10 لحظات مع كوانتن تارانتينو في مهرجان كانّ
هوفيك حبشيان
حلّ #كوانتن
تارانتينو ضيفاً
على "اسبوعا المخرجين والمخرجات" للحديث عن كتابه "تكهّنات #سينمائية"
والكشف عن تفاصيل فيلم مفاجأة من اختياره. كان هذا اللقاء المنتظر أبرز ما
حدث في الدورة الأخيرة من مهرجان كانّ. روى المدير الفنّي جوليان رجل، أن
"ظلماً" لحق بالمخرج الأميركي في بداياته، حال دون دخول فيلمه "بالب فيكشن"
(1994) إلى هذا القسم الذي تنظّمه جمعية السينمائيين منذ عام 1969. الا ان
الظلم نفسه ساهم في فوزه بـ"السعفة الذهب"، بعدما أُدرج فيلمه هذا في
المسابقة. بدت الدعوة كنوع من معالجة للخطأ التاريخي، لبّاها تارانتينو
بحماسته المشهود لها.
صفّ طويل تكدّس أمام الصالة انتظر فيه مئات من روّاد
المهرجان، وجلّهم من الشباب الذين تأسس جزء من سينيفيليتهم على أفلام مثل
"كيل بيل" و"السفلة المجهولون" و"ذات مرة في هوليوود" وغيرها من أعمال هذا
المشاكس الذي حملته المشاهدة المشغوفة والنهمة إلى ما خلف الكاميرا.
دار الحديث بشكل أساسي انطلاقاً من "تكهّنات سينمائية" الذي
صدر العام الماضي، وهو أول الكتب التحليلية النقدية التي ألّفها صاحب "كلاب
المستودع"، ويضم عدداً من النصوص والنظريات والريبورتاجات التي تتمحور على
السينما الأميركية في السبعينات، أي كلّ تلك الأفلام التي نشأ عليها في سن
المراهقة عندما بدأ يعي حبّه للشاشة. وقد خصص فيه صفحات لأعمال مثل "هاري
القذر" و"سائق التاكسي" وغيرهما. ولا يخلو الكتاب من طابع شخصي، يلخّصه
تارانتينو على النحو الآتي: "كان في ودّي ان أكتب عن السينما وانتهيتُ
بالحديث عن سيرتي الذاتية".
كشف تارانتينو أيضاً فيلم المفاجأة الذي عُرض على جمهور
كانّ: "رولينغ تاندر" (1977) وهو من إخراج جون فلين. لم يختر العامل السابق
في متجر فيديو، المعروف بشغفه بالأفلام الدرجة الثانية (ما يُعرف بالـ"بي
موفي")، عملاً كلاسيكياً معروفاً، بل انتقى نصّاً سينمائياً مغموراً أشبعه
بالمديح والاطراء والشرح. جندي عائد من فيتنام (وليم ديفاين)، يُعتدى عليه
وعلى عائلته ويُترَك مبتور اليد، وعند خروجه من المستشفى يقرر الانتقام.
"فيلم ثأر" سبعيناتي، يرى فيه تارانتينو ما لا يراه غيره، ويكفي سماعه وهو
يتحدّث عنه، لينمو في داخلنا الشعور بالتعاطف.
لم يكن مَن جلس قبالتنا طوال ساعة ونصف الساعة هو المخرج
الذي تحمّسنا لأفلامه واستفزتنا تصريحاته، بقدر ما كان تارانتينو الذي لبس
زي الناقد ذي الرؤية المغايرة لسينما بلاده، محللاً ومعيداً النظر ومعترفاً
بالهفوات والأخطاء، متحدّثاً بإيقاع سريع وشغف ولهفة، مستخدماً كلمات نابية
في بعض الأحيان، سائلاً ومتسائلاً كأنه داخل جلسة لمصارحة الذات، هذا كله
في ضوء ما نعيشه من اعادة ترتيب لكلّ شيء على مستوى المفاهيم.
1 – "رولينغ تاندر": هذا الفيلم جعلني أقبض نفسي كناقد
"أود ان أقول شيئاً واحداً عن "رولينغ تاندر": اعتقدتُ أني
كنتُ اكتشفته ولم يكن يعرفه أحدٌ سواي، ما عدا الذين شاهدوه بالمصادفة عند
عرضه في الصالات. مع الوقت، أدركتُ ان هناك نوعاً من تقديس له من بعض
الهواة، ومَن كان شاهده وأُعجِب به وضعه في لائحة أفلامه المفضّلة. في
السبعينات، لم تكن هناك وسيلة لنعرف ذلك عبر التواصل بعضنا مع بعض. أقصى ما
كان يمكن ان تسمعه هو ان أحدهم شاهده وأحبّه. هذا الفيلم جعلني نوعاً ما
أقبض نفسي على محمل الجد كناقد سينمائي، مع العلم أنني لم أكن أكتب كثيراً.
