للفنانين أفرادا وأخري للجماعات السينمائية… وهكذا.
ويعمل المهرجان علي إصدار الكتب التعريفية بالسينما
الإفريقية لمؤلفين من مختلف انحاء القارة، بل وقدم أفلاما تعرض لجهود
السينما الإفريقية مجملة ؛ مثل فيلم “علي طريق السينما الإفريقية”.
ولا ينسي بعض مخرجي أفلام المهرجان الدلالات الثورية لفترة
إنتاجهم للعمل والاعلان جديا أن الثورة مستمرة، مثلما فعل ا.أحمد رشوان بعد
تقديمه فيلمه التسجيلي الطويل”مولود في 25 يناير
“.
وقد حرك المهرجان إبداعات في الفنون الاخري مثل التشكيلية؛
يذكر منها مثلا بوستر “الفنان “محمد عبلة” للدورة التاسعة مارس 2020 والذي
كان من أكثر ملصقات المهرجان حيوية وبهجة علي حد تعبير الكاتب.
وقد قضت الجائحة الصحية علي آمال فنون مختلفة كانت تنتظر من
دول غنية لاستضافتها، حيث كانت اليابان قد رصدت 12 مليار دولار لاستضافة
أولمبياد طوكيو 2020 بما فيه من الأنشطة الفنية، وخسرتها جميعا بسبب
التأجيل الناتج عن محاذيرالجائحة…..
!
وينتظر كثيرون في مصر لحظة انقضاء هذه الظروف، بعد ان قال
فنانون أفارقة -مع بروز دور المهرجان -ان مصر عادت… وهي لا بد ان تستمر
ولا تغيب لكي تعود….. ونأمل أن يحقق لها مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية
عودا حميدا ودائما. |