لا تزال عثرات الدورة الـ76 (16 ـ 27 مايو/ أيار 2023) لمهرجان
كانّ السينمائي تتتالى،
بشكل غير معهود من قبل، إلى جانب مشكلات حجز الأفلام، والعثور على
البطاقات، واعتراف إدارة المهرجان أخيراً بقبولها اعتمادات أكثر من اللازم،
وفوق طاقتها الاستيعابية، ووعدها بإيجاد الحلول في الدورة المقبلة. صحفٌ
سينمائية عدّة نشرت مقالات تناولت هذه الأزمة، والشكاوى المتنوّعة بخصوصها،
وذكرت، في إشارات صريحة، أنّ غالبية رعاة هذا العام استحوذت على عددٍ كبير
جداً من التذاكر، ما أثار تلك المشكلة. هذا دفع البعض إلى مطالبة المهرجان
بضرورة الكشف صراحة عن عدد المقاعد المخصصة لبطاقات الصحافيين إجمالاً،
بمختلف تراتبيّاتها، وعدد البطاقات المعطاة لهم، والممنوحة إلى الرعاة،
والمباعة، والمدفوعة من روّاد السوق.
من جانبه، لم يعتذر المدير الفني تييري فريمو وإدارة المركز
الصحافي، كما كان متوقّعاً. فقط تمّ الإعلان عن وعدٍ ببذل أقصى جهد ممكن،
وتذليل كافة العقبات، إنْ كانت هناك شكاوى مكتوبة، مع ضرورة التنبّه إلى
ضخامة المهرجان، في مقابل قلّة القاعات. لكنْ، هل الأمر كذلك فعلاً، أم أنّ
هناك سوءَ تخطيط وبرمجة أدّيا إلى إقامة عروض برنامج "سينما الشاطئ" في
"صالة بونويل" في "قصر المهرجانات والمؤتمرات"؟ ما يؤكّد خطأ البرمجة أيضاً
أنّ هناك ندرة عروض مهمّة أساساً، معروف مسبقاً أنّها ستحظى بإقبال غير
مسبوق، كـ"قتلة زهرة القمر" لمارتن
سكورسيزي،
الذي عُرض مرّتين فقط، أحدهما للنقّاد والصحافيين، ما تسبّب في عدم تمكن
كثيرين من مشاهدته.
الأمر نفسه حدث مع الروائي القصير "طريقة غريبة للعيش"، لبيدرو
ألمودوفار.
لكنّ إدارة المهرجان تنبّهت للأمر، وأعلنت، في رسالة بريدية مفاجئة، عن
إقامة عرضين له، وعن موعد حجز البطاقات. كالعادة، لم تُتَح البطاقات في
الوقت المحدد من الإدارة، ولم يعلم كثيرون بالرسالة وبالعرضين المفاجئين
إلّا متأخّراً. هذا يعني أنّ إقامة عروض إضافية، لتلافي سوء البرمجة،
ممكنةٌ، وهذا يتمنّى كثيرون أنْ تُقدِمَ عليه الإدارة بخصوص "قتلة زهرة
القمر".
تأخير ومشكلات تقنية
غير معتاد أبداً في مهرجان "كانّ"، أقلّه في العقد السابق،
أنْ تتعرّض العروض لمشكلات مختلفة، منها تأخير بدء العرض، ما أثار غضب
الجميع، خاصة أنّ الإدارة لم تعتذر عن هذا. السائد، حتّى اللحظة، تأخّر
العروض عن موعدها، ليس 5 دقائق أو 10، وهذا جائز ومعتاد أحياناً، بل نصف
ساعة وأكثر، يمضيها كثيرون تحت المطر، الهاطل منذ أيام، مع درجات حرارة
منخفضة، خاصة في العروض الليلية، ما يجعل عرض الساعة 11 يبدأ 11 و45 دقيقة،
أو بعدها. تكرّر الأمر، وفي أكثر من يومٍ، آخرها مع "بنات ألفة" للتونسية
كوثر بن هنيّة، الذي كان مُقرّراً انتهاء عرضه بعد الواحدة بـ5 دقائق (بعد
منتصف الليل)، فإذا به ينتهي قبل الـ2 بقليل. حدث أيضاً مع "صحاري"، أو
"الربع الثالث" للمغربي فوزي بن سعيدي، في إحدى صالات "أسبوع النقّاد"،
بعيداً عن "قصر المهرجانات".
