"من
القاهرة".. خائفات ولكن!
رولا عادل رشوان:
"ياللي
أنت بيتك قش مفروش بريش
تقوى عليه الريح .. يصبح مفيش
عجبي عليك حواليك مخالب كبار
وما لكش غير منقار وقادر تعيش
وعجبي"
على الشاشة، وقبل ظهور كلمة النهاية، تظهر أبيات جاهين
ملخِّصَةً الحكاية التي شاهدها الجمهور للتَّوّ، عن الحروب التي تخوضها
النساء رغم الخوف بمعناه البسيط، الخوف من القاهرة التي خرجت عن مفهوم
الوطن، وصارت شوارعها قفصاً حديديّاً، تحاول بطلات الفيلم المرور عبر
قضبانِه دون أن تمسّهُنَّ بأذى أو حتى تمزِّق أجسادهنّ.
العدو الأول .. الجسد
تظهر بطلة الفيلم الأولى (هبة خليفة) بابتسامة عريضة
لتعرِّف نفسها بكونها مصوّرة ورسّامة، وتتحدث عن مشروعها الأهمّ الذي يحكي
عن مفهوم الخوف لدى المرأة، عن العدوّ الأول الآتي من داخل حدودها.. الجسد!
تشعر أن جسدها همٌّ تحْمِلُه، حدبة فوق ظهرها عليها حمايتها
من لمسات الناس ونظراتهم، عارٌ سيتلبّسها إن اقترب منه أحدٌ ولو عنوةً، ولو
رغماً عنها. عبر الحكايات نرى شوارع القاهرة في عيون الفتيات عبارة عن ساحة
حرب، لها استراتيجيات للسير فيها، ومواعيد تتجنّبها، وألعاب عقلٍ عليها أن
تُخَمِّنَها من بين العيون والنوايا الخفيّة.
وتجسد هبة دور أمٌ عزباء، لها طفلة وحيدة تصِفُها بصوتٍ ذي
شجن بأنها أجمل ما أهدَتْها الدنيا. تظهر الطفلة إلى جوارها بطلةً منفردةً،
اكتسبت من الأم طلّتها اللطيفة واستقلاليتها، على الرغم من احتياجهما
العاطفيّ لبعضهما البعض، وظهورهما في الفيلم كتوأم حميم لطيف ملتصق. لا
تخشى "هبة" تقييم الآخرين فيما يتعلق بوصفها لتجربة الأمومة، ولا تظنُّه
ينفي حبَّها لابنتها كونها تحكي في مشروعها المصوّر عن القيد الذي
ألبسَتْها إيّاه الأمومة، قيد في الحركة والخطط المستقبلية، قيد ترضاه على
الرغم من ذلك ولا تتمنى زواله، وتحاول التأقلم معه كما تدفعها كل تفاصيل
حياتها إلى التأقلم.
تظهر في الصورة وقد التصقت بها ابنتها بلاصق شفاف يقيّدها،
وهي صورة لا تخلو من استسلام يعلوه بل ويرافقه وربما يطارده شبح ابتسامة.
العدو الثاني .. الآخرون
بطلة الفيلم الثانية تدعى "آية"، مصورة ومخرجة حديثة
التخرّج، تصورها الكاميرا أثناء رحلتها لإخراج فيلمها الأول الطويل،
وبصحبتها بطلتا الفيلم اللتان عانت إحداهما من حادثة تشويه وجهها بماء
النار، وكان الجاني زوجها السابق.
تحكي "آية" في تسلسلٍ منطقيٍّ عن النساء الخاضعات للتقييم
عبر أجسادهن أو درجات الجمال، يأتي الوصف في الفيلم بشكلٍ طبيعيٍّ تماماً
طبقاً لخبرات البطلة وبعيداً عن ابتذال الجُمَل السابقة في وصف الأحوال
المشابهة مثل "النساء سلعة"، بل تستبدلها بجمل حقيقية من أحكام الآخرين.
تمارس "آية" رياضة "الديربي"، وهي رياضة يؤديها فريقان يمثل
الفريق المنافس فيها سدّاً بشريّاً على الفريق الآخر تجاوزُهُ بشكلٍ
قانونيٍّ كما تفترض قوانين اللعبة، رأيتُ فيها إشارةً لمحاولات النساء
اختراق سدود البشر والعادات ومواجهة صعوبات الحياة، على أن تكون محاولاتهن
دائماً قانونية أو خاضعة للأعراف والتقاليد، والربح رغم الجهد مقامرة، بلا
نتائج أكيدة.
تحاول "آية" أن تحقّق شغفها بالفنون، أن تضع بصمةً مختلفةً
في فيلمها، تثبت فيها مواهب النساء وقدراتهنّ بغضّ النظر عن الآراء
المتناقضة التي تحمّلها نقداً أقسى لكونها فتاة، وبين العيون الأخرى التي
قد تعزو نجاحها لكونها أنثى قد ينافقها الناس عن تلطُّف أو رغبة.
