يوميات مهرجان كان 76 (10): سكورسيزي و”قتلة قمر الزهور”
أمير العمري
مهما طال الزمن لابد أن يأتي أخيرا الكشف عن الجرائم التي
وقعت ضد السكان الأصليين في أمريكا، سواء من خلال وثائق جديدة أو فيلم
سينمائي جديد يكشف الحقائق الدامغة. وأخيرا جاء العرض العالمي الأول للفيلم
الأكثر انتظارا وهو فيلم مارتن سكورسيزي الجديد “قتلة قمر الزهور”
Killers of the Flower Moon (1976)
الذي عرض في دورة مهرجان كان السينمائي الـ76.
يجمع
سكورسيزي في فيلمه، بين بطله المفضل منذ “سائق التاكسي” (1976) روبرت دي
نيرو، وبطل أفلامه الستة الأخيرة، ليوناردو دي كابريو، مع الممثلة التي
ولدت نجمة، “ليلي جلادستون”. والفيلم مقتبس عن كتاب من تأليف ديفيد جران،
يحمل عنوانا فرعيا الى جانب العنوان الأصلي نفسه هو “جرائم أوساج ومولد
مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI“،
كتب له سكورسيزي السيناريو مع “إريك روث”. ويقوم
موضوع الفيلم على أحداث حقيقية.
هذا عمل آخر ملحمي كبير يسير فيه سكورسيزي على نهج كثير من
أفلامه التي كان يسعى فيها للكشف عن الجانب الآخر من تاريخ أمريكا، كيف
ولدت وأصبحت دولة، من خلال القتل والعنف وسفك الدماء والتوسع والسيطرة ونمو
النهم الرأسمالي والاحتكارات بحيث أصبحت السلطة تعني المال، والمال يعني
السيطرة، مع التخلي عن كل القيم وتبرير القتل من أجل مزيد من الاستحواذ.
لا أتفق مع اعتبار الفيلم من نوع “الويسترن” أي أفلام الغرب
الأمريكي. صحيح أن لدينا هنا ما يسمى بـ “الهنود الحمر” (أو السكان
الأصليين)، والبيض الأمريكيين، ومواكب واستعراضات ركوب الجياد، كما أن هناك
مشاهد لإطلاق الرصاص والقتل، قتل البيض للسكان الأصليين، ولكنه ليس فيلم
مغامرات بحثا عن الذهب، ومطاردات ومبارزات بالمسدسات.. إلخ. بل هو فيلم عن
الصراع من أجل الهيمنة وتراكم الثروة، لذا يمكن اعتباره أكثر قربا من فيلم
مثل “سيكون هناك دم” أكثر من أفلام “الويسترن”.
كان سكورسيزي دائما مهتما بالشخصية المأزومة، تلك التي
تعاني من عدم القدرة على الاتساق أو الاندماج مع محيطها، وقد يدفعها شعورها
الحاد بالاغتراب، إلى الجريمة والعنف. ومعظم شخصيات أفلامه لا تختار
مصائرها تماما، بل تبدو مدفوعة بقوى قدرية. وهي شخصيات مركبة، تعبر أفضل ما
يمكن، عن مزاج سكورسيزي نفسه، كإيطالي- أمريكي من نيويورك، لا يكف منذ أول
أفلامه، عن توجيه سهام النقد للثقافة الأمريكية السائدة، وللمجتمع الأمريكي
عموما.
وشأن معظم أفلام سكورسيزي، تدور أحداث فيلمه الجديد “قتلة
قمر الزهور”، في الماضي، وحول شخصيات إجرامية، تمارس العنف والقتل من أجل
الاستحواذ، لذا يمكن اعتباره أقرب إلى أفلام سكورسيزي المماثلة مثل “عصابات
نيويورك”، وفيلم “الأولاد الطيبون”. الفرق أن بطله الأصغر سنا، لا يعاني
كثيرا، فهو لا يتمتع بالضمير أو بالحس الأخلاقي الذي يعذبه، بل إن غلبة
الجشع على الحب لا تؤرقه ولا تجعله يتمزق أو يعاني ليصبح أحد أبطال
سكورسيزي “المأزومين”، فليست لديه أزمة، وهذه هي المفارقة الدرامية الخطيرة
التي تجعل شخصية “إرنست بوكهارت” التي يقوم بها في الفيلم “ليوناردو دي
كابريو”، شخصية جديدة على سينما سكورسيزي.
