كان/ فرنسا: سؤالان
تقليديان يسبقان أي مهرجان سينمائي كبير. أولهما من سيفوز بالجائزة الأولى،
وثانيهما هل سيكون للسينما العربية حصّة ما من تلك الجوائز؟
بعد انتهاء المهرجان بإعلان الفائزين ينتقل السؤال الأول
ليصبح ما إذا كان الفيلم الفائز بالجائزة الكبرى استحق هذا الفوز أم لا.
أما بالنسبة إلى الفيلم العربي (إذا ما دخل أصلا المسابقة الرسمية) فيتحوّل
السؤال إلى: لماذا لم يفز؟ ما الذي منعه؟ ألم يكن بالجودة الكافية أم أن
اعتبارات سياسية أودت إلى التغييب؟
في هذا النطاق لا يختلف مهرجان "كان" عن سواه.
للتسجيل في النشرة البريدية الاسبوعية
احصل على أفضل ما تقدمه "المجلة" مباشرة الى بريدك.
تخضع اشتراكات الرسائل الإخبارية الخاصة بك لقواعد
الخصوصية والشروط
الخاصة بـ
“المجلة".
هو الحدث السينمائي الأكبر، حجما وأهمية، بين مهرجانات
العالم والأكثر بهرجة واستقطابا للاهتمام الإعلامي والفني. فيه كل شيء من
الفن إلى التجارة
ومن الأفلام المتنافسة إلى المشاريع التي تبحث عن تمويل. من منصات هيئات
رسمية ومؤسسات حكومية إلى مكاتب توزيع تشتغل من داخل الفنادق أو في السوق
التجارية في قصر المهرجان.
هذه الدورة حوت كل ذلك كالمعتاد، لكنها كانت أكثر تميّزا من
دورات السنوات الثلاث الماضية بزخم أفلامها وعموم مستوياتها الفنية.
هاجمت "ترييه" الحكومة الفرنسية لما اعتبرته تهديدا للمناخ
الثقافي الذي اشتهرت به فرنسا لقرون، معتبرة أن تغليب التجارة على الثقافة
من قِبل حكومة ليبرالية جديدة يمثل تهديدا مباشرا للثقافة
في القمة
الفيلم الخارج من المسابقة الرسمية (وهي الأولى، بين أقسام
المهرجان التي يتحلّق حولها الاهتمام الأكبر) ينهي سباقا ليجد نفسه متأهلا
لسباق آخر بفضل قيمة السعفة الذهبية التي غالبا ما تتيح للفائز بها طريقا
ناجحا صوب التوزيع والإقبال الجماهيري والفيلم المقبل... ثم- فوق ذلك كله-
حظّا أفضل في الأوسكار الأميركي.
فيلم جوستين ترييه "تشريح سقوط"
(Anatomy of a Fall)
لن يكون استثناء عن هذا التقليد. دراما منقسمة إلى ثلاثة فصول غير مرقّمة،
الأول هو تقديم تلك الأسرة التي تتألف من روائية (ساندرا هولر) وزوجها الذي
يعمل محاضرا جامعيا (سامويل تييس) وابنهما الصغير شبه الأعمى (ميدو ماكادو
غرانر). الثاني سبر غور حياة غير مريحة لكل هذه الشخصيات. الزوج يمنّي
النفس بالتحوّل لمهنة زوجته وهو محبط بسبب إخفاقه حتى الآن. يتهم زوجته
بالشروع بالخيانة مع فتاة تصغرها سنّا. الابن يفضل الخروج مع كلبه إلى
الشوارع المحيطة هربا من الشجار. فجأة يسقط الزوج من نافذة الطابق الثالث.
هل دفعته زوجته أم أن السقوط كان عارضا أو انتحارا. الفصل الثالث من الفيلم
هو التشريح الذي في العنوان وتقع أحداثه في المحكمة حيث تقف الزوجة متهمة
بجريمة قتل.
بكلمات قليلة، "تشريح سقوط" ليس أفضل فيلم عرضته مسابقة
مهرجان "كان" في دورتها السادسة والسبعين المنتهية قبل أيام قليلة (27
مايو/ أيار). يحتوي على النيّة الجادة وسوء التنفيذ في جوانب دون أخرى.
إلى ذلك، يفقد الفيلم وجهة نظر في القضية. الغالب هو أن
المخرجة وشريكها في كتابة السيناريو هدفا إلى تعزيز الغموض داخل المحكمة
ولو على حساب دعم بطلة الفيلم في موقفها ليتسنى للمشاهد تأييدها على الأقل.
بعد إعلان فوز ترييه ألقت المخرجة كلمة احتوت على الشكر ثم
الهجوم على الحكومة الفرنسية لما اعتبرته تهديدا للمناخ الثقافي الذي
اشتهرت به فرنسا لقرون، ذاكرة أن تغليب التجارة على الثقافة من قِبل حكومة
ليبرالية جديدة يمثل تهديدا مباشرا للثقافة، وهاجمت الرئيس ماكرون منتقدة
موقفه من رفع سن التقاعد.