مطالبة المهرجان بضرورة الكشف صراحة عن عدد المقاعد المخصصة
لبطاقات الصحافيين إجمالاً
بخلاف هذه التأخيرات غير المُنتهية، كثرت المشكلات التقنية
بشكلٍ لافت. مثلاً، تعرّض "المملكة الحيوانية" للفرنسي توما كاييه (فيلم
افتتاح "نظرة ما") لمشكلة تقنية، أدّت إلى اختفاء الصوت كلياً. بعد
الانتباه إلى الأمر، توقّف العرض لأكثر من 45 دقيقة، فتأخرت العروض
التالية أكثر من ساعة. هذا دفع فريمو إلى الاعتذار رسمياً في العرض الصحافي
التالي لـ"بسيط مثل سيلفان" لمونيا شكري (كيبيك)، الذي اختفت الترجمة
الإنكليزية عنه لدقائق، قبل تدارك الأمر. كذلك، كانت هناك مُشكلة في عرض
"وحش" للياباني هيروكازو كورييدا (المسابقة الرئيسية)، إذْ ظهرت الصورة على
هيئة مربع صغير في ركن الشاشة، وفشلت محاولات إصلاح الخطأ، فأُعلن عن توقف
العرض. مع عرضه مجدّداً، تكرّرت المشكلة، التي تمّ إصلاحها، لكن مع ضجّة
صوتية ومشكلات تزامن، فأوقف عرضه ثانيةً. في المرة الثالثة، اختفت المشكلة.
ليس عرض مشكلات كهذه تصيّد أخطاء مهرجان كبير وعريق مثل
"كانّ"، أو التقليل من شأنه، أو لتجاسر البعض، ومقارنة مشكلات
"مهرجاناتهم"، الفنية واللوجستية، بمشكلاته، الفرق كبير طبعاً، ولا مجال
للمقارنة. مشكلات "كانّ" يصعب التغاضي عنها، نظراً إلى تمرّس القائمين عليه
ومهنيّتهم واحترافهم، بدءاً من مديره، وصولاً إلى التقنيّين المُسيّرين
أدقّ الأمور. الغرض تبيان أنّ إهدار الوقت والجهد والطاقة ليس في صالح
العروض، التي باتت مزدحمة ومتضاربة ومتداخلة إلى حدّ مزعج، فاقمتها هذه
الأعطال والتأخيرات غير المبرّرة أحياناً، أو الناتجة عن سوء إدارةٍ لا
تُلزم فرق الأفلام بالحضور في الموعد المحدد، واحترام العرض والجمهور، ما
يُربك جداول النقّاد والصحافيين، إذْ تفصل بين فيلمٍ وآخر، أحياناً، ساعة
أو نصف ساعة فقط، ما يؤدّي إلى ضياع العروض. والتأخير يُفسد برنامجهم
اليومي، أو يضطرّون للسهر إلى وقت متأخّر، أكثر من اللازم، ومن دون ذنب.
فنياً، وهذا مؤسف، لم تتألّق أفلام كثيرة في المسابقة
الرئيسية، باستثناء "عن العشب الجاف" للتركي نوري بيلجي جيلان، وإنْ اعتُبر
من أكثر أفلامه المليئة بالحوار، والأقلّ جمالياً من الناحية البصرية، ليس
لضعفه أو لعيب فيه، بل لاهتمامٍ أكبر بالشخصيات والمعالجة والموضوع والطرح.