“قتلة
قمر الزهور” فيلم من أفلام الجريمة والتحقيق البوليسي، لكنه يدور في سياق
تاريخي، يستند إلى حقائق ووقائع، ذات صبغة درامية مثيرة، لا يرمي لتحقيق
الاستمتاع للمشاهدين، فهو يروي فترة “سوداء” في التاريخ الأمريكي، ذات صلة
بإبادة السكان الأصليين، كما تجسد دراميا، التبرير (القانوني) للمذابح
والتصفيات العرقية من أجل الاستيلاء على الأرض بما في جوفها من كنوز، أي من
أجل إشباع غريزة الجشع المتأصلة التي دفعت الرجل الأبيض من الأساس،
للاستيطان في الأراضي الأمريكية الشاسعة.
نحن في أوائل العشرينات من القرن العشرين، في منطقة من
ولاية أوكلاهوما الجنوبية، هي منطقة تقطنها قبيلة “الأوساج” من السكان
الأصليين. وقد انحصروا في تلك المنطقة الصغيرة بعد أن تم التآمر عليهم
ودفعهم خارج أراضيهم الشاسعة التي سكنوها وأقاموا عليها لآلاف السنين قبل
وصول الرجل الأبيض. وانتهى الأمر إلى استقرارهم داخل محمية خاصة بموجب
اتفاق مع الحكومة الأمريكية.
يفتتح سكورسيزي الفيلم بمشهد مصمم على غرار الجريدة
السينمائية الصامتة، يستعرض خلالها تاريخ قبيلة أوساج إلى حين استقرارهم في
تلك المنطقة، ثم كيف أدى اكتشاف النفط فيها إلى أن أصبحت من أكثر مناطق
الولايات المتحدة ثراء. ومع تدفق الأموال والانفاق السريع لها، صدر عن
الكونغرس الأمريكي تشريعا ذي صبغة عنصرية، يعتبر الكثير من أفراد الأوساج
غير أكفاء أي لا يمكنهم التحكم في أموالهم بأنفسهم، وبالتالي إسناد أمر صرف
أي أموال لهم (من أموالهم) إلى رجال المصارف وغيرهم، مقابل الحصول على نسبة
لأنفسهم، مع إرغامهم على شراء وثائق تأمين على الحياة بأسعار مرتفعة كثيرا،
مقابل إقراضهم المال. وكان المال قد أصبح يتدفق بوفرة بسبب استثمارات
النفط في أراضي الأوساج. وسرعان ما ظهرت مظاهر النعمة والثراء عليهم،
فاشتروا المنازل الكبيرة الجميلة، والملابس الثمينة والمجوهرات، واستأجروا
السيارات الفاخرة التي كانت قد بدأت في الظهور على استحياء في تلك الفترة.
وأصبحت أرض الأوساج بالتالي، مصدر طمع الرجل الأبيض. فما العمل إذن؟
الخطة التي يتفتق عنها ذهن كبير سكان المنطقة “وليم هايل”
الذي يطلق على نفسه “كنغ”
King
أو الملك (ويقوم بدوره روبرت دي نيرو) تتلخص في تزويج الشباب البيض من
فتيات الأوساج، ثم التخلص تدريجيا بالتصفية والقتل من الأوساج بحيث تعود
ملكية الأرض إلى الزوج، ويمكن بالتالي المحافظة على الملكية بحيث لا تخرج
من أيديهم. وهو يطرح هذه الخطة باعتبارها قانونية تماما وحقا من حقوق
الأمريكيين البيض. وفي الوقت نفسه، يقدم نفسه باعتباره صديقا لجماعة
الأوسان، الذين يجلونه ويحترمونه، فهو- كما يقول- الذي بنى لهم المدارس
والمستشفى.. وغير ذلك.
انتشرت فكرة الزواج المختلط. تزوج عشرات الشباب من فتيات
الأوسان، وأنجبوا منهن أطفالا، واستمرت المؤامرات للاستحواذ على الأرض،
وانتشرت جرائم القتل، قتل الزوجات وأقاربهم في ظروف غامضة متعددة مختلفة،
لكن الأمر لا يخلو بالطبع من قصص حب حقيقية تصبح حجر عثرة في طريق الخطة،
وهو ما يقتضي التعامل مع الطرفين في هذه الحالة، أي تصفية كل من امرأة
الأوساج ورجل الجماعة الأمريكية البيضاء معا. إننا بصدد جريمة منظمة يشارك
فيها عشرات الرجال، مع السيطرة على رجال الشرطة وشراء صمتهم بل وجعلهم جزءا
من الخطة نفسها أيضا. وأمكن بالتالي أن تمر سلسلة الجرائم التي راح ضحيتها
العشرات من الأوساج في أوقات متقاربة كثيرا، والتي تمر من دون أي تحقيق.
