حادثة السيارة تطرح قضية الانفصال بين الشمال والجنوب
ومسألة الصداقة النسائية التي تتخطى الحواجز
مفاجأة سينمائية معتبرة أحدثها الفيلم
السوداني "وداعاً
جوليا" مع عرضه العالمي الأول في مهرجان
"كان" السينمائي
(16 - 27 مايو/ أيار) متجاوزاً كل التوقّعات التي كان من الممكن أن نعقدها
على هذا الفيلم.
الفيلم هو باكورة أعمال مهندس طيران سوادني من الخرطوم يُدعى
محمد كردفاني، لم يدرس السينما ولا علاقة له بها، لكنه قرر أن يتخلى عن
مهنته وينتقل إلى صناعة الأفلام، فأسس شركة إنتاج في السودان ليشارك في
تمويل فيلمه الأول الذي اختير في مسابقة "نظرة ما"، ليكون أول فيلم سوداني
يُعرض في التظاهرة السينمائية العريقة.
بقية الحكاية باتت في عهدة التاريخ وقد كتب المهرجان أحد
فصوله أمس خلال العرض الحاشد بحضور المخرج وفريق العمل. ولا بد أن يأخذ عرض
فيلم سوداني في المهرجان طابعاً سياسياً في ضوء الأحداث الأخيرة التي تعصف
بالسودان. وقد اعتلى كردفاني خشبة المسرح ليقول كلمة في هذا المجال، مؤكداً
أن لا العسكر ولا الإسلاميين ولا الميليشيات يمكنهم السيطرة على السودان،
والنصر للشعب لا محالة. "الناس في هذا الفيلم عملوا بتفانٍ، وهم أنفسهم من
الذين كانوا نزلوا إلى الشارع طوال السنوات الماضية للمطالبة بالسلام
والعدالة"، تابع كردفاني أمام جمهور صفق له تأييداً لكلامه.
تبدأ أحداث الفيلم في عام 2005، ست سنوات قبل انفصال جنوب
السودان عن شماله. بعد عقود من الحرب الأهلية، لا يزال التوتر واضحاً بين
الجنوبيين والشماليين، ولا شيء يبشّر بغد أفضل. صحيح أن التعايش موجود في
الخرطوم، إلا أن الجنوبيين والشماليين ليسوا سواسية.
كردفاني يركّز في البدء على كل ما يفصل الناس بعضهم عن بعض،
لا عمّا يجمعهم، فهذا شأن يعير له اهتماماً كبيراً، كما يتجلى بوضوح منذ
البداية، لا بل يمكن القول إن القصة كلها هي حجة للحديث عن شعب فضّل
الانفصال عن شعب آخر، لأسباب يطول شرحها ويعرض الفيلم بعضها بنمط سينمائي
يعطي كل ذي حقّ حقّه، ولا يحاول تشكيل اصطفاف جديد. لكن، مع الاقتراب من
نهاية الفيلم، يصبح ما يجمع أهم ممّا يفرق.
حادثة قتل
منى (إيمان يوسف) مغنية معتزلة تعيش مع زوجها الميسور (نزار
جمعة) في منزل أشبه بمحمية، تخلت منى عن الغناء بطلب من زوجها، الرجل
المحافظ ذو الشخصية القاسية. حادثة تقلب حياتهما رأساً على عقب: قتل سوداني
من الجنوب على يد زوج منى، كان يطاردها بعدما صدمت الأخيرة ابنه بسيارتها
ثم لاذت بالفرار. هل كانت الحادثة دفاعاً عن الذات أم انها ناتجة عن رد فعل
عنصري؟
لا يحمل الفيلم هذا التساؤل بعيداً، فهو يتعاطى بما هو أكثر
إلحاحاً وضرورة، فبعد حادثة القتل التي تودي بحياة رجل بريء، يتملك الذنب
منى، خصوصاً أنها غير قادرة على مصارحة زوجها بالسبب الحقيقي الذي جعل
الرجل يطاردها، لذلك تحاول البحث عن عائلة الراحل، لعلها تساعدها مادياً في
غياب رب المنزل.
