من أكثر الأفلام التي نالت الاعجاب في مسابقة الدورة
الحالية من #مهرجان
برلين السينمائي (15-25
الجاري)، "كعكتي المفضّلة" للمخرجة الإيرانية مريم مقدّم وزميلها ومواطنها
بهتاش صناعي، اللذين احتُجِز جوازاهما ومنعتهما سلطات بلادهما من السفر إلى
الـ"برليناله"، وهما يخضعان الآن إلى التحقيق. كان هذا متوقَّعاً، لا بل
يُمكن وصفه بمشهد بات مألوفاً منذ فترة في كلّ مهرجان سينمائي يعرض فيلماً
إيرانياً يخالف معتقدات نظام الملالي. والواقع ان كثرا يوظّفون هذا المنع
لمصلحتهم.
بعث المخرجان برسالة، قرأتها ممثّلة الفيلم ليلي فرهاد بور،
خلال المؤتمر الصحافي حيث تُرك كرسياهما شاغرين، وجاء فيها: "نحن ممنوعان
من الانضمام إليكم ومشاهدة فيلم على الشاشة عن الحبّ والحياة، وأيضاً عن
الحرية، الكنز المفقود في بلادنا، حيث ليس من الممكن سرد قصّة إمرأة
إيرانية مع التزام القوانين الصارمة مثل الحجاب الإلزامي".
صُوِّر الفيلم قبل الاحتجاجات التي عمّت إيران في أيلول من
العام 2022، رُفعت خلالها شعارات مؤيدة للمرأة قبل ان يتم قمعها. ثورة
وُلدت على وقع وفاة شابة كردية إيرانية اسمها مهسا أميني، خلال احتجاز شرطة
الأخلاق الإيرانية لها. ولكن بما ان قضية المرأة مترابطة في إيران، فهذا
الفيلم امتداد لكلّ ما يحدث في هذا البلد، وذلك من خلال حكاية بسيطة لا
تنطوي على أي تعقيد.
هذا ثاني فيلم روائي طويل لهذا الثنائي الذي لفت الأنظار
بعمل أول عُرض في النسخة التي أقيمت "أونلاين" من مهرجان برلين عام 2021،
وجاء بعنوان "أغنية البقرة البيضاء" الذي يروي نضال إمرأة تكتشف ان زوجها
الذي أُعدِم كان بريئاً، ومنذ تلك اللحظة يبدأ صراعها مع نظام بيروقراطي لا
يرحم. مُنع الفيلم في إيران، وواجه المخرجان مضايقات عديدة، لكن مع ذلك
صورا جديدهما، وهذا سيناريو صار مألوفاً كثيراً في إيران، ولا يفهمه أحد.
جديد هذا الثنائي لا يختلف كثيراً عن العمل السابق، اذا
أخذنا في الاعتبار انه فيلم موجَّه ضد كلّ أشكال السلطة المفروضة، الدينية
والسياسية والأخلاقية، التي تتدخّل في حياة الإنسان. الفيلم في هذا المعنى
يتجاوز "الخطوط الحمر" التي وُضعت في إيران في ما يتعلّق بالسينما. فالبطلة
هنا أرملة سبعينية تعيش وحدها، بعد موت زوجها وهجرة ابنتها إلى أوروبا، على
الأرجح للأسباب التي تعاني منها أمّها وكانت ستعاني هي منها لاحقاً لو لم
تغادر. الأم حبيسة جدران أربعة، تتلقّى زيارات رفيقات لها بين حين وآخر،
لكن تشعر بالملل في حضورهن. حياتها روتين، لكن ذات يوم وهي تستعد لتناول
الغداء في مطعم، تلتقي سائق تاكسي من عمرها. جملة واحدة تسمعه يقولها
فتنجذب اليه. تتطور الأشياء بسرعة، بعد أن تستضيفه في بيتها، ومن هنا يأخذ
الفيلم اتجاهاً يمكن نعته بالجريء قياساً لفيلم إيراني، ذلك انه سيشهد
رقصاً وخمراً وسفوراً وتفاصيل أخرى تبثّ الدفء بينهما، لكن هذا كله غير
مقبول في بلد يحرّم ظهور المرأة بلا حجاب على الشاشة. لا يلتزم المخرجان
هذه القاعدة، ذلك ان مناقشتها هي في الأساس من صميم العمل نفسه، وهناك مشهد
يشير حتى إلى عدم قدرة المرأة الإيرانية على الظهور بلا شيء يغطّي رأسها في
الأفلام.