وزيرة الثقافة، ريما عبدالملك، انبرت بالرد عليها قائلة إنه
في مقابل إعجابها بالفيلم وتهنئة المخرجة على فوزها إلا أن هذا الفيلم لم
يكن "سيرى النور لولا نظام التمويل المعمول به في فرنسا والمنفرد حول
العالم"، كما كتبت على تويتر.
اختلافات جوهرية
الجائزة الثانية في الأهمية هي "الجائزة الكبرى" وهذه نالها
فيلم "منطقة الاهتمام"
(Zone of Interest)
الذي يدور في رحى الهولوكوست من منظور عائلة ألمانية تعيش فوق فسحة جميلة
من الأرض في منزل ليس بعيدا عن معتقل نازي لليهود. أصوات طلقات الرصاص أو
صراخ الضحايا لا تترك تأثيرا على تلك العائلة. المخرج جوناثان غلايزر
استوحى من رواية للكاتب البريطاني مارتن أميس (الذي فارقنا قبل أيام)
الفكرة وبنى عليها أحداثه المنتقاة والمنفّذة بأسلوب جيد يليق بالجائزة رغم
أنه ليس بالضرورة الأفضل بين أساليب فنية استخدمها مخرجون آخرون مثل
الفنلندي آكي كاروسماكي في "أوراق ساقطة"
(Fallen Leaves)
أو الألماني ڤيم ڤندرز في "أيام مثالية"
(Perfect Days).
في الفيلمين قوّة رائعة في بساطة التأليف والعرض والبعد عن التكلّف. يتعرّض
"أوراق ساقطة" لوضع اجتماعي- اقتصادي داكن يستطيع سلب الحب من القلوب. أما
"أيام مُثالية" فهو عن رجل راض بحياته اليومية كمنظّف حمامات عامّة وسيبقى
كذلك مهما قست ظروفه الخاصة عليه.
فاز "أوراق ساقطة" بجائزة "لجنة التحكيم" التي لا ترتفع
لمستوى الجائزة الكبرى (الثانية في الأهمية وهي ما فاز بها فيلم "منطقة
الاهتمام") في حين خرج الياباني كوجي ياكوشوا بجائزة أفضل ممثل عن فيلم
"ڤندرز".
ما يفوت العديد من المعلّقين على النتائج عادة هو أن
الجالسين على مقاعد لجان التحكيم قد يختلفون عن الرأي السائد لدى النقاد أو
لدى الجمهور العريض. هم في الأساس مجموعة من الآراء والتجارب والخبرات
ويمضون ساعات في النقاش قبل التوصل إلى اختيار الجوائز.
قاد لجنة التحكيم المخرج السويدي روبين أوستلند الذي كان
نال سعفتين ذهبيّتين من هذا المهرجان الأولى سنة 2017 عن "الميدان"
(The Square)
والثانية في دورة العام الماضي عن "مثلث الحزن"
(Triangle of Sadness).
ووجه أوستلند، خلال المؤتمر الصحافي بعد إعلان الجوائز، بأسئلة متوقعة حول
النتائج من بينها عما إذا كان فوز المخرجة جوستين ترييه له علاقة بالموجة
الحالية التي تؤازر المخرجات في المهرجانات والمحافل المختلفة. نفى ذلك
قائلا إن جنس المخرج لا علاقة له بالجائزة.
رغم ذلك، لا يسع المرء في مثل هذه الظروف المليئة بحركات
التصحيح، نسائية أو سواها، إلا أن يضع في عين الاعتبار أن ستة أفلام من بين
الأفلام المتسابقة في هذا القسم الرئيسي هي من إخراج نساء، وخمسة أفلام في
مسابقة "نظرة ما" هي كذلك من إخراج نساء.
لا مانع هنا سوى أن المزيد من المهرجانات تشعر بالتقاعس
والخوف من "الميديا" إذا وجدت نفسها خالية من نسبة كبيرة من أفلام النساء
ما يؤثر على صيت المهرجان ويحرمه من ردّ مقنع. هذا يأتي على حساب النوعية
تماما كما الحال عندما يستقبل فيلم متوسط القيمة من مخرج كبير لمجرد أنه
اسم لامع ينتمي إلى الصف الأول.
ما
يفوت العديد من المعلّقين على النتائج عادة هو أن الجالسين على مقاعد لجان
التحكيم قد يختلفون عن الرأي السائد لدى النقاد أو لدى الجمهور العريض. هم
في الأساس مجموعة من الآراء والتجارب والخبرات ويمضون ساعات في النقاش قبل
التوصل إلى اختيار الجوائز
المشاركة العربية: تألق سعودي
إحدى مخرجات المسابقة الرئيسية كانت التونسية كوثر بن هنية
التي سبق أن حظى فيلمها السابق "الرجل الذي باع ظهره" بنجاح نقدي وتجاري
كبير. فيلمها الجديد "بنات ألفة" (أو "أربع بنات" بالإنكليزية) هو محاولة
جديرة بالتقدير من المخرجة لسرد حكاية مستخدمة شخصيات حقيقية بجانب ممثلات
محترفات. إلى ذلك، جمعت بين الروائي والتسجيلي في سياق الفيلم الجديد
وانتظرت هدية المهرجان كسواها. لكن الجائزة لم تأت واللجنة غير موكلة بذكر
الأسباب.
