من بين 16 فيلماً روائياً طويلاً، تمثل قوام المسابقة
الدولية للدورة الثانية من مهرجان
البحر الأحمر السينمائي الدولي، ثمة عدداً لا بأس به من التجارب التي تعتبر حصاد
إنتاجات صُنّاع السينما العرب لعام 2022، خاصة أن المهرجان يأتي كخاتمة
لسنة مختلفة على مستوى المهرجانات العربية؛ من توقف للدورة السادسة لمهرجان
الجونة هذا العام، وعودة مهرجان مراكش بدورة جديدة قوية، وإعلان مهرجان
قرطاج عن رجوعه لنظام دورة كل عامين بداية من السنة المقبلة.
في ثاني تجارب اللبناني وسام شرف "حديد نحاس بطاريات"، يعمل
"محمد" في تجارة الخردة منادياً "حديد.. نحاس.. بطاريات"، ولأنه سوري ولأنه
في لبنان ولأنه يقيم في خرابة يطرده منها المطر يحط عليه مجاز غريب بأن
يتحول هو تدريجياً إلى قطعة من الحديد -من كتفه إلى ذراعه- دون أن يدري أحد
ما هو سر هذا التحول، إلا من يدركون دلالة أن يجد إنسان نفسه مجرد خردة
بشرية لا تصلح إلا للطرد أو النفي أو الهرب.
وفي أولى تجاربه الطويلة "جنائن معلقة"، يُصور لنا المخرج أحمد
ياسين الدراجي اللقطة
الأولى من فيلمه على مكب نفايات ضخم ويكتب عليه بوضوح "بغداد 2021" متابعاً
الخراب الجسدي والروحي الذي حول حدائق بابل المعلقة، إلى طبقات الزبالة
المتراكمة عقب ما فعله الحكام والمحتلون لهذه المدينة الجميلة.
خردة ونفايات
في شوارع بيروت، ينادي "محمد" على خردة الحديد والنحاس
عاطلاً عن أي فعل إيجابي حتى ولو على سبيل ممارسة الجنس أو حماية صديقته
الأثيوبية، التي تعمل عند أسرة لبنانية من زوجين أحدهما مصاب بالخرف، وفي
مكب النفايات الضخم يحاول "أسعد" الفتى الغض أن يعثر على أي لذة كامنة تحت
أطنان الزبالة التي تتحول مجازياً إلى المدينة كما لم نرها من قبل، لا جسور
فوق دجلة ولكن شوارع متربة ودخان يتصاعد من كل مكان.
كل من "محمد" و"أسعد" بل وأخو أسعد "طه" الذي يتلصص على
جارته الحسناء دون أن يقدر على التواصل معها رسمياً، لأنه مجرد زبال هما
خردة بشرية ونفايات أفرزها الواقع السياسي، وبيادات الحروب التي تركت
خطوطها على وجه أوطان صارت مثالاً للهزائم الكاملة.
يقترن "محمد" بـ"مهدية" الخادمة الأثيوبية التي تعيش مع
زوجين عجوزين يمارس أحدهما هجوماً مرعباً عليها كل مساء لأنه مصاب بالخرف،
يبدو "محمد" و"مهدية" كآدم وحواء نهاية الزمان.
هي خادمة سمراء هاربة خلف الرجل الذي تحبه من جنة مزيفة،
يعايرها بها مسئول مكتب التخديم -الذي تشبه لهجته لهجة جلاب العبيد قديماً-
بينما يقع الفتى "أسعد" في علاقة حب أوديبية مع الدمية الجنسية التي يعثر
عليها وسط النفايات، ويدعوه صديقه أن يستثمرها في الحصول على المال من
راغبي المتعة الشباب، الذين يدركون أنه لا سبيل للزواج أو ممارسة الجنس بعد
أن قامت القيامة في بلدهم.
نهاية العالم
في كل من الفيلمين ثمة ديستوبية واضحة (شعور بنهاية
العالم)، حتى مع محاولة "محمد" و"مهدية" السفر في النهاية وهو يحمل ذراعه
الحديدي المخلوع، أو مع نظرة "أسعد" التي تشير إلى أنه سينتقم لما حل به
وبدميته الأثيرة، إلا أن الشعور بالنهاية المقبلة أو المعاشة حالياً لا
يكاد يفارق المتلقي خاصة مع الكم الهائل من التجبر والانسحاق الذي يمارس
على الشخصيات.
فمهدية على سبيل المثال، إما أن تنصاع لقفزات العجوز الليلة
عليها وهو يصرخ مثل وحش هارب من فيلم رعب أجنبي وتُمنع من زيارة أهلها أو
لقاء حبيبها، وإما أن تُسجن في البيت وتصبح هاربة أو تعمل دون أجر لتسديد
ديون جلبها من بلدها المنتهي.
