«برلين»
بين الحلم الأميركي وادّعاء أساياس... و«الكعكة» الإيرانيّة
شفيق طبارة
برلين
| بعد
الأجواء السياسية الحامية التي بدأت بها الدورة الرابعة والسبعون من
«مهرجان برلين السينمائي الدولي» (راجع
الأخبار 17/2/2024)،
انصرف الجميع إلى مشاهدة الأفلام. اكتظّت قاعات السينما بالزوّار الذين
يبدؤون نهارهم من التاسعة صباحاً حتى منتصف الليل، يتنقلون من قاعة إلى
أخرى بحثاً عن فيلم جيد، وهرباً من الطقس البارد والماطر في برلين. بدأ
المهرجان بعروض أفلامه، التي تبدو متواضعة حتى الآن لا ترقى إلى اسم هذا
المهرجان العريق. حتى إنّ بعض الأفلام إهانة لمجرّد وجودها في قوائم هذا
المهرجان وفي المسابقة الرسمية. حتى كتابة هذه السطور، عُرض تقريباً تسعة
أفلام من المسابقة الرسمية، ناهيك بأفلام المسابقات الأخرى. وحتى الآن، لا
يبدو أن هناك فيلماً مرشحاً قوياً لنيل الدبّ الذهبي، ما عدا الفيلم
الإيراني «كعكتي المفضلة» الذي يبدو أن جائزته محفوظة لأسباب سياسية،
وخصوصاً بعد المؤتمر الصحافي الذي شهد غياب مخرجي الفيلم بسبب المنع من
السفر.
«كعكتي
المفضلة»: مرثية خادعة
لم يستطع الزوجان مريم مقدم وبهتاش صناعى ها، حضور «مهرجان
برلين» لتقديم فيلمهما الجديد «كعكتي المفضلة»، بسبب مصادرة جواز سفرهما من
الحكومة الإيرانية. حاولت السلطات أيضاً مصادرة الفيلم قبل إرساله إلى
برلين، لكن لحسن الحظّ، عُرض الفيلم كاملاً. إنها ليست المرة الأولى التي
يتعرّض فيها المخرجان للمضايقات. بعد فيلمها «أغنية البقرة البيضاء»، الذي
ينتقد عقوبة الإعدام في إيران، تفتّحت العيون عليهما. فيلمهما الجديد مختلف
إلى حد ما: قصة بسيطة جداً، لكن فجأة يجد الزوجان نفسيهما في الإقامة
الجبرية. وهذا ما أعطى الفيلم مساحة أكبر مما يستحق، وأصبح ـــ رغم قصته
المبتذلة إلى حد ما ــــ يشكّل استعارة لواقع قمعي يجد فيه الغرب حجةً
للدلالة على قمع النظام الإيراني بغض النظر عن حقيقة ما يحصل هنا. قصة
الفيلم قد تحدث في أي مكان في العالم، ومع أي جنسية أخرى مع النهاية
والأحداث نفسها، لكن واقع أنّها تحدث في طهران، يُغير كل شيء بالنسبة إلى
المشاهد الأجنبي.
تبلغ ماهين (ليلي مرهادبور) 70 عاماً. أرملة تعيش بمفردها
في شقة كبيرة وجميلة في طهران. بالكاد تستطيع الاستمتاع بحياتها، وخصوصاً
بعد وفاة زوجها قبل 30 عاماً. تعيش ابنتها في الخارج. هي لا ترى أصدقاءها
إلا نادراً، بسبب الغلاء والملل من الأحاديث عن المرض والعجز. ماهين ذات
احتياجات تحاول جاهدةً تلبيتها، فهي لا تزال امرأة تحاول أن تستمتع بحياتها
قبل أن تموت. تحاول العثور على رجل ليقضي معها ما تبقى من العمر. تلتقي في
أحد المطاعم بفرامرز (إسماعيل محرابي) الأكبر سناً الذي يعمل كسائق تاكسي.
خلال عودتها إلى منزلها معه، تدعوه إلى الدخول، ويقضي الاثنان بضع ساعات
خالية من الهموم وفيها الكثير من الحب. نقضي معهما الوقت في البيت طوال
الفيلم تقريباً. هناك الغناء والرقص وشرب النبيذ، وحتى قرص الفياغرا. يتحول
البيت إلى ملجأ لهذين الروحين. سجن صغير للذكريات الحزينة عن الماضي الخاص
والعام لإيران. الليلة التي بدت كأنها بصيص أمل لماهين، واجهت من بعده
صباحاً رمادياً بارداً وقاتلاً، ونهاية صارخة.