يروي فيلم “قتلة قمر الزهور” قصة تدور أساسا، حول ثلاثة
أشخاص: الأول هو “وليم هايل” أو “كنغ” (روبرت دي نيرو) الذي يقود جماعة
الأمريكيين البيض في تلك المنطقة، وهو الرأسمالي صاحب النفوذ، الذي يمتلك
الضيعة والأبقار والقوة والمال والنفوذ، ويسيطر على الشرطة والبلدية، ويخطط
لجرائم القتل والتصفية والاستيلاء القانوني على الأرض، يخضع له الجميع
ويخشونه وينفذون أوامره. فهو مثل “الأب الروحي” للجميع، كما أنه قريب من
نموذج زعيم العصابة البارد الأعصاب الذي يحتوي الجميع من حوله كأنهم أبناؤه.
الثاني هو “إرنست بوكهارت” (ليوناردو دي كابريو)، ابن شقيق
“كنغ”، العائد إلى البلدة بعد أن خدم في صفوف الجيش الأمريكي في الحرب
العالمية الأولى في أوروبا. هدفه الوحيد الحصول على أي عمل، فهو مجرد من
المواهب، محدود الطموح، لكنه يفصح من البداية عن حبه للمال والويسكي. يلحقه
عمه بالعمل كسائق لسيارة أجرة من سيارات شركته، ثم يقود السيارة لفتاة
حسناء من الأوساج هي “موللي” (ليلي غلادستون) التي تعجب بوسامته وتطلق عليه
“الكايوت” (أي الذئب بلغة القبيلة)، وتقول لشقيقاتها إن “الكايوت يريد
المال” لكنها رغم ذلك، تقع في حبه، كما يقع هو في حبها. ويشجعه عمه على
الزواج منها ويشرح له آلية نقل الأرض والممتلكات الخاصة بعائلتها إليهم.
ويتزوج الاثنان في مشهد بديع حيث يقيم الأوساج احتفالا مليئا بالأغاني
والموسيقى والرقص من ثقافتهم وتراثهم الذي يوشك على الدمار.
يوظف “كنغ” “إرنست” كوسيط في عمليات التصفية والقتل التي
تشمل شقيقات “موللي” الثلاث وأمها. ثم تشيع الفوضى في البلدة: وتقع أعمال
حرق بيوت، وإطلاق رصاص، وتصفية وترويع وقتل بطرق مختلفة يجيد سكورسيزي
تصويرها بحكم خبرته في أفلام الجريمة.
ينجب إرنست أربعة أبناء من زوجته الجميلة التي سلمت قيادها
له تماما، فهي لا تشك أبدا في سلوكه. لكن طمعه وجشعه وبلادة حسه، تطغى على
حبه لها، فعندما تمرض بمرض السكري، يأتي لها “كنغ” بدواء ظهر حديثا هو
“الأنسولين”، يقوم بمساعدة الأطباء، بخلطه بمادة سامة، ويطلب من إرنست أن
يحقنها به يوميا (لكي يجعلها أكثر هدوءا)، فقد بدأت تتشكك فيما يجري من
جرائم خصوصا مع عمليات التصفية التي تنال من شقيقاتها وأمها، وتدريجيا
تتدهور صحة موللي، ولكنها تتحامل على نفسها وتذهب الى واشنطن حيث تشكو
للرئيس الأمريكي أمام البيت الأبيض من تلك الحملة التي تهدف الى إبادة
أبناء قبيلتها من السكان الأصليين، فيأمر الرئيس بالتحقيق في سلسلة جرائم
القتل في تلك المنطقة، وهنا يدخل الى الفيلم فريق كتب التحقيقات الفيدرالي
الذي كان في بداياته الأولى في تلك الفترة، بقيادة المحقق “توم هوايت”
(جيسي بليمونز) الذي يبرز دوره في الفيلم في الساعة الأخيرة، ثم تبدأ
التحقيقات والتعقب والإيقاع واللجوء للحيلة والدهاء من جانب “هوايت” لتضييق
الخناق تدريجيا حول “كنغ” وعصابته ومن بينهم بالطبع، “إرنست”.
