10
أفلام من ذهب من ذاكرة مهرجان كان
أفلام ذهبية من ذاكرة السينما، مهرجان كان:
underground, Paris, Texas, La Dolce Vita
أحمد عزت
في الفترة الممتدة من 16 إلى 27 من مايو/آيار الماضي انعقدت
الدورة السادسة والسبعين من مهرجان كان السينمائي. كان هو المهرجان الأكثر
قيمة وبريقًا بين مهرجانات المشهد السينمائي العالمي. ظل طيلة تاريخه يقف
في صف الفن السابع وحركاته التجديدية. حين منح المهرجان جائزته الكبرى
لفيلم روسيليني «روما مدينة مفتوحة» كان يضع الواقعية الإيطالية الجديدة
تحت الضوء وفي قلب المشهد، وهو ما تكرر أيضًا حين فاز تروفو بجائزة أفضل
إخراج عن فيلمه “الأربعمائة ضربة” الذي كان الانتصار الأول لسينما الموجة
الفرنسية الجديدة. انطلقت نجومية الأمريكي كوانتين تارانتينو أيضًا من هناك
حين منحه المهرجان سعفته الذهبية عن فيلمه البديع
pulp fiction.
كانت السعفة الذهبية/ الجائزة الكبرى للمهرجان دائمًا أقرب
للمسة ميداس، الملك اليوناني الأسطوري الذي يحول كل ما يلمسه إلى ذهب،
فالأفلام التي منحت سعفة كان وكأنها منحت حصانة ضد النسيان حيث ارتباطها
بالسعفة الذهبية، حتى وإن خفت بريقها فسيعيدها للذاكرة. هذه 10 أفلام أحب
أن أستعيدها من ذاكرة كان:
1. Marty
هذا
هو أول فيلم يتوج بالسعفة الذهبية في كان، فقبل عام 1955 كانت تسمى فقط
بالجائزة الكبرى
The Grand Prix.
هو أيضًا الفيلم الثاني الذي يحصل على أوسكار أفضل فيلم إلى جانب جائزة كان
الكبرى، بعد فيلم بيلي وايلدر
The lost weekend.
الفيلم من إخراج ديلبرت مان، وكتابة بادي تشايفسكي أحد أفضل
كتاب السيناريو في كل تاريخ السينما. كتب تشايفسكي فيلمه اعتمادًا على
مسرحية تلفزيونية بنفس الاسم من كتابته أيضًا. فيلم صنع بميزانية محدودة
وممثلين لا ينتمون لطبقة النجوم. صور بالأبيض والأسود في زمن الشاشات
الواسعة والملاحم الملونة.
يصف تشايفسكي فيلمه بأنه «قصة الحب الأكثر عادية في
العالم»، وهنا تكمن جاذبية الفيلم، في عاديته، فلا بريق لأبطاله، لا حب من
أول نظرة، أو حوارات منمقة أو نهاية سعيدة. يمنح الفيلم أبطاله كل الوقت
للوقوع في الحب.
فيلم
بلا مضمون ثوري ولا خيال جامح، لكن ما يلمعه فعلًا هو ذلك الشوق للحب الذي
يتوهج خجلًا في قلب بطليه. تكمن جاذبية الفيلم أيضًا في واقعيته، سواء على
مستوى الشخصيات والسرد أو الإخراج.
يلتقي جزار لطيف من برونكس في منتصف عقده الثالث، لم يعرف
الحب أبدًا، بمدرسة خجول تدعى كارلا في صالة رقص. حضر كلاهما دون رغبة
منهما، بل بضغط الوحدة وإلحاح الآخرين من حولهما. يقتربان، يمشيان معًا في
ليل المدينة، وكل خطوة معًا تقربهما أكثر. لا ينتهي الفيلم ونحن نعرف أنهما
وقعا في الحب أو أنهما سيكملان الطريق معًا.
يخبر مارتي صديقه في الطريق إلى كابينة الهاتف للحديث
إليها: «كل ما أعرفه أنني قضيت وقتًا جيدًا معها ليلة أمس، وسوف أقضي وقتًا
جيدًا أيضًا هذه الليلة». ينتهى الفيلم في بداية مكالمة تليفونية يدعو
مارتي كارلا أن يخرجا معًا مرة أخرى.