«كعكتي
المفضلة» يستحق المشاهدة، بسبب روح الدعابة اللطيفة وخفة الحركة، والممثلين
الرئيسيين اللذين ملآ الشاشة حباً وضحكاً. لكن مع تقدم الفيلم، يصبح كل شيء
واضحاً، ومركباً. يبدأ الفيلم ببساطة ويتطور ببطء تتخلّله مشاهد تبدو كأنها
مجرد حشو غير مؤثر حول محاولة معارضة النظام، مثل النصيحة التي قدمتها
ماهين إلى شابة بعدما أنقذتها من شرطة الأخلاق: «كلما تصرفت بخضوع، كلما
تعرّضت للاضطهاد أكثر».
«كعكتي
المفضّلة» سوف يثير الجدل بالتأكيد مع قادم الأيام، وبطريقة ما، جائزته
محفوظة في المهرجان. فهو معارض قاسٍ للنظام في إيران، ولغته سياسية متمردة
مخبأة وراء السخرية والنغمة المتغيّرة للفيلم، التي لم تُدَر بشكل متوازن
وبصلابة. الحنان المتحفظ والتقارب الفكاهي اللذان يتطوران بسرعة بين ماهين
وفرامرز في الشقة، يصبحان قصيدة حنين إلى العصر القديم، قبل الثورة
الإسلامية. تقترب ذكريات الروحين بشكل خطير حتى تنهار الحقائق. تتذكر ماهين
الأيام الخوالي، قبل أن يفرض عليها الحجاب، ويتذكر فرامرز حياته في الجيش
أيام الشاه. «كعكتي المفضلة» فيلم خادع، يبدأ بطريقة خفيفة ليتحول تدريجاً
إلى مرثية تراجيدية، مع نهاية متطرّفة ومفتعلة بعض الشيء، أفقدَت الفيلم كل
الحنان والحب الذي كان يتدفّق من الشاشة.
أوليفييه أساياس «خارج الزمن»
بعد جائحة كورونا، صادفنا نوعين جديدين من الأفلام: الأول
سيرة ذاتية بنبرة اعترافية عن الجائحة وآثارها على صانع الأفلام. والثانية
أفلام عن الحجر وكيفية قضاء الوقت خلاله. فيلم المخرج الفرنسي أوليفييه
أساياس «خارج الزمن»
(Hors du temps)
الذي يشارك في المسابقة الرسمية لـ «مهرجان برلين»، يلعب بطريقة بهلوانية
بين هذين النوعين. دخل أساياس عالم سينما الذات لكن بتعثّر، ويبدو أنه مهتم
باللعبة الفوقية والتفاخر أكثر من اهتمامه بالحميمية التي تقدّمها سينما
الذات. أساياس مخرج يتساءل باستمرار عن عصرنا، هو من صنّاع الأفلام الذين
تعاملوا بشكل جيد في أفلامه مع الأزمة الناجمة عن ظهور التكنولوجيا
وصعودها. في جديده، يغوص في أزمة جديدة هي كورونا، محاولاً فهم اللحظة التي
يعيش فيها.
نحن في الحجر الكامل أثناء أزمة كوفيد. لجأ بول (فنسان ماكين) إلى منزل
عائلي كبير في الريف الفرنسي مع صديقته، وأخيه وشريكته. يعيش كل واحد منهم،
وخصوصاً الأخوين، الحبس بطريقة متعاكسة تماماً. بينما يستمتع بول بالعزلة،
يتمرّد أخوه على جمود القواعد المفروضة. يتطور الفيلم على طول خطين أو
سجلين زمنيين مختلفين: هناك الراوي أساياس نفسه بضمير المتكلم، الذي يغلف
الفيلم بنكهة أدبية وروائية، حاكياً لنا ذكرياته عن طفولته وتاريخ عائلته
في فيلا في القرن التاسع عشر. ولدينا أيضاً إعادة بناء فترة الحجر التي
قضاها أساياس في منزل العائلة في الريف، مع ممثلين وأسماء مختلفة. لكن في
هذا الجزء يسرد الفيلم التفاصيل الدقيقة للحجر الذي فُرض على المخرج
وعائلته وما حدث خلاله.