نتيجة هذا كله، يمكن ان نفهم لماذا يشكّل الفيلم كابوساً
للسلطات الإيرانية، لأنه لا يخضع إلى لائحة الأخلاقيات والتدابير والأعراف.
وما بطلة الفيلم هنا سوى امتداد لمهسا أميني، لكن في عمر مختلف وظروف
مختلفة وغضب تعبّر عنه على طريقتها. هذا فيلم عن سيدة تحاول ان تذوق طعم
الحرية خلال ما تبقّى لها من وقت، وان تختار رجلاً وتحاول ان تحيي شبابها
من خلاله. في احد المشاهد، تقول بأن معظم الرجال لم يعرفوا ماذا يعني ان
تحبّهم إمرأة، وفي تعليقها نشعر بأنها تتحدّث عن نفسها.
سينمائياً، وبعيداً عمّا يقدّمه من مضمون يتجاوز السائد في
السينما الإيرانية، لا يحلّق الفيلم عالياً في فضاء الفنّ السابع. هناك بعض
الارباك داخل السيناريو، بعض البلادة، لحظات جيدة تليها لحظات ضعف، ومحاولة
متكررة واضحة جداً لصناعة طرافة. الألمان، الذي لا يضحكون عادةً، ضحكوا
كثيراً (شاهدتُ الفيلم مع الجمهور)، ولم أفهم دائماً لماذا. لعل ما يحدث
بين الرجل والمرأة داخل بيتها، من تفاصيل حميمة وتفاصيل دالة على القمع
الذي يعيشانه، أشياء لا يمكن ان تحدث في ألمانيا. لسوء الحظ، أهمية الفيلم
تنتهي عند هذا الحد. الخاتمة غير موفّقة، نشعر ان ثمة حيطا مسدودا وصل اليه
النصّ، مما اضطر الفيلم إلى اختلاق حل مرقّع. في النهاية، علينا ان نسأل
دائماً ماذا يبقى من فيلم اذا حجبنا أو صرفنا النظر عن كلّ الظروف المحيطة
به والأسباب العقائدية التي تساهم في اعجابنا به. في هذه الحالة، سيبقى
مجرد كوميديا رومنطيقية تذوب في قدر آلاف الأفلام المعروضة.
******
في المقابل، لن ينسحب هذا الكلام على "الأمبرطورية"، جديد
المخرج الفرنسي الكبير برونو دومون المعروض في المسابقة. فيلم على نسق أحد
أعماله السابقة، "ما لوت"، لكن يتجاوزه جنوناً وسوريالية وحسّاً
"بورلسكياً". تجري الأحداث في ساحل أوبال، شمال فرنسا. يحملنا سيناريو
دومون الغرائبي إلى قرية صيادين هادئة، ستشهد ولادة طفل غير كلّ الأطفال،
منتظر الى درجة انه سيطلق العنان لحرب سرية بين قوى الخير والشر التي تأتي
من خارج كوكب الأرض.
كثر لم يتوقّعوا فيلماً كهذا من دومون، لكن تكمن أهمية صاحب
"كاميّ كلوديل" في انه لا يتوقّف عن ادهاشنا في كلّ مرة، مقحماً إيانا في
مناطق جديدة. ماذا يمكن القول عن فيلمه هذا سوى انه جرعة من السينما
الخالصة، نعيشها بحواسنا وطبعاً بعدم فهمنا لكلّ ما يحدث على الشاشة، من
أحداث متلاحقة تزج بالفيلم في الـ"بارودي"، اذا يتبين بعد دقائق من انطلاق
الفيلم ان الهدف منه هو محاكاة تلك السينما التي تأخذ من صراع الخير والشر
قضية لها. هنا، كلّ شيء ساخر، لا يمكن تناوله في مستواه الأول.
