على مدار عشرة أيام، أقيمت فعاليات الدورة الرابعة
والأربعين لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، في المدة من 13 إلى 22 نوفمبر
(تشرين الثاني)، برئاسة الفنان حسين فهمي، والمخرج أمير رمسيس، مديرًا
فنيًا. تنافس هذا العام ما يفوق مئة فيلم، بمشاركة 52 دولة عربية وأجنبية،
وما يقارب 30 عرضًا أول، سواء عالميًا، أو على مستوى الشرق الأوسط، على عدد
من الجوائز ضمن الأقسام المختلفة للمهرجان، على رأسها فيلم الافتتاح "آل
فابليمان"، وهو أحدث أفلام المخرج الهوليوودي الشهير ستيفن سبيلبرغ، الذي
يروى لنا من خلاله بداية شغفه بفن السينما منذ الطفولة.
كانت أجواء حفل الافتتاح أكثر دفئًا من الختام، لا سيما مع
استحضار عدد من الأسماء التي غادرتنا مؤخرًا، مثل الفنان سمير صبري، وقد
صاحب استحضارها دموع البعض، كما حدث على سبيل المثال مع يسرا، حين ظهرت
صورة الفنان هشام سليم. انتقلت الدموع أيضًا للثلاثة المكرمين، بداية من
المخرجة كاملة أبو ذكري، التي فازت بجائزة فاتن حمامة للتميز، وذهبت جائزتا
الهرم الذهبي لإنجاز العمر لكل من الفنانة لبلبة من مصر، والمخرج المجري
بيلا تار. توجهت لبلبة بالشكر لكل العاملين في السينما، من زملاء أو فنيين،
مُستعيدة رغبة قديمة لوالدتها الراحلة مع كل دورة للمهرجان، حيث كانت تؤكد
لها أن التكريم آتٍ هذه المرة، لكنه لم يأت سوى الآن. وذكرت لبلبة حادثة
مولدها في مثل هذا اليوم بالضبط من أكثر من سبعة عقود، حين داهمت أمها آلام
الولادة وهي تشاهد فيلمًا في السينما، فردد الحضور في الصالة أغنية عيد
الميلاد على أضواء الموبايلات.
"أجواء
حفل الافتتاح كانت أكثر دفئًا من الختام، لا سيما مع استحضار عدد من
الأسماء التي غادرتنا مؤخرًا، مثل الفنان سمير صبري، وقد صاحب استحضارها
دموع البعض، كما حدث على سبيل المثال مع يسرا، حين ظهرت صورة الفنان هشام
سليم"
لم تخل كذلك كلمة بيلا تار من المشاعر.. "أشعر أن مشاعري
الآن تتحرك بقوة، هذه هي المرة الأولى التي أزور فيها مصر، وأنا سعيد بوجود
لغة عالمية كلغة السينما تستطيع تحريك المشاعر عن طريق الصورة والتواصل
أيضًا بين الشعوب، رغم اختلاف اللغات".
أما عن السجادة الحمراء، فلم تستحوذ هذا العام على كثير من
الدراما التي اعتاد عليها الجمهور والميديا سنويًا. الغريب في مراسم الـ
"ريد كاربت" لحفل الافتتاح هو غلبة أسئلة المذيعين للضيوف عن أعمالهم
الدرامية في الموسم الرمضاني، رغم أننا في حدث سينمائي. في سياق متصل، أعلن
المطرب هاني شاكر عن مشروع في الأفق من تأليف السيناريست أيمن سلامة، من
الممكن أن يمثل عودته إلى الشاشة الدرامية. شاكر قدم في السبعينيات عددًا
من الأفلام الغنائية لم يكن لها صدى يُذكر سوى على مستوى التأريخ للفيلم
الغنائي، وتبقى علاقته الأكبر مع الدراما هي الغناء في بعض المسلسلات.
كلاكيت ثاني مرة
هذه ليست المرة الأولى لحسين فهمي في تولي رئاسة المهرجان؛
سبق أن خاض التجربة بداية من الدورة 22 (1998)، خلفًا للكاتب سعد الدين
وهبة، الذي رحل قبل أيام من انطلاق الدورة 21. واستمر فهمي في رئاسة
المهرجان لأربع دورات متتالية حتى الاحتفال باليوبيل الفضي في 2001. ولا شك
في أن هذه الدورات تميزت بعدد لا بأس به من الإنجازات، ومنها غير المسبوقة،
فعلى سبيل المثال شهدت الدورة 22 إطلاق موقع إلكتروني للمهرجان لأول مرة..
"وكذلك تم افتتاح السوق الأول لتكنولوجيا السينما.. الكتاب التذكاري
للمهرجان في دورته الأربعين"، كما خصصت الدورة 24 حلقة لنقاش علاقة السينما
بالبيئة، وهو ما تم إعادته هذا العالم في حلقة نقاش موسعة حول "صناعة
الأفلام بشكل صديق للبيئة".
"السجادة
الحمراء لم تستحوذ هذا العام على كثير من الدراما التي اعتاد عليها الجمهور
والميديا سنويًا!"