في الواقع ليس أن الفيلم من الإجادة بحيث يمكن القول إنه
تعرض للإضهاد، لكن الآمال حوله كانت عالية لدى السينمائيين التونسيين على
نحو مفهوم في حين انقسم النقاد العرب والأجانب حياله على نحو متساو.
هذا ما يقودنا إلى المشاركة العربية في هذا المهرجان التي
كانت بدأت باكرا في خمسينات القرن الماضي بأفلام لجورج نصر وكمال الشيخ
وصلاح أبو سيف ثم توّجت في منتصف السبعينات بفوز الجزائري محمد لخضر حامينا
بالسعفة الذهبية عن فيلمه "مفكرة سنوات الجمر" وهي السعفة الوحيدة التي
نالها فيلم عربي في تاريخ المهرجان.
بعد ذلك الفوز تراجع المد لفترة طويلة إلى أن عاد في
السنوات الخمس الأخيرة فنالت اللبنانية نادين لبكي "جائزة التحكيم" (تلك
التي ذهبت إلى فيلم "أوراق ساقطة" للفنلندي آكي كاروسماكي هذا العام) وذلك
عن فيلمها "كفرناحوم"
(2018).
كل من "كفرناحوم" و"الرجل الذي باع ظهره" توجها من "كان"
إلى الأوسكار ودخلا الترشيحات الرسمية في سباق أفضل فيلم دولي (أجنبي
سابقا). وكلاهما لم يحظ بها.
هذا أحد الأمنيات التي تتراءى لعين مخرجين ومخرجات عرب حين
تقبل أفلامهم في "كان" على أساس استخدام المهرجان منصّة لدخول سباق
الأوسكار. في العام 2019 عندما وصل فيلم كوثر بن هنية إلى أطراف الأوسكار
بذل المنتجون التونسيون كل جهودهم لترويج الفيلم الذي لم ينل الأصوات
الكافية لنجاحه. لا ريب أن المخرجة وفريقها سوف يسعون إلى غزو جديد عبر هذا
الفيلم الذي يعكس أجزاء من حياة أم تسعى لاسترداد ابنتيها اللتين أجبرتا
على الانضمام إلى تنظيم داعش.
على ذلك، لم تخل النتائج من فوز عربي وإن من خارج المسابقة
الأولى. ففي تظاهرة "نظرة ما" عرضت أربعة أفلام عربية فاز منها ثلاثة.
الأفلام هي "وداعا جوليا" لمحمد كردفاني (السودان) و"كذب
أبيض" لأسماء المدير (المغرب) و"كلاب" لكمال الأزرق (المغرب) و"طبيعة الحب"
لمنيا شكري. هذا الأخير انتاج كندي/ فرنسي ومن الممكن إغفاله حين الحديث عن
السينما العربية كأعمال وإنتاجات. الثلاثة السابقة كلها نالت جوائز. فجائزة
أفضل مخرج ذهبت إلى أسماء المدير عن فيلمها التسجيلي "كذب أبيَض"
(تسويقيا
اختير له
The Mother of All Lies).
وجائزة لجنة التحكيم ذهبت إلى فيلم كمال الأزرق "كلاب". جائزة باسم "جائزة
الحرية" نالها المخرج محمد كردفاني عن فيلمه "وداعا جوليا" وهو أول مشاركة
سودانية رسمية في تاريخ المهرجان الفرنسي، وهذه جميعها، بالإضافة إلى فيلم
"التعويذة" الكونغولي البلجيكي والذي حصل على جائزة "الصوت الجديد"، من
الأفلام التي حصلت على دعم "مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي"، ليكون
ذلك أكبر حضور سعودي حتى الآن في تاريخ مهرجان "كان" السينمائي.
يمنح كل ذلك آمالا كبيرة للسينما العربية من دون أن يغيب عن
البال أن اختيار فيلم "جان دو باري" لافتتاح هذه الدورة كان في صميمه تحية
للسعودية التي ساهمت في تمويل هذا الفيلم التاريخي المثير الذي عُرض خارج
المسابقة.
الآمال العربية المناطة في دورات "كان" القريبة الماضية
وتلك المستقبلية كبيرة، لكن الوقت حان لمعرفة ما إذا كان الفوز سيعني شيئا
قيّما لغير صانعيه. تحديدا، كيف يمكن أن تستفيد صناعة السينما العربية من
تراكم الإشتراكات في المهرجانات الرئيسية على نطاق أوسع بحيث يؤدي ذلك إلى
نتائج تجارية تخوّل الجميع صنع المزيد من الأفلام لا لمحاولات التسويق
خارجا فقط، بل للتسويق الناجح في أكثر من دولة عربية أيضا. |