2. La dolce vita
سيخبرك روجر إيبرت أن هذا هو فيلمه المفضل على الإطلاق إلى
جانب المواطن كين، وأنه طالما رأى نفسه وأحلامه في بطله. كان يعيد مشاهدته
على الأقل مرة كل عقد من الزمن ليعرف كيف تغير وكيف تغير فيلمه المفضل. كان
جورج سيمنون كاتب الروايات البوليسية الكبير هو رئيس لجنة التحكيم التي
منحت فيلم فيلليني السعفة الذهبية عام 1960. سيجمع سيمنون وفيلليني لاحقًا
صداقة ومراسلات وإعجاب متبادل، وسيجد كل منهما في الآخر رفقة روحية نادرة.
يصف سكورسيزي تحفة فيلليني بالفيلم الذي غزا العالم. كان النجاح التجاري
الهائل للفيلم عبر العالم نوعًا من الانتصار لسينما الفن في شباك التذاكر.
لم يكن الفيلم مجرد خطوة واسعة في تطور أسلوبية فيلليني
وخروجه من عباءة الواقعية الجديدة التي بدأ مسيرته في ظلها، بل دفعة
البداية لمخرج يفرض رؤيته الذاتية الخاصة للإنسان والعالم ويخلق شيئًا غير
مسبوق سيعرف لاحقًا بالفيللينية.
ما الذي يمكن أن يقال عن الحياة الحلوة لفيلليني؟
لدينا مارشيلو ماستروياني يلعب دور صحفي يطارد القصص
والنساء في ليل روما، ومن حوله تظهر المدينة مثل وليمة مفتوحة من الجمال
والسحر والانحلال والرعب. صور فيلليني أكثر مشاهد فيلمه في استوديوهات
شينشيتا لفرض رؤيته وإيقاعه على المدينة. روما بالأبيض والأسود على نغمات
نينو روتا التي تعكس حالة من الكآبة والحسية والحنين. لا يمكن أن نذكر
الحياة الحلوة دون أنيتا إيكبرج وحضورها الحلمي وهي تخطو داخل نافورة
تريفي، هذا واحد من أكثر مشاهد السينما أيقونية.
3. Scarecrow
فيلم طريق استثنائي وتحفة منسية من أمريكا السبعينيات.
ينتمي الفيلم الحائز على سعفة كان عام 1973 لأفلام موجة هوليود الجديدة
التي انفجرت في السبعينيات. يصفه أحد النقاد بأنه «نسخة سينمائية من رواية
عن الرجال والفئران لتشاينبيك مع لمسة من لوريل وهاردي». أظن أن هنا شيئًا
من بيكيت أيضًا. هنا أيضًا واحد من أفضل أداءات جين هاكمان وآل باتشينو.
آل هنا موهبة بكر لا تزال تكشف عن نفسها. ربما لن تشاهده
مرة أخرى بهذا القدر من الهشاشة والرقة. يعود آل بعد تصوير الأب الروحي
لكوبولا إلى المخرج جيرى شاتزبرج مجددًا، هو الذي منحه بطولته السينمائية
الأولى في
panic in the needle park.
خرج ماكس/ هاكمان لتوه من السجن وعلى الطريق يلتقي بليون/
آل الذي كان يعمل في البحر لسنوات، لتنشأ سريعًا بينهما صداقة تتوطد مع
الوقت. كلاهما تائه وجريح وكلاهما يدرك جرح صاحبه. يطارد كل منهما حلمًا هو
السراب. سينماتوجرافي بديع لفيلموس زيجموند يبرع في تصوير شاعري لواقع
الطرق الخلفية للمدن الأمريكية الصغيرة.كل شيء واقعي في الفيلم، لكنه على
مستوى ما يعمل أيضًا كحكاية خرافية ذات تيمات وجودية.