الفيلم بمثابة مقال عن عصرنا، راسخاً بقوة في الحاضر. في
المنزل، يتلقى بول طروداً من شركة «أمازون»، وهناك امرأة تقدم دروساً في
الرقص عبر زوم. تناقش الشخصيات الوقت الحاضر الذي تشعر فيه بعدم الارتياح
ولا تعرف كيف تتعامل معه. ناقش تأثير «أمازون» على الشركات المحلية. تستشير
غوغل باستمرار، وتجرّب وصفات عبر الإنترنت، وتشاهد مقاطع فيديو على يوتيوب
لمعرفة كيفية غسل يديها بشكل صحيح. بول هو صنوّ أساياس، نعرف عبره الكثير
من التفاصيل عن حياة أساياس أثناء الحجر، في المنزل الريفي نفسه الذي يصوّر
فيه شخصياته، ونسمع صوت أساياس نفسه كراوٍ للكثير من الاعترافات. هذا
النسيج الهجين والنغمة غير المستقرة، يفقدان الفيلم توازنه. أجمل لحظات
الفيلم هي تلك التي يكون فيها أساياس أقرب إلى المخرج، عندما يقترب من
الذاكرة والحنين عبر شاعرية الصور.
الذكريات الشخصية وإعادة تمثيل الواقع في «خارج الزمن»، لا
تعفيان مخرجنا الفرنسي من النهج البورجوازي المتعالي. في بعض الأحيان يسبّب
الإزعاج بشخصياته النرجسية الحقيقية: الإقامة في منزل ضخم، محاط بالغابات،
مع ملعب تنس ونبيذ مجاني، ومن دون الحاجة إلى العمل، لأن أساياس لا يواجه
مشكلات مالية. في «خارج الزمن»، استنماء فكري، نهج وجودي متفاخر وزائف،
مشكلات الرجل الأبيض في زمن الحجر. طوال الفيلم، يحدثنا أساياس عن الفن
والأدب والكتب، بينما أبطاله يقتبسون من عدد كبير من القصائد والروايات
والأفلام. يستمعون إلى موسيقى الروك، ويقررون ما إذا كانوا سيذهبون إلى
الفراش باكراً أو يشاهدون فيلماً صامتاً. يناقشون قطعاً أدبية من كنوز
الأدب الفرنسي، ويشرحون كمعلّم متفان للمشاهد الذي الذي هو أقل ثقافة منهم.
«خارج الزمن» فيه الكثير من الفوقية، صُوِّر بطريقة كسولة، حاول فيه أساياس
أن يكون المخرج ذا الثقافة العالية على كرسي الاعتراف، لكن انتهى الأمر بأن
يكون فيلماً تعليمياً وخطابياً متعالياً. شريط تثقيفي على الجميع أخذ
دفاترهم وأقلامهم معهم خلال المشاهدة لتسجيل كل أسماء الكتّاب والرسامين
والروائيين والشعراء والمخرجين الذين يذكرهم لنا اساياس.
عدسة على اليد العاملة في أميركا
في أواخر الخمسينيات وأوائل التسعينيات، تطورت حركة ثقافية
في بريطانيا في المسرح والفن والروايات والسينما، سميت بـ«Kitchen
Sink Realism».
يوصف عادةً أبطال هذه الحركة بأنهم «شباب غاضبون» أصيبوا بخيبة أمل كبيرة
من المجتمع الحديث. استخدمت هذه الحركة الأسلوب الواقعي، الذي يصور الأوضاع
الاجتماعية للبريطانيين من الطبقة العاملة، الذين يعيشون في مساكن مستأجرة
ضيقة ويقضون ساعاتهم خارج العمل في الحانات، يشربون ويتحدثون عن القضايا
الاجتماعية والسياسية المثيرة للجدل مثل الإجهاض والتشرّد وما إلى ذلك.