و"أسعد" إما أن ينصاع لخداع الحاج الذي يملك ساحة تدوير
القمامة ويشجعه على الغش والسرقة ثم يعاقبه على إدارته لنشاط داعر
استغلالاً للدمية الجنسية، في مشهد يبدو أقرب لاستدعاء الحاج لأسعد من أجل
أن يعتدي عليه جنسياً في غرفته الخاصة.
فما هو الوطن إذن، إذا لم يتمكن الإنسان من ممارسة حقوقه في
العمل والكسب والجنس والحصول على بيت، تعويضاً عن خسارات ربما لا تعوض.
فقد "محمد" أباه في الحرب السورية، وفقد "أسعد" أباه على يد
الأميركان، بينما لا نعلم ما هو مصير أمه! لكننا ندرك من علاقته بالدمية
الجنسية التي لا يمارس معها هو الجنس مرة واحدة، إنها ربما تعوضه عن أمه
بينه وبين نفسه ولهذا يحرص على ألا يخدشها أحد الممارسين بآلة حادة أو
ولاعة سجائر.
يتحدث "محمد" عن سوريا كأنها لم تعد موجودة، وتتحدث مهدية
عن إثيوبيا وكأنها ذكرى مؤلمة، بينما يضع "أسعد" علم العراق فوق التروسيكل
الصغير لصديقه والذي يتحول إلى بيت دعارة متنقل لممارسة الشباب مع الدمية،
والمجاز واضح طبعاً، بل وفاضح أيضاً.
رتابة
وتشابه
يُعيب
الفيلمين تعثر الإيقاع في ضبط زمن الدراما، فالفيلم اللبناني رغم أهمية
شخصية "محمد" إلا أنه يستغرق بصورة كبيرة في تتبع الخط الخاص بمهدية
ومشكلتها مع الأسرة التي تخدمها وقدوم خادمة أخرى -بنجلادشية- وكأن حياة
"محمد" لا يوجد بها ما يستحق الذكر سوى علاقته بمهدية، وانتظاره أن تتحرك
نحوه هاربة أو مستغيثة، بل أننا لا نرى معاناته مع تحول ذراعه إلى حديد سوى
من عيون مهدية نفسها حين تهرب وتذهب إليه.
ويتحول الفصل الأخير إلى رتابة معلنة، حين يذهبان إلى مخيم
اللاجئين ولا يجد السيناريو سوى وضع لمسة نمطية متمثلة في صديق "محمد"،
الذي باع كليته من أجل الحصول على أموال يهرب بها إلى أوروبا، ثم يموت لأن
جسده لا يحتمل، مما يدفع "محمد" لاستغلال يده في البطش بالطبيب تاجر
الأعضاء والحصول على أموال للهرب مع مهدية.
أما "جنائن معلقة"، فالفيلم يفقد الكثير من حيويته بعد أن
تسرق الدمية دون أن ندري من سرقها وأين ذهبت؟، كانت هذه الذروة كفيلة بأن
تصنع نهاية حادة وصادمة، ويجعل السيناريو عقاب الحاج لأسعد وصديقه عقب
اختفاء الدمية وليس قبله، اعتماداً على وشاية من صديقهم المتدين الذي رفض
أن يمارس الجنس معها تحت شعار "الله أكبر" المرسوم على العلم فوق
"التروكسيل"، وذلك دون أن ندري لماذا صدقه الحاج وعصابته رغم عدم وجود
الدمية!.
وفيما يخص "جنائن معلقة" تحديداً، ثمة إشارة واجبة عن أن
حكاية الفيلم التي صرح المخرج أنها تجربة شخصية وقعت له عام 2006 في بغداد،
أن هناك فيلماً مصرياً قصيراً من إنتاج عام 2009 عنوانه "الحب في زمن
الكُلّة" من تأليف أحمد العايدي وإخراج ابراهيم عبلة -ابن الفنان التشكيلي
المصري محمد عبلة- وتدور أحداثه حول سائق توكتوك يعثر على دمية جنسية
فيحملها إلى التوكتوك الخاص به ويحوله إلى بيت دعارة متنقل يمارس فيه
الشباب المحروم الجنس بعد أن يتعاطوا مخدر الكولة الشعبي.
فهل هناك توارد خواطر لهذه الدرجة بين فيلم مصري، أنتج قبل
13 عاماً تقريباً، وبنفس السياقات والمجازات وبين الفيلم العراقي؟.. وهل هي
حكاية متكررة في بلداننا العربية حتى أنها تحدث بشكل متكرر يجعل اثنان من
المخرجين يستغلان نفس الفكرة في صياغة أفلام، تتحدث عن واقع ديستوبي مهترئ
ومستقبل مظلم لشباب لن يفلح في إعمار أرضه، لأنه لا يملك الحق ولا القدرة
على إعمار جسده بالغريزة الطبيعية فيلجأ إلى جثة مطاطية بلا روح!. |