4. Paris, Texas
يشترك فيم فيندرز في مهرجان كان هذا العام بفيلمين، أحدهما
وثائقي والآخر روائي. حين أتذكر فيندرز أتذكر باريس تكساس، يبدو أجنحة
الرغبة إنجاز فيندرز غير المتجاوز حتى هذه اللحظة، لكن هذا هو فيلم القلب.
شبح رجل مكسور وجريح هو الشخصية الرئيسية للفيلم هائم عبر صحراء لا نهاية
لها، هكذا يبدأ باريس تكساس المتوج بالسعفة الذهبية عام 1984.
حين
سُئل المخرج فيندرز عن سبب اختياره للممثل دين هاري ستانتون لأداء شخصية
ترافيس، وهي الشخصية الرئيسية في فيلمه «باريس تكساس»، أجاب فيندرز أن هاري
يمتلك بداخله روحًا طفولية وبراءة لم يعد يراها إلا نادرًا لدى الممثلين.
هذه الطفولية هي مفتاح رئيسي لفهم أداء هاري وطبيعة شخصية ترافيس.
في سينما «فيندرز» تبدو الأماكن دائمًا خريطةً لروح أبطاله.
قبل أن نلتقي ترافيس لأول مرة، تستعرض كاميرا «روبي مولر” صحراء شاسعة
وموحشة قبل أن نُبصر ترافيس مقبلًا من قلب الصحراء وكأنه آتٍ من لا مكان.
ندرك على الفور من نظرات عينيه ومن المكان الموحش الذي يحيط به أي ضياع
يضرب في أعماقه، إنه غريب حتى داخل جلده الخاص، لا ينتمي إلى أي شيء أو
مكان. المكان الوحيد الذي يشعر بالانتماء إليه هو أول كلمة ينطق بها بعد
صمت دام لنصف ساعة من زمن الفيلم؛ باريس.
«باريس
تكساس» هي المكان حيث أخبرته أمه يومًا أنها مارست الحب هناك لأول مرة مع
والده، رغبته في العودة لهذا المكان حيث بدأ كل شيء، هي في عرف التحليل
النفسي رغبة في العودة لرحم الأم، والتي تعادل الرغبة في الموت أو الميلاد
من جديد، إنها سعي للمكان الوحيد الآمن في وسط عالم كل ما فيه مهدد. لقد
هام على وجهه في صحراء تكساس لأربعة أعوام دون أن يعثر عليها. لكن ماذا جرى
في حياته السابقة ليصل إلى نقطة اللاعودة هذه؟
لدى ترافيس تعلُّق طفولي بالأشياء، في طريق العودة إلى لوس
أنجلوس مع أخيه يصر على الرجوع بالسيارة نفسها التي استقلاها سابقًا، لا
يرغب في الطيران لأنه سيبتعد عن الأرض، وكأنه يخشي أن يضيع تمامًا، أو
ينفصل الحبل السري الذي يربطه بأمه الأرض.
هذه الطفولية التي تحكم سلوك ترافيس بعد عودته هي نكوص
طفولي أحدثته صدمة الفقد، يبدو كما لو كان طفلًا يتعلم الكلمات ومعاني
الأشياء من جديد، إنه مجرد ظل أو شبح للرجل الذي كانه يومًا.
كل ما نعرفه أن زوجته هجرته مع ابنه وأنه هام بعدها على
وجهه في الصحراء، يُبقي الفيلم ما حدث غامضًا حتى اللحظات الأخيرة، حيث
نتعرف عبر مشهد البوح الأيقوني الذي يجمعه بزوجته السابقة على طبيعة
العلاقة بينهما التي يمكن أن تُحدث مثل هذا الدمار الذي لحق بطرفيها.
ما يحكيه ترافيس عن علاقته بزوجته جين/ناستازيا كينسكي يكشف
عن نوع استحواذي من الحب أشبه بتعلق الطفل بأمه، إنه يتوقف عن الذهاب إلى
عمله كي لا يبتعد عنها، وحين تكشف له عن حلم الهرب المتكرر الذي يباغتها في
نومها يقوم بربط جرس في كاحلها كي يسمع خطواتها إذا ابتعدت. علاقة بمثل هذه
الطبيعة عليها أن تنتهي مثل هذه النهاية التراجيدية.
