الثقافة السعودية تعيد انتشارها عربيا والعلاقة مع تونس نموذج يُحتذى به
حكيم مرزوقي
أفق جديد للدبلوماسية الثقافية بين تونس والرياض.
يشهد مجالا الثقافة والفنون في السعودية نهضة شاملة وحالة
انتعاشة كبيرة خاصة مع تعميم الفنون البصرية مثل الفيديو آرت والمسرح
والسينما، حيث تطمح السعودية إلى أن تحول السينما إلى قطب إنتاجي كبير، ولم
تتوقف هذه الانتعاشة في حدود السعودية بل هي جسر تواصل بينها وبين البلدان
العربية الأخرى على غرار تونس.
هل يمكن القول إن الثقافة السعودية “تعيد انتشارها” في
العالم العربي، وبنفس تجديدي بعد جملة مراجعات هيكلية شملت مختلف الفنون أم
أن الأمر لا يعدو أن يكون سوى حالتي تسريع وتنشيط للسياسات الثقافية
المعهودة والمعتادة؟
قد يعترض البعض على توصيف ما يجري في السياسة الثقافية
السعودية بـ"إعادة انتشار"، على اعتبار أن المصطلح المذكور، عادة ما يكون
عسكريا يهتم للنظر في "مواقع النفوذ". فليكن، أليست الثقافة من أشد الأسلحة
فتكا بالتحجر والتطرف والانغلاق. وهو ما تسعى المملكة لإنجازه في وقت قياسي
لا يتجاوز العشرية الواحدة.
تنبهت سلطات الإشراف في المملكة إلى الثغرات التي يمكن أن
تنفذ منها أخطار التطرف والانعزال في الشأن الثقافي، وعملت على سدها ضمن
سلسلة مراجعات وجدت بأن الحل يكمن في الانفتاح الواعي والمسؤول على مختلف
ثقافات العالم، دون إهمال الخصوصية المجتمعية التي تم تشريكها في هذه
النهضة الثقافية الشاملة التي تشهدها البلاد في السنوات الأخيرة.
ولم يعد غريبا في المملكة أن تصدح أصوات الموسيقى والغناء
في أفخم المسارح والقاعات المجهزة بأفخم المعدات. ولم يعد مستهجنا أن يقصد
السكان، ومن الجنسين، دور العرض المسرحي والسينمائي ليشاهدوا أحدث
الإنجازات الفنية دون رقابة متشددة كما كان في السابق.
تعددت وتنوعت المعارض والمهرجانات والملتقيات في وقت قياسي،
وصارت السعودية مقصدا لأهل الفن والثقافة في مختلف بلدان العالم، بعد أن
كانت تختصر في كونها فقط وجهة اقتصادية تؤمّن العيش الكريم لفئات كثيرة من
مختلف بلاد العالم.
إقلاع ثقافي
اليوم، أصبحت السعودية ثقافية بامتياز، وتجاوزت حتى البلدان
التي كانت تعرف بغزارة إنتاجها الثقافي بفضل قرارات صائبة أدركت قيمة
النشاط الثقافي وعلاقته المستدامة بالتنمية البشرية والاستثمار في الإنسان.
أقطار العالم العربي في حاجة اليوم إلى السعودية أكثر من
أيّ وقت مضى، كحاضن للثقافة ومنتج ومسوّق لها بفضل ما تمتلكه من إمكانيات
تجعلها قطبا هائلا من أقطاب الإنتاج الثقافي والفني، ومنتجا للمعرفة
ومواكبا لأحدث ما توصل إليه العقل البشري من إبداع.
اليوم، ووسط التراجعات والانتكاسات التي تشهدها الثقافة في
بلدان معروفة بكثافة نشاطاتها مثل مصر تونس وسوريا ولبنان، وذلك بسبب أزمات
اجتماعية أضعفت من إسهاماتها، فإن السعودية تصبح الحاضنة والداعمة الأقوى
للثقافة في هذه البلدان ضمن حالة لا غنى عنها من التنسيق والتواصل.
◙
تبادل ثقافي: السعودية ضيف شرف أيام قرطاج السينمائية 2022،
وتونس ضيف شرف في معرض الرياض الدولي للكتاب
الأمر الآخر الذي يجعل من هذا التنسيق والتواصل الثقافي مع
المملكة ضرورة حيوية داخل الإستراتيجية الثقافية هو الحرص على الكيان
الثقافي العربي ضمن قانون الوحدة والتنوع، والحفاظ عليه من آفات المسخ
والتطرف أو السقوط في الأسواق الاستهلاكية الرخيصة.
وفي هذا الإطار، جاء حرص جهات الإشراف الثقافي في المملكة
على ربط الصلة الثقافية والتعاون مع ذوي القربى لتعم الفائدة من الطرفين:
فالسعودية لكونها الجهة الأكثر حظوة وقدرة على الإنتاج والتمويل من جهة،
والبلدان ذات الإشعاع الثقافي المميز لريادتها وحاجتها إلى الدعم المالي
والإعلامي من جهة ثانية.
العلاقات السعودية - التونسية في المجال الثقافي تعتبر
نموذجا ناجحا في هذا المجال، ويبشر بمستقبل واعد، وذلك لتوفر الإرادة من
الطرفين ضمن علاقة “رابح ـ رابح”، وإن كان سوق الفن والإبداع لا يعترف
بمنطق الربح والخسارة.
