قليلون يريدون التذكّر بأننا في احتفاء سينمائي وليس في
مسيرة حزبية
احتجاج أوكراني، يوم الأربعاء الماضي، لوجود فيلم كيريل
سيربدرنيكوف «زوجة تشايكوفسكي» في المسابقة الرسمية. ليس بسبب الموسيقار
الكبير الراحل منذ 129 سنة بيوتر تشايكوفسكي، بل لأن المخرج روسي.
نفت إدارة المهرجان أي تحزب وذكّرت بأن المخرج الروسي معارض
وقد هجر بلاده، لكن الجانب الأوكراني المتمثَّل بعدد ضئيل من السينمائيين
رد بأنه كان من الأولى رفض الفيلم أساساً.
كتب «زوجة تشايكوفسكي» المخرج سيربدرنيكوف بنفسه ولو أنه
صدى لكتب عدّة صدرت تحديداً حول العلاقة القصيرة بين تشايكوفسكي (أودِن
بيرون) وزوجته أنطونينا (ألينا ميخالوفا). يسرد المخرج أحداث فيلمه من وجهة
نظر الزوجة فنتعرّف عليها قبل لقائها الموسيقار الكبير. هي بدورها كانت
مؤلفة موسيقية شابة وواعدة. لا يمنحنا الفيلم الكثير هنا لنعرف هل أحبّت
تشايكوفسكي حين التقت به أو توسّمت الجمع بين مستقبلها والزواج ممن يستطيع
فتح أبواب الغد أمامها. ليس معروفاً كذلك لماذا وافق تشايكوفسكي على الزواج
وهو كان مثلياً.
يُخفي المخرج مثلية الزوج عن فيلمه لفترة طويلة من الأحداث
وعندما يكشفها فإنه من الصعب إزالة الشعور بأن اختيار التوقيت لكي تكتشف
جهلها بحقيقة أمر زوجها لم يكن -درامياً- في توقيته الصحيح. لكن في كل
الأحوال، الاكتشاف صدمة بالنسبة لها ولآمالها في أن تسهم في تكوين مستقبل
مَن تحب، علماً بأن تشايكوفسكي لم يكترث كثيراً لجهودها تلك. كل ذلك، قبل
وبعد اكتشافها، جعل هذه الآمال تتدرج صوب الخيبة. لاحقاً سنراها سترتبط
بعلاقة جنسية غير عاطفية مع محاميها. روحها ليست معها في هذه العلاقة ولا
روح زوجها معها في المقابل.
يرسم المخرج صورة حزينة ثرية الأجواء ولا تخلو من حسٍّ
فانتازي كما لو أنه يريد اقتراح أن ما نراه واقعاً لم يقع على هذا النحو
لكنه التفسير الوحيد لما حدث. طبعاً مع مشهد خيالي صرف نجد الموسيقار يعود
إلى الحياة معبّراً عن غضبه لمن سمح لزوجته بالنظر إليه في موته.
لم أجد المشهد ضرورياً، لكن إيحاءاته قد تمتد صوب المخرج
ذاته إذا ما قبلنا فانتازية الفكرة.
الفيلم أطول بكثير مما كان ينبغي: 148 دقيقة تجمع بين أسلوب
المخرج الفوضوي وبين تطويل المسافة بين المفاد والآخر وملئه بمشاغل بصرية.
فيلم الراحل الكبير كن راسل «عشاق الموسيقى» عبّر عن كل ما
نراه هنا في 122 دقيقة فقط وأودعنا في عمله هذا، سنة 1971
معالجة فنية أرقى.
ذلك الفيلم (الذي توزّعت بطولته بين رتشارد شامبرلاين
وغليندا جاكسون) عكس وجهة نظر تشايكوفسكي نفسه ولعب مقطوعاته الرائعة
ليشنّف آذاننا بينما كان الموسيقار يدخل أزمة قبوله بالزواج من امرأة وهو
لا يهوى النساء. تصوير دوغلاس سلوكومب لعب دوراً أساسياً في عرض جماليات
بديعة للفيلم ومواكبة التعابير الفنية التي زاولها المخرج طوال الفيلم بتلك
القدرة على الدمج بين كل العناصر الضرورية لعمل بيوغرافي جاد.