لعل أكثر ما يثير التساؤل في هذه الحبكة الدرامية، تلك
العلاقة الغريبة الغامضة بين “إرنست” و”موللي”. فالحب يجمع بينهما، كما
يبدو إرنست أباً صالحا محبا لأبنائه لكنه رغم ذلك، لا يبالي بعواقب أفعاله،
صحيح أنه يبدو أحيانا متألما لما يضطر إليه تحت ضغوط عمه وسيطرته المطلقة
عليه، كما يمكن أن يبدو على وشك التمرد عليه، إلا أنه يعود ليستسلم ويرضخ،
فهو معدوم الإرادة، ضعيف الشخصية، يفتقد للذكاء وروح الاستقلالية. لذلك
يواصل حقن زوجته بالمادة السامة لكي ينهي حياتها تدريجيا.
أما “موللي” فهي تحبه وتستمر في حبها له حتى بعد أن تحيط به
الشبهات ثم يقبض عليه ويساق للمحاكمة بعد أن يجد المحقق ما يثبت ضلوعه في
مقتل شقيقات موللي. هذا الحب الأقرب إلى الإيمان المطلق، تشوبه مسحة من
الغموض في الفيلم، فالأمر يطول كثيرا إلى أن تدرك “موللي” الحقيقة بعد أن
يثبت الأطباء وجود السم في حقن الأنسولين التي كان يحقنها بها.
هل يمكن أن يحسم”إرنست” الجبان، المتردد، العاجز، أمره في
النهاية ويفعل كما فعل “هنري هيل” بطل فيلم سكورسيزي الشهير
“الأولاد
الطيبون”، أي يتخذ موقف “شاهد الملك” ويشهد ضد عمه وعصابته؟
إننا أمام عمل يروي فصلا مرعباً من فصول نشأة أمريكا
الرأسمالية، يرويها سكورسيزي من خلال لغة سينمائية رفيعة، ترقى إلى أبلغ ما
وصل إليه فن السينما: سيناريو يستبعد ما لا يراه مهما، ويركز على التفاصيل
التي تخدم الموضوع، وتصوير يعبر أفضل ما يكون عن البيئة الطبيعية في تلك
المنطقة في عشرينيات القرن العشرين، مع قدرة مدير التصوير الكبير “رودريغو
بريتو” الذي تعاون مع سكورسيزي من قبل في أفلامه الثلاثة الأخيرة، على
التصوير الدقيق لطبيعة المكان والفترة، مع إعادة تصميم الأماكن الشوارع
والمنازل بحيث تضاهي تماما ما كان قائما، واستخدام مبهر لمجموعات الممثلين
الثانويين ومنهم أكثر من40 شخصية من السكان الأصليين شاركوا في الفيلم في
أدوار ثانوية ورئيسية ناطقة، مع عشرات آخرين في أدوار الكومبارس، مع قدرة
هائلة على السيطرة على عدد من أضخم المشاهد الخارجية في تاريخ السينما،
ومحاكاة من خلال الصورة والصبغة اللونية والمونتاج لأفلام العصر الصامت، مع
المونتاج الدقيق الذي لا يترك أي تفصيلة زائدة داخل المشهد، والذي قامت به
كالعادة، مونتيرة أفلام سكورسيزي المرموقة “ثيلما سكونماكر”.
يسير الفيلم في إيقاع ملحمي متدفق، ينتقل بين الداخل
والخارج، لا يفقد أبدا إيقاعه حتى في مشاهد المحاكمة في الجزء الأخير، في
عمل يستغرق ثلاث ساعات و26 دقيقة، يستولي عليك وكأن له تأثيرا منوما يسرق
المشاهدين، ويسيطر عليهم، إنه عمل شجاع كاشف يتمتع بأسلوب سينمائي بليغ،
يفيض بالشعر، رغم ما يتضمنه من مشاهد عنيفة. ينتقل سكورسيزي من الأبيض
والأسود إلى الألوان، ومن مشاهد الطبيعة الخلابة في تلك المنطقة من
أوكلاهوما، إلى مشاهد الداخل ذات الألوان القاتمة (البني والأصفر
والرمادي)، ومن المشاهد الحميمية بين إرنست وموللي، إلى المشاهد الضخمة
التي تضم آلاف الممثلين الثانويين.
وكما هي عادة سكورسيزي في أفلامه، فهذا فيلم شخصيات أكثر
مما هو فيلم حبكة، يوظف مخرجه أسلوب الإثارة البوليسية ليس من أجل الإثارة،
بل للكشف عن منهجية العنف والتصفية المدفوعة بالجشع والرغبة في الاستحواذ
على المال. وهي فترة يشعر سكورسيزي بأنها حالكة السواد في التاريخ الأمريكي
الحديث، لذلك فهو، وللمرة الأولى في أي فيلم من أفلامه، يظهر بنفسه في
المشهد الأخير من الفيلم، لكي يلقي كلمة تندد بما جرى وتدعو إلى مواجهة
الحقائق، والتعلم من دروس التاريخ وعدم تكرار ما حدث في الماضي، والتحذير
مما يحدث في أمريكا اليوم مع صعود اليمين الشعبوي العنصري.