وبحسب الكتاب التذكاري السابق، فقد تعرض المهرجان لأزمة
مالية في دورة اليوبيل الفضي ترتب عليها غياب نجوم عالميين كانوا ضمن قائمة
الحضور، مثل كيت وينسلت، وشيرلي ماكلين، وهو ما حدث هذا العام أيضًا، حين
أعلن رئيس المهرجان في المؤتمر الصحافي عن مفاجأة مرتقبة، وسرت في الكواليس
أنها تخص حضور الممثل الأميركي ريتشارد غير، الذي اعتذر عن المشاركة قبل
بدء المهرجان بأربعة أيام، كما قال فهمي. كما اعتذر نجل الفنان عمر الشريف
عن إقامة معرض لملابس والده على هامش المهرجان، وهي الملابس التي ارتداها
في عدد من الأفلام العالمية، مثل "دكتور جيفاغو"، و"الفتاة المرحة".
ضمت هذه الدورات أيضًا حضورًا حاشدًا لأسماء عديدة من كبار
السينمائيين، نذكر منهم سعاد حسني؛ فؤاد المهندس؛ يوسف شاهين؛ مصطفى
العقاد؛ عمر الشريف؛ آلان ديلون؛ صوفيا لورين،.. وغيرهم. في هذا العام،
تحدث حسين فهمي عن التحديات الكبيرة التي واجهت إدارة المهرجان، مشيرًا إلى
حرب أوكرانيا، والتوتر في شرق آسيا، ومؤتمر المناخ، "ونحن وسط كل هذا نعافر
للخروج بأفضل صورة". استحدث المهرجان هذا العام مشروعًا جديدًا ضمن برنامج
كلاسيكيات القاهرة، ومن خلاله تم ترميم وعرض نسختين ديجيتال لفيلمي "يوميات
نائب في الأرياف" (1968)، لتوفيق صالح، و"أغنية على الممر" (1972)، أول
الأفلام الروائية الطويلة للمخرج علي عبد الخالق، الذي رحل في سبتمبر/
أيلول الماضي.
مُستجدات بمحض الصدفة
في مقتبل ثمانينيات القرن الماضي، عُرضت ثلاثة أفلام مصرية
على التوالي، لا يفصل بين كل منها سوى عامين، أو ثلاثة، ورغم أن الأفلام
الثلاثة لا يربطها موضوع واحد؛ إلا أن اتصالها يعزى إلى سبب آخر؛ فهنالك
تيمة أثيرة كانت قاسمًا مشتركًا بين هذه الأفلام، وهي المسحة الوعظية، إذا
جاز التعبير، المتمثلة في القصة ككل، بجانب التعليق الإرشادي في نهاية كل
فيلم، وهو ما يُلخص فكرة العبرة الأخلاقية: و"نفس وما سواها".. "إنما الأمم
الأخلاق ما بقيت".. وأخيرًا، "ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءت، فإن الله
شديد العقاب". هل تذكرون شيئًا من هذا القبيل؟ نعم هي "العار"، و"الكيف"،
و"جري الوحوش"، وجميعها للمخرج علي عبد الخالق.
"ريتشارد
غير اعتذر عن المشاركة قبل بدء المهرجان بأربعة أيام، كما قال حسين فهمي.
كما اعتذر نجل الفنان عمر الشريف عن إقامة معرض لملابس والده على هامش
المهرجان، وهي الملابس التي ارتداها في عدد من الأفلام العالمية، مثل
"دكتور جيفاغو"، و"الفتاة المرحة""
كثيرًا ما وجد بعض المثقفين في هذه الأفلام توجيهًا
إرشاديًا ومباشرة تنتقص من قيمتها الفنية، نظرًا إلى طبيعة الفن التي تكره
الوعظ والإرشاد، وتميل إلى التحليق في سماء التجريد. وبعيدًا عما حققته هذه
الأفلام من جماهيرية عريضة لا تزال قائمة إلى الآن؛ فمن الإجحاف التغاضي عن
السياق التاريخي والثقافي لهذه الأعمال، خصوصًا وقد قدمت وجبة فنية مميزة
على كافة مستويات العمل، من إخراج وكتابة وتصوير، وفي مقدمتهم الأداء
التمثيلي لشخصيات السيناريوهات التي ما نزال نردد جملهم الشهيرة، ونستدعي
مواقفهم المميزة من وقت لآخر وفق تعاملاتنا اليومية.