وكنت أكرر مشاهدته، ليس فقط من أجل الاستمتاع بمشاهد الحركة، بل لأشاهد
كيفية استقبال الجمهور له. في كلّ مرة عُرض الفيلم في صالة مكتظة كهذه، كان
رد فعل الجمهور دائماً شبيهاً برد فعله هذا المساء. لكن، أستطيع أيضاً ان
أشاهده مع جمهور من 15 مشاهداً، لا بل مع جمهور من 6 مشاهدين، وسأظل أهتم
برد فعلهم.
كلّما "أعطيتُ" هذا الفيلم، ردّ لي الجميل أكثر. مع الوقت،
زادت قدرتي على رؤية جوانب من الشخصية التي كتبها بول شرايدر وهايوود غود،
وتحديداً أداء وليم ديفاين. ففي مرحلة من المراحل، بدأتُ أعي انه ما عاد
يهتم بزوجته، بل أصبح ينتقم لابنه. وهو واضح في هذا. في لحظة، سيذهب وينتقم
شاهراً سلاحه. هذا ما سيفعله عندما يدهم الماخور ويقتل كلّ مَن فيه بالسلاح
الذي أهداه اليه ابنه ترحيباً به يوم عاد من الجبهة.
لاحظتُ وأنا أشاهد الفيلم هذا المساء، شيئاً لم أكن لاحظته
سابقاً. عندما تزوره ليندا فورشيت في المستشفى وهو على الفراش ولم يكن قد
رآها بعد، نراها ترغب في المغادرة من دون ايقاظه من النوم حتى. مع ذلك،
تلقي نظرة عليه. وعندما تجد ان الشراشف في حالة فوضى، ترتّبها قليلاً ثم
تخرج من دون ايقاظه. وهو يقوم بالشيء نفسه في نهاية الفيلم. أشعر بشيء من
الاختناق، بمجرد وصفي لذلك المشهد. فحالياً، بتُّ أجد ان أكثر المَشاهد
التي تمسّني هي تلك التي بينه وبين ابنه. وزاد شعوري هذا مذ أصحبتُ أباً.
تمسّني أيضاً المشاهد بينه وبينها. عادةً، مشاهدها هي التي تشعرني
بالاختناق، لكن مشهده وهو يخرج من دون إيقاظها يلمس قلبي، خصوصاً انه يأتي
من طرفه، هو الذي ما عاد يستطيع ان يهبها أي شيء. تستحق هي شخصاً أفضل منه.
هو لا يقوى على حبّها، ولو استطاع لفعل. كلّ ما في امكانه هو اعطاؤها المال
كما يفعل مع أي عاهرة. وهذا شيء حزين.
جون فلين دخل الإخراج بطريقة لم تعد ممكنة اليوم كما كانت
في الماضي. لم يأتِ من التأليف أو المونتاج، بل من مجال مساعدة الإخراج.
مهنة مساعد المخرج في أميركا مختلفة عمّا هي عليه في أوروبا. في أميركا، هم
ليسوا بالمساعدين الحقيقيين. لا يفعلون سوى مساعدة طاقم الفيلم وتأمين
متطلباته. حتى اذا أصبحتَ مساعداً ناجحاً، فلن تتحول إلى مخرج! هذا هو
الواقع في أغلب الأحيان. المساعد يحتاج إلى كفاءة والمخرج إلى كفاءة أخرى.
واذا صرتَ مساعداً ناجحاً، فستبقى كذلك إلى بقية حياتك. ولكن، في فترة من
الفترات، كان المُساعد ينجح في التسلل إلى الإخراج. هذه حال بعض أهم
المخرجين: جوزف فون سترنبرغ وروبرت ألدريتش اللذان كانا من أعظم المساعدين
الأولين عبر الزمن. وكان عُيِّن ألدريتش رئيساً لنقابة السينمائيين لفهمه
المهنة كمخرج ومُساعد مخرج. جون فلين كان المُساعد الأول لروبرت وايز وعمل
وإياه على عدد من أفلامه منها "قصّة الحيّ الغربي"، وعمل مع فيل كارلسون
على تصوير "كيد غالاهاد" مع إلفيس بريسلي، وكان يروي انه كان يجالس الأخير
في الاستوديو أثناء تسجيل أغنياته واحدة تلو الأخرى. ثم، انتقل إلى الإخراج
في مطلع السبعينات مع "السَرجنت"، ميلودراما مثلية، بطولة رود ستايغر،
وأتذكّر أنني شاهدته وأنا شاب ولم أحبّه، علماً أنني من أكبر هواة ستايغر.