الكاتب المسرحي أرنولد ويسكر، كان أحد رواد هذه الثقافة، تدور غالبية
مسرحياته حول المشكلات والقضايا الاجتماعية. كما تعكس توجهه الاشتراكي، إذ
يوجه عبر مسرحياته النقد اللاذع لقيم المجتمعات الصناعية الحديثة. أحد أهم
مسرحياته تسمّى «المطبخ» (1959)، وكما يشير عنوانها تدور في مطبخ أحد
المطاعم اللندنية المزدحمة، يمجّد فيها العمل الجماعي وينتقد بشدة استغلال
الرأسمالية للعمال، ويسلط الضوء على المشكلات الاجتماعية عبر الشباب
الغاضبين. في عام 1961، استند المخرج البريطاني جيمس هيل إلى المسرحية
ليخرج فيلمه الذي يحمل الاسم نفسه والذي لم يلق نجاحاً كبيراً. بالعودة إلى
الحاضر، اقتبس ألونسو رويز بالاسيوس المسرحية ذاتها، ليقدّم فيلمه الجديد
«المطبخ»
(La Cocina)،
في المسابقة الرسمية لـ «مهرجان برلين». عندما سئل عن موضوع الفيلم في
المؤتمر الصحافي، قال «إنّه يتعلق بالكثير من الأشياء». قالها كأنّه يعرف
تماماً أنّ فيلمه هو مجرد إرهاق فكري ونفسي وبصري وسمعي غير مجدٍ، يستكشف
فيه موضوع اليد العاملة في أميركا، وزيف الحلم الأميركي والإجهاض،
والأحلام، والهجرة، وكل ما يتعلق بذلك.
مطعم
The Grill
مكان سياحي كبير في «التايمز سكوير» في نيويورك يخدم يومياً آلاف الزبائن.
يبدأ الفيلم مع إستيلا (آنا دياز) التي تحاول أن تعثر على المدخل الخلفي
للمطعم. إنها جديدة في المدينة وتأمل في الحصول على وظيفة. تعرف أحد
الطهاة، بيدرو (راؤول بريونيس كارمونا)، الذي نشأت معه عندما كانت طفلة في
موطنها الأصلي المكسيك. معظم العاملين في المطعم هم من المهاجرين غير
الشرعيين، يكافحون من أجل وظيفتهم، ويحضّرون مجموعة لا نهاية لها من
الأطباق طوال اليوم.
يعمل «المطبخ» كاستعارة لموضوع سياسي ملحّ هو سياسة الهجرة
في أميركا
بيدرو مليء بالطاقة والأحلام والأمل، يبحث عن المزيد من
الحياة، ومثير للمشكلات. يقع في حب الشابة الأميركية جوليا (روني مارا)،
التي تعمل نادلة في المطعم. تصل المأساة عندما يُتهم بيدرو بأنه سرق
أموالاً من المطعم، ما يسرّع الأحداث ليصل الفيلم نحو كارثته النهاية. لا
قصة معينة في الفيلم. طوال الشريط، ننظر إلى العلاقات المختلفة بين
الموظفين، طاقم العمل في المطبخ من الذكور، وطاقم النادلات من الإناث.
الصورة بالأبيض والأسود، صغيرة نسبياً لشاشة السينما، لنتكيّف مع المكان
الضيق الذي يتم فيه إعداد البرغر والسندويشات وجراد البحر. كل شيء يمشي
بسرعة في المطبخ. هناك فوضى خالصة، لغات كثيرة وأصوات صارخة تندد بكل شيء.
كما نعلم، إنّ كثرة الطباخين تفسد الطبخة، وكثرة المكوّنات
بالطبع ستفسد أي عمل سينمائي. في «المطبخ»، يحاول ألونسو رويز بالاسيوس
التوفيق بين الشكل والمحتوى بطريقة سريعة، يعمل «المطبخ»، كاستعارة لسياسة
الهجرة في أميركا. وعلى الرغم من أنه موضوع سياسي ملحّ هذه الأيام، إلا أن
الفيلم ينحدر في النهاية إلى الابتذال. يخسر في محاولته الحثيثة لإبهارنا،
بينما يتجه نحو كارثة متوقعة وغير مقنعة. تدفع الأحداث القصص إلى مكان
متناقض وفارغ، فلسفة فوضوية زائفة. مشكلته في كمية الحوارات الكثيرة
والمونولوجات التي تقدم رسائل شبه عميقة. «المطبخ» فيلم متضعضع، يحاول أن
يكون عميقاً ليتحدث عن كل المواضيع التي تقلق راحة العاملين غير الشرعيين
في أميركا، لكنه يطلب الكثير من المشاهد، بسبب طول الفيلم وكثافة بعض
لقطاته. ليس هناك ما يكفي لجذب الجمهور رغم ضخامة المحتوى. الصراخ المستمر
والجدل يصبح مملّاً إلى أقصى الحدود. يرفع «المطبخ» بالدراما إلى نقطة
الغليان، في مكان مليء بالبخار والنار والغاز، لذلك كان لا بد أن يصاب شخص
ما بحروق، وهو رويز بالاسيوس، الذي احترق وأفسد المسرحية والفيلم. |