للمرأة ثلاث جوائز فقط طوال تاريخ (السعفة الذهبية) من واقع
76 دورة وهى نسبة قليلة جدا كما ترى، والأقل منها الأوسكار 95 دورة لم تفز
بأفضل فيلم سوى أيضا ثلاث مرات.
هذا لا يعنى بالضرورة أنها مقصودة، كما أنه على الجانب
الآخر لا يعنى أيضا أن المطلوب لرفع الظلم منح المرأة جائزة استحقت أم لا.
قاعدة (5050) المطبقة في العديد من المهرجانات والهيئات
الاجتماعية لا تملى إرادتها على المنظمين بمنح جوائز ولا حتى بضرورة
المشاركة في التسابق، لكنها تعنى العدالة في تواجد المرأة في أي تظاهرة
كإدارة وتنظيم بعدد متساو مع الرجل.
وفى الفن تحديدا لا يجب فرض قيود خارجة عن الإبداع تحول دون
اختيار الأفضل، وهكذا أرى استحقاق فيلم (تشريح السقوط) جائزة (كان) دون أن
نضع في المعادلة أن المخرجة امرأة.
هذا الفيلم نظلمه كثيرا لو وضعناه في عجالة تحت مظلة أفلام
(سينما المرأة)، التي أصبحت لها مهرجانات متخصصة، طالما لا توجد مهرجانات
(سينما الرجل) فلا يمكن أن نطلق توصيف سينما المرأة، هذا قطعا يظلمها، حتى
لو رحبت به النساء، إلا أننا نظلم هذا الفيلم أكثر لو اعتبرنا أن مخرجته
امرأة وهذا يكفى للحصول على السعفة، في ظل التوجه العام للانحياز للمرأة
خاصة في مهرجان (كان) الذي كثيرا ما شهد مظاهرات حول القاعة الرئيسية
(لوميير) بسبب ما رآه البعض من تهميش لتواجد المرأة المخرجة في أفلام
المسابقة الرئيسة، كما أن الظلم الأكبر يقع على هذا الفيلم لو اكتفينا
بتوصيفه على اعتبار أنه فيلم جريمة، لدينا جثة قتيل، وعلينا أن نعثر على
القاتل، ليس هذا هو أبدا (تشريح السقوط).
المخرجة الفرنسية جوستين تريا واحدة من بين سبع مخرجات
شاركن هذه الدورة ضمن 21 فيلما طويلا، حمل فيلمها بداخله أسباب السعفة،
التي اتكأت تماما على الإبداع.
الفن يتناقض تماما مع ما دأبنا على وصفه بـ(الكوتة)، صحيح
أن لجنة التحكيم ممثلة فيها المرأة بنسبة تقترب من النصف، أربعة رجال وأربع
نساء، لو استبعدنا رئيس اللجنة المخرج السويدى روبين اوستلوند.
المخرج باح للإعلام بطريقة مناقشة الأفلام، مشيرا إلى أنه
ليس ديكتاتورا ويترك كل عضو للتعبير عن أفكاره، ولا يطرح هو أفكاره إلا في
النهاية ولا يفرضها على أحد.
الفيلم الفرنسى بمجرد عرضه استوقف كاتب هذه السطور، فهو
يترك مساحات غامضة في كل الشخصيات، علينا اكتشافها.
لسنا بصدد الثالوث الدرامى الشهير (الزوج والزوجة والعشيق)
وتبدأ أنت في حل اللغز، لكن الزوج والزوجة والطفل، والأخير يعانى من فقدان
البصر، وهو الشاهد الوحيد على الجريمة لو صحت أنها جريمة ومع سبق الإصرار،
مما يجعل القضية مستحيلة الإثبات القطعى.
الطفل يكتشف مقتل والده وسقوطه من أعلى، ومن هنا جاء
العنوان (تشريح السقوط) هل هو متعمد، أم أنه تعثر في الطابق الأعلى وفقد
توازنه؟، مساحات الغموض كثيرة في هذا الفيلم وأنت لا تستطيع أن تملأها،
موقنا من الحقيقة، والأهم أن هذا ليس هو تحديدا ما تبحث عنه المخرجة في هذا
الشريط السينمائى لكنها أولا وثانيا وحتى عاشرا، تريد إثارة الخيال بالتأمل
في تفاصيل الشخصيات.