لذلك، فإني مع إعادة مشاهدة كلّ أفلام ستايغر الآن، خصوصاً بعدما أصبحتُ من
كبار هواة جون فلين. بعد "السَرجنت"، أنجز فيلماً في القدس سمّاه "ملف
القدس"، بطولة بروس دافيدسون، لم أشاهده قط. انه أحد الأفلام التي يصعب
الحصول عليها، رغم أنني عثرتُ، على مر السنوات، على كلّ الأفلام التي كان
يصعب العثور عليها. بعد ذلك، أنجز فلين الفيلم الذي أعتقد بأنه جعلنا
نكتشفه ونحبّه، وكان اقتباساً لرواية ريتشارد ستارك، "ذا أوتفيت"، وهو
تتمّة لـ"بوينت بلانك" لجون بورمان. أما مسيرته في الثمانينات، ففيها بضعة
أفلام، ربما شاهدتُ بعضها، فيها ما هو مقبول. لكن، في نظري، تُختَصر مسيرته
في أفلام حركة ثلاثة، أنجزها بالتوالي، وأقاربها كـ"ثلاثية سبعيناتية": "ذا
أوتفيت" مع جو دون بايكر وروبرت دوفال، و"رولينغ تاندر". ثم، قدّم فيلماً
ثالثاً، ليس بجودة الفيلمين السابقين، لكنه ذو مستوى جيد؛ فيلم حركة عنوانه
"تحدّي"، بطولة جان مايكل فنسنت".
2 – "العنف شيء سينمائي جداً"
(سؤال من جوليان رجل): في كتابك "تخمينات سينمائية"، تروي
لماذا شعر بول شرايدر، على غرار ما حدث معه في "سائق التاكسي" لسكورسيزي،
بالخيانة من اعادة كتابة سيناريو "رولينغ تاندر" التي غيّرت النتيجة
النهائية. كان الشخصية عند شرايدر على درجة عالية من العنصرية تجاه
المكسيكيين. لكن في فيلم فلين، حلّ رجال بيض مكان المكسيكيين، وجاءت
الخاتمة أقل عنفاً ممّا كان عليه سيناريو شرايدر، حيث كان على راين وجوني
ان يقتلا الجميع في نوبة غضب انتقامية، كما لو كانا لا يزالان في الحرب.
أنتَ في النهاية، تعترف ان الفيلم فاشي، لكنك تقول بأنه أعظم الأفلام
الانتقامية الفاشية. هل يمكن القول ان هناك في الفيلم بُعداً علاجياً؟
"أحب الأفلام العنيفة. الناس يحبّون الميوزيكالات، وبعضهم
يحب الكوميديات التهريجية. إني أحب الأفلام العنيفة. أعتقد ان العنف شيء
سينمائي جداً، وفيه الكثير من المرح. في النهاية، كلّ ما نراه ليس سوى
حكاية. نستمتع بالحكاية. صحيح، بول شرايدر ينكر الفيلم إلى اليوم. لا يتعرف
إلى الفيلم بقدر عدم تعرفي إلى نسخة أوليفر ستون من "قتلة بالفطرة" (كتب
تارانتينو السيناريو)، لأسباب عديدة. ولكن هناك مَن يحب ذلك الفيلم،
وليباركهم الله. حسناً، جوني كاش أحبّه. التقيته ذات يوم في المصعد، وقال
لي: "أنا وجون أحببنا الفيلم حقّاً". لم أقل له بأنه مخطئ، كلّ ما فعلتُ هو
أنني شكرته.
تكلّمتُ عن هذا الموضوع مع شرايدر، فأرسل إليّ السيناريو
الأصلي. أدركتُ لماذا لم يحب الفيلم المقتبس عنه. الأفلمة مختلفة كلياً لكن
الشخصيات متشابهة. تتبع البنية نفسها، وتروي القصّة نفسها إلى حد بعيد.