هنا الأزمة من نصيب الزوجة ولا نسمع أي لحن من أعمال
تشايكوفسكي، ما يساعد على إحالتنا لحكاية كان يمكن لها أن تحدث بين أي
اثنين.
-
مهرجان للفرح!
أوكرانيا في البال «الكانيّ» من زاوية أخرى: عدد من
المخرجين الأوكرانيين (ذكوراً وإناثاً) حملوا الكاميرا ونزلوا إلى مواقع
القتال، وحسب أحد التقارير، وضع بعضهم الكاميرا جانباً واستبدل بها
الكلاشينكوف. من بين هؤلاء المخرج أوليغ سنتزوف وبطل فيلمه
Rhino
(سرهيل فيليمونوف). فالنيتن فاسيانوفيتش، مخرجة «أتلانتيس» قبل عامين، تقوم
بتصوير فيلم تسجيلي عن الحرب الدائرة ومن الجانب الأوكراني بالطبع. كذلك
حال المخرجة ألينا غورلوفا التي ذهبت إلى حقول الألغام لتصوّر كيف يتعامل
الفلاحون حيالها.
وهناك جهد يبذله المخرج البولندي باتريك فيغا لتحقيق فيلمه
الأول باللغة الإنجليزية وموضوعه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وصعوده إلى
السلطة. لا يوجد عنوان نهائي للفيلم (العنوان المؤقت هو «المافياوي» لكن
يوجد كل السعي لتقديم صورة سلبية عنه وتقليب صفحات يعدها المخرج سوداء ولها
علاقة بانتشار الجريمة في سانت بيترسبيرغ).
حيال كل ذلك من حق المرء أن يتساءل: منذ متى ومهرجان للفرح
والسينما يتحوّل إلى شريك سياسي في الحرب الدائرة؟ منتقدو الإدارة سمعوا في
حفل الافتتاح الممثل فنسنت لاندون وهو يكيل للغزو الروسي بكلمات خالية من
اللياقة. لم يكن يتحدّث عن نفسه بل كان موكلاً من إدارة المهرجان تعبيراً،
بالضرورة، عن موقفها الذي كان يمكن له أن يُذكَر في إعلان منشور.
قليلون يريدون التذكّر بأننا في احتفاء سينمائي وليس في
مسيرة حزبية. السينما والتحزب لا يلتقيان لسبب وجيه هو أن الثاني سينتزع من
السينما روحها الطلقة وإبداعاتها ليحوّلها إلى مناشير مع أو ضد هذا الجانب
أو ذاك.
لا بد لها أن تعبّر -إذا أرادت- عن موقف إذا ما تعاملت بعض
أفلامها معه، لكن الجو المحيط هو طقسي فارض أكثر منه أذرعاً مفتوحة لكل
التجارب.
-
حياة صبي
على صعيد بعيد ها هو المخرج الأميركي جيمس غراي يروي،
بدوره، قصّة مرحلة من حياته في فيلم جديد له يعرضه في مسابقة هذه الدورة
الخامسة والسبعين.
الفيلم هو «يوم القيامة» وهو يفتح على اليوم الأول من أيام
الدراسة ليتابع علاقة بطله بول (بانكس ربيتا) بتلك المرحلة الدراسية
المبكرة وبالعالم الصغير من حوله. علاقته بالمدرسة وبالأستاذ الذي لا يعترف
بنبوغه الفني كما علاقته بوالديه.
