"مهرجان
الأقصر للسينما الأفريقية": عشر سنوات من الخيال
سناء عبد العزيز
بعد عرض ما يقرب من 70 في المئة من قائمة الأفلام المزمع
عرضها في دورته التاسعة (آذار/ مارس 2020)، اضطر مهرجان الأقصر للسينما
الأفريقية، الذي تنظمه مؤسسة شباب الفنانين المستقلين إلى وقف فعالياته
الجماهيرية، بناءً على قرار وزاري، خوفًا من تفشي كوفيد 19، لكن لجان
التحكيم استمرت في ممارسة عملها داخل قاعات مجهزة وفقًا لمعايير التباعد
الاجتماعي، وتم الإعلان عن النتائج في مؤتمر صحافي اختتمت فيه الدورة،
وكذلك الأنشطة الثقافية والفنية على مستوى مصر والعالم.
مع بشائر ربيع 2021، انطلقت الدورة العاشرة بدعم من وزارات
الثقافة والسياحة والشباب، والخارجية، ونقابة المهن السينمائية، لتكمل
عقدًا في عمر المهرجان الذي أصبح أول مهرجان يقام بعد عودة الأنشطة
والفعاليات، تحت رعاية الأجداد في الأقصر (طيبة)؛ أكبر متحف مفتوح على وجه
المعمورة، والمكان الأمثل لمحبي الأصالة والجمال، حيث يشقها النيل إلى
ضفتين، يرمزان إلى الحياة والموت في الحضارة المصرية القديمة، أو بالأحرى
إلى رحلة الإنسان من الحياة إلى الحياة الأخرى.
في مئوية سمراء النيل
ارتبط الأقصر الأفريقي بثورة 25 يناير، حين انطلقت أولى
فعالياته في عام 2012، غير أن السيناريست، سيد فؤاد، رئيس المهرجان ومؤسسه،
يعود به إلى ما قبل لحظة الانطلاق: "لمعت فكرة في ذهني يومًا من 12 سنة،
ولم أكن أعلم أن هذه الفكرة سوف تغير مسار حياتي، كمؤلف، وكإنسان عشق
الهوية السينمائية المصرية". وشاركت المخرجة، عزة الحسيني، في تأسيسه، وفي
تطوير فكرته، ووضع الخطط الاستراتيجية والتنفيذية والفنية. وعلى مدار ثلاث
دورات متتالية، استمر الفنان محمود حميدة رئيسًا شرفيًا للمهرجان.
حملت هذه الدورة اسم الفنانة الراحلة، مديحة يسري، بمناسبة مرور مئة عام
على ميلادها (1921)، لذا خصص المهرجان ضمن إصداراته كتابًا عن مشوارها
الفني بعنوان "جميل واسمر"، لمحمد محمد مستجاب، إلى جانب إقامة معرض للصور
الفوتوغرافية ضم مجموعة متنوعة من الأفيشات، والعديد من الصور
الفوتوغرافية، من أرشيف أفلامها، كـ"خطيب ماما"، و"نهاية قصة"، و"أمير
الانتقام". ومجموعة أخرى من الصور لعملاق الشاشة، محمود المليجي، الذي أهدى
المهرجان دورته العاشرة إلى اسمه مع ثلاثة راحلين؛ الفنان المصري، محمود
ياسين، صاحب الصوت المميز، والممثل السوداني، الهادي الصديق، والسينارست
ومنتج الأفلام المغربي، نور الدين الصايل، الذي رحل عن عالمنا عام 2020.
دوستويفسكي في مئويته الثانية
"10
سنوات من الخيال"، هو العنوان الذي اتخذته الدورة الحالية شعارًا لها، وقد
استلهمته من عنوان الكتاب التذكاري للكاتب سعد القرش، الذي يؤرخ لدورات
المهرجان التسع بمناسبة مرور عشرة أعوام على تأسيسه، وفيه يستعيد القرش
بداية الحلم عقب ثورة الخامس والعشرين من يناير، حيث بدا ضربًا من الخيال
حتى تحقق على أرض الواقع... فقبل تأسيس مهرجان الأقصر لم تكن المساحة
المتاحة في المهرجانات المصرية تكفي لاحتضان السينما الأفريقية، على قدر
زخمها النابض بالحياة، وكان لا بد من خطوة، وإن تأخرت طويلًا، لاستعادة
المشترك الإبداعي والثقافي والإنساني، عبر الرهان على السينما في تجديد دور
مصر الأفريقي.
تم مناقشة الكتاب وتوقيعه ضمن ندوات المهرجان، وحضرها النجم
الأميركي من أصول أفريقية، جيمي جان لوي، الذي كان حريصًا على حضور جميع
الفعاليات هذا العام، وأعرب عن سعادته بزيارة مصر للمرة الثانية، مؤكدًا
على أهمية المهرجان الدولية، في ظل مساهمته في تمكين القوى الناعمة لتحقيق
ما عجزت عنه السياسات حول موضوع الهوية الأفريقية.