ينطوي السيناريو على بعض من أهم الحوارات التي كتبها في حياته، وفي الأفلمة
نجد بالكاد بعضاً منها. تشعر فعلاً ان هذا سيناريو كتبه بعد "سائق
التاكسي". الفيلم يجعلك تتمنى ان يقتل البطل هؤلاء السفلة انتقاماً، لكنه
يتحول إلى فيلم انتقام عادي، حتى بلوغه مشهد الذروة في الماخور. يبدو لي
انهم يقتلون الجميع، وما يحصل في الفيلم هو ما كان مكتوباً في سيناريو
شرايدر، ولكن لا، في نسخة شرايدر يقتلون الجميع: العاهرات والمكسيكيين
والزبائن. يقتلون كلّ مَن هو موجود في الماخور. وفي هذه النقطة أراد شرايدر
ان يسجّل موقفاً فيقول ان هؤلاء مختلّون عقلياً، لكن الفيلم لم يفعل ذلك.
لاحقاً انتقد شرايدر الفيلم، قائلًا: كتبت نقداً للفيلم الانتقامي الفاشي،
لكنهم حذفوا نقدي للفيلم الانتقامي الفاشي وأنجزوا فيلماً انتقامياً
فاشياً. وأنا أقول ان هذا الكلام صحيح، لكنه يبقى أعظم فيلم انتقامي فاشي".
3 – "هاري القذر”: أحبّذ فكرة خض الجمهور
(تعليق من جوليان رجل): فيلم آخر كتبتُ عنه فصلاً في كتابك:
"هاري القذر" لدون سيغل، بطولة كلينت إيستوود. انه الفيلم الذي أُنجِز
ليتوجّه إلى الأكثرية الصامتة ذات الغالبية من الجنود العائدين من فيتنام
الذين ما عادوا تعرفوا على بلادهم بعدما باتت مرتعاً لحركة الهيبي
والـ"بلاك بانثر"، فكانت هناك ضرورة لشخصية كهذه لمواجهتهم واعادة
الطمأنينة إلى نفوس المشاهدين.
"إني من جهة دون سيغل في هذا الصدد. أحبّذ فكرة خض الجمهور.
دون سيغل تحدّث بصراحة عن هذا الشأن، ولم يكن يفهم محاولات تسييس الفيلم
وقد شعر بأنه زُجَّ به في نقاش سياسي لعل إيستوود كان أكثر تورطاً فيه. دون
كان يعتبر "هاري القذر" فيلماً محض بوليسي، وكان يقول ان هاري يتعقّب
القاتل وسيقبض عليه وهذا كلّ شيء، ولم يكن ينظر اليه من منظور سياسي
اجتماعي، فكان يراه فيلماً تشويقياً يُعجِب الجمهور ويجذبه إلى الصالات،
وهذا ما حصل. بالنسبة لي، الموضوع مختلف. لا أضع يدي على سيناريو وأقتبسه،
بل أكتب موادي الخاصة، لذلك اذا كان هناك فيها جانب سياسي معين، أحمله على
عاتقي، ولهذا عندما أهاجَم كما حصل مع دون، لن أسكت ولن أختبئ خلف "ولكنه
فيلم كوميدي".
عندما أكتب سيناريواً، أتبنى وجهة نظر ذلك السيناريو. وقد
لا تنال وجهة النظر تلك اعجاب بعض الناس أو قد يخطئون في قراءتها، وهذا
يحدث كثيراً… وهناك مَن يكتب مقالات تحليلية تكشف عيوب الفيلم، وهذا لا
يعني أنهم على حق، كما لا يعني أنهم على خطأ. لكن نظراً إلى المكان الذي
آتي منه، يمكنني الجزم أنهم مخطئون تماماً في نقدهم. أحياناً، أطالع
تحليلات سلبية لأفلامي فأستغرب عندما أقرأ أنني قمتُ بكذا وكذا وكأنها
أشياء سيئة، فيحلو لي ان أشدد حينها: بلى، قمتُ بكذا وكذا وإني سعيد بذلك.
لا تزجّ بي في درس أخلاقي عن العنف تعلّمته من أمّك وكان له تأثير عميق
فيك. أرحّب بالعنف في السينما ما دمنا نفهم السياق الذي يحدث فيه".