لا يسعى المخرج غراي هنا إلا لتأطير الصورة. بول هو المخرج
ذاته والأجواء الريغانية (ينطلق الفيلم من سنة 1980) موجودة للتذكير
بالفترة وليس للبحث فيها. الغاية هي الحديث عن فترة الصبا بالنسبة لجيمس
غراي وما ساعده على توجيه اهتمامه إلى الفن والسينما. ليس أن بول- جيمس فتى
طيّع وسهل التعامل معه. هو على عكس ذلك، غير راضٍ عن أشياء متعددة في
الجانب العائلي: والداه لا يفهمانه، شقيقه الأكبر يعنّفه ويسخر منه، وفي
مثل هذا الوضع لا بد لبول من التوجه إلى الشخص الوحيد من العائلة الذي
يستطيع التجاوب معه وفهمه. هذا الشخص هو جدّه (أنطوني هوبكنز).
هذا التآلف بين فتى يكبر وعجوز محسوب الأيام، له فعله الحسن
في الذات. صورة لحياتين تلتقيان في نقطة عابرة. لكنّ هذه النقطة ليست لحظة
بل تمتد لكي نتشرّب ما هو ضروري من ذكريات المخرج حول تلك الفترة.
جيمس غراي يهودي لكنّ الفيلم لن يستغل ذلك ليخرج عن قاعدة
عرض حياة عائلية حالها قد يكون حال أي عائلة أخرى. حتى عندما يذكر الجد
حكاية زوجته الراحلة التي شهدت مقتل آبائها على أيدي الأوكرانيين خلال
الحرب العالمية الثانية، فإن ذلك يبقى ملتصقاً بالدراما لذاتها وبرغبة
المخرج في تناول تلك الحقبة الباكرة من حياته وما تعلّمه منها.
كأي مخرج آخر (باستثناء فديريكو فيلليني)، يختلف فيلم
ذكرياته الشخصية عن باقي أفلامه ليس من حيث الموضوع (هذا تلقائي) إنما من
حيث أسلوب عمله والركائز الدرامية التي تكوّنه. عالج المخرج سابقاً مواضيع
العصابات النيويوركية («ذا ياردز») وموضوع الهجرة («اللاجئة») وحتى نوع
الخيال العلمي
(Ad Astra)
وكل ذلك بأسلوب مغاير لأفلام العصابات والدراميات والخيال العلمي. رغم ذلك،
هنا يختلف عمّا كان قد حققه من قبل نصّاً وأسلوباً. لا يجعل ذلك الفيلم
أفضل عمل ذاتي في السنوات الأخيرة لكنه ينضم إلى «روما» و«بلفاست»، الأول
لألفونسو كوارون والآخر لكنيث برانا، في صياغته، عملاً جيداً حول منطلقات
الحياة الفنية المقبلة لصبيٍّ حالم.
قدْرٌ كبير من نوستالجيا الحياة يمر بهدوء (لولا صراخ بول
من حين لآخر) بما في ذلك رسم معالم العلاقة غير المتساوية بينه وبين صبي
أسود اسمه جوني، ليس أن بول عنصري، لكن المسألة تتخذ أهميّتها من وضع معاكس
للعنصرية تماماً. وفي أحد المشاهد يتبادل جوني مع الأستاذ تركلتوب (أندرو
بولك) نقاشاً لا بد لجيمي التراجع عنه لأنه أسود البشرة وليس لأنه على خطأ.
معظم الفيلم في الخانات الصحيحة التي يؤمّها، لكن تلك التي
يُراد لها تشييد محاكاة مع الواقع الاجتماعي تمر عابرة بعد قليل من الإيحاء
بها. حتى موت جوني سيمرّ كما لو أنه كان فصلاً وانتهى. لا تعليق على
الطريقة التي قُتل بها ولا يوسّع المخرج بُعده الظرفي ليتحدّث عن الوضع
الاجتماعي (والسياسي) الفعلي في ذلك الحين. هذا على عكس ما ذهب إليه
المكسيكي كوارون عندما رصف العلاقة الطبقية والعنصرية جيداً في فيلمه
الأفضل «روما». |