******
مخرجان مخضرمان في السبعينات من عمرهما، خيّبا أملنا في
مهرجان برلين هذا العام: الأميركي أبيل فيرارا مع "نكء الجرح" والإسرائيلي
أموس غيتاي مع "شيكرون"، المعروضين خارج المسابقة، في اطار "خاص برليناله".
قد لا تكون الخيبة الكلمة المناسبة، ذلك إننا لم نكن ننتظر الكثير منهما،
بعد تجارب عدة سيئة في السنوات الأخيرة، لكن لم تكن على هذا القدر من السوء
والارتجال والخفّة والرداءة والافتعال والادعاء.
في "نكء الجرح"، ينتقل فيرارا إلى أوكرانيا لتصوير ما خلفته
فيها الحرب من دمار، يستجوب الناس، وغالبهم من النساء، عمّا عاشوه في تلك
الأثناء من معاناة. ولا ينسى محاورة الرئيس الأوكراني فولودومير زيلينسكي،
الذي غاب هذا العام عن حفل الافتتاح، لكنه عاد وأطل في فيلم فيرارا كي ينطق
بكليشيهات لا معنى لها. المهم، يمزج فيرارا كلّ ما التقطه في أوكرانيا مع
مشاهد لمغنية الروك الشهيرة باتي سميث، وهي تقول الشعر وتغنّي. هذا كله من
المفترض ان يحمل معاني سامية، ويعبّر عن ضمير الفنّان وألم الضحايا، لكن،
بدلاً من ذلك، يكشف الهوة الكبيرة بين المكان الذي يقيم فيه الإنسان
المنكوب الذي يتلقّى القذائف فوق رأسه، والآخر الذي ينجز عنه وثائقياً
ليجوب به المهرجانات. عمل صغير، معنى وقيمة، قد يكون فيرارا تعلّم شيئاً ما
وهو يصوّره أو ربما استمتع به، لكن من مصلحته ان يسقط من سجلّه، كي لا
يحاسبه عليه أحد لاحقاً.
غيتاي، هذا اليساري التقدّمي، المناصر للقضية الفلسطينية،
مشكلته مشابهة لمشكلة فيرارا. يموضع كاميراه في مسكن شعبي، حيث الناس الذين
يخشون من حيوان الخرتيت الذي تحوّل اليه البعض. الفيلم يقول غيتاي انه
استوحاه من "الخرتيت" لأوجين يونيسكو، مسرحية تتحدّث عن صعود الفكر
التوتاليتاري. كلّ مَن دخل الفيلم توقّع بياناً سينمائياً عمّا يحدث في
غزة، وما حدث في إسرائيل في السابع من تشرين الأول الماضي، لكن مخيلة غيتاي
في مكان آخر، تسرح بين النجوم، رغم ان قدميه على الأرض.
في الملف الصحافي، يوضح ان فكرة الفيلم وُلدت في السياق
الذي كان قائماً داخل إسرائيل، قبل السابع من تشرين الأول: "كنّا وسط حركة
احتجاجية ضخمة ضد محاولة نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة لإصلاح النظام
القانوني، وقامت تظاهرات جمعت جمعيات نسوية وجنودا وأكاديميين واقتصاديين،
وكلّ مَن كان يناضل من أجل التعايش السلمي مع الفلسطينيين، وكذلك قطاع كبير
من المجتمع المدني الذي يقف ضد تدمير النظام القانوني الديموقراطي. كانت
هذه الحركة بمثابة رد فعل على ظهور شكل من أشكال الامتثال واختفاء الروح
النقدية في المجتمع الإسرائيلي. في هذا السياق، أعدتُ قراءة مسرحية
يونيسكو، التي كُتِبت في نهاية الخمسينات وتناولت مناهضة الشمولية. فبدا لي
انها تعكس ما كنّا نختبره. رأيتُ فيه إمكان إلهام فيلم عن الحاضر الذي كنّا
نعيش فيه". |