4 – "لن أدفع المال لمشاهدة موت حقيقي"
"هناك شيء لا أطيقه في الأفلام وهو قتل الحيوانات، وهذا ما
نراه في العديد من الأفلام الأوروبية والآسيوية. هذا شيء أخلاقي، لا علاقة
له بالعنف في السينما وبالخلاف حول طرق تجسيده. قتل الحيوانات، هذا خط لا
أستطيع تجاوزه. حتى الحشرات. لا أستطيع مشاهدة شيء كهذا، الا اذا تعلّق
الأمر بمشاهدة وثائقي حيواني في منتهى الغرابة. لن أدفع المال لمشاهدة موت
حقيقي. جزء من سحر فنّنا اننا نجعل الآخرين يصدّقون اموراً غير حقيقية،
لهذا السبب يمكن الانتصار للعنف في السينما، لأننا أشبه بأطفال يلهون. الدم
ليس بدم حقيقي والناس لا يتأذون. لكن الحيوانات، أكانت كلاباً أم حشرات، لا
تكترث لأفلامنا. قد أقتل مليار جرذ في الحياة، لكني لا أرغب بالضرورة قتلها
على الشاشة، لأنني، كما سبق وقلتُ، أرفض الموت الحقيقي في السينما. لا
تحضرني العناوين في هذه اللحظة، لكني شاهدتُ أفلام رعب كثيرة ومشكلتي معها
في أغلب الأحيان ليس العنف بل العنف الرديء الذي ينم عن عدم كفاءة في
تصويره. لو استطاع الفيلم ان يمسّني بطريقة ما، لن أنكر جودته، حتى لو
مسّني بطريقة مزعجة أو جعلني أندم بأنني شاهدته".
5 – "ألاعيب وطنية" نموذجاً للعنف الرديء
"هاكم مثلاً للعنف الرديء: "ألاعيب وطنية" بطولة هاريسون
فورد. مع العلم ان التقييم للفيلم ليس أخلاقياً بقدر ما هو سردي. نرى في
الفيلم عناصر من الجيش الجمهوري الإيرلندي، وهم على وشك ان يقوموا بعملية
مقابل البيغ بن في لندن، ويحدث ان هاريسون فورد هناك. شقيقان من الجيش
الجمهوري الإيرلندي، أحدهما هو شون بين، وسيقتل هاريسون فورد الآخر، فيما
شون بين سينجح في الفرار، ولكن سيقرر الانتقام منه. مشكلتي مع هذا الفيلم…
أوكي، أتفهّم لماذا فعل هاريسون فورد ما فعله، لكن في مطلع الفيلم سأتفهّم
أيضاً لماذا عناصر من الجيش الجمهوري الإيرلندي يفعلون ما يفعلونه. وأتفهّم
أيضاً لماذا شون بين يريد قتل هاريسون فورد الذي لم يطح مخططه بل قتل شقيقه
أيضاً. هذا ليس شأنك أيها الأميركي القذر! ثم، فجأةً، يزداد عدد ضحايا
الإيرلندي، فيبدأ الفيلم بتكريس فكرة أنه "سايكو". أنا لم أقتنع بأنه كذلك.
اعتبره إرهابياً جاداً بأجندة سياسية واضحة. لكن الفيلم، ولدوافع سياسية،
لم يتقبّل فكرة ان يغدو "الشرير" قابلاً للفهم من المُشاهد أو ان يتماهى
معه. هذا أكثر من قدرة الفيلم على التحمّل. لذلك، كان القرار بجعله مختلاً،
فيقتل بضعة أشخاص هكذا بلا سبب. وهذا ما أساء إلى الفيلم على المستوى
الأخلاقي".
6 – "سائق التاكسي": أنا ضد التسوية الاجتماعية
(سؤال من جوليان رجل): "ماذا لو أخرج براين دبالما "سائق
التاكسي" بدلاً من سكورسيزي؟". أنت تقول ان دبالما ما كان ليخضع لقرار
الاستوديو اسناد دور القواد إلى ممثّل أبيض، لأنه لم يكن لهذه الشخصية ان
تكون بيضاء في تلك الفترة، بل كان عليها ان تكون سوداء. وتقول ان دبالما لو
تولّى اخراجه، لما تبنّى وجهة نظر ترافيس بيكل، بل أظهر جنونه، محوّلاً
الفيلم إلى ثريللر بارانويي. لذلك، هل تعتقد ان أكبر غلطة عند سكورسيزي هي
انه خضع لطلبات الاستوديو فشوّه واقع السبعينات؟ وهل تعتقد ان على
السينمائي مسؤولية معينة تجاه واقع اجتماعي معين؟
"لا، لا أعتقد انه "شوّه واقع السبعينات"، فـ"سائق التاكسي"
واحد من أفضل الأفلام عبر الزمن. ولا أستطيع حتى تخيّله من دون هارفي
كايتل. اربط هذا الفيلم بهارفي كايتل بقدر ما أربطه بترافيس بيكل. أعتقد ان
سكورسيزي أنجز أفضل نسخة ممكنة من الفيلم. جزء من تحليلي لم يكن عن جودته،
بل عن الأسباب التي دفعته إلى اتّخاذ القرارات التي اتّخذها. والخيارات
كانت من شأن المنتجين مايكل وجوليا فيليبس واستوديو "كولومبيا"، وأعتقد ان
خيارهم في التغيير كان محض هراء. هم رفضوا ان يكون القواد والشخص الذي
يُقتَل في الأخير رجلاً أسود. هذه العقلية ليست هي وحدها الهراء، بل العذر
الذي كان خلفها. كان عذرهم ان الفيلم سيُعرض في صالات يرتادها سود وقد يثير
أعمال شغب تؤدي إلى سحبه. حسناً، هذا النوع من أعمال الشغب حدث بعد بضعة
أعوام، عندما عُرض فيلم "المقاتلون" وانتهى بسحبه، لكن أعتقد ان هذه حجّة
واهية. تفكير المنتجين كان كتفكير ترافيس بيكل، في اعتقادهم بأن المشاهدين
السود على قدر من الهشاشة يحول دون قبولهم فكرة ان يكون الأسود شريراً.