بعد لقائه من جديد بزوجته يدرك أنه لم يتعافَ أبدًا مما
حدث، لكنه يُقرر أن يلم شمل الطفل وأمه محاولًا ترميم الصدع بينهما الذي
أحدثه انفصال الوالدين، بينما ينطلق هو نحو المجهول مثلما رأيناه أول مرة
وكأن كل هدف عودته هو إعادة الطفل إلى أمه، إلى حيث ينتمي. حكاية شاعرية عن
الحب كتراجيديا.
5. The best intentions
كان السويدى الكبير إنجمار برجمان قد اتخذ قرارًا بالابتعاد
عن الإخراج السينمائي عام ١٩٨٢ بعد فيلمه «فانى وألكسندر»، لكنه لم يتوقف
عن الكتابة. كتب خلال هذه الفترة سيناريو أشبه بسيرة ذاتية عن حكاية والديه
مستلهمًا ذكرياتهما خلال عقد من الزمن، يبدأ بلقاء طالب لاهوت فقير يحمل
لقب برجمان بابنة عائلة أرستقراطية تدعى آنا، مرورًا بتفاصيل حكاية حبهما،
وينتهي بآنا حاملًا في طفلها الثاني الذي سيكون انجمار نفسه.
برجمان هو الذي اختار الدنماركي بيللي أوجست لإخراج نصه
الذاتي. كان أوجست قد فاز بالسعفة الذهبية عام ١٩٨٨ عن فيلمه
pelle the conqueror،
وبهذا الاختيار كان برجمان وكأنه يهديه سعفته الثانية. أخرج أوجست نص
برجمان كمسلسل من ٦ ساعات لعرضه على التلفزيون السويدي، ثم اختزله لفيلم من
٣ ساعات للعرض السينمائي. هنا كثير من مشاهد الحوارية في حجرات مغلقة
وتحمل مواجهات متفجرة، والتي طالما برع برجمان في كتابتها.
يشرح برجمان في نصه كعادته العلاقات العائلية كما العلاقات
العاطفية. العلاقة المضطربة بين السيد برجمان وآنا تحمل اضطراب عصرها وصدى
تبدلاته. أداءات تمثيلية هائلة. العمل الإخراجي لأوجست على نص برجمان خلق
شيئًا أكثر رومانسية وأقل قسوة وربما أكثر شاعرية.
6. Barton fink
هذا واحد من أفلام تشارلي كوفمان المفضلة والذي يعيد
مشاهدته مرارًا. ربما يحكي الفيلم على نحو ما حكاية كوفمان نفسه مع هوليود.
العمل الرابع للأخوين كوين، والذي جذب الأضواء والتقدير العالمي لسينما
الأخوين حين فاز للمرة الأولى والأخيرة حتى هذه اللحظة بثلاثة جوائز من
مهرجان كان عام 1991 وهي السعفة الذهبية، أفضل إخراج وأفضل ممثل. كان رومان
بولانسكي هو رئيس لجنة التحكيم التي منحت الفيلم جوائزه الثلاث. لدينا
الكاتب المسرحي بارتون فينك بأداء استثنائي من جون تورتورو، الذي تنهال
عليه عروض كثيرة للعمل في هوليود بعد النجاح الكبير الذي حققه عمله المسرحي
الأخير على مسارح برودواي مطلع أربعينيات القرن الماضي.
بارتون الحالم بمسرح جديد يتحدث فيه عن بشر عاديين، والكاره
لهوليود واستغلال استوديوهاتها الكبرى، يترك حلمه ويتجه نحو هوليود، على
اعتبار أنها وظيفة مؤقتة، وربما آملًا في أن يعبر عن شيء من أفكاره
الحقيقية، لكنه يتم تكليفه بكتابة فيلم عن المصارعة. تحت وطأة صراعه
الداخلي، واغترابه، يجد نفسه عاجزًا تمامًا عن الكتابة. الفيلم الذي بدأ
واقعيًّا تمامًا، ينقلب في النهاية إلى كابوس سريالي. مزيج أنواعي فريد
يجمع بين الكوميديا السوداء والإثارة والرعب. الفيلم في إحدى طبقاته بلا شك
هجائية لاذعة لهوليود آنذاك وتقاليدها التي تستعبد أرواح المبدعين.