بالإضافة إلى "وحش" لكورييدا، العائد إلى أفلامه القوية الرائعة، وإنْ كانت
الحبكة مألوفة، وعولجت سابقاً، لكنّ طريقة تقديمه مرحلة الطفولة، والسياقين
الاجتماعي والنفسي، أكسبته أبعاداً وثقلاً، وعمّقت معناه. مع بعض التساهل،
يمكن إضافة "منطقة الاهتمام" رابع فيلمٍ للبريطاني جوناثان غلايزر، وأول
مشاركة له في "كانّ": مقاربة مغايرة، ووجهة نظر جديدة ومختلفة بعض الشيء
للـ"هولوكوست"
ومعسكر "أوشفيتز". مع ذلك، هناك أمل معقود على مخرجين آخرين، أمثال
الأميركي وس أندرسن والإيطالي ناني موريتي والبريطاني كين لوش، وربما
الألماني فيم فندرز والفنلندي آكي كوريسْماكي.
تأمين المدينة واحتفالاتها
نظراً إلى الاضطرابات الراهنة في فرنسا، تصاحب أيام هذه
الدورة إجراءات أمنية مشدّدة، إذْ ينتشر نحو ألف عنصر من الشرطة وعاملين في
شركات أمن خاصة، للحيلولة دون حدوث أي شيء. كما جرى التأكيد على اتّخاذ
تدابير أمنية بحرية أيضاً، والمروحيات تحلّق دائماً فوق القصر تحديداً. كما
ينتشر عناصر من الجيش هنا وهناك، في حالة استعداد تام للتدخّل في أي وقت،
خاصة أنّ دورة هذا العام يحضرها نجوم ونجمات السينما من العالم.
الصرامة الأمنية عنوان الدورة الـ76، ولا تهاون نهائياً،
حتّى إنّ تييري فريمو نفسه تمّ إيقافه، بعد أنْ تجاهل شرطياً، فلاحقه، ما
أدّى إلى مُشادّة وتدافع بالأيدي بينهما، سجّلته الكاميرات والهواتف
المحمولة، وانتشر بعضها سريعاً على وسائل التواصل والمواقع الإخبارية.
إلى الاحتياطات الأمنية، الملحوظة بكثافة غير معتادة
سابقاً، حول قصر المهرجان والشوارع المؤدّية إليه، المدينة غارقة في أعمال
البناء والتجديد والترميم، وبعض هذه الأخيرة حاصلة في الشارع الرئيسي أمام
القصر، على مسافة أمتار قليلة منه فقط. مع ذلك، تشهد "كانّ" ازدحاماً
وسياحة غير معهودين، أقلّه بالمقارنة مع العام الماضي، ورغم ارتفاع أسعار
كلّ شيء.
أما الجمال والتجميل السينمائي في المدينة فيزدادان، على
نحو يتطوّر وينتشر بشكل لافت من عامٍ إلى آخر. فإضافة إلى لافتات اللقطات
السينمائية والصُور الفوتوغرافية للنجوم والنجمات والمخرجين والمخرجات، أو
المرسومة يدوياً على جدران وبنايات كثيرة منتشرة في أرجاء مختلفة في
المدينة؛ هناك لافتات قماشية عريضة في جوار القصر علّقت في عرض الشوارع،
كشارع "أنتيب" المشهور، وامتداداته وتفرّعاته.
اللافتات لقطات فوتوغرافية أرشيفية مُكبّرة، بالأسود
والأبيض غالباً، لمشاهير كثيرين، حضروا إلى المهرجان في أعوام مختلفة،
ومشوا على الـ"كروازيت". وذلك في احتفال مدينة "كانّ" بـ"20 عاماً كروازيت
2003 ـ 2023". تتمحور الفكرة حول نشر صور لممثلين وممثلات حضروا المهرجان
عندما كانوا في العشرينات من أعمارهم. هناك واحدة ضخمة لرومي شنايدر عندما
كانت تبلغ 23 عاماً، ومعها آلن دولون، وهو في الـ26 من عمره، وصوفيا لورين
ابنة 24 عاماً. لافتة أخرى طريفة وضاحكة، لأنتوني بيركينز (29 عاماً) ومعه
إيف مونتان وإنغريد برغمان في عمرين متشابهين. لافتة أخرى أحدث منها،
مأخوذة من دورة عام 2015، بألوان غير صارخة، للممثلة اليونانية أديل
إكساركوبولوس (21 عاماً)، ومعها الممثل الفرنسي الجزائري طاهر رحيم.
كُتب على كلّ لافتة عبارة: "أنْ تكون في العشرينات على
كروازيت". |