"قبل
تأسيس مهرجان الأقصر لم تكن المساحة المتاحة في المهرجانات المصرية تكفي
لاحتضان السينما الأفريقية، على قدر زخمها النابض بالحياة، وكان لا بد من
خطوة، وإن تأخرت طويلًا، لاستعادة المشترك الإبداعي والثقافي والإنساني"
وتزامنًا مع ذكرى مرور مئتي عام على ميلاد العملاق الروسي،
فيودور دوستويفسكي، احتفل المهرجان بعرض اثنين من الأفلام المصرية المقتبسة
من رواياته: "الأخوة الأعداء"، و"الشياطين"، إلى جانب إصدار بعنوان
"دوستويفسكي والسينما المصرية"، للباحث سامح فتحي، يستقصي فيه أهمية
دوستويفسكي، وتأثيره على الرواية المصرية، والسينما المصرية، ويعقد مقارنة
بين الأدب السينمائي، والأدب الروائي، في التناول وكيف تم تمصير روايات مثل
"الجريمة والعقاب"، و"الأخوة كرامازوف"، و"الشياطين"، لتتواءم مع البيئة
المصرية. قدم للكتاب عالم الأفريقيات د. حسن شعراوي، وصدر في نسخة عربية،
وترجمة فرنسية. بالإضافة إلى صدور طبعة ثانية من كتاب "سينما التحريك في
أفريقيا" باللغة الإنكليزية، للباحث، محمد غزالة، يرصد تاريخ سينما التحريك
في أفريقيا خلال 85 عامًا، على أيدي الفنانين الأفارقة، وغيرهم ممن مارسوا
صناعة الأفلام المتحركة في القارة السوداء. وستعقد إدارة مهرجان الأقصر حفل
توقيع للكتاب في القاهرة خلال الفترة المقبلة.
"هذه
ليست جنازة، هذه قيامة"
طوفت بنا الذهبية في جولة في نهر النيل، قبل أن ترسو أمام
معبد الأقصر، حيث أقيم حفل الافتتاح في ساحته الشاسعة، وكان من ضمن برنامج
حفل الافتتاح عرض فيلم "هذه ليست جنازة، هذه قيامة"، للمخرج ليموهانج جيرمي
موزيزي، من لوسوتو، لكن حادث تصادم القطارين في سوهاج حال دون إتمام
المباهج المعتادة؛ وقفنا دقيقة حداد على أرواح الضحايا، وظلت عبارات
التعازي تتردد في المكان مع برودة الطقس في الساحة المفتوحة من كل الجهات،
لولا طرافة الممثل القدير، محي إسماعيل، التي فجرت الضحك بين الحضور،
وأعادت الدفء إلى معبد الأقصر في حضرة البناء العظيم أمنحتب الثالث.
"كان
من ضمن برنامج حفل الافتتاح عرض فيلم "هذه ليست جنازة، هذه قيامة"، للمخرج
ليموهانج جيرمي موزيزي، من لوسوتو، لكن حادث تصادم القطارين في سوهاج حال
دون إتمام المباهج المعتادة"
عُرض فيلم "هذه ليست جنازة، هذه قيامة" في اليوم التالي،
ومنحته لجنة النقاد الدولية ـ "فيبرسي" ـ جائزتها في الدورة التي شارك فيها
أكثر من خمسين فيلمًا، ناقشت العديد من القضايا الأفريقية، وحاولت نقل بعض
المشاكل التي تواجهها معظم الدول الأفريقية، منها "نسور دوجا"، للمخرجين
عبدالله داو، وهيرفي إيريك لينجاني، من بوركينا فاسو، الذي تنافس على جائزة
الفيلم الروائي الطويل مع سبعة أفلام أخرى: "للإيجار"، إسلام بلال (مصر)،
و"مكيف هواء"، فراديك" (أنغولا)، و"زنقة كونطاكت"، إسماعيل العراقي
(المغرب)، و"المزارعة"، ديزموند أوفبياجيل (نيجيريا)، و"يوميات الصياد"،
إينه جونسكوت (الكاميرون)، و"جرانما 19 وسر السوفييتي"، جواو ريبيرو
(موزمبيق). وفاز بجائزة أحسن فيلم "زنقة كونطاكت"، بينما حصل الفيلم
الأنغولي "مكيف الهواء"، للمخرج فراديك، على جائزة لجنة التحكيم الخاصة،
ومنحت لجنة التحكيم شهادة تقدير للفيلم المصري "للإيجار"، الذي توج بجائزة
رضوان الكاشف في الدورة نفسها، مع تنويه خاص لبطله خالد الصاوي.
في مسابقة الأفلام التسجيلية الطويلة، حصل فيلم "مع التيار
نحو كنشاسا"، للمخرج ديودو حمادي، من الكونغو، على جائزة لجنة التحكيم،
وذهبت جائزة أفضل فيلم تسجيلي طويل لفيلم "فاريترا"، للمخرج توفونيانا راسو
نافو، متفوقًا على أفلام مثل: "بعد العبور" جويل أكافو (بوركينا فاسو)،
و"امغار"، بوشعيب المسعودي (المغرب)، و"نفوذ"، ريتشارد بوبلاك، وديانا نيل
(جنوب أفريقيا)، و"لا تحكوا لنا المزيد من القصص"، فرحات موحالي، وكارول
فيليو موحالي (الجزائر)، و"الخطاب"، كريستوفر كينج، ومايا لكيو (كينيا)،
و"قلبان متحابان، حتى يفرقنا الموت"، توماس موزيروا (زيمبابوي).