وبعد عثورها على زوجته جوليا (سيران رياك) وابنه، وتنشأ بين
المرأتين علاقة تفجر كل الأسئلة وكل المشاعر وكل ما كان مكبوتاً حتى الآن.
تحاول منى التعويض عن الخسارة الفاضحة التي تسببت بها، لكن هذا لن يساهم
إلا في إغراقها في المزيد من المشاكل. فالكذب يجر المزيد من الكذب، علماً
أنه يبقى أفضل الحلول أحياناً، فمنى لا تستطيع الاعتراف لجوليا بالجريمة
التي ارتُكبت، لكنها تستطيع أن تساعدها بما تملكه من مال.
من خلال علاقة أفراد سُجنوا في مساحة جغرافية، ينظر الفيلم
في عمق مأساة تجمع ناساً مختلفين، كل منهم يتعاطى معها بطريقة مختلفة،
ويتوقف هذا على حجم الخسارة التي تسببها لهم تلك المأساة. فمنى تحاول شراء
نفسها بالمال، وحتى تضامنها هو لطمأنة ضميرها. ثمة مشهد أساسي في الفيلم
يذكّرها فيه زوجها بأنها جزء من المجتمع الذي يكن العداء للسودانيين
الجنوبيين، وأنها ما كانت تتعاطى مع أحد منهم قبل جوليا، وكل ما تفعله لن
يشفع لها، فجوليا في النهاية خادمتها لا صديقتها.
يحاول الفيلم إشهار أسئلة مهمة من عمق المجتمع حول التعايش
والمغفرة والتعصب والعنصرية. الطرح الذي يأتي به الفيلم إنساني، عميق، يقفز
فوق المصالح الضيقة ليدعو إلى النظر في الإنسان بعيداً من دينه. قد يبدو
هذا الخطاب قديماً ومستهلكاً وعاطفياً في بلدان أخرى، لكن في السياق
السوداني، فهو مطلوب وملح. هذا البلد الذي ينهض للتو من سبات سينمائي عميق
وهو أحوج ما يكون لأفلام حقيقية تناقش الوضع القائم.
تتداخل المواضيع في "وداعاً جوليا"، ولكن كل واحد من هذه
المواضيع يحظى بمكانة له تحت الشمس، كي يُناقش ولو سريعاً، بفعالية معينة
وبإنصاف شديد. فنقده للأبوية مثلاً التي يجسد زوج منى أحد تمظهراتها، لا
يمنع الفيلم بأن يرينا الرجل المقتول ضحية. حتى الرسائل السياسية لم توظَّف
على نحو فج، بل تتسلل إلى وجدان المشاهد بسلاسة.
من خلال دراما حميمة تجري فصولها بين جدران البيوت أكثر
منها في الشارع، ينجح الفيلم في مناقشة القضايا السياسية والإجتماعية من
خلال أشخاص لا يعون بالضرورة المأزق الذي هم فيه، إلا أن عيونهم تقول
الكثير، لا سيما عينا منى المعذبة من الداخل والتي لا تجد مجالاً للتعبير
عن كبتها، إلا عبر الغناء الذي ما عادت تمارسه.
يقول كردفاني في مقابلة منشورة في الملف الصحافي، إن
الفيلم يتعامل ليس فقط مع انفصال جنوب السودان، بل مع الانفصال بُبعده
الأكثر شمولاً، انفصال الأزواج والأطفال والأصدقاء والأحباء، ويضيف "إلا
أنه عندما نتحدّث عن انفصال الجنوب، أعتقد أن أبرز دليل على ذلك، هو
الاصطفاف بجميع أشكاله، وكذلك أزمة الهوية الثقافية والدينية التي يعاني
منها السودان". |