تتقابل البطلتان لتشابُه طريقهما إنسانيّاً ومهنيّاً،
تتشاركان المشروعات والرؤى، تجاهد "هبة" و"آية" العيش في القاهرة،
وتراقبهما "ورد" التي ربما ستكبر لتكون نسخةً تحمل الأفضل من كليهما.
العدو الثالث .. الأمان
بينما نشأت "آية" في معيّة أخيها بعد أن توفّيَ والداها،
وتتنقّل بين بيته وبيتهما القديم، حالة من اللا استقرار تشْعُر بها في كل
خطوةٍ، تتشبّث عميقاً بأحلامها ومشاريعها لخلق أرض جديدة تخصّها، أرض محددة
المعالم يمكنها أن تدعوها بيتاً، وأصدقاء خلقت منهم عائلة مستقرة بحسب
كلماتها.
أمّا "هبة" فتسكن في سكنٍ مؤقتٍ، تخشى دائماً أن تضطّرها
الظروف للرحيل عنه، فتحاول جعلَهُ قطعةً منها، بينما تطهي السمك المقلي،
تحتفظ ببقاياه في أطباق ورقية صغيرة، مقسّمة بالتساوي وتوزّعها على قطط
المبنى، هؤلاء يعرفونها، هم جزء من الأسرة. أما الجدران فتحمل رسوماً من كل
مشروعٍ نفّذَتْهُ، والغرفة الزائدة صارت استوديو تعمل فيه على مشروع
التصوير الأخير. تحكي "هبة" عن مفهوم البيت، بلا بيت تملكه في القاهرة أنت
في حكم المشرّد، الراقص على السلالم، القاهرة ليست صديقتك، حتى لو أحببتها
ستظل تعاديك.
تقرر "هبة" في لحظةٍ أن تهجر عملها لعامٍ كاملٍ، حدَّدَتْ
بشكلٍ واضحٍ خطةً تشمل شهوره الثلاثة الأولى، بينما لا تدري بالفعل كيف
ستملأ بقية العام، وكيف ستموّل حياتها في ذلك الحين، تخشى الانخراط في خطط
غير مهمة فيضيع الوقت، لكنها تشعر، بقوى خفية من طموحها ربما أو من رغبتها
في التحرر من أسْرِ روتين العمل، بحاجتها الشديدة لهذا العام، بحاجتها لأن
تفرض خططها هي على العالم مرّةً وحيدةً، بأن تُسَيّر أمورها في الدنيا لا
أن تُسايرها.
التسجيل والمعايشة
ينتمي الفيلم لفئة "تسجيلية المعايشة"، حيث تُصَوِّر
المخرجة حياة الأبطال دون تدخُّلٍ منها، فيما تميّز بطبيعية الأداء، فنحن
أمام لقطات ومشاهد حيّة من حياة الأبطال، من روتينهم اليومي، ولم نكن
إلا عيوناً تراقبهم، عيوناً تتمنّى البطلات لو كانت أليفة، أحنّ عليهنَّ من
العيون القاسية التي تُحاوِلْنَ التخفّي منها، في تناقض مع رغبتهن الحقيقية
في الظهور على سطح الحياة.
وكان الجمهور قبيل العرض على موعد مع مخرجة الفيلم هالة
جلال وبطلاته "هبة" و"ورد" و"آية"، بحيث قدَّم له الناقد رامي عبد الرازق
مدير برنامج مسابقة "آفاق السينما العربية" المقامة على هامش مهرجان
القاهرة السينمائي، قتئلاً إنَّ سبب اختياره للأفلام التسجيلية المصرية هذا
العام لتمثيل مصر في المسابقة أتى تعويضاً لغياب الأفلام الروائية"، مضيفاً
أنه كان يشعر بكثير من إحباط أثناء بحثه عن فيلم مناسب لتمثيل مصر في
المسابقة، وأنه وجد ضالّته في فيلم "من القاهرة" للمخرجة هالة جلال، الذي
شاركته إيّاه لصداقة تجمعهما، فاقترح عليها مشاركة الفيلم في مسابقة
"آفاق"، وهي واحدة من مسابقات المهرجان.
وهالة جلال مخرجة وكاتبة ومنتِجَة مصرية، أخرجت العديد من
الأفلام منها "شؤون الناس" من إنتاج المركز التعاوني الألماني للتقنيات،
و"دردشة نسائية" من إنتاج أفلام مصر الدولية.
من الجدير بالذكر أن فيلم "من القاهرة" لمخرجته هالة
جلال والمنتجة قسمت السيد، كان قد فاز بجائزة "ما بعد الإنتاج" في مهرجان
عُمان لصنّاع الأفلام. |