7. Underground
كتبت ديبورا يانج محررة
variety
بعد مشاهدة الفيلم في مهرجان كان 1995، إذا كان فيلليني قد أخرج فيلمًا عن
الحرب فإنه بالتأكيد سيشبه هذا الفيلم. لم تكن تلك السعفة الأولى التي يحصل
عليها أمير كوستوريتسا مخرج الفيلم فقد سبق أن فاز به قبل عقد من الزمن
بالتمام في 1985 عن فيلمه
«When Father Was Away on Business».
في مطلع التسعينيات ومع الحرب الطاحنة الدائرة في وطنه، حيث
كانت حرب الإخوة تسقط القناع عن زيف حلم الوطن الموحد. كان كوستوريتسا
يشاهد بعيون مفتوحة على اتساعها النهاية المريرة لوطنه الذي انزلق إلى
دائرة من دوائر الجحيم لا مخرج منها. كان عليه إذن أن يصنع فيلمه هذا وإلا
أصابه الجنون. مع مشهدية أقرب إلى سيرك كبير، أو حديقة حيوان مفتوحة، حيث
هذه المشهدية هي الأنسب لفوضى مشاعره وعبثية الوضع في بلاده.
يصف «كوستوريتسا» فيلمه في أحد حواراته بقوله: «إنه كوميديا
سوريالية، سمحت بالإبقاء على عقلي سليمًا».
يتتبع
الفيلم الصديقين ماركو وبلانكي اللذين يقعان في حب ناتاليا ممثلة المسرح
الوطني، وعلى خلفية قصة الحب تلك بتعقيداتها وتشابكاتها تدور الحرب. يقسم
كوستوريتسا فيلمه إلى ثلاثة فصول، الحرب والحرب الباردة والحرب، وكأننا
أمام حرب لا تنتهي!
يمزج كوستوريتسا في سرده الفيلمي بين الوثائقي والمتخيل،
بين الواقعي والسوريالي في نسيج فريد يشكل رؤية بانورامية تمتد لما يقارب
خمسة عقود من الزمن ليوغوسلافيا، خالقًا مرثية حزينة للوطن الذي كان.
8. Eternity and a Day
كان مارتن سكورسيزي هو رئيس لجنة التحكيم التي منحت ثيو
أنجيلوبولوس السعفة الذهبية عن فيلمه الأبدية ويوم. ربما هذا سبب آخر لمحبة
سكورسيزي. أنجيلوبولوس هو أحد شعراء مملكة السينما، إذ تنحاز سينماه دائمًا
لما هو شعري. يقول في أحد حواراته: «أنا لا أحاكي الواقع بل أخلق رؤيتي
الخاصة، السؤال الذي أطرحه على نفسي طيلة الوقت هو كيف أستطيع أن أحول
تجاربي الشخصية إلى شعر”.
في (الأبدية ويوم) يرصد أنجيلوبولوس اليوم الأخير في حياة
شاعره ألكسندر (برونو جانز)، يتذكر الشاعر حياته الماضية التي أمضاها في
عزلة عن العالم وعن الذين أحبوه من أجل الكتابة. يحاول ألكسندر أن يتصالح
مع ماضيه ومع غده المجهول.
يقضي الشاعر يومه الأخير متجولًا في شوارع مدينته
تيسالونيكي. ينشغل عن استعدادات علاجه بمساعدة طفل لاجئ من ألبانيا صادفه
أثناء تجواله في شوارع المدينة، ليجدد من خلال علاقته به صلته التي انقطعت
عن العالم ويكشف في روحه عن إمكانات جديدة للحب. مثلما يترك أعماله الشعرية
غير منجزة منشغلًا باستكمال قصيدة كتبها شاعر من القرن التاسع عشر يدعى
(سولومون). سولومون عاش في إيطاليا غريبًا عن اليونان يعذبه الحنين إليها
حالمًا كل ليلة بوجه أمه التي لا تزال هناك، وحين علم بقيام ثورة في
اليونان قرر العودة، لكنه حين عاد عاش غربة أكبر هي غربة اللغة. أراد أن
يغني للثورة في بلاده لكنه كان غريبًا عن لغته الأم، لذا كان يتجول في
شوارع مدينته يشتري من الناس الكلمات التي يسمعها للمرة الأولى، كأنما يضمد
بهذه الكلمات نزيف غربته. في غربة الطفل الألباني وفي غربة سولومون كان
ألكسندر ينصت إلى صدى غربته الخاصة.
