مهرجان كان الـ76: حضور لافت للسينما العربية
كانّ ــ محمد هاشم عبد السلام
للأفلام العربية حضورها البارز في فعاليات الدورة الـ76 من
"مهرجان كان السينمائي الدولي" (16 ـ 27 مايو/ أيار)، إذ تشارك السينما
العربية بمجموعة أفلام طويلة وقصيرة، من خمسة بلدان عربية، في مختلف أقسام
المهرجان، إضافة إلى مشاركة بعض الأسماء في لجان التحكيم، مثل المخرجة
المغربية مريم توزاني، في عضوية لجنة تحكيم "المسابقة الرئيسية".
بعد مرور أسبوع، تقريبًا، على انطلاق فعاليات المهرجان،
يمكن وصف الأفلام المعروضة بأنها على قدر كبير من الأهمية والجودة والجرأة،
كونها اتسمت بفنيات تقنية وبصرية ملفتة فعلًا، خاصة أفلام السينما
المغربية، التي تشهد تألقًا وحضورًا ملموسين خلال السنوات الأخيرة، في
مختلف المهرجانات السينمائية.
ضمن "المسابقة الرئيسية"، عُرِضَ فيلم "بنات ألفة" للتونسية
كوثر بن هنية. يتناول الفيلم الوثائقي الدرامي 10 سنوات من حياة ألفة
المضطربة وغير المستقرة. ألفة الحمروني ربة منزل وأم تونسية أربعينية، من
بيئة جد فقيرة. لكسب رزقها وإعالة بناتها تعمل خادمة، خاصة في ليبيا. تشهد
ألفة انسياق ابنتيها المراهقتين، رحمة وغفران، نحو التطرف، ثم هروبهما إلى
ليبيا للانضمام إلى تنظيم داعش، وصولًا إلى دخولهما السجن. يرصد الفيلم
سنوات من الحياة الواقعية، من عام 2010 إلى 2020، حيث الذكريات المؤلمة،
والشعور بالذنب والخوف، والمراهقة وطيش البنات، ثم الاتجاه إلى الدين،
والغرق في التدين، ثم الانحراف صوب التطرف في كل شيء.
الفيلم، بخلاف كونه دراما وثائقية، من نوعية الأفلام التي
يطلق عليها فيلم داخل فيلم. إذ يحضر صوت المخرجة دائمًا خلف الكاميرا. كما
نرى مشاركة النجمة هند صبري في أثناء تعلمها من ألفة كيفية أداء دورها،
وحفظ كلماتها وحواراتها. المُثير أن حضور ألفة الأصلية، كمساحة في الفيلم،
أكثر من حضور هند صبري ذاتها. يتناوب في الفيلم السرد الروائي والتسجيلي،
على خلفية تعليقات وتوجيهات المخرجة، حتى ننتهي إلى معرفة كيف عزمت رحمة
وغفران على الانضمام إلى داعش عن إرادة وتصميم، وليس غصبًا، أو إكراهًا، أو
اختطافًا. أيضًا، هنالك كثير من تفاصيل القضية الشهيرة التي تناولها
الإعلام التونسي آنذاك عام 2016.
"فيلم
"بنات ألفة"، بخلاف كونه دراما وثائقية، من نوعية الأفلام التي يطلق عليها
فيلم داخل فيلم. إذ يحضر صوت المخرجة دائمًا خلف الكاميرا"
في رصيد كوثر، التي أُسنِدَت إليها رئاسة لجنة تحكيم تظاهرة
"أسبوعا النقاد" العام الماضي، كثير من الأفلام الروائية القصيرة والطويلة،
أبرزها "الرجل الذي باع ظهره"، الفائز بجوائز سينمائية عديدة، ووصل إلى
التصفيات النهائية لجوائز "أوسكار" عام 2021. بهذا الفيلم، تعود تونس إلى
المُشاركة في المسابقة الرئيسية للمهرجان، وذلك بعد مشاركة أخيرة عام 1970.
وكانت لفيلم "قصة بسيطة كهذه"، للرائد عبد اللطيف بن عمار، الذي رحل في
فبراير/ شباط الماضي.
في قسم "نظرة ما"، التالي في الأهمية بعد "المسابقة
الرئيسية"، والذي يحتضن التجارب الأولى للمخرجين والمخرجات، شارك السوداني
محمد كُردفاني بفيلمه الروائي الأول الطويل "وداعًا جوليا". الفيلم هو
المشاركة الأولى في تاريخ السودان ضمن فعاليات مهرجان "كان". المشاركة لن
نصفها بالقوية فحسب. نكاد نجزم أنها من أهم وأقوى وأنضج التجارب العربية
المُشاركة في المهرجان، وغيره من المهرجانات الدولية، خلال السنوات القليلة
الفائتة. ومُقارنة ببقية الأفلام المُشاهدة في قسم "نظرة ما"، حتى الآن،
ربما يحالف الفيلم الحظ في الفوز بجائزة القسم الكبرى، أو جائزة السيناريو.