شَعر البيض بانزعاج من هذا الأمر، فخرجوا بحجّة تغطّي على انزعاجهم. هذا ما
أسميه "تسوية اجتماعية"، وأنا ضدها في الفنّ. قد يوافق عليها البعض، للأسف.
وقد يوافق عليها الجمهور كذلك. وعليه، ومع ذلك، لا أحاول ان أكون لطيفاً مع
سكورسيزي، إني ألومه بعض الشيء. لا أعتقد أنه كان الشخص الذي يقلق من قرف
كهذا. أعتقد أنهم أخافوه، وهو في المقابل، كان يريد دوراً لهارفي كايتل ولم
يكن ثمة دور له، فكانت هذه فرصة لحشره في الفيلم، وهكذا تمت التسوية".
7 - براين دبالما: ضربنا بعضنا بعضا انتصاراً له
"نشأتُ في السبعينات على أفلام سكورسيزي ولوكاس وكوبولا
وسبيلبرغ ودبالما، قبل ان أعرف حتى أسماءهم. قبل الثمانينات، حينما أصبحتُ
شاباً، لم أكن أعرف مَن هؤلاء. لكنهم عظماء جيلي. رغم انهم بدأوا يطعنون في
السن بدءاً من الثمانينات، ظلت في داخلهم تلك الديناميكية الشبابية وحافظوا
على أواصر الصداقة التي بينهم. بيد انني، انجذبتُ إلى دبالما لأسباب
متعددة. كان الجميع يحب سبيلبرغ وسكورسيزي، وأنا من جانبي لم أكن أرغب في
تسجيل حضوري داخل نادي أكثر الناس شعبيةً في المدرسة. لستُ من هؤلاء.
أحببتُ دبالما لأنه كان موضوع خلاف في تلك الفترة، وأقحمنا حبّنا له في
معارك شرسة، ولم يكن يحصل هذا عندما نختلف حول سكورسيزي أو سبيلبرغ. كان
البعض ينعت دبالما بـ"السارق"، وانه سرق كلّ شيء من هيتشكوك، وكان يُقال
عنه إنه "حقيرٌ" ("بيس أوف شيت"). جزء من حبّنا لدبالما في تلك الفترة، كان
سببه اننا كنّا ندخل في محاججات لا بل معارك تصل أحياناً إلى الضرب. الدفاع
عنه كان أمراً مهماً. شيء آخر كنتُ أحبّه في شأنه: موهبته في الكوميديا.
أعتقد انه أحد أهم المخرجين الكوميديين، خصوصاً بسبب الأفلام التي أخرجها
في بداية الستينات. إني معجب للغاية بالهجاء والكوميديا في أفلامه
الثريللر، حتى في بعضها الذي يعتمد على الحركة. كما أحب مقاربته للسينما
التي تضع الكاميرا في المقدّمة. لا يصوّر شخصين يتحدّثان وهما جالسان إلى
طاولة، كما في الكثير من أفلامي. يحاول ألا يفعل ذلك، بل يحمل الكاميرا
ساعياً إلى خلق شيء ما من أدائها، وكله تأكيد ان المشاهدين سيتفاعلون معه".