تعتمد
أسلوبية أنجيلوبولوس حركة كاميرا ناعمة ومتمهلة في لقطات طويلة تسمح للزمن
أن يتنفس في سينماه. يرى نقاد أنجيلوبولوس أن الزمن هو وسيطه الشعري، حيث
تطفو شخصياته بين كوادر الزمن وعكس جاذبية السرد الذي يفتقر إلى حبكة
تقليدية.
كل أفلام أنجيلوبولوس تتضمن رحلة ما. هنا رحلة ألكسندر هي
رحلة باطنية أكثر مما هي واقعية، سفر بين الحلم والذكريات يتجول خلاله شاعر
أنجيلوبولوس على التخوم بين الموت والحياة بصحبة ملاك صغير باحثًا عن معنى
أخير لحياته.
9. The tree of life
يعود مشروع فيلم شجرة الحياة إلى عقد السبعينيات، وطالما
شعر ماليك تجاهه بافتتان غامض، كان النص البدئي الذي كتبه للفيلم يحمل
عنوان
(Q)،
وكان قد أرسله عبر سنوات للعديد من مديري التصوير حول العالم طالبًا منهم
أن يصوروا له مآثر الطبيعة. كان على هذا المشروع أن ينتظر عدة عقود كي يرى
النور. هذا الفيلم هو أيضًا أكثر أفلام ماليك ذاتية، فهو يتشارك مع بطل
فيلمه نشأته في أحد ضواحي تكساس، ومعاناته من أب متسلط وفاجعة موت/ انتحار
أخيه الأصغر.
يعتمد ماليك نوعًا من السرد المتشظي، حيث يغمر الشاشة فيض
من الصور والأصوات (أغلبها مونولوجات داخلية هي أحد بصمات ماليك
الأسلوبية). لا يسعى مالك إثر حبكة ما، بل وراء لحظات، مشاعر، جو عام. هذا
الفيلم هو ذروة تعاون الثنائي ماليك/ إيمانويل لوبزكي، الكاميرا المحلقة،
والعدسات الواسعة، وزوايا تصوير غير اعتيادية، يعتمدان في التصوير أسلوبًا
طبيعيًّا، يعتمدان كليًّا على الإضاءة الطبيعية والأماكن الطبيعية.
يعيد نص ماليك السينمائي طرح الأسئلة الفلسفية القديمة،
سؤال المعنى، معنى الوجود، والموت، كيف يسمح الرب بوجود الشر والمعاناة في
العالم، يتساءل جاك الطفل في مونولوجاته بعد أن كان شاهدًا على موت أحد
الأطفال: لقد تركت طفلًا يموت؟ أين كنت؟ لماذا أكون خيِّرًا، إن لم تكن أنت
كذلك؟
تتواصل مونولوجات جاك بعد أن صار رجلًا، مونولوجات أقرب إلى
ترانيم، صلوات، تكشف عن أكثر رغباتنا حميمية، أشواقنا السرية، وحيرتنا التي
لا تنتهي. مونولوجات ماليك لا تنكر وجود الرب، أو تشكك في وجوده بل تكشف عن
عجز الإنسان عن فهم خطط الرب وطرقه الغامضة.
شخصيات
ماليك دائمًا في حالة من الشرود، تائهون داخل أنفسهم وداخل العالم. هذه
أصداء فلسفة هايدجر في سينما ماليك، وهايدجر – أحد ملهمي ماليك – طالما
تحدث عن أن وجود الانسان في العالم موسوم بالغرابة، بشعور الإنسان أنه ليس
في بيته، بل غريب.