يستخدم سكورسيزي التعليق الصوتي من خارج الصورة، كما في
الكثير من أفلامه، تارة من وجهة نظر المحقق الذي يروي تفاصيل القصة، وتارة
أخرى بصوت “موللي” التي تروي وتعلق على الجزء الأخير. وهي وسيلة تضفي على
الفيلم، الطابع التسجيلي الذي يتيح أيضا مساحة بين المتفرج وما يشاهده،
بحيث يقلل من درجة الاندماج مع الأحداث ويترك أمامه مساحة للتأمل.
هناك صور ومشاهد حية نابضة بالحياة لتقاليد ومظاهر حياة
أفراد قبيلة أوساج، واحتفالاتهم، وأعيادهم، ونظرتهم الدينية الخاصة،
واهتمام كبير بإبراز ملابسهم المزركشة الملونة البديعة. وقد تحدث سكورسيزي
وغيره من الذين شاركوا في الفيلم من الأوساج، عن المساهمة الكبيرة من
جانبهم في اختيار الملابس، بل وإضافة الكثير من التفاصيل التي لم يكن لها
وجود في السيناريو الأصلي للفيلم.
ولا شك أن من أكثر ما يرفع من مستوى الفيلم وقدرته على
الإقناع، أداء الممثلين خصوصا في الأدوار الثلاثة الرئيسية: روبرت دي نيرو،
الذي يتماهى تماهيا إعجازيا في دور “هيل”، يرتعش صوته وهو يتحدث عن
الاستحواذ، يتمتع بشخصية كاريزمية مؤثرة، يحبه الأوساج، يمكنه أيضا أن
يخاطبهم بلغتهم، إلا أنه يخفي وراء ذلك القناع السميك من الود، شراسة الجشع
والشر. وهو يردد ذات مرة: “أنا أحبهم، لكن عندما تدور الأرض، سوف يختفون”.
نحن لن نتعرف لأول وهلة على الممثل، فهو يذوب في الشخصية، بنغمة صوته
ولهجته الحادة، وساقه العرجاء قليلا، ووجهه النحيف الذي يأكله الجشع. هذا
أداء مادي وصوتي ، يعتمد على نظرات العينين وحركات الجسد واليدين، في تناغم
كامل مع الدور.
هناك ثانيا رونالدو دي كابريو، في سادس أفلامه مع سكورسيزي،
في دور (إرنست) وهو من أكثر الأدوار قبحا في تاريخه الشخصي: شخصية الباحث
عن المال، الذي يقع في الحب دون أن يثنيه الحب قط عن السقوط، وكلما حاول
التراجع يشده الجشع ويجعله يفقد إنسانيته، لا يتورع عن دفع زوجته التي يعرف
أنها تحبه، إلى الموت، فقد تغلغل الجشع ونجح “إغواء الشيطان” في قتل روحه.
في قلب الفيلم هناك شخصية “موللي” التي تؤديها بكل براعة
وجمال وسحر، “ليلي غلادستون”، شخصية شديدة الجاذبية، تتمتع بقوة الشخصية من
البداية، راسخة وواثقة، تتألم لمصير أسرتها، تحاول أن تمنع المستقبل القاتم
عندما تصر رغم محنتها المرضية على الذهاب الى البيت الأبيض. هي المرأة التي
تقع في الحب، وتصبح الزوجة المحبة التي ترعى أبناءها مع رجل تعرف أنه ضعيف
الشخصية، بل ربما يكون ضالعا أو متآمرا لكنها تأمن له، تبعد الشك عن نفسها،
لكنها تبدو من خلال نظرات عينيها وكأنها تدرك ما يجري، تريده أن يستيقظ وأن
يشعر بالذنب، إلى أن تستفيق في النهاية. غلادستون هي جوهرة الفيلم وروحه
النقية، وهي أيضا الشخصية النسائية الإيجابية الأولى في أفلام سكورسيزي.
بقي أن نعرف أن “قمر الزهور” تعبير كان يستخدمه السكان
الأصليون في أمريكا تعبيرا عن ظاهرة القمر المكتمل في شهر مايو حينما تنتشر
الأزهار في ربوع الأرض. والتعبير في عنوان الفيلم مجازي بالطبع.
هذا المقال نشر في موقع الجزيرة الوثائقية |