على جانب آخر، في شهر رحيل عبد الخالق، غادر المخرج الفرنسي
الكبير جان لوك جودار الحياة، فكان لزامًا تخصيص برنامج لعرض بعض أفلامه
"بييرو الأحمق"، و"اللاهث"، ومن دون مناسبة ضم برنامج الكلاسيكيات أيضًا
عرض فيلمي "الاختيار" ليوسف شاهين، و"جنة الشياطين" لأسامة فوزي. أما
المناسبة الأخرى فكانت تزامن انعقاد الدورة السابعة والعشرين من مؤتمر
الأمم المتحدة لتغير المناخ
(COP27)
في مصر مع توقيت المهرجان، الأمر الذي لم يكن ليمر مرور الكرام، كما قال
رئيس المهرجان، وعليه ارتأت الإدارة المشاركة في هذا الحدث على مستوى أثر
التداول الورقي بتقليل عدد المطبوعات، وإتاحة الحجز الإلكتروني لحضور
الأفلام، وقد تم هذا الأمر بالفعل منذ اليوم الثاني للفعاليات، ولكن
بتقليعة بسيطة هدمت الهدف نفسه؛ حيث وضعت الشركة المنظمة للحجز الإلكتروني
نظامًا عقيمًا يُذكرنا بالمثل القائل "ودنك منين يا جحا"؛ فقد كان لزامًا
عليك بعد الحجز إلكترونيًا الذهاب إلى الشباك، وطبع تذكرة ورقية لحضور
العرض، أما بالنسبة للمطبوعات فلم يختلف الأمر كثيرًا.
بعيدًا عن الأضواء
بخلاف النشرة اليومية للمهرجان في نسختيها (ورقية
وإلكترونية)، أصدر المهرجان مطبوعات من بينها الكتالوج والبرنامج ودليل
"أيام القاهرة لصناعة السينما"، بالإضافة إلى كتاب صغير يحتوى على 5 مقالات
عن سينما المخرج الإيطالي الكبير بازوليني، في إطار احتفالية المهرجان
بمئوية ميلاده (5 مارس/ آذار 1922). إلى جانب ذلك، أقيم معرض يضم بعض الصور
الفوتوغرافية من أفلامه، لكنه لم يشهد إقبالًا سوى يوم الافتتاح تقريبًا،
باستثناء بعض العاشقين لبازوليني، أو من يعرفونه على الأقل، وكان في إمكانك
رؤيتهم فرادى خلال أيام المهرجان، سواء في المعرض، أو في مشاهدة ثلاثة
أفلام لبازوليني تم عرضها بزيادة طفيفة ضمن برنامج كلاسيكيات القاهرة.
وبالطبع، لم تخرج تلك الاحتفالية بما يليق مع سينما بازوليني، الذي كتب
برتولوتشي عن عمله معه كمساعد مخرج يقول: "فيما كنت أراقب بيير باولو وهو
يصور شعرت وكأني أشهد اختراع السينما".
ست ورش أيضًا عقدها المهرجان، ربما يأتي في مقدمتها ورشة
المخرج بيلا تار لصناعة الأفلام على مدار أيام المهرجان، وقد نتج عنها
إنتاج عشرة أفلام قصيرة لمخرجين من الشباب، بالإضافة إلى ذلك أيام صناعة
السينما، وملتقى القاهرة، وبرنامج تطوير سيناريو فيلم قصير للسيناريست مريم
نعوم، جدول حافل ومتنوع لم يلقَ عليه الضوء الإعلامي جيدًا، حيث كانت أضواء
الميديا كالعادة متجهة إلى النجوم والفساتين ودراما الكواليس أكثر من الحدث
ذاته.
كان نصيب هذه الدورة ردود فعل غير إيجابية، وهو ما تصاعدت
وتيرته عقب إعلان الجوائز؛ حيث خالفت النتائج معظم التوقعات، واستنكر عدد
من المتابعين فوز أفلام بعينها على أفلام أخرى، ربما في كلمتي رئيس ومدير
المهرجان ثمة ما يُفسر ذلك، حيث الرئيس يتحدث عن "الطموح والتحديات"، ويبدأ
كلامه بـ "والله زمان" مرتكنًا إلى تاريخ طويل من رصيده الفني، وتجربة
سابقة في رئاسة المهرجان، لذلك كان سؤاله الأول المطروح على فريق العمل
"ماذا بعد؟.. كيف يمضي المهرجان قدمًا بالتحديد في ظل مشهد يسيطر عليه شبح
حرب دولية غيرت المشهد العالمي، وأثرت مباشرة علينا محليًا". ومن جيل آخر،
يطرح المدير الشاب للمهرجان مشاعره عن ضخامة المسؤولية، فمنذ وقت ليس ببعيد
نشأ الشاب على متابعة المهرجان، ومن خلاله تعرف على عوالم سينمائية
مختلفة.. "ربما كان وجودي هنا رد جميل لمؤسسة صنعتني سينمائيًا، قبل أن
يكون خطوة جديدة في مسيرتي".
أما عن الأفلام، وهي المقوم الأول لأي مهرجان سينمائي، فلم
تكن الوجبة المقدمة في عمومها دسمة بما فيه الكفاية، رغم ذلك لم تخل من عدد
من الأفلام الرائعة، فاز عدد منها بالجوائز، وعدد لم يفز، فلعبة المكسب
والخسارة دائمًا ما تخضع لحسابات وأذواق مختلفة. وفي النهاية، لا مناص من
أن الرابح الأكيد هو الجمهور.. وللحديث بقية. |