8 – "سفلة مجهولون": يوم قتلتُ هتلر
(سؤال من جوليان رجل): هناك موتيف متكرر في أفلامك حيث
شخصيات ينتقمون للواقع. في "مضاد الموت"، الفريق الثاني من البنات يقتل
المختل الذي قتل بنات الفريق الأول. في "سفلة مجهولون"، يقتل الجنود اليهود
النازيين. وكذلك الأمر بالنسبة إلى "ذات مرة في هوليوود". من أين لك هذه
الحاجة لاصلاح الواقع من خلال الانتقام؟
"لا أراها حاجة. هذا موضوع مثير. في ما يخص "سفلة مجهولون"،
لم أكن أعلم في البدء أنني سأنهي على النحو الذي أنهيته. عندما باشرتُ
الكتابة، لم أكن على علم بأنني سأقتل هتلر في الختام. جاءت الأشياء تدريجاً
خلال الكتابة. في لحظة، عندما وصلت الأحداث إلى مشهد المسرح، قلتُ لنفسي:
يبدو ان الأمور تتطور جيداً، بل أكثر ممّا توقعتُ. ثم، سألتُ نفسي: ماذا
سأفعل الآن بحق الجحيم؟ لم أرد اللجوء إلى خدعة “آه، انه بديل هتلر!"، ثم
نراه يخرج من خلف الكواليس. تباً لهذا! لم أرد تصوير شيء كهذا. قمتُ بما
كان يقوم به كوروساوا، خصوصاً في "القلعة المخبأة"، وهو انه كان يحاصر نفسه
في مأزق ثم يطلب إلى الكتّاب الذين كان يعمل معهم ان ينتشلوه منه. مع الفرق
انه لم يكن عندي أي كتّاب أطلب اليهم انتشالي، وكان عليّ ان أتولّى هذا
الموضوع بنفسي. فأدخلتُ نفسي حرفياً في مأزق، ورحتُ أسأل "والآن
ماذا…؟". كنت أستمع إلى الموسيقى، وكانت الساعة تشير إلى الثالثة صباحاً،
وكنت أجهل ماذا أكتب وما الحلّ الذي سأجده للمأزق الذي وضعتُ نفسي فيه.
بدأتُ أطرح احتمالات عدة، لكن ما من واحد نال رضاي. ثم، فجأةً، خطرت لي
فكرة: "اقتله، نعم اقتل هتلر!". نظرتُ إلى نفسي، ولم أصدّق ماذا أقول! هل
أستطيع فعل ذلك؟ هذا ما سألتُ نفسي. بالطبع أستطيع. هذه قصّتي. في امكاني
ان أفعل ما أريد. قد لا تكون فكرة جيدة، لكنني أستطيع. فالتقطتُ ورقة
وكتبتُ عليها "اقتله"! تركتها على طاولة جنب السرير وأخلدتُ إلى النوم.
أعتقدتُ أنني عندما أستيقظ، سأفهم اذا كانت فكرة جيدة أو لا. استيقظتُ
واعتبرتها فكرة جيدة. أما "ذات مرة في هوليوود"، فتلك حكاية أخرى. كان
الدافع الذي جعلني أكتب كلّ هذه الحكاية، هو ان أحمي شارون تايت وأصفّي
المجرمين السفلة الذين قتلوها، وذلك من خلال دفعهم للذهاب إلى المنزل
الخطأ".
9 – "الباحثون": إلغاء جون فورد فعل خسيس
(سؤال من جوليان رجل): "الباحثون" لجون فورد فيلم بالغ
الأهمية للجيل الذي سبق جيلك. بول شرايدر استلهم منه كثيراً لكتابة
سيناريوات أفلامه. ذكرته غير مرة في كتابك، لكن من دون ان تقول رأيك فيه
بوضوح. فهل من الممكن ان تفصح عنه بوضوح؟
"لسنوات، لم يعجبني "الباحثون" ولم أقدّره كما يجب. لم أحب
جفري هانتر، في المقابل لطالما أحببتُ أداء جون واين فيه. حتى أنني أحببتُ
شخصية ابن الساقطة العنصري التي يلعبها. لكن، لم أفهم شخصية جفري هانتر ولم
أحبّه، شأن الكثير من ميلودرامات الخمسينات التي تجري في الغرب. لذلك، لم
أفهم يوماً المكانة التي يحتلها هذا الفيلم عند سينمائيين مثل ميليوس
وسبيلبرغ وسكورسيزي وشرايدر. اللافت ان بيتر بوغدانوفيتش، أكثرهم عشقاً
لفورد، يحب "الباحثون"، لكن لا يحبّه على طريقة الأسماء التي ذكرتها. يتميز
عنهم في حبّه له.