مسابقة الدياسبورا والأفلام القصيرة
استحدث المهرجان مسابقة الدياسبورا (الشتات) في دورته
السابقة، وهو مصطلح يطلق على المهاجرين الذين استقروا واندمجوا مع شعوب
ودول غير دولهم، أو ممن حصلوا على جنسيات أخرى، ليشمل المجتمعات الأفريقية
التي تكونت في مختلف أنحاء العالم، بعد أن كان مقتصرًا على الأفلام التي
تصنع داخل أفريقيا فحسب. في هذه الدورة، منحت لجنة التحكيم شهادة تقدير
لفيلم "تيلو كوتو"، لصوفي باشولييه، وفاليري مالك، وحصل على جائزة لجنة
التحكيم فيلم "أن تكون صاحب بشرة سمراء"، للمخرجة إينيس جونسون، وذهبت
جائزة أحسن فيلم إلى "وداعًا أيها الحب"، للمخرجة أكوا ماسانجي
.
تنافس كذلك في مسابقة الفيلم القصير ثلاثة عشر فيلمًا، فاز
بالجائزة الفيلم المرشح في القائمة القصيرة للأوسكار هذا العام "ليلة
سعيدة"، لأنطوني نيتي من غانا، ومنحت اللجنة شهادة تقدير للفيلم السوداني
"استمع إلى رقصتي"، للمخرجة علياء سر الختم، وحصل فيلم "حبر أخضر"، للمخرج
يزيد القديري من المغرب على جائزة لجنة التحكيم.
السودان ضيف شرف
تمثل أحد تحديات المهرجان في إنشاء منصة اقتصادية للسينما
الأفريقية، بالتعاون مع الكيانات المالية في الشرق، التي وإن دعمت السينما
العربية سابقًا، تجاهلت تمامًا السينما الأفريقية. من هنا، جاءت فكرة صندوق
اتصال لدعم السينمائيين الأفارقة، وترويج أفلامهم وتوزيعها رقميًا، وأسفرت
عن دعم كثير من الأفلام، منها فيلم "رحمة الأدغال" من رواندا، الحاصل على
عديد من الجوائز من مهرجانات: شيكاغو، وميلان، وواجادوجو، والأقصر، وقرطاج،
إلى جانب سبعة أفلام قصيرة من 6 دول أفريقية. وكان من أشهر المشروعات
السينمائية التي دعمها المهرجان الفيلم السوداني "ستموت في العشرين"، لأمجد
أبو العلا، الذي تم عرضه احتفاء بالسودان، كضيف شرف للمهرجان في هذه
الدورة، نتيجة الصحوة الأخيرة في الإنتاج السينمائي، وتمثيل أفلامها في
المهرجانات الكبرى، في برلين، وتورنتو، وفينيسيا.
"لم
يقتصر دور المهرجان على عرض الأفلام، والتواصل مع السينما الأفريقية، فمن
خلال الورش الفنية التي يعقدها منذ انطلاقه، وبخاصة ورشة صناعة الفيلم
المستقل، أسهم في تخريج أجيال من صناع السينما الأفارقة الشباب"
هذا بالإضافة إلى فيلمين من أبرز أعمال السينما السودانية،
"على إيقاع الأنتونوف"، أول فيلم وثائقي طويل للمخرج حجوج كوكا، و"نجوم
زرقاء"، الفيلم الوثائقي الموسيقي الأول للمخرج، الصادق محمد، ويحكي قصة
أعضاء فرقة الجاز السودانية، وكيف قضوا سنوات إبداعهم في مدينة الخرطوم.
لم يقتصر دور المهرجان على عرض الأفلام، والتواصل مع
السينما الأفريقية، فمن خلال الورش الفنية التي يعقدها منذ انطلاقه، وبخاصة
ورشة صناعة الفيلم المستقل، أسهم في تخريج أجيال من صناع السينما الأفارقة
الشباب، شاركوا في المهرجانات الدولية الكبرى، وحصلوا على جوائز عالمية.
وقاد الورشة هذا العام المخرج المصري سعد هنداوي، ووقع الاختيار على عشرة
مشاركين في الورشة: من المغرب، ورواندا، وناميبيا، وكينيا، والسودان، ومصر.
أقيم حفل توزيع الجوائز في نادي التجديف في محافظة الأقصر،
وسط حضور جماهيري غير مسبوق، ومشاركة من صناع السينما في القارة السمراء،
مع إجراءات احترازية تمت مراعاتها على أرض الواقع جراء تصاعد عدد حالات
الإصابة في مصر طوال فترة المهرجان، لكن يبدو أن الهروب من المهرجانات
الافتراضية التي يعوزها التفاعل المباشر أصبح مطلبًا ضروريًا. |