تدور أحداث الفيلم في الخرطوم، قبل انفصال الجنوب السوداني
عن الشمال. تبدأ الأحداث في آب/ أغسطس عام 2005، في أثناء فترة القلاقل
والاضطرابات والاشتباكات. وتتواصل الأحداث حتى كانون الأول/ ديسمبر من عام
2010، بعد مرحلة إجراء الاستفتاء. الخلفية التاريخية هذه جد ضرورية، لكونه
فيلمًا سياسيًا في الأساس، قبل أن يكون دراما اجتماعية وإنسانية واقتصادية.
حيث تتسبب منى، المرأة الشمالية الثرية، المغنية ذات الصوت العذب،
والمعتزلة للغناء بأمر من زوجها، في مقتل رجل جنوبي، من دون قصد، على يد
زوجها. وبدافع الإحساس العميق بالذنب، تستعين بأرملته كخادمة ومساعدة لها،
وتتكفل برعاية ابنها. وذلك في محاولة للتطهر، وتعويض الأرملة المكلومة عن
مصابها. الفيلم بطولة الممثلة المسرحية والمغنية إيمان يوسف، وعارضة
الأزياء وملكة جمال السودان السابقة سيران رياك.
في القسم نفسه، أيضًا، عُرِضَ للمخرج والممثل المغربي كمال
لزرق فيلم "عصابات". ورغم أن الفيلم هو الروائي الأول لمخرجه، إلا أنه
يُبشر بمخرج يُنتظر منه كثير. يتسم الفيلم بقدر كبير من التشويق، واحترافية
ملموسة في كتابة السيناريو، وبراعة ملحوظة من المخرج في إدارة الممثلين،
الذين يؤدون أدوارهم بطبيعية وانسجام وصدق. كما يُحسب للمخرج قدرته على
تكثيف الأحداث خلال نهار واحد، أغلبها خلال الليل، وتقديمه لرؤية بصرية
قوية، على قدر من الفنية والتميز حقًا. وهو من الأفلام الجيدة جدًا،
والمرشحة بقوة للمنافسة في قسم "نظرة ما".
تدور أحداث فيلم "عصابات" حول الأب حسن وابنه عصام،
وتورطهما في عوالم الجريمة، والقتل، والتجارة غير المشروعة. تمتد الأحداث
خلال ليلة طويلة، يبدو أن لا نهاية لها، في شوارع وأحياء وضواحي الدار
البيضاء السفلية الشعبية، وفي الصحراء، ثم البحر. وذلك في محاولة بائسة
ويائسة وفاشلة منهما للتخلص من جثة رجل قاما باختطافه لصالح زعيم إحدى
العصابات، من أجل الحصول على النقود. وكان مفترضًا تسليمه حيًا، لكنه
اختنق، وتوفي فجأة.
كذلك تحضر تونس في قسم "نظرة ما" بفيلم "بسيط مثل سيلفان"،
للمخرجة والممثلة الكندية من أصل تونسي، مُنية شكري. في "بسيط مثل سيلفان"،
وعنوانه في الإنكليزية "طبيعة الحب"، تناقش المخرجة، على صعيد شبه فلسفي،
ومن خلال دراما رومانسية، موضوع الحب. وذلك عبر شخصية صوفي، الأربعينية
التي تقوم بتدريس فلسفة الحب لكبار السن، بينما تعاني من أزمة منتصف العمر.
وتشعر بفراغ أو جمود في علاقتها المستمرة منذ 10 سنوات، مع "زافيير".
تلتقي صوفي بـ"سيلفان"، العامل المهني الذي ينتمي للطبقة
العاملة، التي لا تعرف القيود، أو غيرها. فورًا، تنعقد المقارنة بين
الرجلين. ومن ثم، تُطرح تساؤلات عديدة حول فلسفة الحب، لكن من دون تعقيد.
مثلًا: ما هو الحب؟ هل هو رغبتنا الجنسية؟ وهل الشهوة، أو الرغبة الجنسية،
هي الحب؟ أم أن هنالك الحب العاطفي من جهة، والجنس من جهة ثانية؟
كثيرًا ما تستخدم منية شكري في أفلامها شخصيات ذات أصول
عربية، أو تحمل أسماء عربية. وتلجأ أيضًا إلى توظيف الموسيقى العربية، كما
في هذا الفيلم، حيث يتطرق الحديث بين الأصدقاء إلى فايزة أحمد، ونسمع أغنية
لشادية، ثم نشاهد على جدار الغرفة أفيش فيلم "يحيا الحب"، من بطولة محمد
عبد الوهاب، وليلى مراد، وإخراج محمد كريم، وهو أحد كلاسيكيات الأفلام
الغنائية المصرية.