ثم، خلال تأليف الكتاب، شاهدتُ "الباحثون" مجدداً، بعدما
كنت شاهدته قبل زمن بعيد. فكرتُ ان عليّ مشاهدته مجدداً كي أتعمّق في
الحكايات وفي بعض الروابط بين أفلام فورد. وهذه المرة أحببته. ويمكن القول
إنني فهمته. ما زلتُ لا أحبّه بالقدر الذي يحبّه سينمائيو الجيل الذي
سبقني، لكن بتُّ أفهم أكثر كلام سكورسيزي عنه، خصوصاً في ما يتعلّق
بكاراكتير إيثان إدواردز (الشخصية التي يلعبها جون واين)، هذا الرجل الذي
كان في داخله حبٌ عظيمٌ، ولكنه داس عليه. رجل خاض حرباً خسرها. عليّ
الاعتراف بأن بيئة البيض هذه لمست قلبي هذه المرة. الطقوس التي كانوا
يتبعونها لجعل أنفسهم بشراً، ضمن نسخة برية للحضارة، هذه الطقوس أراها
قريبة من "صائد الغزلان" والنحو الذي زُجِّ ببيئة الروس في داخل بنسلفانيا،
مع التظاهر وكأن لا شيء تغير. ما لمسني أيضاً في "الباحثون" هو هذه الطائفة
من الشخصيات. لا أزال بعض الشيء في معسكر شخصية سكير (هنري براندون) أكثر
من كوني مع جفري هانتر وإيثان إدواردز. ثم إنني، لستُ مقتنعاً بأن ناتالي
وود (شخصية ديبي) تعود اليه. أعتقد أنها متزوجة من سكير، وستبقى كذلك. كنت
أتمنّى لو قتلها جون واين. لأن هذا ما كان من يفترض به ان يفعله. الحياة ما
عادت تستحق ان تُعاش في نظره، بسبب السكّان الأصليين. هذا هو كاراكتيره.
لذلك، لا أحب عندما يضعف في الأخير. مع ذلك، وجدتُ الفيلم في مشاهدتي
الجديدة مؤثراً. اليوم، بتُّ أقدّر أكثر المكان الذي جاء منه جون فورد. في
مقابلات قديمة لي، طالبتُ بإلغاء جون فورد، حتى قبل ان يبدأ الناس في
الحديث عن هذه الأمور، ثم مع الوقت أدركتُ كم ان هذا فعلٌ خسيسٌ. قد لا
يعجبك أحدهم، وقد يثير موضوعٌ يعود إلى زمن مختلف ارتيابك، لكن الأمر ينتهي
عند هذا الحد، وهذا ما هو عليه الفيلم. على سبيل المثل، هل لديّ مشكلة مع
شخصية كولونيل ثرزداي (هنري فوندا) في نهاية "فورت أباتشي" التي تدعو إلى
ابادة تباركها شخصية جون واين؟ هذه ابادة، ألاحظتم ذلك؟ وليس جون واين وحده
الذي يبارك الابادة، بل حتى الفيلم يبدو انه يوافق على ذلك. حسناً، لعلهم
فعلوا ذلك تضامناً مع الجماعة، لكنهم فعلوه من أجل البيض في نهاية المطاف.
لا أستطيع قبول خاتمة كتلك، لكنها على الأرجح تجسيد دقيق لحقيقة تلك
الحقبة، وأعتقد ان ما من أبيض طرح تساؤلات حولها عندما خرج الفيلم في
الأربعينات. وهذا يعطيك فكرة أين كان الناس في هاتيك الأيام. هذا هو
الواقع. لذلك، يجب عدم القاء الفيلم في القمامة، بل تفحّصه. أما القول ان
جون فورد كان في معسكر هنري فوندا، فهذا كلام غير مطابق للحقيقة. لا شك ان
هذه الشخصية جعلته يشعر بالقرف. هناك نبرة ضده في الفيلم. من الواضح انه
ينتصر لجون واين. مع ذلك، لا تزال النهاية تزعجني، ولكن الآن بتُّ أنبهر
بفكرة انها تزعجني".
10 – "عليكم ان تتريثوا"
(سؤال من جوليان رجل): في أول فيلم لك، "كلاب المستودع"،
وفي المشهد الأول منه، ثمّة نقاش معك (في شخصية السيد براون) حول معنى
"كعذراء" لمادونا، وستكون لك الكلمة الفصل فيه. لماذا اخترتَ شخصية ناقد
بطلاً لفيلمك العاشر؟
"هذه حكاية طويلة. لا أستطيع التحدّث عنها قبل ان تشاهدوا
الفيلم. يغريني الآن، والميكروفون في يدي، ان أقدّم بعض المونولوغات من وحي
الشخصية، لكني سأمتنع عن ذلك. لن أفعلها (يكرر “لن أفعلها” سبع مرات). لا
أريد ان أقع في هذه التجربة. ربما لو كان هناك أعداد أقل من الكاميرات…
عليكم ان تتريثوا وتشاهدوا بأنفسكم". |