السعودية ستكون ضيف شرف أيام قرطاج السينمائية 2022: هل هو
أفق جديد للدبلوماسية الثقافية بين تونس والرياض؟ السعودية ضيف شرف أيام
قرطاج السينمائية 2022، ومن جهتها تبادل الرياض تونس الاهتمام وتستقبلها
كضيف شرف في معرض الرياض الدولي للكتاب، مما اعتبره الإعلام أفقا جديدا
للدبلوماسية الثقافية بين تونس والرياض، لكن الأمر أبعد وأعمق من ذلك بكثير.
العلاقات الثقافية بين البلدين لم تنقطع يوما لمتانة
المشترك والمرجع، لكنها أصبحت أكثر ثقلا إستراتيجيا بعد وضوح الرؤية في
سلّم الأولويات كما أكدّت عليه وزيرة الشؤون الثقافية التونسية حياة قطاط
القرمازي، عبر مواكبتها للتطوّر الحاصل في المملكة العربية السعودية معتبرة
أنها في مرحلة الإقلاع على المستوى الثقافي.
دبلوماسية ثقافية
أفادت الوزيرة أنه من بين المشاريع المستقبلية هي إحداث
المركز الإقليمي للتراث المغمور بالمياه بمدينة المهدية ضمن فريق مشترك بين
تونس والسعودية. وكذلك مشروع تبادل المخطوطات بين المكتبة الوطنية ومكتبة
الملك عبدالعزيز وإنشاء المركز العالمي لفنون الخط بمدينة الثقافة الذي حظي
بدعم من منظمة اليونسكو ومؤسسة البابطين الكويتية.
وكانت السعودية قد تعهدت بترميم مسجد عقبة بن نافع والمدينة
العتيقة في القيروان. فمثل هذه المشاريع الثقافية المتميزة من شأنها أن
تجعل الحديث عن الثقافة العربية ليس مجرد حديث بل أفعالا سوف تجني ثمارها
أجيال وأجيال، كما أنها تؤسس لأمن ثقافي حقيقي، على غرار الماء والغذاء
والصحة والدفاع.
وحدها الثقافة تصنع الحدث وتحفظ إنسانية الإنسان ككائن
يتطلع إلى ما يسميه المفكر والكاتب الوجودي التونسي الراحل محمود المسعدي
بـ”الوجود الكريم كمغامرة طهارة، جزاؤها طمأنينة الناس في عالم أسمى فأسمى".
◙
ما تسير عليه السعودية اليوم من إعادة اعتبار للثقافة
والفنون، ليس مجرد استفاقة بعد غفوة، إنما هو ترسيخ لمسار لم يقع التنبه
إليه
ما تسير عليه السعودية اليوم، من إعادة اعتبار للثقافة
والفنون في تاريخها الحديث والمعاصر، ليس مجرد استفاقة بعد غفوة كما يظن
البعض، إنما هو ترسيخ لمسار لم يقع التنبه إليه كما ينبغي في وقت من
الأوقات.
وفي المجال السينمائي الذي سوف يحتفي بالسعودية كضيف شرف في
مهرجان قرطاج الذي تأسس في الستينات، قد يتناسى البعض أن إنتاج أول فيلم
سعودي يعود إلى سنة 1950 أي قبل بلدان عربية وحتى أوروبية كثيرة، ويحمل
عنوان “الذباب” من بطولة حسن الغانم والذي يعتبر أول ممثل سينمائي سعودي.
هذه “الاستفاقة” الثقافية في السعودية في السنوات الأخيرة
في قطاع السينما جاءت مع قرار إعادة فتح قاعات العرض وتأسيس مهرجانات
سينمائية تكاد لا تحصى وتتفوق على أعرق البلدان في هذا المجال، على غرار
مهرجان جدة للعروض السينمائية (تأسس سنة 2006 بمدينة جدة)، ومهرجان أفلام
السعودية (تأسس سنة 2008 بمدينة الدمام)، ومهرجان الفيلم السعودي (مهرجان
تلفزيوني للأفلام السعودية بدأ عام 2012 على قناة روتانا فيلم)، ومهرجان
الأنصار للفيلم (انطلق في 2013 بالمدينة المنورة) ومهرجان البحر الأحمر
السينمائي الدولي (انطلق عام 2019 في مدينة جدة) والحبل على الجرار.
وفي المقابل تسجّل تونس حضورها كضيف شرف في معرض الرياض
الدولي للكتاب بمساهمات كثيرة ومتنوعة، وكذلك بفقرات مستقلّة ضمن البرنامج
العام للمعرض ومنها ندوة “الفكر التنويري التونسي وأثره في الثقافة
العربية” ولقاء عن “التراث والثقافة والتنمية المستدامة” وآخر عن “التراث
الثقافي غير المادي” وعن التراث الثقافي المغمور بالمياه.
أقل ما يقال عن هذه العلاقة الثقافية بأنها تثلج الصدر،
وتقدم النموذج الذي يجب أن يكون عليه “العمل العربي المشترك”، ينفع الناس،
وليس الشعارات التي تذهب سدى.
كاتب تونسي |