ضمن الدورة الـ62 لتظاهرة "أسبوع النقاد"، التي تترأسها
المخرجة اللبنانية الفرنسية أودري ديوان، عَرَضَ المخرج الأردني أمجد
الرشيد فيلمه الروائي الأول الطويل "إن شاء الله ولد". يتسم الفيلم بجرأة
اقترابه وطرحه الصادق والصادم لبعض القضايا الإشكالية الخطيرة في عالمنا
العربي. ومنها، تحديدًا، المتعلق بموضوع الإرث، وتوزيع التركات، وغيرها من
مفردات التدين الزائف والنفاق، الغارقة فيه مجتمعاتنا العربية. يُعد الفيلم
من الأفلام الجيدة، وإن كانت فيه بعض المشاهد السطحية، أو المُفتعلة، بعض
الشيء. إضافة إلى أن هنالك بعض المُباشرة في الطرح وتقديم وجهات النظر
والمعالجة.
"في
فيلم "بسيط مثل سيلفان"، تناقش المخرجة الكندية ـ التونسية منية شكري، على
صعيد شبه فلسفي، ومن خلال دراما رومانسية، موضوع الحب"
إجمالًا، يتناول الفيلم العيش في ظل قيود مجتمع ذكوري قمعي.
والقهر الذي تتعرض له المرأة حينما تفقد زوجها، وتكون محط أطماع. والأطماع
هنا ليست جسدية في الأساس، بل مادية متعلقة بالميراث والحقوق الشرعية. وذلك
من خلال شخصية الأرملة نوال، التي تحاول أن تنقذ ابنتها ومنزلها من قوانين
ومجتمع تنقلب فيه الموازين، لأن ابنتها أنثى، وليست ذكرًا، ما يتيح لعم
الطفلة، ليس فقط رفع قضية حضانة، بل أيضًا طردهما من الشقة وبيعها. كما
يتناول القوانين التي تضطهد المرأة في العالم العربي، وأيضًا المعتقدات
المجتمعية والثقافية وحتى الدينية، التي تفرض سيطرتها على حياة المرأة في
بلادنا، وكيف أنه من الضروري أن يبدأ التغيير من البشر، من المجتمع، قبل
مؤسسات الدولة، أو القوانين الشرعية الجائرة.
أما تظاهرة "نصف شهر المخرجين"، أو "أسبوعا المخرجين"،
ويجري تنظيمها منذ عام 1969، فقد عُرِضَ فيها الفيلم الروائي الطويل
"صحاري"، أو "الربع الثالث"، وفقًا للعنوان العربي المكتوب في الفيلم،
للممثل والمخرج المغربي فوزي بن سعيدي. الفيلم هو خامس أفلام مخرجه، بعد
آخر أفلامه الروائية الطويلة "وليلي" (2017). وفيه، يظهر فوزي بن سعيدي في
دور بسيط عابر، لكنْ له سياقه المُبرر، وغير المُقحم ضمن الأحداث.
تدور حبكة الفيلم على خلفية غاية في العبثية. وفي أجواء شبه
كافكاوية، خاصة في النصف الأول القوي جدًا من الفيلم، والذي تتناول أحداثه
رحلة صديقين (مهدي وحميد)، اللذين يسافران، بحكم عملهما في تحصيل الأقساط
والديون، عبر مدن وقرى وجبال المغرب الصحراوية النائية. لكنهما يواجهان
دائمًا مواقف مفاجئة في كل مرة يذهبان فيها للمطالبة بالأموال. يتعرضان
للمطاردة، والضياع في الصحراء، قبل انقلاب الأحداث مرة ثانية.
يُذكر أنه سيُعرض خارج "المسابقة الرئيسية"، وضمن قسم عروض
"منتصف الليل"، الفيلم الروائي الأول الطويل "عمر لافراز"، للجزائري
الفرنسي إلياس بلقدار. وتدور أحداثه حول عوالم الجريمة السفلية والعصابات
في الجزائر، مُمثلة في شخصية المحتال عمر، الخمسيني المنفي من فرنسا. كما
سيُعرض في "المسابقة الرئيسية"، الفيلم الروائي الطويل "فايربيرد"،
للجزائري البرازيلي كريم عينوز. وتدور الأحداث في إطار تاريخي، داخل
البلاط الملكي البريطاني، في القرن السادس عشر. وتتناول قصة مؤلمة ومثيرة
حول الملكة كاثرين بار، الزوجة السادسة والأخيرة للملك هنري الثامن. يشترك
في الفيلم، الذي يقوم ببطولته جود لو، وأليسيا فيكاندر، الممثل المصري عمرو
واكد.
ولم يُعرض حتى الآن، في قسم "نظرة ما"، فيلم "كذب أبيض"، أو
"أم الأكاذيب"، للمغربية أسماء المدير. وهو الفيلم الأول لمخرجته من نوعية
الدراما التسجيلية، وتدور أحداثه حول الماضي القريب للمخرجة، وعلاقتها
بأسرتها وطفولتها. كذلك، لم يُعرض للمغربية الفرنسية منى عشاش فيلم "فتاة
صغيرة زرقاء"، في قسم "عروض خاصة". الفيلم دراما تسجيلية، تحكي قصة والدة
المخرجة، بالاشتراك مع ممثلين يصورون شخصيات من الواقع. |