نشاهد جاك/ شون بين رجلًا تعيسًا، رغم نجاحه الوظيفي، في
اللقطات القليلة التي تظهر زوجته، لا يوجد بينهما أي تواصل، نراه ضائعًا في
كادرات باردة وشاسعة، مطوقًا ببنايات عملاقة، هي أبعد ما يكون عن الطبيعة
التي نشأ في قلبها. استخدم العدسات الواسعة هنا، واللقطات القريبة يؤطر هذه
العزلة حتى داخل محيطه الحميمي، داخل بيته.
تحت وطأة الذكريات الملحة، يدرك جاك وجودًا آخر، شيئًا أقرب
إلى فردوس مفقود، يستعيد علاقته بأمه التي تجسد طريق النعمة الإلهية،
وعلاقته المتوترة بوالده الأقرب لتجسيد طريق الطبيعية. في مشهد النهاية
المدهش، حيث يلتقي الجميع علي شاطئ الأبد، تهمس الأم وهي مغمورة بالضوء:
لقد منحتك إياه، منحتك ابني.
بعد هذا التتابع نشاهد جاك يبتسم للمرة الأولى. ينهي ماليك
فيلمه بنغمة القبول، قبول الفقد والموت، غموض العالم، وغموض الرب.
10. Shoplifters
كنت أفضل الترجمة الحرفية لعنوان الفيلم باليابانية، وهو
عائلة من سارقي المتاجر، بدل الاكتفاء فقط بسارقي المتاجر في ترجمته
الإنجليزية، فالسؤال الرئيسي في فيلم المخرج الياباني كوري إيدا هيروكازو
المُتوَّج بسعفة كان عام 2018 هو سؤال عن معنى العائلة، وهو سؤال ليس بغريب
على سينما كوري إيدا الذي تُمثِّل الدراما العائلية موضوعه الأثير، طبيعة
العلاقات داخلها والديناميات النفسية التي تحكمها.
في «سارقو المتاجر» لدينا عائلة غير بيولوجية تقيم في سكن
شديد التواضع ويعيشون على سرقة المتاجر، ودخول ضئيلة من وظائف غير دائمة،
لكن هناك حسًّا إنسانيًّا بالتعاطف والقرابة الحقيقية يسود داخل هذه
العائلة التي تُخفي الكثير من الأسرار التي ستنكشف تباعًا قرب نهاية الفيلم.
كوري إيدا شديد التعاطف مع أبطاله، لا يُحاكمهم، لكنه فقط
يتساءل عن أخلاقية بعض الأعمال التي تتجاوز الصواب القانوني ويضع تجريمها
في موضع شك.
في الربع الأخير من الفيلم، وحين تنفلت الأسرار المخفية،
يُحوِّل أسئلته إلى استجواب رسمي. هنا تظهر الدولة للمرة الأولى في الفيلم.
فيلم كوري إيدا يحمل وعيًا اجتماعيًّا حادًّا، في أحد المشاهد يتحدث الزوج
والزوجة عن الطفلة المُنضمّة حديثًا إلى عائلتهم، تقول الزوجة: “إذا كانت
أمك تتمنى لو أنها لم تُنجبك، فستعيش عادة كما نعيش الآن».
يبدو كوري إيدا الآن كما لو كان وريث المعلم الياباني
ياسوجيرو أوزو، الذي كانت العائلة أيضًا موضوعه الأثير، هناك تأثر واضح
بأوزو في لقطات التاتامي (لقطات مأخوذة من زاوية منخفضة كما لوكانت
الكاميرا تجلس على الأرض إلى جوار الشخصيات) وسكونية الكاميرا ودقة
التكوينات.
حين يهمس الطفل في النهاية: «أبي»، وهو يستقل الباص
مُبتعدًا عن ذلك الرجل الذي لا تربطه به أي علاقة بيولوجية، هنا يتردد
بداخلنا سؤال كوري إيدا: ما العائلة؟
فيلم كوري إيدا هو احتفاء بجمال اليومي وعذوبة العادي. فيلم
واقعي، سينتمنتالي وشاعري. |