ليس مطلوبا منك أن تتقن تحديد ملامح الشخصيات ولا دوافعها
وأنت مطمئن تماما إلى صدق رؤيتك النهائية لها، فلا توجد خطوط قاطعة تبنى
عليها الموقف ولكن هناك مساحات واسعة من الحيرة، وهذا هو ما اعتمد عليه
بناء السيناريو، الذي قدم في أحد المشاهد صوتا فقط، هذه هي الوثيقة التي
احتفظ بها عقل الطفل شبه الكفيف، عن صراع بين الزوج والزوجة وصوت ارتطام
فهل تكفى لكى تنتهى إلى الإدانة، الفيلم قطعا استحق السعفة، لكن كانت هناك
أيضا أفلام أخرى تستحقها، إلا أنها (سعفة واحدة) فقط ينالها الأفضل من وجهة
نظر لجنة التحكيم.
هل الجوائز عبرت عن كل الجمال الفنى أم فقط جزء منه؟ لديكم
مثلا الفيلم البريطانى (منطقة الاهتمام) الحائز على الجائزة الكبرى التي
تلى السعفة في الأهمية وهو يحمل رؤية عصرية في السرد استحقت جائزة النقاد
(الفيبرسكى) عل اعتبار أنه الأفضل.
قبل إعلان الجوائز بيوم أو اثنين، يتضاءل عادة الإقبال على
العروض، قسط كبير من الإعلاميين والصحفيين والنقاد يختصرون آخر يومين، من
الأجندة ويعودون إلى بلادهم، رغم أنها تشكل فرصة إضافية في صباح إعلان
الجوائز لتقديم عروض متتابعة للأفلام، ومؤكد سيكتشف كل منا فيلما أو أكثر
فاته مشاهدته.
لاحظت الإقبال الضخم على الفيلم والكل يؤكد أن السعفة
تنتظره وذلك قبل ساعات من إعلانها رسميا.
يبدأ الفيلم البريطانى بمساحة من الصمت تصل إلى نحو دقيقتين
وتنتهى أيضا بمساحة مماثلة، الفيلم يتعرض للهولوكست، كثيرا ما رآه البعض
يلعب دوره في المهرجانات لتوجيه الجوائز، لا أتصور أنها حسبة سياسية هذه
المرة ولكن للتفرد السينمائى العميق والذى يحمل في نفس الوقت قدرة جمالية
في التعيير.
فيلم آخر بريطانى، إلا أنه أسوأ حظا، لم يأت ذكره قط في
قائمة الجوائز (شجرة البلوط القديمة).
الفيلم عليه توقيع كين لوتش، 86 عاما، وهو يضرب مثالا
للمخرج الذي لا يتوقف عن الإبداع بعيدا عما يشير إليه جواز السفر من تراكم
السنين.
البطل صاحب حانة في إحدى القرى التي يعانى أهلها من تضاؤل
الدخل، نراه في بداية الفيلم وهو يحاول أن يصلح بعصى طويلة الحرف الأخير من
كلمة البلوط (K)
دون جدوى.
والاسم يدعونا للتأمل لماذا البلوط؟، إنها شجرة عجوز معمرة
تتجاوز 600 عام، ولا تنبت بجوارها شجرة أخرى إلا بعدة أمتار بعيدة لأن
جذورها تحت الأرض ممتدة فهى تتغلغل في التربة حتى تجد الماء الصالح للحياة.
تتحمل الظروف الصعبة للحياة ولهذا يمتد بها العمر. وكأن
الحانة هي معادل موضوعى لتلك القرية التي يعانى أهلها، وبسبب تردى الأحوال
الاقتصادية تستقبل القرية مرغمة عددا من السوريين الهاربين من جحيم الحرب
بحثا عن الحياة ويقابلون في القرية بقدر لا ينكر من الرفض فهم سيقاسمونهم
أرزاقهم القليلة، ولكن مع الزمن يدرك أهل القرية أن الوئام ممكن ويتعاطفون
معهم في مصابهم، عندما تأتى الأخبار بموت رب الأسرة المختفى في سوريا تتوحد
كل القرية في تقديم واجب العزاء.
الفيلم لم يتعرض للقضية السورية كحالة سياسية بقدر ما تناول
الإنسان، بهدوء وإبداع، الإنسان هو البطل عند كين لوتش.
الجوائز المقدمة من اللجنة لم تثر الاعتراض، لكنها فتحت
الشهية لقدر من التأمل في السينما الذي شاهدناه في عدد من الأفلام، وهو ما
نستكمله في الغد!!. |